العدد62

حامد السعيدي

بدأت الثورة الصناعية تحمل بشائر الخير والسعادة والعدل والحرية، حاملة لواء العقل والتحرر والانفتاح، رافضة قيم العبودية والخضوع والدكتاتورية، قامعة كل الأشكال التقليدية في المجتمعات الكلاسيكية التي كانت مجتمعات قريبة من التمدن، وهي المجتمعات المسيحية التابعة للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية، منتهية بإعلان حقوق الإنسان إبان الثورة الفرنسية التي ألغت الامتيازات والإقطاع الذي ساد في أوربا.. ولكن سرعان ما تبدت الحقائق كاشفة الأبعاد التي تحملها هذه النهضة، فلم تسلم هذه من النقد من قبل أبنائها الذين راحوا ضحية إلغائهم وتهميشهم في حداثوية مفرطة طالت كل القيم والأخلاق والاعتقادات والثقافات متجاوزة حدود العقل والمنطق والإيمان؛ فما كان إلا أن أكلت أبناءها وذويها، رامية بهم في بوتقة كبيرة من الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي صارت بمثابة رصاصة الرحمة بالنسبة لهم؛ فتيارات التشاؤمية والعدمية والمادية والإلحادية كلها كانت نتاجا منطقيا لهذه النهضة التي ابتدأت بالعقل وانتهت بالجنون، ابتدأت بالفكر وانتهت بالحيرة والتشوش والقلق.

ابتدأت بالإنسان موضوعا ودراسة في سبيل حريته وتحرره! وانتهت أيضا بالإنسان، ولكن باستعباده وتقييده وقتله واستلابه، ابتدأت بالثورات على الحكم المطلق والقصور الملكية والبرجوازية وانتهت برأسمالية مقيتة تأكل الأخضر واليابس، وتسحق كل مبدأ وقيمة تقف في طريقها، معلنة في خطابها أنها نهاية العالم والتاريخ ونهاية الأيديولوجيات، جالبة على الإنسان القتل، التعسف، التشريد، الفقر، المرض، الاستعمار، العولمة الاقتصادية والثقافية، مشاكل بيئية، مخاوف متعددة تحدق بمصير هذا الكائن البشري الذي كان قديما يعيش حياة بسيطة بعيداً عن أشكال الظلم والضيم.. صحيح أن العالم المتقدم بآلته الصناعية قدم للإنسان الكثير من الراحة والرفاه والسعادة، لكنه أخذ أكثر مما أعطى؛ لأنه أصبح يمتلك قدرة تقنية عالية مزعومة تدعم خطابه إلى كافة الشعوب والأمم، هذه الآلة التي هي من أخطر الأدوات التي تمتلكها الرأسمالية في توجيه العقول والقناعات نحوها، وغسل الأدمغة، عبر فذلكة إعلامية دقيقة خصصت لها الآلاف من العاملين والخبراء والتقنيين والصحافيين والعلماء في الأقسام المختلفة والممثلين والسياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء الفضاء والرسامين والتلفزيون والسينما والفنانين والمؤسسات الاجتماعية ومراكز البحوث والدراسات، كل هذه الجهود تركزها الرأسمالية في الهيمنة الجديدة على العالم بدعوى نهاية التاريخ التي تزعمها في خطابها الفكري والمذهبي والسياسي.

ومن الطريف أن (جاك ديكو) رئيس السوق الأوروبية المشتركة يطرح المشكلة بشكل مثير - كما ينقل ذلك صاحب مستقبل الرأسمالية - قائلاً: (أود أن أطرح مع أصدقائنا الأمريكان سؤالاً واحداً ألا وهو: هل لنا الحق في البقاء؟ هل نملك الحق في صيانة تقاليدنا وتراثنا ولغاتنا؟ وهل يشمل الدفاع عن الحرية ما يبذله كل بلد لاستخدام مجاله البصري والسمعي لضمان الحفاظ على هويته)، ثم يكتب (لستر ثورو) صاحب كتاب (مستقبل الرأسمالية) قائلاً: (ولكن ليست هناك من طريقة سهلة لرسم خط فاصل بين الاقتصاد والثقافة، إنّ 80% مما يعرض من أفلام في أوربا هي أمريكية، مقابل هذا هناك 1% فقط من الأفلام التي تعرض في أمريكا هي أوربية، لم يبق أمام الفلم الأمريكي سوى نصف السوق الفرنسية خلال عقد وفي عام 1994 كانت الأفلام الخمسة التي تحتل المقدمة في فرنسا هي أفلام أمريكية، إن هذا غزو ثقافي بالتأكيد؛ فالأفلام هي ثقافة، لكن الأفلام وليست الطائرات هي أكبر الصادرات الاقتصادية الأمريكية، وإن الصناعة التي تطور عند تقاطع التلفزيون والتلفون والكمبيوتر والفنون البصرية هي الصناعة الأسرع غداً في العالم، الولايات المتحدة لا تتحمل حصرها في حدود 4% من السوق الأوربية (وهو اقتراح فرنسي) وهي أكبر أسواق العالم في مجال الصناعات التصديرية لديها).

لكن هذه التراكمات الرأسمالية في قطب واحد سوف تعمق من الهوة الاقتصادية بين البلدان الصناعية، فضلاً عن البلدان النامية التي هي في طور النمو الاقتصادي، وسوف تخلق الكثير من التفاوتات الاجتماعية؛ مما سيتسبب بالمزيد من السحق والتحطيم والتضخم السلبي وزيادة حجم البطالة والتبعية الاقتصادية والسياسية، وهو شيء رهيب إذا ما نظر إليه في المستقبل المنظور.

وينقل (ثورو) في كتابه: (إن بيع الملكية الثقافية بأعلى الأسعار الممكنة هو بالنسبة إلى العالم المتقدم مسألة مركزية أما بالنسبة إلى العالم المتخلف، فإن شراء الملكية الثقافية بأقل من الأسعار، (أو حتى الحصول عليها مجاناً وهو شيء أفضل) أمر مركزي، إذ إن الصادر الثقافي العالمي الذي يكلف مليارات الدولارات، لا يشترى إلا بدولارات زهيدة أشبه بالمجان، وهنا تكمن المشكلة الثقافية... إن المشروع الثقافي الذي يهيمن عليه العالم المتقدم وينفق عليه هذه النفقات، هو لأجل مضاعفة ثرواته وأرصدته؛ ذلك أن تصدير الثقافة لبلدان العالم يعتبر من أكبر الأرباح الاستراتيجية؛ لأنه يربط الثقافة المحلية في البلدان ويحولها إلى (المركز)، بما يشبه الدائرة التي يكون قطرها دائماً مرتبطاً بالمركز الذي يحدد قيمته الحسابية؛ فلولا المركز لا يبقى للدائرة ذكراً.. المشروع الثقافي هو إلغاء الغير في الذات الواحدة، في تعميم واحد، وزي واحد، وذوق واحد؛ أي اتحاد الكل في الجزء وهو تناقض عجيب في المركزية والقطبية الواحدة؛ إذ كيف يصار إلى إلغاء الجميع لحساب ثقافة واحدة، مع إلغاء كل ما في التاريخ من ثقافة ودين وأخلاق وتراث وتاريخ؛ لذلك نرى أن هذا الاتجاه كان محل نقد من قبل المفكرين والمثقفين والمؤسسات المتخصصة؛ حيث يرى بلقزيز بأن: (الدول الغربية والأيديولوجيات الغربية المعاصرة تحاول إقناع العالم بأن أنظمتها المطبقة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع تمثل تحقيقاً تاريخياً للفكرة الليبرالية الأولى والمبادئ التي تستلهمها؛ فإنما هي تخادع بذلك وتستأنف إنتاج الأوهام والأفكار الأيديولوجية الزائفة. إن فكرة انتصار الليبرالية لا تستحق أن توصف في التحليل الأخير، إلا بأنها فكرة أيديولوجية جديدة وعليه فلا يستحق مجهود (فوكوياما) ونظرائه أن يوصف بأكثر من أنه تمرين نقدي على نص اعتباطي ليس هو النص الأصلي)، لقد انتهى عصر الثورات التقليدية أو دخلنا في زمن عصر التخطيط البرامجي للأشياء وشبكة المعلومات العالمية والتقنية المتقدمة، زمن الصورة السريعة الساحرة التي تتلاعب بالعقول والأفكار، زمن العولمة التقنية والصورة الكونية الواحدة.

الـــدين وإشكالية الثقافة الغربيـــة

إن العصر الراهن تحكمه معادلة سياسية ذات أيديولوجية خاصة مرتبطة بالقوى الاقتصادية التي تفرض بعدها الأيديولوجي في العالم، وعلى هذا الأساس يتحرك (المركز) في العالم آخذاً بنظر الاعتبار أشكاله الثقافية التي يمررها من خلال الأسواق والتجارة والشركات والإعلام وكافة قنواته العالمية، وهو ما ينقل الطرازات الغربية والصور الثقافية من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى أقصى الشرق؛ لتشهد تلك الدول تحولات ظاهرية - على أقل التقديرات - إلى طرازات تلك الدول المصدرة لثقافتها، متناسية ومتجاهلة الثقافة المحلية والتراثات التقليدية وهويتها الوطنية ذلك النسيج الذي تشكل عبر مئات وألوف السنوات والذي ظل حاضراً في ذاكرة الأمم والشعوب. إنها مشكلة عويصة من الواجب التصدي لها بجدية وواقعية دون المزيد من الخيال والتنظير، كما أن من الواجب الوقوف تجاه هذا المدار الثقافي الموجه الذي يفتت أواصر التراث الديني والأخلاقي والاجتماعي والثقافي الذي ما عاد سوى مظهرٍ من المظاهر التقليدية وكأنه أضحى يقابل التقدم والحداثة، إن هذا التآكل في الجسد الثقافي العزيز سبب وسوف يسبب الكثير من الأزمات والأوضاع التي تلغينا وتجعلنا فتاتاً ممزقين؛ يحلل المفكر الجزائري مالك بن نبي العلاج عندما يتعرض للعناوين السياسية والثقافية حيث يقول: (والعلاج يقتضي أيديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بإنجاز مهمات كبرى؛ لأنها تخلق الفرد التواق وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتمعا ارتخت أوتاره)، وهنا نقول أيضاً إن هذا العلاج سيبقى دون ما تقتضيه الحالة، إذ الأيديولوجية ليست سوى سهم يشير إلى هدف ويحدد بعض الاتجاه وهي بذلك تستطيع توجيه عمل الفرد وعمل الدولة وربما تتيح لها الوصول إلى الهدف. ومهما كان الهدف تحطيميا أو كان التوجيه توجيها نحو انتحار أمة فإن باستطاعة الأيديولوجية أن تمنح المجتمع شروط انطلاقه وطموحه؛ فالبعد الأيديولوجي شرط من شروط النهضة الثقافية في مجتمعاتنا التي فقدت الروح والمعنى وأصبحت جسداً يتقلد جوهراً أجنبياً عنه؛ فحصلت النكسات والتبعية الثقافية، واعتقد أن تراثنا الديني مليء بالحلول التي تبعث الدين بانطلاقته ونهضته كمشروع سياسي وثقافي واجتماعي؛ لأننا أولاً شهدنا المشهد الثقافي لبلدان أوروبا وأمريكا وبلدان الاتحاد السوفيتي المتفكك، كان مشهداً مروعاً مليء بالتناقضات والتمزقات الاجتماعية فلابد من أخذ التجربة والعبرة كدرس من دروس التاريخ، وأن نرجع إلى القرآن مبدءاً وروحاً وجوهراً وثقافة تمدنا بالروح الإلهية الخالصة من الشوائب ومنبعاً صافياً يملأ روحنا حيوية صادقة وعملاً إنسانياً محضاً يرتقي بنا إلى أوج السعادة والسلام.

فلم كل هذا الخوف من الدين؟! نعم لا أنكر أن بعض الفرق والطوائف تشكل سلوكاً متطرّفاً، لكن لو درسنا أبعادها الفكرية ومنطلقاتها الفلسفية، لرأينا أن سلوكها الانفعالي المتطرف كان ردّة فعل على عدم الاعتراف بانتمائها واعتقاداتها وتجاوزاً ملحوظاً على حسها وعواطفها؛ نعم هناك سلبيات كثيرة لكن ربما تقابلها إيجابيات أكثر.. الدين هو تنظيم (الضمير الإنساني) كما وصفه ابن نبي وهو (شريعة حياة) كما سماه الشهيد باقر الصدر، شريعة تنظم العلاقة بين بني الإنسان وفق نظرة إلهية وتنظم علاقة الإنسان مع خالقه، ونلاحظ في وقتنا الراهن أن هناك نهضة وصحوة إسلامية في السطح الثقافي لمجتمعاتنا لما لمسته من إخفاقات حقيقية للمدارس الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والقومية؛ فلم تجد بدا من العودة إلى هويتها الأصلية وذاكرتها المغيبة عن حاضرها المعاش، فوجدت تحقيقاً لأهدافها وغاياتها التي أمنت الحد الأدنى من طموحها، وهو الخلاص الحقيقي في تحرر الشعوب من الخوار الثقافي الأجنبي، ومن الخداع والأوهام التي مررتها الحكومات الغربية.

ومن هنا جاءت الدعوة إلى تكاتف الدول الإسلامية فيما بينها حول مشروع إسلامي يضع في أولوياته التحديات التي تحدق بها مع التزام كامل بالمقدس الإسلامي الذي يعتبر رمزاً من رموز الحضارة الإسلامية، ومعلماً بارزاً لا يمكن بحال من الأحوال التفريط بقيمته المعنوية، ورسم معالم السياسة الاقتصادية والمقاطعات التجارية والدبلوماسية مع البلدان التي تحاول تفكيك الجسد الإسلامي، وتسعى للهيمنة عليه ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وتحديد موقف سياسي واحد تجاه (إسرائيل) التي باتت إحدى أهم التحديات الكبرى في عالمنا الإسلامي؛ حيث تعمل على استلاب هوية الشعب الفلسطيني الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية.

إشكالية الممارسة الدينية في ظل الهجمة الثقافية:

عاش المسلمون في العصر الذهبي للرسالة الإسلامية عهداً تضمن تطبيق مهام الرسالة الإسلامية وبعدها الواقعي واستجابة الواقع للدين؛ حيث بدأت مرحلة التغيير الفعلي لبعض أهداف وغايات المشروع الإسلامي العام، وبث الروح الإلهية فيه، بعدما شابته شوائب من عبادة أدوات ورموز مادية ليس لها أي تأثير واقعي في المجتمع. ولقد حملت الرسالة المحمدية مبادئ ومضامين إنسانية عالية لازالت إلى الآن حاضرة في المخيلة الإسلامية، ولقيت احترام وتقدير جميع من طرقت أسماعهم؛ لأنها تنسجم مع الإنسان والطبيعة انسجاماً تاماً وحقيقياً؛ فكانت النتيجة استعداد الإنسان والطبيعة لتقبل هذه القيم الجديدة تقبلاً إيجابياً؛ فسادت في المجتمع الإسلامي آنذاك قيم الرحمة والإخاء والعطف والتسامح والحرية، بعد ما كان يرزح تحت قيم الظلم والعبودية والاسترقاق والتعنت والعصبية والجهالة. لقد أوجد الإسلام الترابط الاجتماعي الذي كان يمزقه التفرق والعصبية القبلية، وحمل الدعوة إلى الوحدة بين العالم أجمع؛ باعتبار أن الإنسان أخو الإنسان؛ ومن هنا فإن مبدأ التشاور والتكافؤ بين بني البشر هو من أعظم المبادئ والقيم التي حملها الإسلام وكرسها في خطابه العالمي؛ فالوحدة وعدم التمييز هي الأسلوب الذي يوحد العالم ويرفع عنه الصراعات والتفرقات، ويوجد التوازن الاجتماعي بين بني الجنس الواحد.. ولأنه ليس لإنسان قرابة مع الله سبحانه وتعالى، بل الكل أمام الخالق سواء، والملاك في تقييم الإنسان هو عمله الذي يقدمه لنفسه من التقوى والعمل الصالح، كما أن دعوة الإسلام الأساسية هي إشاعة الأخلاق والقيم الاجتماعية؛ حيث قال النبي (ص): ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فالأخلاق هي الركيزة الأساسية في استقامة المجتمعات، وإقامة العدل فيها، وانبثاق الحرية لأنه لا حرية ولا عدل ولا مساواة إذا فقدت الأخلاق، ومنبع الأخلاق الإسلامية يرجع إلى صفات الله عز وجل في الكمال والجمال..

إن احتلال المجتمع الإسلامي لمركز الصدارة والسيادة، قبل نحو ألف وأربعمائة سنة، في زمن كانت الامبراطوريات الفارسية والرومانية تعيشان الانهيار والفساد، دليل على أن الإسلام دين واقعي حقق الانسجام في المجتمع البشري في زمن قياسي؛ فلم يقتصر الإسلام على الجزيرة العربية بل امتد إلى الصين شرقاً والأندلس غرباً والقسطنطينية شمالاً وشمال أفريقيا وبعض البلدان على الساحل الأفريقي، ولم يمتد بالقوة أو الإرهاب أو التسلّط، بل امتد بصورة طبيعية وتقبله الناس، كذلك فإن الإسلام يحترم التعددية العقائدية والثقافية، وفرض على النصارى واليهود الجزية لحمايتهم وتأمين السلامة لهم كمواطنين يعيشون في المجتمع الإسلامي.

ولا شك في ضرورة وجود منهج لكل عملية تغييرية تطمح لتغيير واقع معين، هذا المنهج يحتاج إلى أدوات فكرية وثقافية تنسجم مع الواقع الذي يراد تغييره؛ فالأساليب والمناهج قبل ألف سنة - مثلاً - من المؤكد كانت تنسجم مع تلك الحقبة التاريخية التي لها مقتضياتها وشروطها التاريخية الخاصة، كذلك هناك إشكالية الممارسة والتطبيق والإجراء، وكيفية فهم الشريعة ضمن النص القرآني والسنة النبوية اللذين هما المصدر للأحكام الشرعية ، في ظل الممارسات المعقدة التي نراها في عالمنا اليوم، فالاقتصاد تعقد بصورة أضحى يتداخل مع كل أجزاء الحياة ومجالاتها السياسية والتجارية والثقافية، البنوك، التضخم، الربا، الفوائد المستحصلة من ترتبات القروض والاستثمار، والبورصات والأسهم، ورؤوس الأموال التي تداخلت في تقاطعات شتى، مع أموال المخدرات والرقيق والتجارة غير المشروعة وغيرها من الأموال، وكذلك السياسات الاقتصادية التي ابتنيت على حساب تجويع الشعوب وتهميش الأفراد، والبطالة الناتجة عن العجز الاقتصادي، والتضخم وما إلى ذلك من إشكاليات.. والإشكاليات السياسية والاجتماعية وأنظمتها ليست بأحسن حال من الإشكالية الاقتصادية، فضلاً عن مشاكل البيئة والصحة التي ما فتئت تزداد في ظل الأنظمة التي تعتمد الأفكار الرأسمالية والاشتراكية، وغياب الحرية وظهور الاستبداد ومصادرة الآراء لحساب مصالح البرجوازية الحديثة وأصحاب رؤوس الأموال والشركات التجارية، في ظل تغييب الفرد في عالم مزدحم تتشابك فيه الرؤى والأفكار والعادات والتقاليد، وإشاعة المفاهيم والقيم الفاسدة تحت عناوين مختلفة، وتصدير الأفكار الأجنبية التي لم تحز الثقة في المحيط الإسلامي، والإرهاب الثقافي - إن صح التعبير - وتخويف الفرد من المواجهة والتحرر؛ يقول بلقزيز: (يتجلى هذا النظام الإعلامي مادياً في عشرات الامبراطوريات السمعية الضاربة، ممثلة في شبكة من القنوات التلفزية بالأقمار الصناعية ومبثوثة من مركز بعيد يمتد إشعاع انتشاره وتأثيره والتقاطه إلى أطراف نائية).

ويقول أيضاً: (لا يتعلق الأمر بخطورة هذه الشبكة الهائلة من القنوات الفضائية فيما يخصنا نحن في الوطن العربي على الأقل، بل بخطورة دورها على الصعيدين الاجتماعي والثقافي؛ إذ صار في وسع هذه الإمبراطوريات الإعلامية تحقيق النجاح في التدمير الحاسم لآخر جبهات المقاومة لدى مجتمعاتنا (الجبهة الثقافية - الاجتماعية).. ).

فكيف يمكن في ظل هذه الهيمنة وبهذه الإمكانات الكبيرة وتصدير الأفكار والثقافات عبر التكنولوجيا المتقدمة، كيف يمكن أن يضطلع الفكر الإسلامي والتراث الأصيل بمواجهة وتخطيط وبرمجة هذه التحديات، وإيجاد حلول واقعية وليست مثالية أو شعاراتية تستطيع بموجبها أن تستوعب هذه الأشكال والأنماط بصورة مقنعة وعملية وتنقذ ما يمكن إنقاذه من هذا التحدي الثقافي؟!. سؤال يوجه إلى المؤسسات الدينية صاحبة القرار أو السلطات والمؤسسات الثقافية والإعلامية وأصحاب القرار في الإعلام المرئي والسمعي، ولكل المفكرين والعلماء والباحثين والدارسين والمتخصصين والكوادر الثقافية والجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والدراسات، وإلى جميع أصحاب الضمائر الحية من أبناء الأمة الإسلامية تلك الأمة التي كانت في يوم ما مصدر إشعاع فكري وثقافي وعلمي عم جميع شعوب العالم، وإلى كل مهتم بالهوية والأصالة والشخصية، إلى كل منتم يحرص على تراثه وماضيه أن يرصد لهذه القضية بحوثه ودراساته ويذلل كل الصعوبات التي تقف أمامه، لأجل رسم معالم مستقبل البلدان الإسلامية تجاه هذا المشروع الضخم الذي يستهدف، أولاً وأخيراً كل واحد منا وصهره في بوتقة العولمة التي تحاول تغيير المشهد الثقافي العالمي ومصادرة الثقافات المحلية؛ لتتحكم أكثر فأكثر بعصب الحياة ومستقبل الإنسان المسلم.

المصــــادر:

(1) لستر ثورو: مستقبل الرأسمالية.

(2) مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه.

(3) محسن الموسوي: القرن الواحد والعشرين.

(4) عبد الإله بلقزيز: في البدء كانت الثقافة.

(5) د. فخري الدباغ: غسل الدماغ.