العدد62

 

 

الحضارة الإنسانية بين التواصل والصراع..

رفعت المحمد

تشكِّل الحضارة الإنسانية منذ نشأتها وحتى الآن نسيجاً متعدد الألوان، كلّ خيط فيه - مع احتفاظه بكينونته الخاصة - يعطي بتلاحمه مع بقية الخيوط لهذا النسيج متانته وشكله النهائي، مثله في ذلك كمثل لوحة فسيفساء كل جزء منها مستقل بذاته، ولكن اصطفاف هذه الأجزاء وفق قوانين بنائها يعطي اللوحة النهائية رونقها الخاص الذي يستمد جماليته من تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض.

ومع اختلاف العوامل الأنثروبولوجية والجغرافية والاقتصادية لكلّ شعب من الشعوب كان لا بدّ للتجربة الإنسانية من أن تكون متفاوتة في النمو والنضج من منطقة لأخرى ومن زمن لآخر ومن شعب لآخر..

وسوف نستهل دراستنا هذه بذكر بعض التعاريف لمفهوم الحضارة:

(الحضارة هي أرفع تجمّع ثقافي للبشر وهي أشمل مستوى للهوية الثقافية لا يفوقه من حيث تحديده للهوية الثقافية إلا الذي يميّز الإنسان عن غيره من الأنواع الأخرى، ويمكن تحديدها أو تعريفها بكل العناصر الموضوعية مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والتمايز الذاتي للبشر) (1).

(الحضارة هي الدرجة العليا من تباين الوجود الإنساني، وهي ذلك الشيء القادر على إلغاء التناقضات القائمة ما بين المجموعات البشرية ذات الانتماء العرقي والثقافي المختلف، وكذلك بين الشعوب المتطورة وغير المتطورة وبين ماهية السلطة والحاجة إلى نظام عام وهي تتضمن في داخلها الأبعاد التاريخية للواقع وهي التي تعالج قضية الاستخلاف والتعاقب)(2).

وهو ما يمكن اختصاره بأنها مجموعة بشرية اجتماعية وثقافية ذات مقاييس وأبعاد كبيرة مقتربين بذلك من مفهوم (توينبي) للحضارة بأنها الشكل الأكثر أصالة وواقعية للمجتمع البشري.

ونختم هذه التعاريف بتعريف (وول ديورانت) صاحب (قصة الحضارة):

(الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون.

وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها) (3).

لقد اكتشفت الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ أنّها كانت موزعة بين اتجاهين أساسيين:

- أولهما :انغلاقها على نفسها حفاظاً على كيانها المادي والمعنوي.

- ثانيهما: انفتاحها على بعضها البعض لسدّ حاجاتها غير الموجودة عندها أساساً.

وعلى تربة هذا التوزع نشأت البراعم الأولية لوظيفة التواصل بين هذه الكيانات الاجتماعية الحضارية، وسوف تتزايد أهمية الهوية الثقافية في المستقبل وسوف يتشكل العالم نتيجة التفاعل بين سبع أو ثماني حضارات كبرى تشمل: الحضارة الإسلامية - الحضارة الغربية - الحضارة الكونفوشيوسية - الحضارة اليابانية - الحضارة الهندوسية - الحضارة الأرثوذكسية السلافية - وحضارة أميركا اللاتينية، كما يمكن إضافة الحضارة الإفريقية إليها.

إنَّ الحضارات الإقليمية تمتاز بعمليات تكامل وعمليات تنافس ويمكن تشبيه هذا الاقتران بقانون (وحدة وصراع الأضداد) ومهما تكن الفروقات السائدة بين الفضاءات الإقليمية كثيرة إلا أن هذه الفضاءات تبقى جزءاً من النظام الحضاري العام، وتحمل في طيَّاتها معاييره ومقاييسه حيث يمكن تقييم أيّة حضارة إقليمية انطلاقاً من:

1- مكانة الفرد بين الجماعة.

2- عملية الارتباط بالحياة (درجة الجبرية والحرية).

3- مبدأ قيام السلطة.

4- وأخيراً مستوى تغلغل الدين وتأثيره في أمور الحياة العادية والاجتماعية والثقافية.

وهو ما أكد عليه بعض العلماء مثل (توينبي، إيكيدا) حيث يقول الأخير: (إنَّ النماذج الدينية هي أساس العمل الإبداعي في خلق الحضارات) (4).

بينما عارضه بعض الكتّاب والباحثين مثل برهان غليون الذي يُرجع سبب ظهور فكرة الدولة العلمانية إلى أن:

(مفهوم الدولة الحديثة المستندة إلى الدستور والقانون ليس ممكناً في إطار المرجعية الدينية) (5).

ولكن الباحث (غليون) يغفل في هذا المستوى التأثر الواضح بما حصل في الغرب عندما انهارت الإمبراطورية البابوية وظهرت الدولة العلمانية وما تبع ذلك من تقليد (كمال أتاتورك) - وهو أحد أهم رموز العلمانية المتطرفة في العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين - للنموذج الغربي، مع فارق أساسي وكبير وهو أن التحول إلى الدولة العلمانية في أوربا كان من منطلق القوة والاختيار المرتكز إلى تنظير فلسفي وسياسي عميق، بينما كان عند المسلمين مجرد تقليد لا يستند إلى اختيار أو تنظير مستقل، وبالتالي فإن ظهور الدولة العلمانية في العالم الإسلامي كان بسبب فشل الدولة العثمانية في كل الاتجاهات وما رافق ذلك من حالة تخلف وجمود، وليس بسبب أن مفهوم الدولة الحديثة المستندة إلى الدستور والقانون غير ممكن في إطار المرجعية الدينية.

تُعدّ مشكلة العلاقة بين العامل الحضاري والتشكيلة الحضارية من أكثر المشكلات حضوراً لدى محاولتنا إدراك أهمية ودور الحضارة في التاريخ الإنساني، فتبدو الحضارة وكأنها مكوَّنة من طبقتين أساسيِّتين متداخلتين فيما بينهما: (الطبقة الماديِّة - والطبقة اللاماديِّة) واللتان لا يمكن إدراك إحداهما إلا في سياق الأخرى؛ وهنا تبرز بصورة هامّة وملحّة عملية ربط النظري بالتطبيق، وترجمة الأفكار إلى سلوكيات يومية تساهم في إبراز الهوية الحضارية لمجتمع يسعى إلى ترسيخ قيمه الحضارية وتعزيزها، وهذا أمر يجمع عليه كلّ المهتمين بالخط التصاعدي لتطور هذا المجتمع، يقول ألكسيس كاريل: (إنّ علمنا بالحياة وكيف يجب أن يعيش الإنسان، متأخر جدّاً عن علمنا بالماديّات، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا) (6).

ومن هنا فإن أي تخلف في عالم القيم عن عالم الوسائل من شأنه أن ينحرف بثمرات الإبداع المادي عن كونها وسائل بناء وإعمار لحضارة إنسانية مستقرة وآمنة، إلى وسائل دمار وفناء.

آليات التواصل الحضاري..

(هنالك أربع وسائط لتحقيق التواصل الحضاري بين الجماعات البشرية وهي: التجارة، والحرب، والحمل، والتعرض والتعريض) (7).

إنّ مفهومي التجارة والحرب واضحان بلا شك.

أمَّا مفهوم الحمل فالمقصود به هو: تحرَّك الأفراد بين الكيانات الحضارية حاملين معهم بعض منتجات حضارتهم (المادية والمعنوية) إلى حيث يقصدون ومن ثم يعودون من المناطق الحضارية التي زاروها، وقد جلبوا معهم منتجات طريفة يقدمونها إلى مجتمعاتهم.

بينما المقصود من مفهوم التعرض والتعريض الإشارة إلى فئة واسعة من نشاط أجهزة الإعلام في الدولة الحديثة وكذلك المعارض والمؤتمرات والمهرجانات وزيارات الفرق الفنية والعلماء والأكاديميين، كما يتضمن هذا المفهوم أنشطة الترجمة بجميع أشكالها ومستوياتها.

- نلاحظ من تعريف التواصل أنه ينطوي على توافر عناصر التبادل بين الأطراف المعنية وإن كان هذا لا ينطبق على مفهوم الحرب للوهلة الأولى ولكن في الأغلب ينتهي الأمر بها (أي الحرب) إلى تبادل الأخذ والعطاء بين الغالب والمغلوب.

وإننا إذ ننظر إلى مفهوم التواصل بعين الرضا فإن هذا لا يعني أننا نقبل بجميع الوسائط التي يتمُّ بها هذا التواصل، بل يجب علينا الاستفادة من الجوانب الخيّرة فيه وترك الجوانب السيِّئة، وهنا تبرز عقلانيِّة المتلقّي في اختيار ما يُعرض عليه من منتجات الحضارات الأخرى، وتمييزه ما يناسب ظروف حضارته، وما يمكن أن يساهم في تطوير هذه الحضارة بعيداً عن انفعالاته العاطفيِّة غير المدروسة واتّخاذ المواقف المتسرّعة ورفض كل ما هو جديد حتى دون أن يكلف نفسه عناء الاطلاع والدراسة.

فمنذ فجر الإسلام - مثلاً - وضع المسلمون هذا المنهاج في التواصل الحضاري، حيث أخذوا من تجارب وقواعد وتراتيب الحضارات الأخرى (المشترك الإنساني العام) وأضافوه إلى (الخصوصيات الإسلامية) التي تَمَيّز بها منهاج الرسالة الإسلامية الخاتمة، فاختاروا (التواصل الحضاري) من موقع الراشد المستقل رافضين التبعية والتشبه والتقليد وكذلك العزلة والانغلاق، صنعوا ذلك عندما أخذوا عن الرومان (تدوين الدواوين) ولم يأخذوا (القانون الروماني) استغناءً بالشريعة الإسلامية المتميزة.. وعندما أخذوا عن الهند (الفلك والحساب) لم يأخذوا فلسفة الهند، استغناءً بـ (التوحيد) فلسفة الإسلام.

إن حسن الاختيار يكون بتنمية وإنضاج الفكر العام، وتطوير الحس النقدي عند المواطنين بعيداً عن أساليب الوصاية والقمع والإجبار.

عندئذٍ نستطيع حصر المشكلة التي يمكن أن تواجهنا في عملية التواصل الحضاري، في طريقة هذا التواصل وليست في مبدئه، وبالتالي فإن الجهود الأساسية يجب أنْ تنصبَّ على اختيار الأسلوب الأنسب لتحقيق هذا التواصل دون أن نرفضه نهائياً.

وفي مقابل عملية التواصل الحضاري يمكن أن تنشأ حالات صراع بين الحضارات وهذه الصراعات غالباً ما تنشأ نتيجة عوامل يمكن تلخيصها ضمن الأطر التالية:

- إنّ التباينات بين الحضارات أساسيِّة فهي تختلف عن بعضها البعض بفعل اللغة والتاريخ والثقافة والتقاليد والأكثر أهميِّة من ذلك اختلافها في عامل الدين.

- إنّ عملية التواصل الحضاري المصاحبة لهذا التطور الهائل في وسائل الاتصال والصناعات التكنولوجية، تجعل العالم ينحصر في بقعة لا تنفكّ تصغر شيئاً فشيئاً، وبالتالي فإن التفاعل بين هذه الحضارات سوف يزداد ويتكثّف.

- إنّ عملية التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي في مختلف أنحاء العالم تنتزع الناس من هويِّاتهم المحليِّة طويلة الأمد وتُضعف الدولة القومية كمصدر للهوية، وهنا يتقدّم الدين غالباً لسدّ هذه الفجوات؛ مؤدياً ذلك في بعض الأحيان إلى ظهور بعض الحركات الأصولية.

- كما أنه لا يمكن إنكار العامل السيكولوجي للشعوب في قبول أو رفض الآخر أو حتى في فرض طريقة التعامل معه، خاصّة إذا ما دُعّم هذا العامل بالعامل العرقي.

ففي المرحلة الأولى - مثلاً - من الاحتكاك الثقافي بين الإسلام والغرب كانت هنالك حالة من التفاعل الثقافي، ولم تتضمن هذه الحالة أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألّقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلف الذي كان يسود الغرب، وذلك فيما سُمِّي (العصر الوسيط)، وإن ما أخذه الغرب من المسلمين كان في إطار المشتركات العامّة وبالتالي لم تحدث تبعية للعالم الإسلامي، على عكس ما حدث لاحقاً حينما انقلبت المعادلة.

إنّ منهج الغرب الجديد في تعرُّفه على الإسلام والمسلمين قد أخذ يتبلور من خلال الخلفية الاستشراقية بمختلف اتّجاهاتها وخاصة في مجال علم الاجتماع والأنثربولوجيا وصولاً إلى قاعدة التفوق السياسي العسكري.

(إنّ الغرب في إطار ذلك أصبح يُمثّل - كما يقول مفكروه - (الذات) و(العقل) و(القوّة) و(الحقيقة) و(المركز)، بينما العالم الإسلامي بالنسبة له يُمثّل (الآخر) و(الجنون) و(الضعف) و(التمثيل) و(الأطراف).

وهذا المنهج الاستكباري الفوقي سمح للغرب باستخدام مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي(8) فاستخدم الغرب أوّلاً أساليب القوة العسكرية حيث قامت الإمبراطوريات الاستعمارية (البريطانية - الفرنسية…. وغيرها) وانتشرت على مساحات واسعة، وسيطرت على عدد كبير من الدول، واستنفذت قواها المادية والبشرية، إلا أنّ الوعي الوطني المتنامي في أغلب البلدان التي كانت خاضعة لهذه الدول نجح في استنهاض همم الشعوب لتخوض ثورتها الوطنية حتّى إنهاء الوجود الأجنبي على أراضيها، فلم يجد الاستعمار بُدّاً من الانسحاب من تلك الدول، ولو على الصعيد العسكري فقط، حيث ترك في معظم البلدان التي انسحب منها ذيولاً له، ربط مصالحها بوجوده الاقتصادي - على الأقل - واستمر بذلك بنهب ثروات تلك البلدان من خلال إخضاعها للتبعية الاقتصادية مستخدماً لذلك عدّة طرق، منها فرض الاقتصاد أحادي الجانب في هذه الدول، ومنعها بشتّى الطرق من إقامة صناعات متطورة، واستغلاله لليد العاملة فيها بأرخص الأثمان.

ولم يكتف الاستعمار بذلك حيث التفت إلى ضرورة إتباع هذه السيطرة الاقتصادية بالسيطرة الثقافية، فطرح (بريجنسكي) مستشار الرئيس الأميركي الأسبق (كارتر) في نهاية السبعينات فكرة تعميم قيم المجتمع الأميركي وثقافته على كل دول العالم، وذلك بالاستفادة من السيطرة الأميركية على نسبة عالية من المادة الإعلاميِّة في العالم؛ والخطوة الأولى لهذا التعميم تكون عبر إحكام السيطرة الاقتصادية.

وفي العام 1979 بدأت بالظهور في عهد (مارغريت تاتشر) في بريطانيا بوادر نظام جديد ما لبث أن تعهده الرئيس الأميركي (رونالد ريغان) بالعناية وحاول بشتّى الطرق تطويره وتطبيقه، ويعتمد هذا النظام على تهميش دور الدولة في اتّخاذ القرار الاقتصادي وتسليمه تدريجيّاً إلى السوق الحرّة، وهكذا ففي عالم يحكمه رأس المال سوف تتقلص الخيارات السياسية لتحلّ محلها الخيارات الاقتصادية الضيِّقة على مستوى الأفراد والواسعة بلا حدود على مستوى الشركات الكبرى.

وفي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ومع انتهاء الحرب الباردة أخذت ملامح هذا النظام تتطور بصورة سريعة وبدأ يفرض نفسه بقوّة تحت اسم (العولمة).

الـــعولــــمــة

يستخدم تعبير أو مصطلح (العولمة) في الأدبيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حالياً، كأداة تحليلية لوصف عمليات التغيير الحاصلة في مجالات مختلفة، إضافة إلى كون هذا المصطلح يمثل عملية مستمرة يمكن رصدها باستخدام مؤشرات كمية وكيفية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصالات.

يقول السيد (يسين): (إذا أردنا أن نقترب من صياغة تعريف شامل للعولمة، فلا بدّ من أن نضع بالاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها:

العملية الأولى تتعلق بانتشار المعلومات، بحيث تصبح مشاعة بين جميع الناس.

العملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول.

العملية الثالثة هي زيادة أوجه التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات.

وكل هذه العمليات قد تؤدي إلى نتائج سلبية بالنسبة لبعض المجتمعات وإلى نتائج إيجابية بالنسبة لبعضها الآخر) (9).

ويمكن تعريف العولمة بأنّها:

(تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق وتالياً خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات) (10).

أو أنّها:

(حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، في ظلّ هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظلّ عمق نمط الإنتاج الرأسمالي، وليس سطحه فقط؛ وباختصار هي تسليع كل شيء بصورة أو بأخرى، وفي كل مكان بما في ذلك أشكال الإنتاج غير الرأسمالية وقبل الرأسمالية. إنّها أممية رأس المال على الأصعدة كلّها وعلى المستويات كافّة السطحية منها والعميقة) (11).

أو هي:

(نظام له سماته الفريدة منها التكامل الصارم في الأسواق وفي الدول والتكنولوجيات على الوجه الذي يمكن فيه للأفراد في الشركات والدول الانتقال والتجوّل على امتداد العالم لبلوغ مسافات أبعد، وأسرع ، وأرخص، وفكرتها الدافعة هي الرأسمالية التي تحكمها قوّة السوق الحرّة القائمة على انفتاح اقتصاد كل دولة على الخارج وإلغاء القوانين المنظمة له وخصخصته) (12).

إنّ للعولمة تاريخاً قديماً، وبالتالي فهي ليست نتاج العقود القليلة الماضية، (إنّ ما جعلها تبرز في هذه المرحلة، هو تعميق آثار الثورة العلمية والتكنولوجية من جانب، والتطورات الكبرى التي حدثت في عالم الاتصال) (13).

فالدكتور جلال أمين يرى أن عمر ظاهرة العولمة خمسة قرون على الأقل وأن بدايتها ونموها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتقدّم تكنولوجيا الاتصال والتجارة، منذ اختراع البوصلة وحتى أوان بناء الأقمار الصناعيّة.

كما أنّه لا بدّ من إدراك أنّه هنالك عدّة تغيّرات وأشياء جديدة قد طرأت على ظاهرة العولمة خلال العقود القليلة الماضية، منها:

1) انهيار أسوار عالية كانت تحتمي بها بعض الأمم والمجتمعات من تيّار العولمة ممّا أدّى إلى اكتساحه لهذه الدول وأهمّها طبعاً أمم أوربا الشرقية والصين.

2) الزيادة الكبيرة في درجة تنوّع السلع والخدمات التي يجري تبادلها بين الأمم وكذلك خلق مناخات استثمارية تجذب رؤوس الأموال من بلد إلى آخر.

3) ارتفاع نسبة السكّان في داخل كلّ مجتمع أو أمّة، ممّا زاد من عملية التفاعل مع العالم الخارجي والتأثّر به.

كما يجب الانتباه إلى أن العنصر المسيطر على العلاقات بين الدول أصبح يتمثل في تبادل المعلومات والأفكار بدلاً من تبادل السلع ورؤوس الأموال، حيث سيطرت على هذه العملية الشركات متعددة الجنسيات مما أثر في الفترة الأخيرة على مركزية الدولة، التي بدأت تنحسر أهميتها وتحل مكانها شيئاً فشيئاً تلك الشركات العملاقة والتي بدأت بدورها انتشاراً بعيداً عن أسواقها الوطنية تحت تأثير عاملين هامين جداً:

العامل الأول: التخلي عن الحرب كوسيلة لحسم التناقضات في المصالح بين هذه الشركات وكان ذلك حتمياً بعد تصنيع أسلحة الدمار الشامل.

العامل الثاني: حركات التحرر الوطني التي أنهت أوضاع الإمبراطوريات الاستعمارية التي كانت سائدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

إلا أن هذه الشركات حافظت على ثقل ودور أساسي في موطنها الأصلي حتى أنها حققت ما بين 70-75% من القيمة المضافة الناشئة في بلدانها سيما وأن (الثورة العلمية والتكنولوجية أكسبتها قوة إضافية خاصة وأنها مؤهلة وقادرة على الإنفاق على البحث العلمي وتطويره)(14).

يظهر لنا من تعريف (العولمة) - للوهلة الأولى - أنّ هذا النظام يساهم في تكريس التواصل الحضاري بين المجتمعات، وذلك بإعطاء الحريّة لانتقال الأشخاص والسلع والمعلومات والتقنية دون أية قيود تُذكر. إلا أن العولمة يجب أن تكون واضحة المعنى والمعالم، لا أن تبقى صيغة مبهمة قابلة للتأويل بعدّة اتّجاهات، أو أن تكون لفظاً يستخدمه عابر السبيل كما يحلو له، لا يختلف في ذلك الكاتب أو الصحفي أو رجل الشارع أو المثقف العادي، أو حتى مؤلفو الدراما والمسلسلات التلفزيونية، ويحملونها الدلالة التي لا تكلفهم مشقة البحث والتمييز، وهي أيسر الاستعمالات حيث تصبح مرادفاً لمصطلح (الأمركة)، أو اسماً حركياً جديداً للنظام العالمي الجديد أو عنواناً حديثاً لليبرالية المتطرفة، أو كأنها اسم تدليل للعالمية أو التدويل.

كما أن هنالك نقطة هامّة جدّاً يجب الانتباه لها وهي أنّه على الرغم من وجود إنجازات علمية هائلة في مجال الاتصال والمعلومات كالأنترنت وفي مجال الإلكترونيات الدقيقة أيضاً، إلّا أنّ هذا التطور لم يواكبه تطور مماثل في المجالات (الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية).

ولهذا فإنّ (خطاب العولمة) يحاول تجميل الصورة وإبراز الجوانب الإيجابية وطمس الفروق والتناقضات وحالات التقصير في بعض المجالات .

فـ(العولمة الثقافية) ما تزال تُشكّل عنصر صغير داخل قوى ومؤسسات العولمة الأكبر، وغالباً ما تكون على شكل تدفقات ثقافية تقوم بإفراز تجانس ثقافي وفوضى ثقافية في آن واحد، وهو ما يزيد الهوّة بيننا وبين الآخر ويخلق ردود فعل مسبقة، وبنفس الوقت يتم إفراز ثقافات عابرة للقوميات دون البحث في خصوصية المجتمع وقابليته للانسجام مع هذه التغيرات وهنا تبرز حالتان أو طريقتان في التعامل مع هذه المسألة: فإمّا أن تتم الاستفادة من تطوّر وسائل الاتصال والتقنيات وتوظيفها في طرح الأفكار الإيجابية عن العولمة، خاصة وأن الصورة اليوم هي المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد، حيث بدأت تحتل المكان الأبرز على حساب الثقافة المكتوبة مستفيدة من تطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا وبنفس الوقت من قدرتها على تخطي حاجز اللغة، وبالتالي فالجهاز الثقافي المسيطر هو الجهاز السمعي - البصري وهذا ما يتجلى واضحاً من خلال العدد الكبير للإمبراطوريات الإعلامية المنتشرة في وقتنا الراهن، والتي لا تنفك تقدم للمستهلك (معلبات ثقافية) جاهزة للاستهلاك دون أدنى تفكير أو فرصة للمحاكمة الواعية، وذلك في قالب مشوق يجذب الانتباه عبر (تكنولوجيا الإثارة والتشويق) ويقارب عتبة المتعة ومعها يبلغ خطابه الأيديولوجي وأهدافه الاستهلاكية، ويسهم في وأد حاسة النقد لدى المتلقي، الذي يجد نفسه في نهاية المطاف قابلاً لتمرير وتقبل جميع القيم والمواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو ممانعة نفسية، في وضعية شديدة الشبه بوضع السم في الدسم.

كما يساعد على ذلك انتشار الأقمار الصناعية والفضائيات الحديثة التي لا يمكن في أغلب الأحيان إخضاعها إلى رقابة الدولة.

أو أنْ يتم استخدام القوّة في فرض الأفكار والقيم التي تريدها الدولة التي تملك الأسطول الأكبر، والتقنية الحربية المتطورة وهذا يُماثل ما حدث في حرب الخليج الثانية التي شكّلت دفعاً قويِّاً لنظام العولمة ليأخذ مكاناً بارزاً يستطيع سدّ الفراغ الذي خلّفه انتهاء الحرب الباردة.

هذا بالإضافة إلى أن بعض المفاهيم السائدة، مثل مفهوم (المعلومة لمن يحتاجها) كما يروج له مؤيدو (العولمة)، بحاجة إلى التوقف عندها لأن الموجود من المعلومات في المتناول العام هو في واقع الأمر المسموح به من معلومات موجودة قد حددها أصحاب (العولمة) وفق مصالحهم، والباقي - أي غير المسموح به - مشفر من قبلهم بطريقة يصعب على الآخرين الوصول إليها، وهو ما يؤدي إلى سيطرة (مشاعية المعرفة المنتقاة) التي تُسقط خاصية الرغبة في المعرفة الشاملة التي تعتبر أحد أبرز المرتكزات الخاصة بالمنظومة التربوية وتطور وتوازن السلوك الفردي ونمو الشعوب.

ومن هنا كان رفض أغلب المفكرين والباحثين العرب لفكرة أنّ العولمة الثقافية هي انتقال من ظاهرة الثقافات الوطنية أو القومية إلى ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الثقافة الكونية فالدكتور عبد الإله بلقزيز يقول: (إنها - أي العولمة الثقافية - فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف - المسلح بالتقانة - فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها العولمة) (15).

وهنا يجب التمييز وإدراك الفارق بين التثاقف وبين العنف الثقافي من جانب واحد:

فالتثاقف يعني الإصغاء المتبادل بين تيارات العصر، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف وهو من أقدس حقوق الإنسان، بينما ينطوي العنف الثقافي على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلى الاستعلاء والمركزية الذاتية في الرؤية.

يرادف التثاقف فعل الحوار والتفاهم، بينما يتلازم العنف الثقافي مع الإكراه والعدوان.

وبينما يجري التثاقف بين الثقافات على قاعدة الندية، فإن فعل الاختراق والتجاذب معه يعبر عن دونية يأباها أي انفتاح في أي حوار.

إن التبادل الثقافي العالمي الجاري في ركاب التجارة الحرة، تبادل غير متكافئ ولا يعبر عن أية إمكانية لتحويل العولمة الثقافية إلى تثاقف متوازن بين الثقافات والشعوب والمجتمعات، بل يحتفظ بتعريف واحد هو (الغزو والاختراق).

كما أن السهولة التي تتم بها عمليات تبادل السلع لا يمكن تعميمها على ما يتعلق بالجانب الثقافي والاجتماعي.

(إن محاولة إخضاع النظام الاجتماعي - محلياً وعالمياً - لمقتضيات (قوانين السوق) كما يقال، إنما هي مشروع وهمي لن يخلق نظاماً عالمياً جديداً، لا بل فوضى متفاقمة فقط.

بيد أن السلطات الحاكمة لا تنشغل إلا بهموم إدارة هذه الأزمة، لا بالبحث عن حل لها) (16).

وفي محاولته لرسم إطار عام بين العولمة والهوية الثقافية، يقدم د. محمد الجابري مجموعة من الأطروحات منها(17):

- ليست هناك ثقافة عالمية واحدة بل ثقافات.

- الهوية الثقافية مستويات ثلاثة: فردية، وجماعية، ووطنية قومية، والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساساً بنوع (الآخر) الذي نواجهه.

- العولمة شيء، و(العالمية) شيء آخر؛ العالمية انفتاح على العالم، على الثقافات الأخرى، واحتفاظ بالخلاف الإيديولوجي. أما العولمة فهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي.

- إن تجديد الثقافة، أية ثقافة، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها:

بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل.

أما ما يتعلق بمفهوم (العولمة الاقتصادية) فإن هذا المفهوم هو اللبنة الأساسية التي تم عليها بناء المفهوم الأعم لـ(العولمة).

و (العولمة الاقتصادية) تساهم بشكل كبير أيضاً في تكريس (العولمة الثقافية) فهي تتطلب أن يتم انتقال اليد العاملة (الفنية والتقنية) من المجتمعات الغنية إلى باقي الدول، وهو ما يؤدي إلى نقل أفكار وعادات وثقافة هذا المجتمع إلى المجتمعات الجديدة وبالتالي فإنّ العولمة الاقتصادية تترافق بصورة روتينية مع (عولمة ثقافية).

ومع إدراكنا بأن العولمة باتت مسألة حتميّة لا يمكن تجاهلها، فإن المطلوب منّا معرفة عميقة بكافة أبعادها سيِّما أنّها تمتاز بالتبدلات السريعة، ممّا يفترض بذل جهود فكرية مضاعفة لمواكبة هذه التبدلات والتأقلم معها.. وللوصول إلى هذه الحالة ينبغي بناء قاعدة فكرية سليمة حيث يتم ذلك بالتحصين النفسي للأفراد، بالاستفادة من وسائل الإعلام وتوظيفها بصورة جيّدة وهادفة، وكذلك بتحديث المناهج الدراسية وتطويرها، هذا على الصعيد الثقافي، أمّا على الصعيد الاقتصادي، فينبغي بناء تكتلات اقتصادية كبيرة (عربية وإسلامية) قادرة على الوقوف أمام التكتلات العالمية، وهذه الخطوة تأتي بعد بناء (اقتصاديات) سليمة وقويّة تستفيد من الخبرة المحليِّة وتوظفها بالشكل الأمثل القادر على تحقيق مستوى دخل أعلى للفرد والدولة، لأنّ رفع مستوى دخل الفرد يساهم في تحصينه أمام الإغراءات التي يمكن أن يطرحها النظام الجديد.

المـــراجـــع:

(1) الإسلام والغرب (آفاق الصدام): صموئيل هانتيغتون، ترجمة: مجدي شرشر.

(2) الإسلام الثابت الحضاري والمتغيرات السياسية: ألكسي مالاشينكو، ترجمة: د.ممتاز الشيخ.

(3) قصة الحضارة - الجزء الأول: وول ديورانت.

(4) الإسلام الثابت الحضاري: مصدر سابق، ألكسي مالاشينكو، ترجمة: د.ممتاز الشيخ.

(5) مراجعة مع برهان غليون: د. قاسم شعيب - مجلة الوعي المعاصر.

(6) الإنسان ذلك المجهول: الكسيس كارليل.

(7) التواصل الحضاري حقيقة تاريخية: مجلة الهلال - ديسمبر 1996، د. مصطفى سويف.

(8) الإسلام وإشكالية التعايش والصراع: سمير سليمان.

(9) مفهوم العولمة: مصدر سابق، الأستاذ يسين.

(10) العرب والعولمة: د. محمد الأطرش.

(11) ما هي العولمة؟: د. صادق جلال العظم.

(12) السيارة ليكساس وشجرة الزيتون: توماس فريدمان.

(13) مفهوم العولمة: الأستاذ يسين.

(14) حول العولمة والنظام الاقتصادي الجديد: د. نبيل مرزوق - مجلة الطريق - العدد 4 - 1997.

(15) ورقة مقدمة إلى ندوة العرب والعولمة: د. عبد الإله بلقزيز.

(16) في مواجهة عصرنا: د. سمير أمين.

(17) ورقة مقدمة إلى ندوة العرب والعولمة: د. محمد الجابري.