العدد62

السيد جعفر الشيرازي

لم يختلف اثنان في أمر كاختلافهما في السلطة وشؤونها وتفاصيلها وكيفية الوصول إليها، ولم ترق الدماء في شيء كإراقتها فيها، هذا الاختلاف الذي امتد إلى أعماق التاريخ البشري، ولم يحسمه أي شيء ذلك لأنه لا يوجد شيء يؤمن المصالح ويرضي حب الاستعلاء كالسلطة مهما كانت الصور في أي زمان ومكان.

فلذا ترى وعلى طول الخط الكثيرين يتهافتون عليها، ويعرضون أنفسهم للخطر الشديد، وإن وصلوا إليها يتذرعون بمختلف الحجج ويستخدمون جميع الوسائل المتاحة المشروعة وغير المشروعة للحفاظ عليها والبقاء أطول فترة ممكنة فيها، فكانت الديكتاتوريات التي تلجأ إلى التنكيل بالمخالفين وتصفيتهم أو التضييق عليهم بمختلف السبل من جهة، وفسح المجال للمتزلفين والمصفقين وجيش من المرتزقة من جهة أخرى، مما يجر الويلات على المجتمع.

ولذا لزم في السلطة أن تكون معصومة من المعصية والخطأ والزلل فكانت للأنبياء ومن بعدهم للأئمة (ع) حيث أن عصمتهم تمنع من التجاوز والمخالفة بل وحتى الخطأ.

وفي غياب السلطة المعصومة فالأمر يصبح بحاجة إلى ضمانات محكمة وبناء مرصوص غير قابل للثغرات يكبح جماح نزوات النفس ويمنع من تحول السلطة إلى أداة ترضي شهوات ونزوات الدكتاتور.

ثغرات في الديمقراطية ..

ومن هنا نشأت فكرة الديمقراطية القاضية بأن تكون سلطة الشعب للشعب. بواسطة انتخاب السلطة عبر مشاركة جميع فئات المجتمع ثم رقابة المجتمع على تصرفاتها وعزلها إن خالفت القوانين الموضوعة.

ولا يخفى أن هذه الصيغة أحسن بكثير من الطريقة الاستبدادية التي تأتي بالحاكم بواسطة القوة أو عن طريق الوراثة، لكن هنالك ثغرات في أصل فكرة الديمقراطية أو في طريقة تطبيقها، نشير إلى بعض منها:

1- الخلل في أصل الفكرة: وذلك عبر جعلها هي المقياس الوحيد. إن مشاركة الشعب وكون كلمته كلمة الفصل هي أمر محبذ، لكن الخلل ينشأ من جعلها مقياساً لكل أمر، وجعلها القيمة الوحيدة التي ترجع إليها جميع القيم، مع أن هنالك قيماً متعددة تقع في عرض قيمة مشاركة الشعب.

ولنضرب مثالاً: إذا كان أكثر الناس - وبسبب قلة وعيهم - صوتوا في انتخابات حرة ونزيهة لصالح حكم الحزب الواحد، وأن الحاكم الأعلى الذي بيده جميع السلطات يكون فلاناً مدى الحياة، من دون رقيب، فيفعل ما يشاء ليرتكب الجرائم المختلفة من دون أن يسمح القانون بمعاقبته بل وحتى محاسبته، ففي هذه الصورة هل يؤخذ برأي الشعب باعتبار الديمقراطية؟ وأن الأمر قد صوتت له الأغلبية؟ هذا ليس افتراضاَ أو نقضاً عقلياً، حتى يقال إننا نتكلم عن افتراضات فلسفية عقلية لا عن واقع المجتمع، بل إنه واقع قد تم تطبيقه في عدة بلدان من أفريقيا وآسيا وغيرهما، ولا يشك أحد أن بعض تلك الانتخابات كانت حرة وأن الاقتراع جرى بحرية وكان بمحض إرادة الناس ومن غير تزوير لنتائج الانتخابات.

وكذلك يشاهد في الديمقراطيات الغربية سحق مختلف القيم البشرية السامية وإبادة شعوب بأكملها بحجة أن اكثر الناخبين يؤيدون ذلك، فترى مثلاً مباركة بعض الشعوب الغربية لمختلف أشكال الاستعمار والعبودية أو زواج المثليين.. والقائمة طويلة جداً.

مع أن الصحيح أن مشاركة الشعب تمثل إحدى القيم، والحرية قيمة أخرى بجنب تلك القيم، والعفة قيمة ثالثة، وحقوق سائر الشعوب قيمة رابعة وهكذا فإن جميع تلك القيم في عرض واحد؛ فلا يمكن القضاء على قيمة لمصلحة قيمة أخرى بل يجب ملاحظتها جميعاً؛ وهذه ثغرة لم تتمكن الديمقراطية - فكرة وتطبيقاً من حلها -.

2- الخلل في التطبيق: صحيح أن التطبيق الخاطئ ليس دليلاً على سقم المبادئ؛ فكم من قانون سليم لا يطبق تطبيقاً صحيحاً، وكم من دولة ديكتاتورية دستورها من أرقى الدساتير في العالم، وكم من عالم لا يعمل بعلمه.

ولكن إذا كان التطبيق الخاطئ هو بسبب قوانين مشرّعة وملزمة - وإن كانت مخالفة لأصل المبدأ - فإنها حينئذٍ تدخل المجتمع في دوامة وفي تناقض.

وهذا ما حصل فعلاً للديمقراطية؛ إذ إنها تناقض نفسها بنفسها في كثير من قوانينها التي شرعت في الأساس برضى الشعب وبموافقته، لكنها تكبت الشعب، وتقلص من نفوذه.

ومن أمثلة ذلك:

حصر حق الانتخاب:

حيث يقصر حق الانتخاب على أعمار خاصة كالثامنة عشر فما فوق؛ وهو ما يحصل في جميع الديمقراطيات بحجة أن الأطفال لا يميزون ولا يدركون المصالح؛ فلا حق لهم في المشاركة، وبذلك يتم حرمان شريحة كبيرة - قد تتجاوز نصف المجتمع أحياناً - من المشاركة في تقرير المصير.

إن قرارات السلطة تشمل جميع شرائح المجتمع وطبقاته بمن فيها الفئات العمرية دون الثامنة عشرة - أي دون السن القانونية للانتخاب في كثير من الدول -، وإن الأضرار لا تميز بين كبير وصغير، فالصغار تحت رحمة قرار السلطة وأضرارها، ثم لا يحق لهم المشاركة في صنعها‍!.

إن الحل الصحيح يتمثل في مشاركتهم، وعبر أوليائهم إن كانوا قاصرين؛ فإن القانون جعل الولاية عليهم لآبائهم، فهؤلاء الآباء يتولون شؤون الصغار وحسب المصلحة في جميع الأمور - وفيما هو أهم من السلطة وفيما فيه تكوين شخصيتهم - فلماذا يمنع الأولياء من النيابة عن أبنائهم في انتخاب السلطة التي ستؤثر قراراتها على أولادهم وعلى مستقبلهم. إن القانون - وإلى وقت قريب - كان يمنع المرأة من حق الانتخاب بأعذار ضعيفة، كما أنه يمنع القاصرين الآن بأعذار أكثر ضعفاً.

تزييف إرادة الناس:

مثال آخر؛ هو تزييف إرادة الشعب عبر الإعلام الموجه والقوى الضاغطة.

لم يعد خافياً على أحد أن إرادة الشعب، في ظل أعرق الديمقراطيات الغربية، لم تعد بيد الشعب نفسه، وإنما صارت موجهة وبيد مجموعة قليلة من الرأسماليين الذين خلقوا مناخاً خاصاً، لا يمكن منافستهم فيه، فعبر إمبراطورية إعلامية تجند لها مختلف الوسائل، من الأقمار الاصطناعية إلى المنشورات المحدودة، يتم عبرها خلق قناعات زائفة، لذلك يضطر المرشحون إلى التنسيق معهم وحفظ مصالحهم بدلاً من مصالح الجمهور، وكذلك عبر القوى الضاغطة المعبر عنها باللوبي.

ونموذج الولايات المتحدة الأمريكية خير مثال لما ذكرناه، فإن اللوبي الصهيوني، عبر استخدامه جميع الوسائل المتاحة، تمكن من السيطرة على عقول الأمريكيين بحيث غدت مصلحة الكيان الصهيوني أهم من مصلحة نفس الولايات المتحدة، حتى أصبحت تعرض مصالحها للخطر؛ للحفاظ على مصالح الكيان الصهيوني.

إن الترويج لفكرة معينة والاستفادة من الوسائل المشروعة لنشرها، لا يختلف عليه اثنان، لكن خلق ديكتاتورية إعلامية وبغطاء ديمقراطي يشبه إلى حد كبير ديكتاتورية السلطات في بعض بلاد الشرق ولكن بثوب ديمقراطي جميل.

إن القانون يجب أن لا يناقض نفسه بل ينبغي أن تكون القوانين سلسلة متكاملة يكمل بعضها البعض، وكل تناقض في القانون يسبب خللاً كبيراً في الواقع العملي.

كما يشاهد مثل ذلك في الديمقراطيات الغربية، حيث أنها مزيج من الديمقراطية والديكتاتورية ولا شك أن هذا المزيج يؤمن بعض الحرية والرفاه، وهو خير من الديكتاتورية المحضة التي تقضي على كل أنواع الحرية، لكنه في نفس الوقت لا يرقى إلى المستوى المطلوب ولا يؤمن المبدأ الديمقراطي.

الطريق الأسلم:

والطريق الأسلم والخالية من الثغرات هي طريقة الشورى التي أقرها القرآن الكريم (وأمرهم شورى بينهم) والتي تستوعب جميع محاسن الديمقراطية، دون سلبياتها. فأولاً: أصل التشريع من القرآن الكريم وسيرة وسنة الرسول(ص) وأهل البيت(ع)، وهو يحافظ على جميع القيم ولا يفرط بأحدها لأجل أخرى. ودور الفقهاء ونواب الأمة ينحصر في تشريع مصاديق تلك الأصول، والتوفيق بين الواقع العملي مع تلك الأصول، ولذا أستعمل الفقهاء لفظ السلطة التأطيرية للبرلمان بدلاً من السلطة التشريعية، ويعنون بذلك تأطير القوانين الشرعية وليس تشريع قوانين تخالف الشرع.

وثانياً: منح الفرصة للجميع للمساهمة والمشاركة في صنع القرار، دون استثناء أحد من المسلمين، وعدم السماح لتزييف إرادة الأمة عبر حصر الإعلام وتشكيل القوى الضاغطة.

ويجمع ذلك قولهم (يشترط في الحاكم رضا الله ورضا الأمة).

فإذا عيّن الله أحداً، وجب على الأمة الانصياع له، كما في الرسول(ص) والأئمة(ع)، وفي فترة الغيبة يلزم إضافة إلى رضا الله عز وجل، رضا الأمة أيضاً.

والمقصود برضا الله هو انطباق المعايير الشرعية على القائد، فمثلاً يشترط فيه العدالة، أي الالتزام القلبي والقولي والعملي بالشرع، فإذا خرج القائد عن جادة الشرع انعزل فوراً.

وتلك المعايير الشرعية وإن كانت محلاً للخلاف في بعض مصاديقها نتيجة لاختلاف الاجتهادات إلا أن أكثرها محل وفاق، ونقاط الاختلاف قابلة للنقاش العلمي والأخذ بأكثرية بآراء أهل الخبرة من الجهة العلمية.

ومن نقاط الاختلاف اشتراط الاجتهاد أو بتعبير آخر مسألة ولاية الفقهاء الجامعين للشرائط.

وليس معنى ذلك ديكتاتورية القانون من جهة، حيث حصر الولاية للفقهاء دون غيرهم، ولا يقصد بذلك ديكتاتورية الفقهاء من جهة ثانية:

1- ذلك أنه ما من شك في لزوم توفر شرائط في القيادة، كما أن جميع قوانين العالم ودساتيرها جعلت شروطاً لمن يتبوّأ أي منصب وعلى الخصوص الرئاسة العامة، لأنه واضح أن هنالك معايير، ولا يمكن ترك الأمر من غير موازين وإن كانت تلك المعايير تختلف من دستور إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، ومن النقاط التي اتفقت عليها جميع القوانين كون الرئيس يحمل جنسية البلد، فإذا لم يكن يحمل جنسيته فلا يسمح له بالمشاركة، كما أن كثيراً من الدساتير تشترط عمراً خاصاً وديناً أو مذهباً معيناً أو شهادة محددة؛ وحينئذٍ فجعْل شروط يجب توافرها في الشخص ليعتلي سدّة القيادة أمر متفق عليه.

والشرع الإسلامي أيضاً اشترط شروطاً خاصة، الفقاهة جزءٌ منها على رأي كثيرين، وذلك لا يحسب ديكتاتورية على القانون بوجه من الوجوه؛ حيث أن باب الفقاهة مفتوح للجميع، وهذا هو المقصود من رضا الله تعالى.

2- ليس معنى ولاية الفقهاء ديكتاتوريتهم؛ حيث أن الاستبداد في الحكم من المحرمات المسقطة للعدالة، والشورى من الواجبات حسب النص القرآني؛ فلا يمكن التضحية بمبدأ وقيمة وهي الشورى لصالح قيمة أخرى هي ولاية الفقهاء - كما ذكرنا- بل يلزم الجمع بين القيم؛ فالولاية للفقهاء ولكن في ضمن إطار الشورى وهذه الشورى تكون من جهتين؛ الأولى الشورى بين الفقهاء أنفسهم، والثانية الشورى بين الناس؛ أي بمعنى رضاهم وانتخابهم وبيعتهم، وهذا ما يعبّر عنه برضى الناس.

فإذا لم يرض الناس بفقيه من الفقهاء - وإن لم يكن عدم رضاهم بسبب خروجه عن جادة الشرع وإنما بسبب عدم قناعتهم بأدائه - فإنه حينئذ لا يحق له السيطرة عليهم بالإجبار والديكتاتورية؛ إذ القاعدة الفقهية تقول: (الناس مسلطون على أنفسهم)، فلا يحق لأحد أن يسيطر عليهم إلا برضاهم، كما أن آية الشورى (وأمرهم شورى بينهم) تلزم ذلك.

فرضى الله تعالى ورضى الناس جناحان للنظام الشوروي الذي شرعه القرآن الكريم، فلا يجوز تطبيق ما لا يرضاه الله تعالى وإن رغب إليه الناس، كما أن الله تعالى لا يرضى حكماً ديكتاتورياً لا يرضاه الناس.

فهم الطريقة الإسلامية للحكم:

إن تطبيق النظام الإسلامي الحائز على رضى الله ورضى الناس ليس بالأمر الهين؛ بل تقف دونه عقبات داخلية وخارجية؛ منها عدم فهم الرؤية الإسلامية الواقعية للحكم؛ إذ إن كثيراً من الحركات الإسلامية والعاملين والمجاهدين، لا يعرفون الطريقة الإسلامية في الحكم، بل هم يرون واقعاً يخالف الإسلام يريدون تغييره، لكنه تغيير نحو المجهول؛ فالكثير يتخبط في أفعاله ويناقض نفسه حيناً بعد حين ولا يسير على هدى، بل يكتنف أمره بالشعارات البراقة من دون واقعية، وهذا سبب فشل الكثير من الحكومات التي قامت لتطبيق الإسلام، ثم انجرفت في تيارات الشرق والغرب، أو كانت تنقصها اطروحات وقوانين؛ مما اضطرها لاستيراد قوانين من مناشئ أخرى، فمثلاً إحدى تلك الدول التي قامت على الإسلام أراد برلمانها سنّ قوانين إسلامية، وكان في البرلمان بعض النواب الشيوعيين فكلما طرحت مسألة لم يكونوا يعرفون رأي الشرع فيها؛ لأن كثيراً منها من المسائل المستحدثة، فما لبث الشيوعيون - رغم أنهم كانوا أقل من عدد الأصابع - أن طرحوا المبادئ الشيوعية بلباس إسلامي، وصوّت عليها النواب، وتم إقرارها كقوانين، وفي الحقيقة كانت قوانين شيوعية ولكن بلباس إسلامي.

إن من الضروري جداً دراسة الإسلام من جهة آرائه في القضايا السياسية وغيرها وينبغي أن يقوم بالدراسة الفقهاء والأخصائيون حتى يتوصلوا إلى النموذج الأمثل للقانون الإسلامي الذي يجمع بين الأصالة وعدم التفريط بها، وبين التحديث الذي هو لازم لمواكبة العصر، فكما أن الفقه في العبادات والمعاملات تطوّر، فكذلك هو بحاجة إلى تطوير في الجهات الأخرى.

ثم يأتي دور التطبيق التدريجي لتلك الأفكار بالقدر المستطاع؛ فمثلاً: إذا كنا نؤمن بالشورى وكيفياتها فلنطبق تلك الكيفيات فيما أمكن فيه التطبيق، ولو في التجمعات الصغيرة كالهيئات والمراكز والجمعيات والمؤسسات والحسينيات؛ حتى تتحول إلى ثقافة عملية؛ إذ إن كثيرين يؤمنون بأفكار لكنهم عاجزون عن تطبيقها لعدم الممارسة هذا أولا، وثانياً حتى تشخص مواطن الخلل في كيفية تطبيق الفكرة ومن ثم السعي لإصلاح الفكرة؛ لأن الأفكار لا يمكن الحكم بصحتها أو سقمها - وخاصة إذا كانت مرتبطة بالجانب العملي - إلا في مجال التطبيق.

إن محاولة فهم الأفكار أو إنشاءها ثم محاولة تطبيقها، قصد تجربتها، وكشف مواطن الضعف والقوة فيها كفيل بحل مشكلة ضبابية الأفكار؛ وذلك مما يسد الثغرات التي يمكن للبعض الدخول عبرها وتخريب أصل الفكرة أو محاولة تفسيرها بما يلائم هواهم.

إن مشكلة البلاد الإسلامية هي مشكلة داخلية قبل أن تكون مشكلة خارجية؛ ولا يمكن القضاء على المشكلة الداخلية إلا عبر تنمية الوعي، ورفع مستوى الثقافة، والتطبيق العملي للأفكار؛ وعندئذٍ قد يتحقق تغيير ما في أنفسهم، فيغير الله تعالى ما بهم من سوء، وما ذلك على الله بعزيز.