النبأ

عبد الله العارف

ثمة بديهية لا تخفى على من له أدنى اطلاع أو تفكر، في خلق السماوات والأرض، ألا وهي: (علية الكون وحوادثه للرحمة بمعانيها الواسعة من المحبة والألفة والود والعاطفة والجاذبية).

فالرحمة علة الكينونة والحدوث على صعيد الوجود المادي المجرد، وكذا الوجود الحي والوجود العاقل المتمثل في الإنسان.

فلا وجود مادي بلا معاني الرحمة، إذ الرحمة تتجلى واضحة في القوى الأربع للطبيعة، التي هي أصل الوجود والتي تنتظم أحداثه وتفاعلاته، وهي الجاذبية الصغرى والجاذبية الكبرى وقوة الربط النووي في الذرة والقوة الكهرومغناطيسية، والحقيقة هي أن هذه التسميات الأربع لقوى الطبيعة إنما هي آثار القوة الواقعية أو هي الأوجه الوجودية الأربعة لمعاني الرحمة في الكينونة وفي الحدوث.. وليكون القول أكثر إقناعاً، يمكن أن نتصور أنه لو حلّ التنافر والبغض محل الرحمة في أجزاء المادة ومكونات الكون، فإنه عند هذا التصور يكون لا وجود، بل شيء مما لا يفهم على الإطلاق!!.

وقد قال الله تعالى في ذلك: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق * أأنزل عليه الذكر من بيننا، بل هم في شك من ذكري بل لمّا يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) (ص: 7-10).

هذه الإشارة القرآنية فيها بيان واضح وحجة بالغة في الرد على المشركين المعارضين للمفاهيم التي جاء بها الرسل عليهم السلام من لدن الرحمن الرحيم، فهم يقولون عن تلك المفاهيم، إنها اختلاق؛ لأنها لم تأت في مللهم السابقة لحين الملة الآخرة.

ويرد المولى جل وعلا على إنكارهم لمفاهيم الإسلام، بأنهم في شك من معاني الذكر الحكيم، وهم بانتظار موعد عقابهم الحتمي بالعذاب، ثم يستفهم سبحانه وتعالى بإنكار: هل هم يعلمون مواضع خزائن رحمة الله تعالى ويملكون التصرف فيها؟! حيث رحمة الله الواسعة علة كل مصداق كوني حادث يعبر عن مضمون مشيئة الله تعالى ورضاه!!.

ثم يطلب -سبحانه- إكمالاً للحجة، ممن لهم حظ من العلم أن يرتقوا في الأسباب؛ أي التسلسل في العلل الطبيعية الكونية؛ فهم حتماً سيبلغون العلة الأم وهي الرحمة التي لا يمتلكها ولا يمنحها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يصح مفهوم من دونها أن يكون علة للكينونة والحدوث للوجود برمته.

فما كان من الله فعلّته الرحمة بمعانيها الواسعة، ومرجعه إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو من الحق إلى الحق ومن الرحمة إلى الرحمة.. وما كان من عند غير الله سبحانه وعلّته القسوة والقهر، فهو باطل والى باطل -ويكفي اسمه في معناه- لأن مصدره الشيطان ومرجعه إلى الجحيم.

فكما أن الرحمة هي أساس الوجود المادي وعلّته، فهي كذلك أصل الحياة ومعاني خصائصها..والرحمة علة ديمومة الحياة وسر جمالها، ولو حلت القسوة والبغض والتنافر بين الأحياء، فلا أبوة ولا أمومة ولا بنوة، بل لا زهور ولا ثمار ولا تغريد ولا حنان ولا عاطفة ولا مودة ولا معنى جميل على الإطلاق.

وكذلك الرحمة في الإنسان؛ فهي عنوان العقل ورمز حكمته وسطوته؛ فلا عقل مع القسوة والغضب، وإنما يُعرف العاقل الحكيم من مقدار علّية الرحمة ومعانيها في أحكامه وسلوكه، بل إن الغضب والعقل لا يجتمعان.

ولذا نقول عن الرحمة إنها أم العلل وأم السنن التكوينية، وقد تشذ حتى الطبيعة غير العاقلة في بعض حالاتها عن قوانينها التي تحكمها؛ لنفاذ سنة الرحمة لأمر الحاكم المطلق الرحمن الرحيم جل شأنه.

فهذا الماء - مثلاً - مادة الوجود الأولى وأساس الحياة، نجده يشذ عن قوانين الطبيعة في تمددها بالحرارة وتقلصها بالبرودة؛ لأن الماء عند أربع درجات مئوية في التبريد يبدأ بالتمدد وليس بالتقلص؛ مما يجعله يشذ، فيرتفع كلما برد أكثر ليشكل بذاته لذاته غطاءاً يحمي الكائنات الحية بدفء ورحمة، من قساوة البرد الذي قد يبلغ عشرات الدرجات المئوية تحت الصفر في الأصقاع الباردة من الأرض، ولهذا الشذوذ معنى بالغ في الرحمة التي بدونها لا حياة.

وبعد هذا فإن أي مفهوم لا يقترن بمعاني الرحمة فهو ليس من الله في شيء، وإن كل قوة مسيّرة للأحداث ومبرّزة للمفاهيم لا تكون معلولة للرحمة، فهي ليست من الله في شيء.

أما الآن فإن ألفاظاً مثل الإرهاب واللاعنف هي ألفاظ يستبطن معانيها كل من يستعملها لصالح أيديولوجيته وعقيدته، فالإرهاب واللاعنف مفهومان محدثان، ولا يصح تعريفهما بالحق إلا مع معاني البديهية الكونية الأم وهي الرحمة، كما في مفاهيم الكون الأخرى مادية كانت أو حياتية أو عقلية؛ فمع معاني العلة الأم للمفاهيم يمكن قبول تعريف الإرهاب أو اللاعنف ويمكن رفضه، أو كما يقول المناطقة: (المفهوم يدور مع علة الرحمة وجوداً وعدماً).

إن كل محدث ومن أجل أن نقر بمفهومه، ولكي نعلمه على وجه يطابق ما يرضي الله تعالى، علينا أن نخضعه للمطابقة مع معاني البديهية الكونية الأم، التي هي علة العلل في السنن التكوينية للنفس، فما طابقها فهو ضمن مضمون مشيئة الله تعالى، وما خالفها فهو خارج عما أراد الله تعالى؛ لأنه لا يخضع لمعاني الرحمة المتحكمة في الكون الذي قام بالرحمة، ويدوم معها ويستمر ويتواصل بها.

ولذا فإنه ليس من العنف أي فعل مسنود بالرحمة ويسعى لتحقيق معانيها.. إن القوة هي المؤثر في إنجاز الفعل، وكل قوة معلولة للرحمة إنما تنجز فعلاً لا عنفياً.. وكذا فإن كل قوة غير معلولة للرحمة فإنها تهدف إلى القسوة والقهر؛ فهي إرهاب وعنف في كل ما تنجزه.

وعليه نستطيع تعريف الإرهاب تعريفاً جامعاً مانعاً استناداً لسنن الكون الحسنة بأنه:

(أي فعل يصدر مدفوعاً بقوة غير مستندة لأي معنى من معاني الرحمة فهو معلول للقهر والقسوة، ويتوجه لتحقيق غايات تتنافى مع السنن الكونية الحسنة في سعي الآدمي لطاعة الله تعالى وللحسن والحق والعدل والحرية والسيادة)؛ وعليه يكون تعريف اللاعنف المنشود في مقابل الإرهاب، بأنه: (أسلوب موحد للناس الأخيار في استعمال القوة الموجهة من العقل والمستندة إلى الإقناع البعيدة عن معاني الإرهاب والمعلولة لمعاني الرحمة من أجل تحقيق غايات السنن الكونية الحسنة في سيادة النظام)، وهذا يعني انه إذا كان لمعنى القوة المسيرة للفعل الصادر عن الآدمي، القسوة والقهر، فإنه الإرهاب، وهذا التعريف يشمل فعل السكوت أيضاً؛ ففي حال سكوتك عن حق ينتهك أو دم بريء يراق، مضمراً اللامبالاة، فإنك إنما تمارس الإرهاب في هذا السكوت، حيث أن الآدمي الساكت عن الحق هو أمام الشارع المقدس شيطان أخرس؛ فقد قال تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين)(المجادلة: 15-16).

وفي الحديث الشريف: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)..

والخلاصة: الإرهاب فعل لازم القوة المعلولة للقسوة والقهر، أما اللاعنف فهو فعل لازم القوة المعلولة للرحمة ومعانيها.

من أعان ظالماً ابتلي به

بعد هذه المقدمة عن معاني الإرهاب واللاعنف، وإزاء ما يحصل اليوم من لغط حول ابن لادن والإرهاب والتفجيرات الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، نذكر بالحديث الشريف عن النبي(ص)، حيث قال: (من أعان ظالماً ابتلي به)، وهو الحديث الذي نجد مصاديقه في كل حين، فالمصطفى(ص) هو الذي لا ينطق عن الهوى، فقد رأينا اليوم حجته علينا وبيانه لنا في ما حدث يوم الحادي عشر من أيلول (2001).

والغرب اليوم يعاني ممن حاول إسنادهم من الحكومات والأشخاص الذين تجردوا عن معاني الرحمة، متناسين أن الرحمة هي علّة الكون وبدونها لا وجود ولا حياة ولا عقل، ولا سبيل لهم للنجاة من هذا البلاء إلا بإنصاف الضحايا من أمثال الشعب الفلسطيني والعراقي والأفغاني وغيرهم..

ولعل العلة فيما نراه اليوم على شاشات التلفزيون من إقبال وتهافت الأمريكيين والإسرائيليين على اقتناء الأقنعة الواقية من الغازات الكيماوية السامة، تكمن في علمهم بأن الأسلحة التي سلموها بأيديهم إلى الآخرين، قد توجه ضدهم وترتد عليهم.

إن الغربيين يتجرعون اليوم جزاء دعمهم لبعض الحكام وأسامة بن لادن وطالبان وغيرهم كثير.. مما يقلب التصورات والانطباعات السائدة عن ساسة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب عموماً، والاعتقاد بأنهم يتمتعون بذكاء كبير في السياسة، بمقدار ذكائهم وحذقهم في مجال التكنولوجيا والعلوم الأخرى، لكننا رأينا شيئاً مختلفاً.

فمصممو السياسة الغربية ومخططوها، لم يرقبوا الله تعالى في حساباتهم، وكأن الدنيا خلقت عبثاً، فهم يمكرون بعباد الله ويسعون في الأرض فساداً، لكنهم استدرجوا حتى ملئوا رعباً واهتزوا فزعاً من هول ما رأوا يوم الحادي عشر من أيلول، حيث أزهقت النفوس البريئة بالآلاف.

والاستدراج ناموس رباني لا يفلت منه أحد، وإن طال به الوقت، ولن نجد لسنة الله تبديلاً ولن نجد لسنة الله تحويلاً، قال تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين)(الأعراف: 182-183)، وذلك ما بدى واضحاً فيما أصبح عليه الأمريكيون خصوصاً، وما لمسه الغربيون عموماً، حيث وجدوا أنفسهم بازاء مشكلة حقيقية كبيرة، سببها الذين كانوا يعولون عليهم في دوام سيطرتهم على العالم وانسياب مصالحهم في الأرض.

منذ نهاية حرب الخليج الثانية والأمريكيون بازاء ما يجري في المنطقة العربية، كمن يفتح عيناً ويغمض أخرى إمعاناً في تكريس مفاهيم العولمة والأمر الواقع إلى أن وقع الانفجار الكبير، الذي جعلهم يراجعون حساباتهم.

والغربيون حين ساندوا بعض المتطرفين، إنما مهدوا بذلك لأمر خطير يهدف إلى تشويه صورة الإسلام من خلال بعض الحركات التي تسمى باسم الإسلام.

وقد آن للأمة الإسلامية أن تتبين أعداءها الحقيقيين، وتعود إلى إسلام محمد وآله(ع)، فإن الأصر الذي يكبلها به الجبابرة هو إبعادها عن السفينة المنجية التي أوصى المصطفى (ص) بركوبها وعدم التخلف عنها حيث قال(ص): (إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك).

وقد روى الحديث أكثر من مائة وخمسين عالماً من علماء أهل السنة مرسليه إرسال المسلمات(1).

وآن للأمة أن تتمسك بالثقلين العاصمين من الضلال الذين أوصى بهما المصطفى(ص)، وورد في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: (قام رسول الله(ص) يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال:

أما بعد: ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. فحث على كتاب الله ورغب فيه.. ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) (2).

وقال المصطفى(ص): (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس).

وقد جاء هذا الحديث في المستدرك ج3/ ص149، وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه..وفي الصواعق المحرقة ج2/ ص445، وصححه.. وفي مجمع الزوائد: ج9/ ص147.

إن إهمال وصايا الرسول الأعظم(ص) وأوامر كتاب الله تعالى بلزوم اتباع أهل البيت(ع) ومودتهم والاعتصام بهم ومسألتهم واقتران طاعة الله ورسوله بطاعتهم - إن إهمال مذهب أهل البيت(ع) والتزام توصيات مستر (همفر) يسفر عن توجهات منحرفة، تخطئ الحق، وتعمد إلى تشويه صورة الإسلام، من خلال ممارسات موغلة في التطرف والحدة.

ولذا فلم تكن رعايتهم لأي توجه؛ أو لأي شخص صدفة بل إن الثابت في الحسابات الاستراتيجية، عدم إمكان تصور رعاية أمريكية لمن لا يخدم مصالحها.. فما تفسير هذا؟!.

التفسير واضح جداً، من طريق معرفة تجريبية سابقة وجدناها واضحة من خلال استعمال اليورانيوم المنضب ضد العراق، حيث أصيب مئتا ألف من جنود أمريكا والدول الغربية بتأثير الإشعاعات، كما أصيب جنود العراق وشعبه وتلوثت الأرض العربية..

أي إن المتضرر من استعمال هذا السلاح هو الضارب والمضروب على حدٍ سواء، فمن الرابح إذن من استعمال هذا السلاح الخبيث؟!.

وهكذا يتضح أن المتضرر هو من رفع أطرافاً بعينها، ليكبس بقوة في حادث ضرب البنتاغون وتفجير برجي مركز التجارة العالمي، مع تشويه صورة الإسلام باعتبار أن هذه الأطراف تمثل الإسلام!!، ثم هناك أهداف أخرى فيما حدث، تتمثل في إضعاف الاقتصاد الأمريكي والغربي، ثم لتجعل الإرهاب لفظة ملازمة للإسلام، ولتربح بعدها من اتهام الفلسطينيين بالإرهاب.

وغاية القول، أن الهدف الاستراتيجي للدوائر الغربية ووسائل الإعلام بالخصوص، هو إظهار المسلم بمظهر الإرهابي الذي لا يجيد غير لغة العنف، عبر تركيز الدعم على بعض الاتجاهات الحادة الخشنة الطباع، وخاصة ملامح الأيديولوجيا المتعصبة!!.

الهـــوامـــش:

(1) مثل المستدرك للحاكم ج3/ ص151، المعجم الكبير للطبراني/ ص130 المعجم الصغير للطبراني/ ص78، مجمع الزوائد للهيثمي: ج9/ ص168، الجامع الصغير للسيوطي، ثم عيون الأخبار لابن قتيبة: ج1/ ص211.

(2) وذكر الحديث في أكثر من مئتي مصدر منها: مسند أحمد بن حنبل: ج5/ ص182، طبقات ابن سعد: ج2/ ص192، المعجم الصغير ص73، السنن الكبرى: للبيهقي: ج10/ ص113، كنز العمال: ج1/ ص322، وصححه الألباني في مواضع عدة من تخريجاته منها: سلسلة الأحاديث الصحيحة ج4/ ص255، صحيح سنن الترمذي صحيح الجامع الصغير.