النبأ

الشيخ محمد القمي

إن القرآن هو الوحي الإلهي المنزّل من الله تعالى على لسان نبيه لأكرم(ص)، فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريها التبديل والتغيير والتحريف.

وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزّل على النبي (ص)، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق، أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى؛ فإنه كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (1).

ومهما تقدّم الزمن، وتقدمت العلوم والفنون، فهو باقٍ على طراوته وحلاوته، وعلى سموِّ مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ على نظرية علمية ثابتة، ولا يحتمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من العلماء وأعاظم الفلاسفة، الذين مهما بلغت منازلهم العلمية ومراتبهم الفكرية؛ فإنّ بعض كتبهم - على الأقل - يبدو تافهاً، أو نابياً، أو مغلوطاً، كلّما تقدّمت الأبحاث العلمية، وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوّة العلمية والتفوق الفكري.

إن الدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية، والقرآن آخر الكتب السماوية المنزّلة وأفضلها، وإن ديننا هو الدين المتكامل بكل أبعاده وحدوده وأطرافه، وبمجيئه نسخت جميع الأديان السابقة، ومع وجود الكامل لا حاجة للناقص.

وما جاء في خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) يؤيد هذا المعنى، عندما خطبت تلكم الخطبة التي تعتبر من أعظم الخطب من ناحية المعاني، ومن ناحية البلاغة والفصاحة، قائلة: (تشربون الطرق وتقتاتون القدّ، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ (ص)).

قال تعالى:( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً).

بالتدقيق في مفاد هذه الآية الكريمة يتحصل لنا ثلاثة مطالب:

الأول: أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي يرشد المجتمع البشري إلى أكثر الشرائع والمذاهب والمناهج والمسالك ثباتاً وإحكاماً.

وهذا المعنى في غاية الأهمية، حيث أن كل ما جاء به أنبياء الله من زمان آدم أبي البشر إلى الآن وما قالوه، والكتب التي أتوا بها للدعوة إلى التوحيد وبيان الحقائق، وإرشاد الناس إلى منازل السعادة، واجتياز الحواجز المهلكة والأمراض الروحية والطبيعية، وكل ما أتى به الحكماء المستقيمون، الذين مجدهم الإسلام مثل لقمان الحكيم وسقراط وأفلاطون وغيرهم، وكل ما بحثوه وكتبوه وأسسوه من تيارات ومدارس وما قدموه للإنسانية من طلاب نابغين، وكل ما يقوم به اليوم العلماء الإلهيون وغيرهم، من مساعٍ لإسعاد المجتمعات، وما أسسوه ورتبوه من علوم مستقلة كعلوم المجتمع والنفس والفلسفة، والتحقيق في المؤسسات الأخلاقية والطرق والأساليب الصحيحة والقويمة لإسعاد البشر، وما أوجدوه في الجامعات والكليات المليئة بالبحث والتحقيق، وما حصلوه بعد ذلك أثر تكامل العلوم.. ويسعون أيضاً لإيجاد أرقى البرامج من أجل السعادة والتقدم.. مع كل هذه المجالات الواسعة والمتشعبة، وتلك الرؤى المستوعبة للقوانين السماوية والأرضية، يبقى هذا القرآن أكثر ثباتاً وأصالة ومصداقية من جميع هذه القوانين والطروحات والمسالك والشرائع، في هداية وقيادة المجتمع البشري إلى طريق الصلاح التام، والسعادة المطلقة والحياة الطاهرة والمليئة بالفائدة والعيش الهنيء.

وهذا أمر في غاية الأهمية حيث أن هذه الآية تقرأ اليوم أيضاً في بلاد الإسلام والكفر، وتعلن للملأ أن منهج القرآن أرقى المناهج، وأن إرشاده وهديه أقوم الطرق، ولتجتمع جميع شعوب الدنيا من أسود وأبيض وأصفر وأحمر.. ليجتمعوا جميعاً وليتأملوا فيما وضع لهم علماؤهم وحكماؤهم من آداب ورسوم وأهداف وعقائد ومناهج حياة وطريقة عيش وتمتع بأرقى أساليب الحياة، وليقيسوها بأحكام القرآن في المعاملات والتجارة والزواج والعبادة والصلاة والصوم والحج والجهاد وقوانين التوحيد والمضامين العرفانية والمواعظ الأخلاقية والتوجيهات العملية، فسيجدون أن الإسلام أرقى وأعلى وأفضل بدرجات كثيرة، وهكذا فإن القرآن يوصل البشرية إلى مستوى التكامل الإنساني بأقرب طرق وأسرعها، ويخطو في سبيل إخراج القوى الكامنة والاستعدادات المخبأة الخطوات الأكثر إحكاماً وثباتاً.

الثاني: أنه بشر المؤمنين بالله والمعترفين بالرسالة والمقرين بالولاية، بأن الله المنان قد جعل لهم الأجر الكبير على صلاحهم العملي، وجديتهم وسعيهم في مقام الممارسة والسلوك، من أجل الوصول إلى النتيجة الرابحة والفلاح، والنجاة من هواجس النفس والفوز بالدرجات العالية والمقامات السامية..

الثالث: أنه أنذر الجاحدين بالله والرسالة والولاية الذين هم في النتيجة منكرون للآخرة ويوم الجزاء، أنهم سيلاقون عذاباً أليماً وشاقاً نتيجة كفرهم..

فالقرآن كتاب أمل وبشارة وكتاب تخويف وإنذار، في نفس الوقت الذي يجعل فيه نهج حركة البشر وسيرهم أقوم نهج للوصول إلى أصوب الشرائع وأصدق المناهج والأهداف.

قال سيد الأوصياء (ع) يصف القرآن في نهج البلاغة: (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يجحد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأودية الحق وغيطانه..).

منهج القرآن هو أفضل نهج للوصول إلى أفضل النظم(2)

إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد (ص)، وقد أشار إلى نبوة الأنبياء ووصاية الأوصياء (ع) تارة على شكل مفصل، وأخرى على نحو الإيجاز والاختصار، وثالثة على نحو الإشارة والتلميح، كما أشار إلى وصاية الأوصياء، كأمّة موسى وحواري عيسى وآل إبراهيم وغيرهم.

وقد أشار القرآن الكريم أيضاً إلى الولاية الحقه لسيد الأوصياء (ع)، كما أشار إلى ولاية صاحب العصر والزمان بالأخص.

ودونك عزيزي القارئ الآيات المؤولة التي ذكرتها رواياتنا الشريفة بنحو من الاختصار بعد طرح نبذة عن التأويل بآراء المفسرين وأصحاب اللغة.

المعاني الإجمالية للتأويل

إن القرآن كتاب إلهي يضم الشؤون الإلهية، وهو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق، وبتعليماته ينبغي إقامة الرابطة المعنوية والارتباط الغيبي بين عباد الله ومربيهم، ومن القرآن ينبغي تحصيل العلوم الإلهية والمعارف اللدنية..

وقبل الشروع بالآيات المؤولة بإمامنا الحجة (عج) لا بد من تقديم نبذة مختصرة عن التأويل وما قاله علماؤنا الأعلام في هذا المعنى الباطني:

قال العلامة المحدث السيد هاشم البحراني (قدس سره) في مقدمة تفسير البرهان (ج1 ص7-8):

(أما بعد، فغير خفيّ عن أهل الإسلام والإيمان شرف القرآن وعلوّ شأنه، وغزارة علمه، ووضوح برهانه، وأنه الغاية القصوى، والعروة الوثقى، والمستمسك الأقوى، والمطلب الأعلى، والمنهاج الأسنى، الذي من استمسك به نجا، ومن تخلف عنه غوى، الذي بدرسه وتلاوته والتفكر في معانيه حياة للقلوب، وبالعلم به والعمل بما فيه التخلص من الكروب.

غير أن أسرار تأويله لا تهتدي إليها العقول، وأنوار حقائق خفيّاته لا تصل إليها قريحة المفضول، ولهذا اختلف في تأويله الناس، وصاروا في تفسيره على أنفاس وأنكاس، قد فسّروه على مقتضى أديانهم، وسلكوا به على موجب مذاهبهم واعتقادهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، ولم يرجعوا فيه إلى أهل الذكر صلى الله عليهم أجمعين، أهل التنزيل والتأويل، القائل فيهم جلّ جلاله: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (3) لا غيرهم، وهم الذين أوتوا العلم وهم أولو الأمر وأهل الاستنباط وأهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم، كما جاءت به الآثار النبوية والأخبار الإماميّة، ومن ذا الذي يحوي القرآن غيرهم؟ ويحيط بتنزيله وتأويله سواهم؟)..

وقد ورد عن مولانا باقر العلم أبي جعفر محمد بن علي (ع) قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أنه جمع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء(4).

التأويل في اللغة والاصطلاح

التأويل في مجمع البحرين: إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهري، إلى معنى أخفى منه(5). وقال صاحب القاموس: (أوّل الكلام تأويلاً: دبّره وقدّره وفسّره).

وقال الراغب: والتأويل: من آل يؤول: إذا رجع، والتفسير أعم من التأويل. وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل: في المعاني، كتأويل الرؤيا.

وقال العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي زين العابدين (قدس سره): وتأويل الآيات - أي بيان العاقبة وما يؤول إليه الأمر - لأن المراد بالتأويل، ما يرجع إليه الكلام، وما هو عاقبته، سواء كان ظاهراً يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفيّاً، لا يعرفه إلا الراسخون في العلم(6).

وقال العلامة الطبرسي في ذكر التفسير والتأويل:

التفسير: كشف المراد عن اللفظ والشكل، والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر..(7)

ويقول العلامة القمي في مطلع تفسيره - وقد نقلها السيد المحدث هاشم البحراني (قدس سره) في بداية تفسيره البرهان - أن التأويل له أربعة معانٍ هي:

أولاً: (وأما ما تأويله في تنزيله) فكل آية نزلت في حلال أو في حرام مما لا يحتاج فيها إلى تأويل، مثل قوله: (حُرِّمت عليكم أمهاتُكُم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم)، وقوله: (حرمت عليكم الميتة والدَّمُ ولحمُ الخنزير)، ومثله كثير مما تأويله في تنزيله، وهو من المحكم.

ثانياً: (وأما ما تأويله مع تنزيله)، فمثل قوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، فلم يستغن الناس بتنزيل الآية حتى فسر لهم رسول الله (ص) من أولو الأمر، وقوله تعالى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فلم يستغن الناس الذين سمعوا هذا من النبي (ص) بتنزيل الآية حتى أخبرهم النبي (ص) من الصادقون؟ وقوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ) فلم يستغن الناس بهذا حتى أخبرهم النبي (ص) كم يصلون، وكم يصومون، وكم يزكّون.

ثالثاً: (وأما ما تأويله قبل تنزيله).. مثل آية الظهار، فإن العرب في الجاهلية كانوا إذا ظاهر الرجل من امرأته حرمت عليه إلى الأبد، فلما هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة ظاهر رجل من امرأته يقال له أوس بن الصامت، فجاءت امرأته إلى رسول الله (ص) فأخبرته بذلك، فانتظر النبي فيها الحكم من الله، فأنزل الله تبارك تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم)، ومثله ما نزل في اللعان وغيره مما لم يكن عند النبي(ص) حكم حتى نزل عليه القرآن به عن الله عزّ وجل، فكان التأويل من تقدم التنزيل.

رابعاً: (وأما ما تأويله بعد تنزيله) فالأمور التي حدثت في عصر النبي (ص) وبعده من غصب آل محمد (ص) حقهم، وما وعدهم الله من النصرة على أعدائهم، وما أخبر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام من أخبار القائم (ع) وخروجه وأخبار الرجعة والساعة في قوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (8) وقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) (9) نزلت في القائم من آل محمد عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام ومثله كثير مما تأويله بعد تنزيله.

ومن أراد الاطلاع على آراء العلماء والمفسرين من كلا الفريقين فدونك كتاب (علوم القرآن عند المفسرين) ج3 ففيه التعاريف الكاملة للتأويل والتفسير، وما يخص بحثنا كما هو واضح من كلام العلامة القمي (قدس) هو: (ما تأويله بعد تنزيله)، فمع الآيات المؤولة بإمام زماننا (ع).

الآيات المؤولة بالإمام الحجة(عج)

بعد أن اتضح معنى التأويل لغة واصطلاحاً عند المفسرين وغيرهم، لننتقل إلى ذكر الآيات القرآنية التي أولت بمهدينا عليه أفضل الصلاة والسلام:

- الآية الأولى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) (10).

إن هذه الآية من جملة الآيات القرآنية المؤولة بالإمام الحجة روحي له الفداء على الظاهر:

إن الله سبحانه وتعالى قد وَعَدَ المؤمنين الصالحين من هذه الأمة بأن يجعلهم المستخلفين لمن كان قبلهم، أي يجعلهم بدل الذين كانوا من قبل في هذه الأرض، والله تعالى يورث المؤمنين الأرض ويجعلهم يتصرفون فيها حيث يشاؤون، ويحكمون فيها بدين الله، بعد إعطائهم القدرة والسلطة وتوفير جميع الإمكانيات، ويجعل الله خوفهم أمناً، ولا يخافون لومة لائم، فلا يخافون أحداً إلا الله، والله من ورائهم محيط، ولا يقدر عليهم أحد من أصحاب القدرة والهيمنة، ويعبدون الله دون تقية أو مجاراة لأحد، ويتجاهرون بالحق الذي سوف يسيطر على أرجاء المعمورة، والله على نصرهم لقدير.

إن البارئ عزّ وجل (لا يخلف الميعاد) فقد وعد المؤمنين الصالحين من هذه الأمة المليئة بالخطيئات والسيئات أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً وتكون حياتهم طاهرة ومطهرة، هو المعنى الظاهري للآية الشريفة.

وقد أجاد وأفاد العلامة القزويني (قدس سره) قائلاً: إن هذا الوعد الإلهي - المؤكد بلام القسم ثلاث مرات، وبنون التأكيد ثلاث مرات أيضاً - لم يتحقق إلى يومنا هذا، ومتى كان المؤمنون الصالحون يتمكَّنون من الحكم على الناس وتطبيق الإسلام بكل حرية، وبلا خوف من أحد؟! ومن هم المؤمنون الذين عملوا الصالحات الذين وعَدَهم الله تعالى بهذا الوعد العظيم؟!.

ولو راجعت تاريخ الإسلام والمسلمين منذ طلوع فجر الإسلام، إلى يومنا هذا لعلمت علم اليقين أن وعد الله تعالى لم يتحقق خلال ألف وأربعمائة سنة.

إنني لا أظن أن مسلماً مُنصفاً يقبل ضميره بأن يكون المقصود من الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الأمويون، أو العباسيون، لأن التاريخ المتفق عليه بين المسلمين - بل وغير المسلمين - يشهد بأن الأمويين والعباسيين ارتكبوا أعظم الجرائم، وأراقوا دماء أولياء الله، وهتكوا حرمات الله، وكانت قصورهم مليئة بأنواع الفجور والمنكرات(11).

إن الدين الإسلامي ما زال ولا يزال إلى يومنا هذا مهجوراً مجهولاً، وذلك لوجود التيارات المعاكسة، لهذا النهج الصحيح، ولوجود بقايا الأديان السماوية التي حرفوها عن مسارها الحقيقي، فكل الأديان كانت تبشر بالدين الإسلامي، وكل الملل الآن تسعى لكي تنهش هذا الإسلام الموسوم اليوم!! وهل تعلم لماذا؟.

نعم.. لأنهم عرفوا في كتبهم أن هذه الأرض سوف يحكمها رجل من قريش أو رجل مصلح يقيم العدل والعدالة على وجه الكرة الأرضية بتمامها، وعرفوا أيضاً أن الذي يخرج في آخر الزمان، هو من بني هاشم اسمه اسم رسول الله (ص) وخلقه خلق رسول الله (ص)، فلذلك هم يسعون بما في وسعهم لكي ينهشوا هذا الدين من الداخل ومن الخارج، فنلاحظ بين الآونة والأخرى من ينعق ويتفوه على مذهبنا الحق ويستهزئ بالإمام الغائب(عج) ويقول أنه أسطورة وحكاية وضعتها الشيعة وعلماؤهم، لكي يسدوا نقصهم!! إذن متى هذا الوعد؟ ومتى يستخلف الله الذين آمنوا في هذه الأرض الواسعة؟ فيكون الجواب وتأويل هذه الآية كما يلي:

1- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) في قوله: (وعد الله الذين آمنوا... يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً) قال: نزلت في القائم وأصحابه(12).

2- عن ينابيع المودة، عن علي بن الحسين (ع) قال: (هذه الآية نزلت في القائم المهدي) (13).

3- وفي تفسير العياشي: إن علي بن الحسين (ع) قرأ آية: (ليستخلفنهم في الأرض) قال: (وهم والله محبوناً أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة). وهو الذي قال رسول الله (ص): (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) (14).

وقال العلامة الطبرسي: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات: النبي وأهل بيته (صلوات الرحمن عليهم) وتضمنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمكين في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي (ع).

وأضاف قائلاً: وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة وإجماعهم حُجَّة، لقول النبي(ص): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وأيضاً فإن التمكن في الأرض على الإطلاق لم يتفق فيما مضى، فهو منتظر لأن الله (عزّ اسمه) لا يخلف وعده(15).

وأختم النقطة الأولى بكلمات عذبة وعبارات جزلة وردت في قنوت إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف، يبشر بإنجاز الوعد الإلهي:

(.. يا من لا يخلف الميعاد، أنجز لي ما وعدتني واجمع لي أصحابي، وصبّرهم وانصرني على أعدائك.. سيدي أنت الذي مننت علي بهذا المقام وتفضلت به علي دون كثير من خلقك، أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تنجز لي ما وعدتني، إنك أنت الصادق، ولا تخلف الميعاد، وأنت على كل شيء قدير) (16).

- الآية الثانية: قال تعالى:-(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (17).

الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (ع) وقد سمي بهذا الاسم في قوله: (وآتينا داود زبوراً) (18)، وقيل: المراد به القرآن، وقيل: مطلق الكتب المنزّلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى ولا دليل على شيء من ذلك.

والمراد بالذكر قيل: هو التوراة وقد سماها الله به في موضعين من هذه السورة وهما قوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (19) وقوله: (وذكراً للمتقين) (20) وقيل: هو القرآن وقد سماه الله ذكراً في مواضع من كلامه.. والمراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم واستقرار بركات الحياة بها فيهم، وهذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا، لتمتع الصالح بأمتعتها وزيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستتطهر من الشرك والمعصية ويسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً(21).

وقيل في تفسير الأمثل: وكلمة الأرض تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافة أنحاء العالم إلا أن تكون هناك قرينة خاصة في الأمر، وإن كان البعض قد احتمل أن يكون المراد وراثة كل الأرض في القيامة، إلا أن ظاهر كلمة الأرض تعني أرض هذا العالم عندما تذكر مطلقة.

ولفظ الإرث، يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحياناً بمعنى تسلط وانتصار قوم صالحين على قوم ظالمين، والسيطرة على مواهبهم وإمكانياتهم.. كما في شأن بني إسرائيل:

(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) (22).

وقد وردت هذه البشارة في الكتب السماوية السابقة، على أن الأرض سوف تستخلف من قبل أناس صالحين يرثونها ويرثون من عليها وهي استحقاق ومكافأة لهم من قبل البارئ عزّ وجل.

البشارة في مزامير داود (ع)

إن البشارة لم يذكرها القرآن الكريم فحسب!! بل ذكرتها جميع الكتب السماوية إشارة لهذا المعنى الدقيق كما لا يخفى، وإليكم بعض النصوص من مزامير داود(ع):

1- جاء في الجملة 18 من المزمور 37: (إن الله يعلم أيام الصالحين وسيكون ميراثهم أبدياً).

2- جاء في المزمور 37 جملة 27 : (لأن المتبركين بالله سيرثون الأرض، وسينقطع أثر من لعنهم.. ).

إن البارئ عزّ وجلّ قد ذكر حقائق مؤكدة وثابتة على مرّ العصور والدهور سواء في الزبور: (ولقد كتبنا في الزبور) أو في غيره من الكتب السماوية، وقد توجت الآية بـ(لقد) و(أن) المستخدمة للتحقيق والتأكيد وقد ذكر المفسرون أن (وراثة الأرض) في هذه الآية لها معنيان:

أولاً: وراثة الأرض الدنيوية من منافع وغيرها.

ثانياً: وراثة الأرض للصالحين الذين يعبدون الله ولا يشركون بعبادته شيئاً وهذا لا يتحقق إلا بالظهور الأقدس، وسوف يحكم الأنصار الغيارى من الشيعة الأوفياء، جميع الأرض ومن عليها ويصبحون حكام الأرض وسنامها.

فيكون تأويل هذه الآية: كما رواه الشيخ الطوسي في تبيانه عن الإمام الباقر (ع):

(إن ذلك وعد الله للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض) ) (23).

وفي رواية عن أبي جعفر (ع) قال: قوله عزّ وجل: (وأن الأرض يرثها عبادي الصالحون) هم أصحاب المهدي في آخر الزمان(24).

فهذا مسلم عندنا أن الأصحاب الذين جاهدوا أنفسهم، وثبتت قلوبهم على الولاء الأكمل، والدين الأمثل، وصبروا على تلكم الفترة الطويلة، وهم كاتمون إيمانهم، ولا تعرف سرائرهم!! فالنتيجة سوف يكافئهم الإمام (ع) بأحسن مكافأة دنيوية وأخروية، بحيث يجعلهم قادة لحروبه وحكاماً لأرضه التي تفسخت بالعادات السيئة والقوانين الوضعية البائدة التي لا تغني من الحق شيئاً.

- الآية الثالثة: قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (25).

قال المحقق السيد محمد كاظم القزويني (قدس سره) في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى أرسل رسوله محمداً (ص) (بالهدى) من التوحيد وإخلاص العبادة، (ودين الحق) وهو دين الإسلام (ليظهره) الظهور - هنا -: العلو بالغلبة بكل وضوح، قال تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمّة) (26) أي يغلبوكم ويظفروا بكم.

فمعنى: (ليظهره على الدين كله) أي يعلو ويغلب دين الحق على جميع الأديان، فإن كان هذا الكلام قد تحقق وكانت الإرادة الإلهية قد تنجزت فالمعنى أن الله تعالى قد أدحض وزيّف جميع الأديان الباطلة والملل والشرائع المنحرفة، زيّفها بالقرآن وبالإسلام، وبعبارة أوضح: إن الإسلام قد أبطل ونسخ جميع الأديان، وردّ على كل ملحد أو زنديق وعلى كل من يعبد شيئاً غير الله.

أما إذا أردنا أن نتحدث عن الآية على ضوء التأويل، فإن هذا الهدف الإلهي لم يتحقق بعد، فالمسلمون عددهم أقل من ربع سكان الأرض، والبلاد الإسلامية تحكمها قوانين غير إسلامية، والأديان الباطلة تنبض بالحياة والنشاط، وتتمتع بالحرية، بل تجد المسلمين في بعض البلاد أقلية مستضعفة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً، إذن فأين غلبة الحق على الباطل، وأين قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) وفي أي زمان تحقق هذا المعنى؟!!.

لقد ذكرت رواياتنا الشريفة أن هذه الآية الشريفة تتأول بعصر ظهور الإمام صاحب العصر والزمان(عج) وفي أيام إشراقه ودولته المباركة.

ودونك أخي القارئ الروايات الواردة في تأويل هذه الآية:

أولاً- تفسير البرهان: عن الكافي عن أبي الفضل عن الإمام أبي الحسن الكاظم (ع)، قلت: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)؟ قال (ع): هو أمر الله ورسوله بالولاية والوصية، والولاية: هي دين الحق. قال: (ليظهره على الدين كله)؟ قال (ع): يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم(عج) (27).

ثانياً- أما ما ذكره شيخنا المجلسي (قدس سره): فعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن قوله تعالى:.. فقال: والله ما أنزل تأويلها بعد. قلت: جعلت فداك ومتى ينزل؟ قال: حتى يقوم القائم إن شاء الله فإذا خرج القائم لم يبق مشرك(28)...

وبالجملة يتحصل عندنا من خلال هذه الآيات الثلاث التي ذكرناها أن التأويل هو المعنى الباطني للآية القرآنية بعكس التفسير الذي هو المعنى الظاهر للآية، وأن الآيات التي ذكرت قد أولت بإمام زماننا (ع) جعلنا الله وإياكم من خدّامه وعبيده والذابين عنه والمستشهدين بين يديه الشريفتين.

الهوامش:

(1) فصلت: 42.

(2) نور القرآن الملكوتي: السيد محمد حسين الطهراني، ص13 - 28.

(3) آل عمران: 7.

(4) بصائر الدرجات: ص191 ج1.

(5) مجمع البحرين: مادة أول.

(6) بيان الأئمة (ع): ج3 ص193.

(7) مجمع البيان: ج1 ص80.

(8) الأنبياء: 105.

(9) النور: 55.

(10) النور: 55.

(11) الإمام المهدي (عج) من المهد إلى الظهور: ص43 -44.

(12) الحجة: ص148.

(13) ينابيع المودة: ص425، غيبة الطوسي: ص120.

(14) نفس المصدر السابق: ص426.

(15) مجمع البيان: ج7 ص152.

(16) نهج الدعوات: ص68.

(17) الأنبياء: 105.

(18) النساء: 163.

(19) الأنبياء: 7.

(20) الأنبياء: 48.

(21) الميزان: ج14 ص329.

(22) الأعراف: 137.

(23) التبيان: ج7 ص252.

(24) تأويل الآيات: ج1 ص332 ح22، البرهان: ج5 ص257 ح5.

(25) التوبة: 33.

(26) التوبة: 8.

(27) البرهان: ج4 ص330.

(28) البحار: ج51 ص60.