العدد62

حصاد الأفكار

 

 

 

منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني

الانترنيت مقبرة اللغات أم بستانها؟!!

الحديث عن اللغة في عصر المعلومات تسوده نبرة التشاؤم، وتوالى ظهور المصطلحات التي تعكس مدى القلق على مصير اللغة في هذا العصر، من قبيل: الهوة اللغوية والفاصل اللغوي وانقراض اللغات، والعنصرية اللغوية والتوحد اللغوي والحروب اللغوية، وتمادى البعض في تشاؤمه ليدرج اللغة ضمن قائمة موتى عصر المعلومات كضحية جديدة تضاف إلى ضحاياه الأخرى ذات الصلة اللغوية، ونقصد مقبرة اللغات، وأنها أمضى أسلحة التجنيس الثقافي.

لقد بات واضحاً أن العالم يواجه على جبهة اللغة موقفاً مصيرياً، إما أن يتمسك بتعدد لغاته، وما ينطوي عليه ذلك من صعوبة التواصل وإعاقة تبادل المعلومات والمعارف، وإما أن تتوحد لغات العالم في لغة قياسية واحدة، الإنجليزية في أغلب الظن، وساعتها تكون قد حلت بالبشرية الطامة الكبرى على حد تعبير مدير منظمة اليونسكو في لقاء ديفوس الأخير.

يتنامى قلق مشابه حالياً من أن تكنولوجيا المعلومات بصفة عامة، والانترنيت بصفة خاصة، ستودي بالتنوع الثقافي. لقد تفاقمت ظاهرة الانقراض اللغوي كوباء ثقافي يجتاح العالم بأسره، ومن أهم أسبابه حالياً: طغيان اللغة الإنكليزية على ساحة المعلوماتية سواء من حيث معدل إنتاج الوثائق الإلكترونية وحجم تبادلها، أو اللغة التي تتعامل معها البرمجيات وآلات البحث عبر الانترنيت، ناهيك عن المطبوعات المتعلقة بالجوانب المختلفة لتكنولوجيا المعلومات من أدلة تشغيل ومكانز ومعاجم ومسردات ومواصفات فنية وثقافة علمية، وكتب مدرسية وغير مدرسية، من مستوى الأطفال حتى أعلى مستويات التخصص الفني، وها هي إحصاءات اليونسكو تصدمنا بحقائق مفزعة عن الوضع العالمي للغات البشرية، فنصف لغات العالم (6000 لغة) مهددة بالانقراض، ومعدل انقراضها في تسارع متزايد، حتى وصل هذا المعدل حالياً إلى انقراض لغة إنسانية كل أسبوعين.

وتعكس الانترنيت صورة قاتمة للتنوع اللغوي، فمن ضمن الستة آلاف لغة، هناك 500 لغة ممثلة على الشبكة، معظمها ذو وجود ضعيف للغاية، وهو وضع ينذر بـ (هوة لغوية Linguistic divide) تحت الصنع، تفصل بين لغات دول العالم المتقدم ولغات دول العالم النامي غير القادرة على مساندة لغاتها في المعركة اللغوية الطاحنة عبر الانترنيت.

إن المحافظة على التنوع اللغوي ليست بدافع أخلاقي فقط، بل أيضاً لكون كل لغة من لغات العالم يمكن أن تسهم في عملية التقدم البشري.

بستان اللغات:

يرى أصحاب النظرة المتفائلة في الانترنيت وسيلة لإحياء اللغة وحماية لغات الأقليات، وأداة نافذة للتواصل اللغوي عبر الثقافات والحفاظ على تراث فنون الإبداع اللغوي من رواية وشعر ومسرح وما شابه، ويرى البعض أن طغيان اللغة الإنكليزية الحالي في انحسار، فبينما مثلت الإنجليزية في بداية ظهور الانترنيت ما يزيد على 95% من حجم البيانات المتبادلة فقد تراجعت هذه النسبة إلى ما يقرب من 80% حالياً، وهناك من يتوقع أن تفقد اللغة الإنكليزية وضعها المعلوماتي المتميز بحلول عام 2015 واستكمال البنى الأساسية للغات.

د.نبيل علي: مجلة العربي، العدد513

دولـــة القــانــون

دولة القانون، تعني الدولة الديمقراطية التي يحترم حكامها القانون ويخضعون له وينعم مواطنوها بحقوقهم وحرياتهم، هذه الدولة التي كثر الحديث عنها في هذه الأيام، وترتفع أصوات المثقفين في البلدان العربية وفي بلدان العالم الثالث، تطالب بقيامها وتدعو لها، هذه الدولة، ليست وليدة الخيال كجمهورية أفلاطون ولا هي وهم يستحيل تحقيقه، وكتب التاريخ خير شاهد على ذلك.

وفي أوروبا ورغم انقضاء قرون عديدة على هيمنة أنظمة الاستبداد وطغيان حكم الفرد ورغم أساليب القمع والبطش والسجون، رغم كل ذلك، أفاقت أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر، على نداءات المفكرين من فلاسفة وكتاب وفنانين ينادون بالحرية للشعب وبإنهاء حكم الفرد ويتوجهون إلى الفرد، الإنسان البسيط، كي يقف للدفاع عن حريته لأنها حقه المقدس الذي لا يحق له التنازل عنها ولا يحق لأية سلطة أن تسلبها منه، وكان موضوع توزيع سلطات الحكم كي لا تكون في يد شخص واحد، من المواضيع الرئيسية التي دار النقاش حولها بين هؤلاء المفكرين، لأن بقاء سلطات الحكم الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد شخص واحد، يحوله إلى دكتاتور على الشعب والمجتمع، ونادوا بإقامة مجتمع العدالة والحرية والمساواة والذي تبنته لاحقاً الثورة الفرنسية وجعلته من أركان الإعلان التاريخي الصادر عنها.

ولكن تجربة هذه الدول في بناء دولة القانون لم تستكمل وقبل أن يشتد عودها وتترسخ قواعدها وتتعمق جذورها الشعبية عاجلتها الردة الإمبريالية الرجعية وقوضت أركانها وأعادت هذه الدول إلى حكم الأنظمة التي ما زالت تعاني منها.

إن دولة القانون القائمة على مبدأ الفصل بين السلطات والتي تتمتع فيها السلطة القضائية باستقلالها، هي التي تمنح القوة والخبرة للقاضي للوقوف بوجه الشر أينما وجد لحماية المجتمع من أعدائه ووضع حد للجريمة المنظمة.

لقد حرصت دولة القانون في البلاد المتطورة على تدعيم السلطة القضائية وتوفير الشروط الضرورية لكي يقوم القاضي بمهمته وواجباته، بموضوعية ونزاهة ومن أهم هذه الشروط:

1- أن تكون السلطة القضائية هي صاحبة الحق في اختيار القاضي وترقيته ونقله ومحاسبته وحمايته.

2- أن يتأمن للقاضي دخل مادي يسمح له بان يعيش حياة كريمة ويعصمه من الزلل والمغريات والمداخلات.

3- أن تكون لقراره صفة الاستقلالية حسب قناعته وان تأخذ أحكامه طريقها إلى النفاذ دون إلغاء أو عرقلة.

ولا يتحقق للسلطة القضائية القيام بهذه المهمات النبيلة إلا ضمن نظام ديمقراطي سليم، وحين توفر الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية لقيام النظام الديمقراطي الصحيح، تنهض الأسس القانونية والسياسية لقيام دولة القانون.

ويتساءل المواطن العربي: (ألم يحن الوقت لقيام دولة القانون على الأرض العربية).

د. مصطفى أمين: مجلة الطريق - العدد الرابع

الثقافة والمجتمع

تفكك العلاقة وتعليق الدلالة

ماذا تستطيع الحركات الاجتماعية أن تفعل اليوم، كوسيط فاعل في ربط الثقافة بالمجتمع؟ ماذا تستطيع أن تفعل في مرحلة أصبحت فيها القوة الاجتماعية نفسها إما فوق - اجتماعية، أي نوع من الميتافيزيقا الدولية التي تستقطب الاحتجاج، وإما تحت- اجتماعية، إن صح التعبير، تستقطبها مشاريع الفردانية الليبرالية؟.

ماذا تستطيع أن تفعل في وضع لم يعد فيه وسيط اجتماعي بين الفرد والكون؟ إن المسألة الاجتماعية التي تلتئم حولها الحركات الاجتماعية تتجه نحو التجريد، سواء بالتعميم، أي التعويم، عبر (التصعيد) إلى ما هو (عالمي)، أو بالتفتيت، عبر التفريد.

وليس هذا اعتباطاً ولا صدفة: الثقافة المعولمة هي الثقافة المفتتة، والأكثر من ذلك أنها مجال واسع للتشغيل وقابلة للتفرع بلا نهاية، إضافة إلى ذلك لها إمكانية إغراء الفرد -وهو مسترخ في بيته- بأن يختار من (المينيو) العالمي للثقافة ما يشاء في كل المجالات، مع إيهامه بأن ما يختاره هو ثقافة له، يمكنه أن يتميز بها، ألا يشاهد في التلفزة أن من يجيب عن سؤال غبي يمكن أن يكافأ بجائزة وأن يصفق له طويلاً؟.

هكذا يجد الإنسان نفسه، ومعه الحركات الاجتماعية، في حضرة ثقافة سائدة بلا مثقفين، مجردة -تعميماً أو تفتيتاً، كما قلت- تحمل أفكاراً بلا فكر، دلالاتها معلقة، بلا مرجعية.

ولأنها كذلك فهي يمكن أن تنشر مفاهيم مجتمع بلا بشر، ومجتمع مدني بلا مدنية، وحقوق إنسان بلا إنسان، وقس على ذلك الكثير.

هذه الثقافة التي فقدت أصولها الاجتماعية هي ثقافة العابر، هي، أساساً، ثقافة غير الواقع (Virtuel) الذي لم يعد فيه ربط ممكن بين الذات والموضوع، هي ثقافة (الناس جميعاً) أي ثقافة لا أحد، إنها ثقافة خفية الاسم (anonyme)، لا باعتبار منتجها فحسب، وإنما أيضاً لأنها لا مكانية ولا زمانية، إنها، أكثر فأكثر، ثقافة بلا ذاكرة: كل يوم تشهد شبكة الانترنيت ظهور ما بين 400 و800 مليون صفحة جديدة، مع تعديل أو سحب عدد مماثل من الصفحات، وفي حين أننا نستطيع أن نلمس ونقرأ ونشم مخطوطاً مضت على كتابته قرون، فإن متوسط العمر لصفحة الانترنيت لا يزيد عن 16 يوماً، وقريباً سيكون من يتحدث عن التراث كمن يتحدث عن عصر ما قبل التاريخ.

ثقافة العابر هذه تحتاج إلى مثقفين عابرين، ينحصر وجودهم في لحظة عبورهم، لا وجود ولا أثر لهم بين حلقتين من حلقاتها، ولكنهم، في حدود العابر، يضعون لك الأسئلة والأجوبة -مع تفضيل أن يكون للسؤال جواب واحد- ويعلمونك الأخلاق والسلوك واللغة والطبخ وينتقلون بك من أرسطو والفارابي إلى ترويض الكلاب، إن لهم قدرة عجيبة على وضع كل الناس في فصل دراسي واحد، مع ثقة كاملة في شد الناس إليهم وفي أن لا أحد منهم يتنفس!.

وطبعاً لهم من اللياقة ما يكفي ليشكروا الجميع على حسن انضباطهم، في الأثناء لا أحد يكون قد قرأ كتاباً ولا نظر في شؤون دنياه، وعلى كل، فأولى وظائف الضجيج هو أن يحول دون سماع غيره، وبما أنه ضجيج سائد ومؤسسي، فإنه يمثل صعوبة إضافية في الربط التحليلي بين أصوات الفكر وأصوات المجتمع.

وليس من شك في أن هذا يدعو الباحث إلى استنباط آليات جديدة لالتقاط هذه الأصوات، لم تعد، تجدي في ذلك، مثلاً، تقنيات البحث الميداني التقليدية التي كان يخيل فيها للباحث أن الاستجواب المفتوح أو الملاحظة بالمعايشة مما يجعله وجهاً لوجه مع موضوع بحثه.

والمثقف، هذا الوسيط، بامتياز، بين الاجتماعي والثقافي، هذا الذي اشتهر بصياغة اللحمة بين المدني والسياسي، أين هو في كل هذا؟ قبل سنتين، كنت اقترحت تنميطاً للمثقف العربي في المرحلة الراهنة، لا رجوعاً إلى التصنيفات السوسيولوجية المتداولة، وإنما اعتماداً على الرؤية التي يرى فيها العالم، ولقد رأيت أنه يمكن التمييز بين أربعة أنماط: الأول نمط المثقف الملحمي الذي دفعته الحركات الاجتماعية والفكرية خلال الستينات، بوجه خاص، إلى صياغة مشاريع دافع عنها على أساس أن التاريخ يحتم إنجازها، ومهما قيل عن طوباويته اليوم فإنه كان مثقفاً (كبيراً)، بالمعنى الذي يعطيه غرامشي للمثقف الكبير، لقد سعى إلى أن يكون (عضوياً) من خلال البحث عن الجماعية وكان يعتقد أنه يجسد المعرفة بمصير مجتمعه، انتهت الملحمة، ولكن أبرز بقاياها اتخذوا منها مسافتين مختلفتين: المثقف البدائلي - وهو النمط الثاني- بقي ملحمياً بدون ملحمة فتابع البحث عن البدائل وعن جيوب المقاومة، وهو يبدو الآن معلقاً في الدلالة المعلقة، يسعى إلى إنزالها إلى الأرض، وهذا سعي يكسب، في حد ذاته، فكره معنى، وأما المثقف التراجيدي -وهو النمط الثالث- فهو لا يزال يعتقد بعمق انه على حق ويعلم، بعمق أيضاً، أن حقيقته ليست (الحقيقة التي يفرضها الواقع)، كما يقال في وجهه، وهو يعلم أن مشاريعه لم تعد -ولربما لم تكن يوماً- قابلة للإنجاز، ومع ذلك يتمسك بها، هو نوع من مثقف المستحيل، قد يذكر بالبطل الإشكالي كما رآه (لوكاتش)، ولكنه هنا، يستمد تراجيديته من مشهد الدلالة المعلقة، ولقد زاده الوضع الراهن سوءاً لأن الوسائط الطفيلية تمنعه، بضجيجها، من ان ينفرد في مواجهة قدره، يبقى المثقف المقاول الذي صنعته الورشة الليبرالية، هذا التكنوقراطي الخبير وجد نفسه، صدفة، على حق، كل الحجج عن صوابه جاءته في ما بعد، وهو يرمز إلى تحول الفكر من ثقافة المبدأ إلى ثقافة الرهان، وما دام الرهان الليبرالي المطروح هو الفعالية فهو يثبت بقدر ما يقنع بجدارة في تنظيم الممارسة حيث كانت مطلوبة منه، بما في ذلك تنظيم التعامل مع الدلالات التي قد تشد الثقافة إلى الواقع، ويبدو، حتى الآن، إنه لا الكفاءة العالية التي قد يتطلبها صعود هذا النمط من المثقفين، ولا اتساع تداخله في تسيير الرهانات، أثرا في الاحتراز الذي يبدو بلا رجعة تجاه الأنماط الأخرى من المثقفين.

د. الطاهر لبيب: مجلة الفكر العربي المعاصر، 118-119

مفهـــوم العـــدو

إن التمييز بين (نحن) و(هم) كان يجري التعبير عنه بمفاهيم من نوع (صور العدو) و(الآخر) و(العدو)، ومع أن هذه المفاهيم الثلاثة تنطوي على الافتراض نفسه، ويمكن استخدامها، تبعاً لذلك، بمعنى مترادف، إلا أن المرء ينبغي أن يكون أكثر احترازاً بشأن ما بينها من اختلافات.

ويمثل المفهوم حالة خاصة في تعريف (هم)، ولكن يمكننا أن نستخلص أن (صور العدو) تعود إلى الدراسات الاجتماعية والنفسية، والى الدعاية، والتعبئة الجماعية في الحروب وغيرها من حملات العنف.

أما بالنسبة إلى مفهوم (الآخر) فإن أسهل طريقة لتعريفه هي القول إن (الآخر) مختلف بشكل أساسي عن (نحن)، وبالنسبة إلى أرسطو فإن الآخر المستبعد هو الغريب، الذي لم يتمكن من استخدام وفهم اللغة المشتركة (اليونانية)، ونتيجة لذلك أصبح البربري هدفاً للمطاردة، أي أصبح عبداً.

ويذهب باحثون عصريون، مثل (ميشيل فوكو)، إلى إدراك (الآخر) باعتبار أنه شخص غير طبيعي، ومجنون ومعوق، بينما ذهب (جيمس آهو James.A ) مطبقاً منهجاً فينومينولوجيا (ظاهراتياً)، إلى أن دنيا الحياة تمارس كالتحام أشياء ذات خصائص محددة، وهنالك بين هذه الأشياء وقبل كل شيء (أنا) وما هو (ليس أنا)، ويتكون الأخير من أشياء طبيعية وأشخاص يدعون (أنت).

وهكذا فإن من الواضح أن (الآخر) هو تعبير عام يغطي الحالات التي يعترف فيها بالاختلافات اللغوية والثقافية الأخرى، والتي تشكل الأساس لهوية (نحن)، والاختلاف هنا هو في دائرة (التعريف)، كعلاقة عداء أو عنف بين (نحن) و (هم)، وبالنسبة إلى (كريستيفا) فإن الآخر مثل الخصائص الفريدة في كل شخص مفرد والآخر ليس أكثر من (أجنبي) و (خارجي)، ومثل هذا الشخص غالباً ما ينتمي إلى النخبة الثقافية الرفيعة، كما تمثل حالة (كريستيفا) نفسها في فرنسا، وبينما ينطبق (الآخر) على عدد من الحالات التي تتعلق فيها (الآخرية) بسيرورة بناء الهوية، فإني أؤكد على أن مفهوم (العدو) يطرح شيئاً أكثر من ذلك، ويصبح بالتالي، حالة خاصة من (الآخر).

فإن مفهوم (العدو) يطرح أسباب الصراع بين (العدو) و (الصديق)، إنه ينبئ الصديق من هو (العدو) وما هي طبيعته الأساسية، وهو يفسر كذلك لماذا يبدو الأمر هكذا.

إنني أود التأكيد على أن (العدو) يظهر - فقط - إذا، ما خلد في الإدراك أن (نحن) و(هم) مختلفان جذرياً، أي عندما يفهم التمييز بينهما على انه انعكاس لصراع بين الخير والشر، وعندما يرتبط الخير مع (نحن) والشر مع (هم).

وعندما يجري تعريف شخص ما كأنه (العدو)، ففي هذه الحالة لا يعود كائناً بشرياً، بل يصبح حيواناً يجب إبادته في غرف الغاز أو بواسطة قنابل ذرية.

لقد خلص آهو إلى أن العدو يمثل الموت وأداته وإنجازه وموقعه (الأوساخ، القاذورات.. الخ) وحملته (الهوام والحشرات والبكتريا)، أو (كل هذه الأشياء مجتمعة)، ويبدو (العدو) والحال كذلك، كأنه نابع من الفئات الدنيا من المجتمع، ويمكن أن يضيف المرء إلى ذلك: من خارج المجتمع، من العالم الثالث.

وباختصار: فإن (العدو) دائماً هو (الآخر)، إلا انه لا يمكن تصنيف كل (الآخرين) باعتبارهم (أعداء) مهما كانت أهميتهم من وجهة نظر هويتنا (نحن)، وعلينا لذلك ان نسأل لماذا يصبح (الآخر) أحياناً هو (العدو)؟.

من السهل فهم الجذور النفسية والاجتماعية التي يشتق منها (العدو)، فحسب التفسير النفسي نقوم (نحن) بتحديد شرنا بنسبته إلى (انتم)، وهكذا نجعل (انتم) (أي الآخر) هو (العدو)، وتضيف الجذور الاجتماعية إلى ذلك أن (العدو) هو نتاج مشترك، يتشكل اجتماعياً منا جميعاً معاً، وهو في العادة ليس ظاهرة ينجزها شخص واحد بمفرده.

وحتى نجد تفسيراً آخر، أقل اعتماداً على الناحية النفسية، وأكثر ميلاً إلى الناحية الثقافية، علينا أن نلاحظ انه بينما (الآخر) و (العدو) هما مخلوقات بشرية فإنهما يمثلان الحقيقة بالنسبة للشخص الذي يتحدث عنهما، وينبع العنف من سعيي نحو الخير، وتجربتي معك كمناوئ للخير، إلا انه ليس هنالك حقيقة مطلقة أو حقيقة موضوعية، فالحقيقة تحددها دائماً التقاليد المتداولة عبر المواريث من جيل إلى جيل، وهذه التقاليد هي مصدر (العدو) و(الآخر)، وفي التقليد الغربي (الأوروبي) يميل إلى أن يكون له الطابع الشيطاني، الذي سبقت الإشارة إليه، أي أن (الآخر) يميل إلى الظهور باعتباره (العدو).

فيلهوا هارلي: مجلة سطور/ العدد57

التغيير الاجتماعي وحظوظ الإنسان

يعتبر القرآن الكريم أن التغيير لا يتم بالاقتصاد ولا بالحاكم بل بتغيير (ما بالنفوس) وبالتالي فإن الفقر لا يفجر الأوضاع ولكن (وعي الفقر).

وهو - أي القرآن الكريم - يفرق بين حظوظ الإنسان في الدنيا والآخرة، فالحساب في الآخرة فردي (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) ولكنه في الدنيا جماعي خاصة في النكبات (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

والقرآن عني بهذه المشكلة الإنسانية فاعتبر أن التغيير قائم وممكن، وهو بيد البشر وهو بهذا نقل المشكلة من السماء إلى الأرض ومن عالم الغيب إلى الشهادة ومن (اللاهوت) إلى (قوانين الاجتماع) وبهذا أصبحت مشكلة (التوحيد) سياسية (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي أن الآية القرآنية تأخذ كل زخمها من عمل أرضي بشري فتنشط الآية من مجال إلى مجال، ولا تعود الآية تتلى للبركة على الأموات بل كل بركتها في عملها الاجتماعي، ولا يعود (فرعون) هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد بل كل جبار عنيد مناع للخير معتد أثيم، وهو ما يفسر أيضاً الصدام الشديد والارتجاج الاجتماعي الذي حصل حينما خاطبهم النبي (ص) فإذا هم فريقان يختصمون، والآية ترى أن الله (لا يغير) وهو ينتظر أن (يغير البشر) والتغيير ليس للحاكم ولا بالبنية الاقتصادية بل (حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فما هو السر الكبير في النفوس حتى يكون كل الرهان على التغيير فيه؟.

إنه من الضروري أن نفهم أن هناك حقلين للعمل (الإلهي) و(البشري) ويجب عدم المزج بينها، ونحن البشر منحنا الله إمكانية فهم الكون وتسخير سننه، ونحن نعلم من علم الفيزياء أن الجهاز (المستقل) يثبت عبقرية الصانع وروعة الآلة، وعندما ننفك بإرادة مستقلة عن الله فهو ليس نقصاً لله بل ميزة إله مطلق صمد لا حدود لإبداعه (بديع السماوات والأرض)، وهناك علاقة بين عمل البشر وعمل الله فهو ينتظرنا أن نغير ما بنفوسنا حتى يغير الواقع، ومع أن العمل الإلهي هائل والعمل البشري تافه ولكن لابد منه حتى تمشي القوانين في مجراها، ومن هذا عملية الخلق؛ فلولا تدخلنا بقذف المني شهوة لم تحبل المرأة، ولكن عملية الخلق الهائلة هي قانون إلهي لا ينظر إلى شهواتنا فتحمل المرأة سفاحاً أو زواجاً أو اغتصاباً (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)، ونحن لم نخلق أنفسنا ولم نخلق أولادنا كما لن يخلق أولادنا أولادهم، ولكن بدون الزواج لن يخلق إنسان، وحتى جماعة الاستنساخ لابد لهم أكثر من بويضة إنسانية حتى يصلوا إلى الحمل، أما الخلق فهو سنة لا تتبدل ولا تتغير ولن يفعل الاستنساخ أكثر من تكرار عمل الخلق الإلهي (ألا له الخلق والأمر). عندما نشعر أننا منحنا حرية الإرادة والفهم، وأن الكون مبني على سنن، وأن فهم القوانين يمنحنا قابلية تسخيرها، وأن السخرة تعني العمل المجاني وهي متاحة للجميع، أمكن لنا أن ننعتق من عطالة الثقافة الحالية.

كما أن الأفكار القاتلة يجب أن تنقل مع شروطها الفنية، وهذا يفسر عجزنا أننا نسوق (سيارات) بدون أمان، ونبني صروحاً شاهقة (برلمانات) مزيفة، ونشارك في (المحطات الفضائية) لمزيد من تأليه البشر، ونصدر (جرائد) تعنى بأخبار ولاة الأمور أكثر من الأمة، ونشتري (أشياء) الحضارة بدون القدرة على (بنائها) وإننا ندخل العصر من بوابة (الأمعاء) بالاستهلاك وليس من بوابة (الدماغ) بالمشاركة العلمية، ويعلق مالك بن نبي على ذلك الرجل الذي لبس الثياب العصرية من الحذاء حتى ربطة العنق ولكنه ما زال متعمماً بالطربوش العثماني، إذ إن الحضارة تسربت إليه من القدمين ولكنها لم تصل بعد إلى الرأس.

خالص جلبي: الشرق الأوسط، العدد 8296