النبأ

العنف في الأدب الإنساني

أو لعنتنا الدائمة

نعيم شريف

لو أن قراءة شاملة ومستقصية، لـ (حيثيات) أي عمل روائي، أو قصصي من (الديكامرون) لـ (بوكاشيو) و (روبنسون كروزو) لـ (دانيال ديفو) إلى آخر الأعمال الأدبية، التي أنتجتها القرائح الإنسانية، سنرى أن العنف، بكل ألوانه، يشكل القاسم المشترك لهذه الأعمال، حتى إن هذا الاستنتاج المدرك يبدو حقيقة مرة لا سبيل إلى تقبلها بسهولة، أو تجاهلها، دون أن نكون قد ثلمنا جزءاً مهماً ورئيسياً من أي عمل أدبي يخضع لهكذا قراءة انتقائية.

إن اليقين الأولي الذي تمنحه قراءة عمل مثل (ألف ليلة وليلة) سيقود إلى أن (العنف) كان هو المحرك الأساسي لعملية الحكي أي ما ندعوه بـ(ميكانزم السرد)، فمبتدأ كل ليلة، كان ينتهي بالفعل العنيف -القتل- لكل عذراء تسوقها الأقدار إلى بلاط شهريار الأمير الموتور الواقع تحت هيمنة هاجس (الخيانة الزوجية)، ولعل شهرزاد هي الوحيدة التي أرجأت فعل (العنف- القتل) بدرئية (الحكي-القص) ذلك أن مبدأ شهريار في ألف ليلة وليلة، هو (احك حكاية وإلا قتلتك)‍!.

في رواية (الجريمة والعقاب) للكاتب الروسي الكبير (فيدور مخيائيلوفيتش ديستوفسكي)، يتساءل البطل الأول في الرواية، عن المعايير المتبعة في معرفة الجرم وما يستحقه من عقاب، ويبدأ بإخضاع هذه الفكرة لمنطق يصدر عن حراجة وضعه الإنساني، ومدى وطأة الألم الذي يعانيه من فقره المدقع، والكيفية التي يمكن بها أن (ينبذ قدره البائس) ويعيش كما يعيش الآخرون من الميسورين.

إن (راسكو لينكوف) بطل (الجريمة والعقاب) بتخطيطه لفعل الجريمة، بعد أن سوغها منطقياً، يحاول وفق وجهة نظره أن يصحح خطأ الواقع؛ فالعجوز الغنية البخيلة لا تستحق العيش، إنها بلا فائدة ولا فعالية، بل هي عبء على الحياة، كما وقر في عقل (راسكو لينكوف)، ومن ثم فإن عملية قتلها تعد عملاً مبرراً ومعقولاً، إنه ليس عنفاً، بحسب استدلالاته المنطقية كطالب يدرس القانون!!.

بهذا صار القتل، هذا الفعل العنيف، ينطلق من قاعدة فكرية تجهد لتبريره.. كنت قد قرأت مرة هذه العبارة: (ما أكثر اللاإنساني في الإنسان) تلك هي إحدى المقولات التي استوقفتني لغوغول، لا أتذكر تماماً في أي من أعماله وردت، ولكنها عبارة مرعبة بملامستها لجوهر الوجود الإنساني، القائم فعلاً على هذه المعادلة التي يتكون طرفاها من:

العنف بوصفه تمظهراً يتجسد بأفعال (الحرب- القتل- الاغتصاب- التعذيب- العزل- السخرية- الاضطهاد.. ) مقابل مادة هذا العنف وموضوعِه، أي الإنسان، بوصفه ضحية و جلاداً.

كان الأدب الإنساني بكل مراحله، تلخيصاً لهذه المعادلة، وانعكاساً لها في الوقت نفسه.

فـ(الأوديسة والإلياذة) لـ (هوميروس) ليستا ملحمتين أسطوريتين تصدران عن الميثولوجي اليوناني، وتفسران حيرة العقل الإغريقي بازاء أسرار الوجود والعالم، بل هما أيضاً الصيغة الأدبية لمحاولة فهم الوجود وتفسيره، ولعلهما تصدران - إلى حدٍ ما - من مادة واقعية؛ أو هما انعكاس أسطوري لمعطيات واقعية.

سنتفق مع (إرنست فيشر) على أن: (كل أدب هو واقعي بالضرورة). قد تلخص لنا هذه المقولة، حقيقة أن العنف في هاتين الملحمتين، كان تعبيراً عن أسلوب الحياة وفلسفتها في ذلك الوقت.

لا يمكن لنا إلا أن نقر بحقيقة أن القسوة الإنسانية قد زاحمت المسيرة الحضارية للإنسان، خطوة بخطوة، وأن هذه القسوة وجدت تعبيرها الأمثل في العنف.

إثنان من كتاب أوروبا الشرقية، يتوقفان عند أسطورة شعبية كانت رائجة في ثقافة تلك الشعوب، وقد يكون لها جذر واقعي، الأسطورة تقول، إنه في زمن الاحتلال العثماني لتلك البلدان، أرادت السلطة أن تبني جسراً على أحد الأنهار، لكن هذا الجسر كلما أوشك على الاكتمال، تهدم، لأسباب غير معروفة، وكانت كل محاولات إعادة بنائه تبوء بالفشل، حتى (اهتدت) السلطات إلى أن هذا الجسر لا يمكن أن يكتمل، دون أن تكون هناك (أضحية) بشرية، وتشاء الأقدار أن تكون هذه الضحية، أم لطفلين رضيعين، وكونها قد اختيرت لهذا المصير، فإنها تطلب منصاعة لقدرها، أن لا تدفن كلها في إحدى دعامات الجسر، وأن يصار إلى إظهار ثدييها حتى يتمكن طفلاها الرضيعان من ارتضاع حليبها، ليبقيا على قيد الحياة.. بعد سنتين وحين كف الطفلان عن الرضاعة، جفّ الثديان الأموميان من تلقائهما.

تلك هي السمة الأساسية في عمل الروائي اليوغسلافي (ايفو اندريتش) في روايته الرائعة (جسر على نهر درينا) التي منح على أثرها جائزة نوبل للأدب، وهي السمة نفسها التي ميزت عمل الروائي الألباني (إسماعيل كادريه) في روايته.

العنف والقسوة كانا الثمن الفادح والمرعب، للعمران، كأنما المادة الصخرية الصماء والقاسية، التي احتوت جسد الأم الضحية في (جسر درينا) كانت التعبير الفاقع الوحشية عن -حضارة الإنسان!! ولعل صخور الدعامة صارت- بعد أن احتوت جسد الأم- ومجيء الرضيعين يعبان الحليب منها مرتين كل يوم، أكثر جدارة بلفظة إنسان من الإنسان نفسه.

دوماً كنت أتذكر (يوهان موريتز) بطل رواية (الساعة الخامسة والعشرون) للروائي الروماني (قسطنطين جورجيو)؛ ذلك أن هذا الضحية بامتياز، كان يجهل ببراءة الإنسان المجبول على الوداعة، أن القسوة الإنسانية تقارب في حقيقتها الراسخة والسادرة، الحتمية اللانهائية لفعل الموت.

فهذا الفلاح البسيط يساق كجندي إلى الحرب لا لشيء إلا لطمع المختار بزوجته الجميلة (سوزانا).

وتتقاذفه ويلات الحرب، طوال خمس سنين، وفي إحدى المرات، يطلب منه أن يكتب سيرة حياته، كي يدرسها ضباط (الغستابو)، ولأنه لا يقرأ ولا يكتب، فقد استعان بصديقه الذي يماثله في المصير ذاته، في أن يكتب سيرة حياته، وحين يتمان فعل الكتابة، يطلب الروائي من صديقه أن يستمع لما كتب، فقد يكونان نسياً شيئاً، وعندما يشرع الروائي بقراءة ما كتبه عنه يجهش (يوهان موريتز) بالبكاء المرير، فيدهش الروائي ويسأله ما الذي يبكيه، أليس هو قائل هذا الكلام، فيجيبه يوهان: (لم أكن أتصور أنني مظلوم إلى هذه الدرجة!! ).

كانت الكتابة الفنية للروائي كورون صديق يوهان، التعبير الفني الأمثل عن القسوة الإنسانية، بوصفها إحدى مظاهر العنف اللامبرر.

وكثيرة هي الأعمال الأدبية التي تناولت (ظاهرة العنف)، فهذا الفعل هو امتياز إنساني صرف، يميزه عن كل مخلوقات الطبيعة، ذلك أن الشراسة الحيوانية، إن شئت قلت (العنف عند الحيوانات) له دوافع بيولوجية، تتعلق بوجوده المحض، وتنطلق في أساسها من غريزة البقاء المحكوم بها، لكن الإنسان في أغلب أفعاله (العنيفة) محكوم بمنطق مزيف، منطق تبريري (ذرائعي)، وهو يغلف أفعاله العنيفة دوماً بقشرة من الفكر (الديماغوجي) التضليلي.

ومن واقع التجربة أخلص إلى أن العنف، هو شلل العقل تماماً، أي استقالة العقل، وهو نوع من الحنين الجارف إلى عالم الغاب.

من قرأ رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائي السوداني الطيب صالح، سيقف عند مسألة غاية في الأهمية، هي عجز الحضارة عن إقصاء المشاعر الإنسانية البدائية، عند شخص مثل (مصطفى سعيد) دكتور الاقتصاد، العبقري السوداني الذي في لحظة معينة من حالات شعوره بالامتهان والضعة، وحين تُحقّره (آن همند) الإنكليزية التي تتأبى عليه، وفي الوقت نفسه، تطلب منه أن يغرز الخنجر بين (ثديي تماماً، أغرز أغرز.. )، نقول إن هذا الشخص يتحول إلى إنسان بلا قلب، وبفعل هو من أغرب أفعال العنف في الأدب العالمي، يُغيّب الخنجر في صدرها؛ فكأنما بفعله العنيف هذا قد عاد بجدارة إلى عالم الغاب.

لا يمكنني أن أدير ظهري للأدب السياسي - إن جاز لي التعبير - فعلى طول الخط، وكما علمنا التاريخ والواقع على حد سواء، أن الفكر السياسي المناوئ للحاكم إنما هو إقرار على حامله بالموت والاختفاء. والكتابة الروائية لم تغفل هذا الضرب من الأدب.

في رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، يغدو فعل التعذيب الذي يتعرض له السجين السياسي (رجب)، طقساً منتظماً لجلاديه، إنه بالنسبة إليهم -أقصد التعذيب- مبرر لوجودهم وغاية له في الوقت ذاته، فالوجود الإنساني المباين لـ (رجب) هو بشكل ما إقصاء لوجودهم وكينونتهم، إنه نفي لهم، ولعله نوع من تأكيد الوجود لضحيتهم.

كم يبدو مؤلماً القول إن لا أدب كبيراً يخلد دون أن يتناول هذا العار الإنساني الذي يدعى: (العنف).