العدد62

مــصـطـــفــى ســــلـــيـم

ترجمة: فاطمة الفريجي

 

تتألف أي جماعة إنسانية من عدد من الأنساق والأنسجة التي تكون بمجموعها العام مركباً واحداً اسمه المجتمع، هذه الأنساق تتباين بالطبع بحسب درجة تطور وتعقيد المجتمع؛ إذ ربما لا نجد في المجتمعات البدائية أكثر من نسيجين أو ثلاثة أو أربعة، بينما تكثر هذه الأنسجة في المدن الكبيرة وتتنوع إلى درجة كبيرة حيث نرى الأنسجة الدينية والفنية والرياضية والتربوية وأجهزة المال والتجارة والنسيج العمالي..

هذه الأجهزة تتظافر جميعاً في إطار البناء الاجتماعي العام لتكون في النهاية المركب الكلي الذي نسميه المجتمع، لكننا نلاحظ تفاوت الأهمية ودرجة التأثير؛ إذ يتميز النسيج السياسي عن بقية الأنساق والأنسجة من حيث البروز والأهمية والتأثير؛ ذلك أنه هو الذي يهيمن ويمتلك وسائل الضغط والتدخل، فيسمح لأي نسيج أن يحتل بعده الخاص، فمثلاً النظام الفاشي الألماني الهتلري قد ضيق من نشاط الأجهزة الدينية لكنه وسع المؤسسة العسكرية، بينما نرى نظماً أخرى سمحت للمؤسسات الدينية أن تكون لها اليد الطولى في المجتمع، في حين ضيقت من حركة الأنسجة الاجتماعية الأخرى داخل مجتمعاتها.

كما أننا نلاحظ أن النسيج السياسي يلعب دور الموجه لحركة الأنساق الاجتماعية الأخرى فيجبرها على السير في أي اتجاه يشاء، وعلى سبيل المثال نلاحظ تسلط أنظمة سياسية على الفن، وتسخيرها له لصالحها؛ ففي أثناء الحرب الباردة وجهت دول المنظومة الاشتراكية جميع أنواع النشاط الأدبي والفني لصالح أهداف سياسية، فصار الشعر و القصة والسينما وحتى الرسم ذا صبغة سياسية، ولا يختلف الوضع بالنسبة للأنظمة الرأسمالية الإمبريالية الديمقراطية.

وقد تم التأكيد على فكرة تسلط النسق السياسي على بقية الأنساق في الثقافة الإسلامية من خلال عدة أقوال أحدها (الناس على دين ملوكهم)، وأيضاً منه ما قاله الإمام علي(ع): (الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم) (بحار الأنوار: 139)، مما يترتب عليه تأكيد كون جميع أوضاع المجتمع وملامحه هي عبارة عن إفراز لوضعية القيادة وطبيعتها، وهذا يعادل التأكيد على صعوبة الإصلاح داخل مجتمع يتسلط عليه حاكم فاسد؛ لأن ذلك يؤدي بصورة تلقائية إلى الصدام مع هذا الحاكم.

  الشــــرعيــة 

كل نسيج اجتماعي يسعى بصورة تلقائية إلى إبراز وتثبيت وجوده؛ فالعمال مثلاً يسعون إلى بناء النقابات والمنظمات العمالية للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة فضلاً عن المساهمة في رفع مستوى وتقدم هذه الطبقة.

كما أن علماء الدين يسعون لتطوير مؤسساتهم الدينية وترسيخ وجودهم، وكذلك الحال بالنسبة للطبقة المثقفة، وهكذا فإن جميع هذه الشرائح، بما لديها من قدرات وإمكانات، تسعى إلى تثبيت مواقعها وترسيخ قدارتها وبالتالي دورها الاجتماعي والدفاع عنه.

وهنا يمكن القول بأن الشريحة السياسية هي أكثر هذه الشرائح سعياً وراء تحصين الموقع وتكريس البقاء من خلال الاعتماد على أركان خاصة، من جملتها القوة العسكرية، فتعمد السلطة إلى بناء المعسكرات ومخازن العتاد، والأسلحة وتشكيل قوات الطوارئ، ثم زرعها في أطراف المدن الكبيرة لقمع أي تمرد أو تحدٍ أو عمليات انقلابية مفاجئة. وقد تقوم السلطة بالحفاظ على وجودها من خلال القدرة الاقتصادية؛ إذ تعمد إلى الادخار وتهيئة الاعتمادات في البنوك الداخلية والخارجية بهدف السيطرة على قوى الاقتصاد وتسخيرها من أجل بقائها.

لكن عملية البقاء لا يمكن أن تكون ناجحة ما لم تدعم بواسطة المبررات الثقافية، فما الذي تفعله الطبقة السياسية بالنسبة لهذا البعد؟.

هنا - طبعاً - يتناول البحث شرعية السلطة السياسية؛ ذلك أن أي نظام لا بد أن يتذرع بذرائع كافية لتحقيق قبول وخضوع الطبقات الأخرى كطبقة علماء الدين والمثقفين وسواهم.. وبالتالي الدخول في عملية دفاع عن الذات من خلال الثقافة وهي ليست إلا تقديم المبررات الكافية للبقاء والاستمرار في الحكم.

ولذا فإن النظام السياسي ينبري للدفاع عن وجوده، ولا تشذ عن ذلك أشد الأنظمة قهراً ودكتاتورية؛ ذلك أنها أيضاً تسعى لاختلاق مبررات بقائها رغم أنه لا يجرؤ أحداً، سواء أكان فرداً أم فئة، على مساءلة هذه الأنظمة عن مبررات استحواذها على السلطة، إلا أنها مع ذلك تقوم بخلق المبررات المنطقية، فمثلاً: النظام البهلوي الثاني في إيران حاول إيجاد مبررات لاستحواذه على السلطة من خلال الادعاء بأنه ينتسب لـ(كورش) وأن سلطته تمثل امتداداً طبيعياً للحكم الإمبراطوري التأريخي الذي مر عليه (3500 عام) في إيران، ولتأكيد هذه القضية فأنه عمد إلى إقامة برامج واحتفالات فخمة كلفت خزينة الدولة مبالغ ضخمة جداً.

يبدو أن عملية التبرير ذات بعد إنساني سيكولوجي؛ فالإنسان يميل فطرياً إلى العدل، ولكنه عندما يجنح لممارسة الظلم، فإنه ينطلق بدءاً لتحضير مبررات حتى ينجح على الأقل بإسكات ضميره، وإقناع نفسه بأن ما ينوي فعله هو صحيح، بل هو لازم وضروري.

كما نلاحظ أن الحاجة إلى التبرير تتعاظم لدى الأنظمة الديمقراطية؛ ذلك أن دائرة النقد داخل هذه الأنظمة مفتوحة، ولذا فإن هذه الأنظمة تبدي نشاطاً محموماً لإحكام قبضة شرعية للسلطة؛ فتقوم بتأسيس مؤسسات البحث والدراسة، وشراء العقول والخبرات، وتشجيع إصدار الصحف والمجلات، وطبع ونشر آلاف الكتب، من أجل إثبات شرعية البقاء في السلطة.

   السلطة لأجل السلطة 

إذا أردنا عقد مقارنة، فإننا يمكن أن نقارن بين بعض أشكال السلطات وبين المذهب المعروف بالنسبة للفن، وهو مذهب (الفن للفن)، وهنا نطرح سؤالاً عن الفن: لأي هدف يستخدم؟ وأي حاجة من حاجات البشر يسد؟.

عند الإجابة عن هذا السؤال يقول البعض إن الفن وسيلة من وسائل حفظ الفضائل الأخلاقية والدينية، ويرى آخرون أنه سبيل لنقل الأحاسيس والعواطف الإنسانية والدفاع عن قضايا الجماهير، لكن توجد فئة تختلف كلياً عن هؤلاء، وترى في الفن مجرد فن، وأنه ليس أكثر من إنتاج الجمال بغض النظر عن كون هذا الجميل قد ارتبط بقضية سياسية أو هو يهدف إلى نشر فضيلة معينة، أنه الجمال فحسب، بلا أي أهداف أخرى.

ولعلنا في عالم السياسة نلاحظ شيئاً شبيهاً بهذه الفلسفة وإذا نقّبنا في التأريخ السياسي للإنسان، فربما أمكننا الادعاء بأن هذا التأريخ برمته كان تجسيداً لهذه الرؤية، وأن أكثر السلطات التي حكمت بني البشر كانت حاكمة لمجرد قدرتها على الاستحواذ على السلطة. إننا نلاحظ عند استقراء التأريخ أن امتلاك دفة السلطة هو أفضل تبرير لشرعيتها، وعلى سبيل المثال فأن السلطات التي حكمتها سلالات ملكية، كان المؤسسون لهذه السلالات هم من ذوي القدرات والمؤهلات، فقد يكون الملك الأول والثاني ذوي مواهب مميزة في إدارة الحروب وقيادة الجيوش، بينما يصل إلى الحكم بعد ذلك ملوك من أبناء هؤلاء لا موهبة لديهم ولا مبرر لامتلاكهم دفة الحكم سوى كون السلطة بأيديهم. وعندما يصبح الملوك بهذا المستوى فأن أنواع التبريرات تظهر لتسمح لهؤلاء بالاستمرار في الحكم، وقد يلجأ هؤلاء إلى الدين، كما هو موجود في بعض الأديان والمذاهب كبعض المذاهب الإسلامية التي تعد الثورة على الحاكم من أكبر الذنوب فتضع الثائر في دائرة الخوارج (أي الخارجين على الدين) - وعلى أساس هذا التبرير فأن الحاكم إذا كان فاسقاً أو ظالماً، فليس من حق المسلمين الثورة ضده، بل عليهم الاكتفاء بالنصح؛ لأن الحاكم هو امتحان من قبل الله سبحانه وتعالى للعباد، مثله مثل القحط والجفاف والآفات التي لا يكون فيها للناس سوى التحمل والصبر والانتظار حتى يأذن الله بحلول الفرج!.

ويعتمد التبرير هنا بصورة رئيسية على مفهوم البيعة؛ إذ يكون من الواجب على وجوه المجتمع ونخبه أن يبايعوا الحاكم على الطاعة المطلقة، وهي بيعة غير قابلة للحل؛ لذا فإن مخالفتها تعد ذنباً.

وقد نجد أن هذا النوع من التفكير قد تسلل إلى الفكر الشيعي إذ أشاع البعض أن الفقيه إذا تولى الأمر، فلا سبيل حينئذ للنقد أو الاعتراض، وعلى الجميع أن يبايعوه (فقهاء وعوام) ثم يطيعوه حتى لو كانوا يعتقدون بخطأه.

مع أن هذا النمط من التفكير لا يتناسب مع روح الإسلام والتشيع بل إنه يتعارض معه؛ لأن الإسلام قد أوجب الجهاد على المسلمين وأمرهم بالأخذ على يد الظالم حتى يعود عن غيه (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (بحار الانوار75/83)، وقد اعتبر الإسلام هذا النوع من الجهاد، أي قول الحق في وجه الظالم، من أعظم أنواع الجهاد.

  إيجاد وحفظ النظام 

ومن المبررات التي تستخدم لتبرير السلطة والتسلط هو التذرع بإيجاد النظام والمحافظة عليه؛ فكثير من السلطات عندما تعجز عن الحصول على ذريعة لشرعية بقائها أو شرعية ممارساتها فأنها يلجأ للتذرع بهذه القضية، وخصوصاً الأجهزة البوليسية (الاستخبارات) التي تمثل النموذج الأبرز للاستفادة من هذا التبرير، بحيث أن هذه المؤسسات تراها تسمي نفسها بـ(مؤسسة الأمن) أو (الأمن العام)، وبالطبع فإنه لا مماراة في كون حفظ الأمن من الواجبات الأساسية لأي سلطة، لكن هذا الواجب يتحول إلى الحفاظ على أمن السلطة نفسها، وليس أمن المجتمع الذي تمثله؛ ولهذا فإن سؤالاً عريضاً يطرح هنا، هو: هل أن الأمن المقصود هو تحسين وتطوير الأوضاع العامة للمجتمع، والحفاظ على استقراره؟، أم هو الحفاظ على قوة النظام السياسي الحاكم في تلك الجماعة؟.

من الواضح جداً أن أحداً لا يجيب بالإيجاب إلا على ما يحصل فعلاً، أي الأمر الثاني؛ وهذا يعني أن النظام يستخدم السلطة للحفاظ على قوته وقدرته.

  حكومة النخب 

في فلسفة السياسة يعتقد البعض - وأبرزهم هنا الفيلسوف أفلاطون - بأن السعادة والأمن الاجتماعيين لا يتحققان إلا عندما تحكم النخبة المجتمع، وهؤلاء في نظر أفلاطون هم الفلاسفة؛ فإما أن يصبح الأمراء فلاسفة أو يصبح الفلاسفة أمراء.

وبناءً على هذا المذهب فإن السلطة السياسية تجد مشروعيتها بحسب الأفضلية وأن الأفضل بين الناس هو الذي يحق له أن يحكم، غير أننا نواجه إشكالية عندما نريد أن نحدد من هو الأفضل، فهل الأفضل من بين الطبقات هم الأغنياء أم الفلاسفة، أم علماء الدين أم المفكرون والتكنوقراط؟ أم أن الأفضلية تتعلق بالشخصية الاجتماعية والانتساب إلى القبيلة القوية والنسب العريق؟ والسؤال الآخر الذي يبرز تبعاً للسؤال السابق هو: من الذي يحدد الأفضل أو الأشخاص الفاضلين؟.

وعدا عن هذا كله نتساءل: بواسطة أي فريق اجتماعي وسياسي يجب أن تحصل النخبة على السلطة؟ وفي كل الأحوال فإن هذه المباحث لا تخرج عن دائرة البحث النظري، لكنها مع ذلك تمثل مذهباً في شرعية السلطة مفاده أن الحكم هو من حق النخب وأن الحاكم يجب أن يكون الأفضل.

  الديمقراطية أو حكم الناس للناس 

في الأنظمة الديمقراطية تنشأ شرعية حكم شخص أو مجموعة على أساس رضى وقبول الأكثرية، باعتبار أن هذا القبول هو الدليل على أفضلية الشخص الذي تم اختياره من قبلهم.

كما أن أسلوب انتقال السلطة هنا يعتمد على إقرار الناس ورضاهم وبالطبع أن هؤلاء يستمرون في مراقبة أعمال السلطة ويمارسون نقدهم لها بصورة مستمرة من خلال الصحف والمطبوعات ونشاط الأحزاب السياسية.

لكن كثيرين لا يرون صحة هذا الأمر ويعارضون هذا النظام وقد سمو العملية برمتها بلعبة سياسية تعتمد على الدعاية والضجيج الإعلامي، وهذا الرأي موجود ومنطلق من داخل الأنظمة الديمقراطية الغربية نفسها.

وإذا تقدمنا باتجاه طريقة الانتخابات التي تمثل الشكل العملي لتطبيق الديمقراطية عرفنا السر في انطلاق هذه الرؤى.

  من الذي يفوز بالانتخابات؟ 

إذا افترضنا أن الترشيح يحصل بحرية كاملة، مع أن هذا الأمر لا يحصل بصورة عملية، فإن عملية الفوز تبقى محط تساؤل؛ فهل تعبر عملية الفوز في الانتخابات عن وصول الأفضل حقاً إلى السلطة؟.

فالفرد الذي يفوز بالانتخابات هو الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات، وهذا يعني أنه يحصل على تأييد أكبر عدد من الناس الذين يشاركون في الانتخابات، مما يعني في أفضل حالاته بأن هؤلاء قد عرفوا المرشح ووثقوا به لكن الحقيقة هي أن الواسطة في هذه المعرفة والثقة، لا تقوم على شيء أكبر من الدعاية، مع أننا نلاحظ أن الدعاية تقوم بخلق أجواء خاصة تعتمد بصورة رئيسية على إثارة العواطف، وقد نجد أن عدداً من الناس يعمدون إلى اختيار مرشح لا يرغبون ولا يثقون به، لكنهم يمنحونه أصواتهم هرباً من المرشحين الآخرين الذين يجدونهم أكثر سوءاً، وبالتالي لا مناص من اختيار المرشح الأقل سوءاً من بين الجميع.

وإذا أضفنا إلى ذلك، النسبة المئوية التي لا تشارك في الانتخابات، فإن النتيجة تكون غير معبرة إطلاقاً عن أفضلية الذين يصلون إلى السلطة بواسطة الانتخابات، وعلى سبيل المثال: إذا اشترك في الانتخابات 70% من الشعب فإن هذا الرقم يعبر عن تخلف ما يقرب من الثلث عن المشاركة؛ فإن الفائز الذي فاز بالأكثرية - ولنفرض أنها نسبة 60% من الأصوات المشاركة - ستكون نسبة الفوز الحقيقية له هي (60% - 70%) = 43%.

ولهذا فإن 43% فقط من الناس هم الذين صوتوا لصالح هذا المرشح الفائز، وأن 57% لم ينتخبوه.

ولعل البعض يجيب على هذا الاعتراض فيقول بأن الذي لم يشارك هو الذي ضيع حقه بيده وأن نفس النظام لا يتحمل تبعة عدم المشاركة؛ فإن الجواب هو: إن عدم المشاركة لا ينشأ عن لا مبالاة هؤلاء أو عدم إحساسهم بالمسؤولية، بل لأنهم يرون أن المرشحين كلهم غير لائقين، أو أنهم يرفضون النظام الديمقراطي جملة وتفصيلاً، فإذا كتب هؤلاء آرائهم الحقيقية في النظام على أوراق التصويت، فإن آراءهم ستهمل بلا شك.

وفي الواقع، لا يوجد في الانتخابات صوت اسمه الامتناع، بل على العكس من ذلك يفرض على الناس اختيار أحد المرشحين، وفي نهاية العملية سيصل أحد المرشحين، ولنفرض المرشح (م)، إلى السلطة ليصبح في النهاية ممثلاً للأكثرية أما بعد الانتخابات فإن المؤاخذات مستمرة؛ ولهذا يجب الانتباه إلى أنه في كل مجتمع تعمد الطبقات ذات النفوذ إلى الإمساك بالسلطة بطريقة غير مباشرة، وهذا الأمر يتجلى بوضوح في الأنظمة الغربية الرأسمالية، حيث تعمد بعض مراكز القوى الاقتصادية مثل الشركات المالية التجارية أو القوى الاقتصادية ذات الصبغة الدينية مثل التشكيلات اليهودية والصهيونية التي تعرف بسلطات الظل. هذه المراكز تقوم أحياناً بتجنيد بعض الوجوه الاجتماعية من مثل النبلاء والشخصيات الكبيرة، وهنا قد يكون المرشح نائباً لكنه يعمل من وراء الستار لتنفيذ مآرب الجهة التي تقف وراءه والتي فتحت له أبواب السلطة بواسطة المساعدات المالية والإعلانات والدعاية، وبالتالي فإن بقاء هذا الفرد ضمن الأجهزة الحاكمة رهين باستمرار دعم هذه الفئات له؛ لذا فإنه مجبر على طاعة ولاة الأمر الحقيقيين؛ وعلى هذا الأساس فإن تغيير الوجوه لا يعبر عن تغيير السلطة، بل يعبر عن بقاء القوى والمراكز واستمرار نفس السياسات، ولكن من خلال وجوده جديدة، ولعلّ هذا الأمر يمثل أهم الأسباب التي تكمن وراء تراجع النسب المئوية للمشاركين في الانتخابات حتى في الدول الغربية التي تعد منبع النظام الديمقراطي وحاملة لوائه.

وإذا تساءلنا عن أصل الديمقراطية فأننا سوف نصل إلى أنها ليست سوى ثمرة من ثمار شجرة فلسفية هي فلسفة (الإنسان) التي تعتمد عليها الحضارة الغربية برمتها، تلك الفلسفة التي تقدس الإنسان، وتعتمد عليه في كل شيء، وترى أن كل شيء قائم بالإنسان ومن أجله.

فالغربيون في الماضي القديم كانوا يقولون إن الأرض هي نواة الكون، لكنهم اليوم استبدلوا الأرض بالإنسان، وصاروا يقولون بأن الإنسان هو نواة الكون. فهذه الفلسفة التي ترى الإنسان محوراً لفكرها، لا ترى من الأخلاق إلا تلك السلوكيات التي تصب في مصلحة الإنسان؛ والفلسفة هي التفكير في الإنسان، والتكنولوجيا هي التي تحقق مصلحة الإنسان ورفاهه، والعدالة هي الأمور التي ترضيه، وحتى الله بالنسبة لها هو الموجود الذي يمكن للإنسان أن يتصل به ويفضي إليه بحاجاته ومن هنا فإن الله وكل ما يسمونه فوق الطبيعة هو شيء لا دور له في هذا النمط من التفكير، وباختصار فإن الديمقراطية هي المادية لكنها في جانب السياسة.

  حكومة الله (الثيوقراطية) 

عندما نتكلم عن حكم الدين أو السلطة السياسية التي مصدرها الله سبحانه، فلا بد في البداية من إحراز الأساس في هذا الأمر، ألا وهو الاعتقاد بالله سبحانه الموجود القادر المتعال الذي خلق الإنسان والكون، الله المريد الذي يرتبط كل شيء بإرادته، والمالك المتصرف في الكون كله (لله ملك السماوات والأرض وما بينهما)(المائدة: 17) وتبعاً لذلك فإن السلطة السياسية بيد الله أيضاً (قل اللهم مالك الملك تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)، وأن الله هو الذي يختار خليفته على خلقه (إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة:30).

ولكن ذلك يأتي بسؤال حول ما يلي:

من هو الخليفة؟ وما هي شروط الاستخلاف؟.

هنا نرى وجود أربع نظريات:

1- إن من يصبح حاكماً يكون قد استلم السلطة من قبل الله تعالى، وصار خليفة الله على الأرض؛ وهذه الرؤية كانت سلاحاً بيد الكثير من المستبدين عبر التاريخ، فـ(الملك هو ظل الله في الأرض) فليكن الملك من يكون، إذا كان ممن يعرفون الله، وفي التأريخ القديم لإيران شاعت فكرة مفادها: إن من وصل إلى الملوكية فإن الله يكون قد أيده لأنها (تفويض الله) والوصول إليها هو المعبّر عن هذا التفويض، وإنها طائر السعد الذي يحط على أكتاف المؤهلين والمؤيدين من قبل الله، وقد شاع شيء من هذا القبيل أيضاً في الثقافة اليهودية، وكذلك سار الأمويون على هذا الرأي وتبنوه.

2- رجال الدين هم خلفاء الله وعلى هذا الأساس فإن رجل الدين يصبح واسطة بين الخالق والمخلوق، وهكذا فإن الله أوكل إليه التصرف بحقوق الناس وصار بمقدوره أن يحلل ويحرم يُكّفْر ويعذب، يبيح الجنة ويحرم ما يشاء منها، وقد شهدت أوروبا المسيحية هذا اللون من التفكير. علماً بأن القرآن رفض هذا اللون من التفكير وذمه بشدة وجعل هؤلاء من زمرة عبدة الأصنام فقال سبحانه وتعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).

3- لقد أعطيت السلطة لنوع الإنسان، لذا فإن كل الناس هم خلائف الله في أرضه.. وبواسطة الانتخابات الديمقراطية ينتخب الحاكم، ومن ثم فإن انتخابه من قبل الناس هو ما يحقق رضى الله تعالى.

وهذا الأمر لاقى رضى وقبول جماعة من المفكرين المتغربين، ولهذا فإننا نعمد إلى تحليله كالآتي:

أ) هل هذا الأمر صحيح؟.

ب) هل يتطابق هذا الأمر مع الرؤية الإسلامية للحكم؟.

تلك الرؤية تذكرنا بعقيدة اليهود القائلة بأن الله سبحانه وتعالى وضع يده على خده وتنحى جانباً بعد أن خلق الخلق، وصار يراقب ما الذي يفعله عباده وسيستمر على ذلك إلى يوم القيامة (إذا كانت هناك من آخرة)!.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: (قالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) (المائدة: 64) وهو دليل على عدم إيمانهم وكفرهم.

والفرق الوحيد بين هذه الرؤية والديمقراطية يتمثل في وجود منصب تشريفي مثل منصب ملكة بريطانيا؛ حتى تبقى الديمقراطية!.

والذي يؤخذ على هذه الرؤية أنها ترى أن الله حكيماً، لكنها لا تراعي هذه الحكمة بصورة عملية؛ إذ كيف يكون حكيماً ويعرف المصالح العميقة وراء إيجاد الأشياء، لكنه يترك الخلق هملاً يفعلون ما يشاؤون، ولا يتدخل في شيء ولا يهدي الإنسان ولا يدله على الصواب؟!.

صحيح أن الله جعل الإنسان مختاراً، وأهّله للاختيار بين الصواب والخطأ، لكنه سبحانه في البداية يهدي ويوجه ويعلم (وهديناه النجدين) (البلد:10)، غير أنه تبعاً لهذه النظرية، لا يهتم بأهم أجزاء حياة الإنسان، وهو الحكم السياسي الذي له أكبر الأثر في توجيه مرافق الحياة، مع أننا نلاحظ أن القرآن الكريم حدد بكل صراحة رأيه في السلطة حيث قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة: 55).

هذه الطريقة من التفكير تقود إلى نتائج مرفوضة إطلاقاً؛ فهي تقود إلى أن ولاية الرسول والأئمة(ع) مشروطة برضى الناس وتحصيل أكثرية الأصوات، وكأن هؤلاء لم يروا الآية الشريفة (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36)، وتبعاً لرؤية هؤلاء، سيكون الدين برمته اختيارياً للإنسان، أن يقبل به أو يرفضه، وهذا لا يقول به أحد، لكن ربما أمكن القول بأن قبول الناس ورفضهم هو شرط لتطبيق الولاية بصورة عملية، وليس لأصل وجودها؛ لأن الإمام والنبي هم أولياء الناس بأمر من الله تعالى، وأن الله سبحانه قد نصبهم، وهذا التنصيب ملزم لكل مؤمن ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً.

لكن رفض الناس أو قبولهم سيهيأ الأجواء المناسبة لجعلها ولاية عملية، وقد استدل أصحاب هذا الرأي على أن النبي (ص) عندما حكم المدينة أخذ البيعة من الناس، في حين صار الإمام جليس داره لأنه عجز عن تحقيق قبول الأكثرية، ولو كانت استجابت له الأكثرية لكان حاكماً وولياً على المسلمين!!.

وبناءً على هذا الرأي، تصبح قضية غدير خم، حيث تم تعيين الولي، غير ذات معنى؛ لأن الولاية سوف تصل إلى من يحوز رضى الأكثرية ليس لمن عينه النبي(ص) وتبعاً لذلك فإن حديث الأئمة المعصومين(ع) عن غصب الخلافة يصبح أيضاً بلا معنى لأن الناس في ذلك الزمن قد اختاروا لأنفسهم، وإن ذلك كاف لنزع الولاية عن الإمام علي(ع).

4- التنصيب والانتخاب من قبل الله تعالى:

)وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين).

يمكن أن تكون هذه الآية الشريفة من أبرز الآيات الدالة على قضية تفويض السلطة من قبل الله تعالى لشخص؛ وذلك بقوله (جاعلك) ولهذا يمكن أن نفهم أن السلطة في الأصل هي بيد الله تعالى، والله يختار من يراه صالحاً لهذا المقام؛ وبذلك فإنه هو الذي يحدد صفات أو شروط الاختيار، كما دلت الآية الشريفة على أن إبراهيم(ع) خضع لاختبارات قاسية محصت جوهره وملكاته؛ ولذلك فإنه في النهاية استحق تولي منصب الولاية على الناس، وعندما سأل عن ذريته، أجاب الله سبحانه بأن هذا العهد بالإمامة والقيادة لا يشمل الظالمين، وفي المفهوم القرآني فإن الظلم شامل لكل اعوجاج؛ فتكون النتيجة أن الشخص الذي بعد عن النقائص والانحرافات سيكون مؤهلا للولاية والقيادة.. وهذا هو معنى العصمة.

وهذه القضية يدركها العقل ويؤيدها؛ وعليه فإن أكمل الناس له الحق في حكمهم.

وهنا يرد تساؤل عن كيفية تشخيص الأكمل، وليس المقصود هنا الكمال الظاهري بل الكمال الباطني أيضاً؛ ولذلك فإن أحداً لا يستطيع البت في هذه القضية سوى الله تعالى الذي هو خالق الإنسان والمطلع على خبايا روحه ونفسه والأعلم بصلاحه؛ ولذا فإن الله قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (الأنعام: 134).

ونحن إذ نعيش في هذا العصر الذي ينطبق عليه مفهوم الفترة (أي غياب حجة معين من قبل الله على الناس) فإن منصب الولاية سيكون شاغراً، لكن لابد في النهاية من ملئه بطريقة ما، وهي كالآتي:

إن الرسول (ص) في بداية الدعوة عندما أمره الله تعالى بأن يدعو أهله المقربين قام بدعوة بني هاشم وكانوا زهاء أربعين رجلاً اجتمعوا لوليمة، فأعلن الرسول(ص) عندها أن الذي يؤمن به ويؤازره على أمره سيكون وليه على الناس، فكان هذا المؤمن هو الإمام علي(ع)، وبذلك تم تحديد خليفة الرسول (ص) قبل انتشار الإسلام وقبل وجود السلطة.

وعلى أساس الأدلة الفقهية العقلية والسمعية تتسلسل الولاية من المعصومين(ع) إلى من عينوه من الناس في زمن الفترة (الغيبة) وهم قد عينوا الولاية للفقهاء العدول عندما يغيب المعصوم(ع) وهذا هو ما يعرف بـ(ولاية الفقيه) وفيها أربعة آراء:

1- ولاية الفقيه المطلقة؛ والتي يعتقد البعض أنها دائرة واسعة تصل إلى حد دائرة ولاية النبي(ص)، ولذا يستطيع الفقيه أن يوجب الصلاة والحج أو يلغيهما أو يعطل الحدود!! والولاية وفق هذه الرؤية مقصورة على الفقيه. أما باقي الناس بما فيهم بقية الفقهاء فعليهم أن يتبعوا الفقيه الولي، وهذه الرؤية تدل على نوع من الاستبداد الديني.

2- النيابة المطلقة؛ وأمام وجهة النظر السابقة توجد وجهة نظر أخرى وهي متبناة من قبل فريق من العلماء، تعد الفقيه وولايته متوقفة على انتخاب الناس وقبول الأكثرية وقد مر سابقاً بأن هؤلاء يطبقونها حتى على النبي والأئمة(ع).

3- إشراف الفقيه؛ وهذه الرؤية ترى أن الفقيه ولي وقائد، لكن لا بمعنى الإمساك بمقاليد الأمور، بل هو يراقب الأمور الكلية للمجتمع, حتى لا تخرج الحركة العامة للمجتمع و النظام عن دائرة الإسلام، وقد كانت الأوضاع أبان حكم الصفويين موافقة لهذا الرأي؛ حيث كان الفقهاء يراقبون الأمور وتصرفات الملوك.

4- ولاية مجموع الفقهاء؛ وفي هذه الرؤية لا تنحصر الولاية بفقيه واحد، بل يكون كل الفقهاء ينتظمون ضمن مجلس للشورى، وهذه هي شورى الفقهاء الذين يتولون الولاية؛ ولهذا لابد من توفر شرطين لدى الفقهاء هما: معرفة الدين، ثم قبول الناس ورضاهم. هذه الشورى بعد تشكلها تمارس سلطة اتخاذ القرارات وتعطي للحكم شكله المميز، فتكون هي الحاكم الحقيقي في الدولة، كما أن الأحزاب الحرة السياسية ووسائل الإعلام تساهم في عملية مراقبة عمل الدولة، والدولة أيضاً لا تصل إلى منصبها التنفيذي إلا بعد الانتخابات الحرة.

وبناءً على وجهة النظر هذه فإن السلطة الدينية بالأصل محفوظة، لكن عملية التطبيق والتنفيذ سيمارسها نواب الإمام المعصوم(ع) كما تعمل الانتخابات على حفظ حق الناس في تقرير المصير، وفق الدائرة التي حددها الشرع، أي المعرفة الحقيقية للمندوبين، التي تلعب فيها الأحزاب الحرة دوراً كبيراً إلى جانب الصحف والمطبوعات فتكون شورى الفقهاء في النهاية أسلوباً يحول دون حصر السلطة بيد بعض المؤسسات أو الأفراد كما أنها تمنع الاستبداد، بالاعتماد على ركنيها الرئيسيين وهما: 1- شورى الفقهاء، 2- الأحزاب الحرة.

وبهذه الطريقة يمكن الوصول إلى صيغة لعمل السلطة تحقق جميع شروط الصلاح والأمن والسعادة للمجتمع.