العدد62

الفقه بين الاجتهاد والتقليد

 

 

عبد الكريم الحائري

ما يذكر في بعض الأوساط العلمية الحديثة من أنه لا داعي للتقليد مع تطور العصر التكنولوجي وأنه بالإمكان الرجوع إلى الحاسوب الآلي والعقل الإلكتروني (الكومبيوتر) بأن تخزن فيه الأحاديث والروايات، ونأخذ منها دون تقليد، هو كلام غير سليم؛ إذ الأحاديث تحتاج إلى جمع وطرح ومناقشة وغربلة وتخصص، وليس هذا ادعاء لحكر العلم على جماعة بل هذه حقيقة كبقية العلوم الأخرى، فهل بالإمكان أن نقول نحن الآن لا نحتاج إلى جامعات لتطور العلوم وأن نجعل كل النظريات العلمية على صفحة الانترنيت والكومبيوتر ولا نحتاج إلى مدرسين وأساتذة؟ فهذا كلام فارغ من أي محتوى ولا أساس له؛ إذ التطفل على العلم دون تخصص يوجب للإنسان السقوط في الزلات، كما أن الفقه ليس أخذ الرواية فحسب، بل يحتاج الاجتهاد والفقاهة إلى خمسة عشر علماً آخراً مع الأحاديث والآيات، حتى يتم فهمها، على أن نأخذ من كل علم بحسب الحاجة وبمقدار معين؛ فالشعارات البراقة والأصوات المنادية بنفي التقليد ليس الغرض من ورائها إلا إبعاد الناس عن أهل التخصص والدين.. فهناك جماعة في المجتمع يتخصصون في الطب، وآخرون في الهندسة المعمارية، وجماعة يتخصصون في أقسام العلوم والفنون الأخرى، لينتظم بذلك المجتمع ويتكامل، وفيه أيضاً جماعة آخرون يتخصصون في الأمور الدينية ويرجع إليهم الناس في حدود تخصصهم؛ فليس معنى رجوع المقلد إلى الفقيه أنه يعبده أو يتخذه معصوماً أو غير ذلك، بل يرى حجته في رأيه واستنباطه من هدى القرآن والسنة المطهرة؛ وقد قال تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام: 90).

وهناك من يدعي أن هؤلاء متخلفون ولا حاجة في الرجوع إليهم!!.

والجواب على هذا الإدعاء أن التخلف في نظر هؤلاء هو اتباع الدين، فلو أحل أولئك الحرام، وتركوا الواجبات، لما عدّوهم متخلفين، فهؤلاء يريدون - في الواقع - إبعاد الناس عن الدين؛ إذ هم على جهل مطبق في أمور الدين.. نعم، الناس يتوقعون ويتأملون من الفقيه أن يواكب العصر، وهذا حق للناس، ولكن ليس معنى ذلك ترك الفقه في سائر شؤون الحياة، حيث لا بديل إطلاقاً.

نعم؛ على الفقيه التدقيق في النصوص ومواكبة العصر في إبداء النظريات الجديدة بشأن الأمور المستحدثة مثل الاستنساخ البشري وغيره من الأمور التي تتعلق بالحياة، وهذا أمر حق؛ إذ الناس يريدون أن يفهموا نظر الدين في مستجدات الحياة.

وهناك من يدعي بأن الناس في القديم كانوا يلزمون بلادهم ولا يخرجون منها، فكانت ابتلاءاتهم محدودة وبسيطة، وكانت الشريعة تحل لهم مشاكلهم، ولكن لما حصلت الهجرة في كل بلدان العالم، حصل الاختلاط بين البشر بمختلف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، فلا مجال حينئذٍ للتقليد وأخذ قول العالم والفقيه!.

وجوابه، أولاً إن الهجرة حصلت أيضاً في صدر الإسلام، وثانياً: إن الاختلاط بسبب الهجرة لا يعني الخروج عن المعتقد والتنكر له، بل على العكس نرى غير المسلمين كثيراً ما يتمسكون بشعائرهم الدينية حتى في بلاد الغربة، وهذه الفضائيات وغيرها تعلن عن ذلك كل يوم في مختلف أصقاع العالم، وتنقل صوراً حية عن أناس كثيرين يمارسون شعائرهم على اختلاف أديانهم؛ فلا تعني الهجرة والاختلاط نزع روح التدين وترك الاعتقاد والتراجع والانهزام أمام الآخرين بل على العكس من ذلك لابد من تحصيل الثقة الكاملة بأن الدين الإسلامي هو السبيل الموصل لسعادة البشر، نعم لابد من مراعاة بعض العادات والأعراف في مجتمع الهجرة ما دامت لا تخالف روح الشريعة، ولكن ليس معنى ذلك الذوبان في العادات المخالفة للشريعة، قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا) (المائدة: 48)، ومن كل ذلك عرفنا بأن التقليد هو من الأمور الدينية ومن الضروريات كبقية العلوم الأخرى.

 

في منطقة الفراغ التشريعي!

 

قد ظهر مما سبق أن مجال الاجتهاد وما يسعى فيه المجتهد هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، ولعل قائل يقول: ماذا يفعل الفقيه إذا رأى منطقة فيها فراغ تشريعي؟ مما لا يخفى أن هذا الاصطلاح جديد وقد طرحه بعض الباحثين وحاول - بحسب زعمه - ملء الفراغ بعنوان الاجتهاد أو بعنوان الولاية، ولكن يجدر بنا أن نتوجه إلى أن هذا السؤال، ممّ نشأ وعلى أي فكرة اعتمد وما وراؤه؟.

في الحقيقة، أن هذا الطرح جديد في تعبيره، قديم في فكرته؛ إذ هذه هي فكرة مجتهدي الأشاعرة بعينها، لأنهم يرون المجتهد مصيباً وأن الواقع خالٍ من حكم ثابت، فما أدى إليه رأي المجتهد هو حكم الله تعالى، وعلى هذا لا يكون رأي المجتهد مخالفاً للواقع إذ لا واقع وراء رأيه! وهذا ما يخالف الثوابت الشرعية؛ ذلك أنه حينما ننظر إلى الشريعة نجد هناك أحكاماً ثابتة علم بها المجتهد أم لا، وما يرشدك إلى ذلك هو بعض الوقائع التي حصلت في زمن النبي (ص) مثل حكم بعض أصحاب رسول الله (ص) في بني المصطلق، وقول رسول الله(ص): »قد حكمت بحكم من فوق سبع سموات..« فوافق حكمه حكم الله، فلولا أن لله تعالى حكماً لما كان معنى لذلك، ثم من أين يأتي الأشعري بالاجتهاد؟‍‍! فإذا خرج عن حدود الكتاب والسنة فهل يكون قوله حجة؟ وإذا استنبط منهما فهل يكون الواقع خالياً من الحكم وقد حفل الكتاب والسنة بالحكاية عن الواقع؟ فكيف يخلو الواقع من الحكم؟ هذا الطرح لا يخلو من تشويش بل من تناقض وسيأتي توضيحه.

والظاهر أن وراء هذا الطرح تكمن الغفلة عن واقع التشريع، فإذا لاحظنا ذلك نرى أنه لا مجال للقول بالفراغ التشريعي، بل قد يذوب الإنسان حياءً من طرح أمثال هذه المسائل؛ لما تتضمنه من جهل بواقع الشريعة، فكيف تصدر من أمثال المنتسبين للشريعة؟!.

أما الكلام في واقع الشريعة فخلاصته أن الأحكام الشرعية مبنية على المصالح والمفاسد الواقعية التي لا يحيط بها علماً إلا الله تعالى حيث قال سبحانه: (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك.. ) (الشورى: 13)، فالمشرع للدين هو الله تعالى وليس لأحد حق الفيتو والتدخل في الدين والتشريع، وإلا فإن الدين يضمحل ويصير ذريعة للأهواء والفتن والتكفير والخلاف، ولكن الله حرسه عن ذلك كله.

وأما الكلام في مراتب التشريع فهناك تشريعات تفصيلية تضمنها الكتاب والسنة، كما في أبواب الفقه المعروفة والمبوبة من قبل القدامى، والمسائل المطروحة والمستنبطة، والدلالة عليها واضحة، بل ترد روايات كثيرة تعالج قضايا خاصة بنفسها دون غبار في الدلالة عليها، وهناك مسائل أخرى تعرف بـ»المسائل المستجدة« كما اصطلح عليها المتأخرون، فهذه ربما لا توجد عليها دلالات من الكتاب والسنة بنصها وبوضوح، فلذا كان لابد أن نرجع فيها إلى عمومات الشريعة المستفادة من مختلف الأبواب والتي يعبر عنها بأدلة التشريع العليا، وهذه تتناول الموضوعات بعنوان عام، يطبقها الفقيه على الموارد التي يُسأل عنها أو يبتلى بها، ويدخل في ذلك أدلة الأحكام الثانوية كأدلة رفع الحرج والضرر والعجز والإكراه وغير ذلك. ففي القسمين الأول والثاني توجد عناوين خاصة أو عامة يرجع إليها الفقيه ويستنبط حكمه منها ويطبق القواعد عليها، ولكن قد ترد أمور مجهولة لم يكشف عنها من قبل، كالأمور المتطورة والاكتشافات الحديثة ومسائل الفضاء وأعماق الأرض والتفجيرات إلى غير ذلك مما لا تنطبق عليه العناوين العليا في الشريعة بسهولة، فهنا يأتي دور المجتهد الفقيه في استنباط ذلك من ما يصطلح عليه بروح الشريعة، وما اصطلح عليه من قبل بشم الفقاهة، يعني أن يلاحظ الفقيه عموم أحكام الشريعة في مختلف الأبواب، ويفهم من ذلك مقاصد الشريعة، دون أن يعني ذلك التخرص على الغيب، بل من خلال السير التام في ضوء الشريعة وأحكامها يفهم يقيناً أن قصد الشارع المقدس حفظ النظام العام والتسهيل على الناس وغير ذلك. فيمكنه تطبيق ذلك مثلاً على أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة النووية والهيدروجينية، ومسائل التصرف في الفضاء.. إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتوصل إليها العلم بعد، وكذا مسائل الاقتصاد العالمي والمجاعة والمياه والنمو السكاني وحرية الإنجاب أو تعقيم الذكر والأنثى وتنظيم النسل والأسرة وكل ذلك يستدعي تشكيل سلطات إقليمية ودولية مع حفظ الحقوق العامة والحريات للفرد والمجتمع والدولة وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية، وبذلك تعلم أنه مهما تقدم العلم وتوسع البشر في مجال العلوم، فلا يحصل فراغ في التشريع، لوجود العمومات الفوقية، أو ما يفهم من روح الشريعة ومقاصدها؛ ومن ذلك يظهر أنه لا مجال للقياس أو المصالح المرسلة أو سد الذرائع أو غير ذلك مما يسمح للمجتهد بإبداء رأيه الخاص وتدخله في التشريع.

ومن هنا قد يرى البعض أن الشريعة ما دامت مسددة بالوحي الإلهي فلا مجال للتدخل فيها، وبما أن أموراً كثيرة ترد ولم يتضح ورود حكم شرعي أو وحي فيها، فهنا يأتي دور النبي (ص) لا بعنوانه الشخصي بل بعنوان الولاية ويتدخل في أمر التشريع ويعتبر هذا اجتهاداً منه!!.

مما سبق يظهر بطلان هذا القول وأنه لا مجال لاجتهاد النبي (ص) في أمر التشريع وأنه مسدد وأما القول بعدم وجود وحي في ذلك فهذا فهم خاطئ للوحي، فالآية الشريفة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، فإنه يخال لبعض المفسرين والناظرين إليها أن الوحي هو الجانب القرآني وهذا خطأ درجت عليه أفهامهم منذ أربعة عشر قرناً غافلين عن أن مسألة الوحي التي يتعرض لها القرآن أعم من ذلك كما أشار إليه قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم) (الشورى: 51).

فجعل الوحي أولاً ثم قابله من وراء حجاب ثم قابله ببعث الرسول(ص) والملك حتى يتم الوحي بالقسم الثالث ومنها تعرف أن الوحي - كما في اللغة - هو الإلقاء الخفي السريع والنبي(ص) مسدد بالوحي تلقى في روعه المرادات الإلهية، ولأجل أن لا يبقى غبار على المسألة نتعرض لذلك بتفصيل مناسب فنقول:

لما أنزل الله تعالى الكتاب على رسوله(ص) بين شأن الكتاب فقال (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (البقرة: 2)، فعظمة الكتاب فوق الشكوك، بل شأن الكتاب أن لا يشك ولا يرتاب فيه أحد ولا بد من الإيمان به أجمع؛ حيث قال تعالى: (أفتأمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) (البقرة: 185)، فالإيمان بالكتاب دون ريب هو إيمان بما فيه من تفاصيل الأحكام والأمثال والكليات، وإيمان بأنه هو الذي فيه تفاصيل الأمور التي لا يعملها إلا النبي (ص) الذي أوحي إليه؛ فلذا قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله) (النساء: 105)، فالله جل وعلا أرى نبيه حقائق في القرآن لم يطلع عليها أحد، وهي التي تكون رافعة للاختلاف، حتى لو كنا لا نرى ذلك بوضوح؛ فهو كالبحر فيه كل شيء لكن لا يراه كل أحد بل يحتاج إلى الغور في أعماقه لاستخراج اللآلئ منه، فلا يتسنى لمن لا يعرف العربية فهم ظاهره، ولا يتسنى الوصول إلى باطنه وأعماقه إلا للذين طهروا باطنهم، كما قال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة: 79)، ونؤمن بأن القرآن يضم كل المعارف، ويجيب على كل الأسئلة، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه) (النحل: 64)، فهو مبين لكل ما يرد عليه من الاختلاف والاستفهام، وإذا أمعنا النظر نجد أن النبي (ص) لم يتخط ما أوصاه الله به، إذ لا حاجة للخروج عنه إلى غيره من الاجتهاد والآراء؛ فمن ذا الذي يترك علم كل شيء إلى الظنون أو الآراء؟‍‍! والله تعالى يقول: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة) (النحل: 89).

فهل بعد هذا الوضوح تشكيك وريب؟ فما من شيء يتصور في عالم الوجود إلا والله تعالى جعل القرآن تبياناً له، فهل بعد ذلك إيمان بظاهره وكفر بما وراء ذلك؟!.

(ومن أصدق من الله حديثاً) (النساء: 87)، (ومن أصدق من الله قيلا) (النسا: 122)، قال تعالى: (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (يوسف: 111)، ومن ذلك تعرف أن الله تعالى أطلع نبيّه (ص) على كل شيء وأودعه علمه، وحكى ذلك في كتابه، لكن الذي وصلنا إليه هو الظاهر، ولو تأملنا وتدبرنا فيه كما أمرنا الله سبحانه بقوله: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (محمد: 24)، فلو كان الاقتصار على ظاهر جمله يكفي لما أُمرنا بأن نتدبر ونتفكر بما وراء الظاهر، لتحصيل علومه؛ فهو تبيان كل شيء، لكن كلٌّ يأخذ منه على حسب استعداده، فأنزله سبحانه لأجل التعمق والغور فيه وسبر معانيه، دون التوقف عند ظاهره، فقد قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (ص: 29). فجعل التفكر والتدبر من شؤون اللب والباطن.

وخلاصة القول أن الآية الشريفة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3و4)، تشير إلى أن النبي (ص) لا ينطق بدافع هوى النفس والغرائز والدفاع عن نفسه بل هو يصدر عن الوحي الإلهي والتسديد الرباني فلذا قال تعالى: (ولقد أوحينا إليك روحاً من أمرنا) (الشورى: 52)، فهذا الروح روح تأييد وتسديد كما قال تعالى: (إذ أيدتك بروح القدس) (المائدة: 11)، وقال أيضاً: (وأيدناه بروح القدس) (البقرة: 87)، فهل مع وجود ذلك تكون هناك منطقة فراغ في التشريع حتى يسدها أحد؟ نعم ربما يقال إن علم ذلك وتفصيل كل شيء عند النبي(ص) لا عندنا، قلنا نعم ففي الواقع لا يوجد فراغ في التشريع ونحن إذا تدبرنا أمرنا فسوف تفتح لنا نوافذ لفهم ذلك؛ فلذا يشترط في الفقيه أن يكون صائناً لنفسه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه ومثل هذا يؤيد ويسدد ويمكنه بطهارة ذاته الوصول إلى مس باطن القرآن والمعاني الدقيقة التي تحصل من خلال ربط بعض الآيات ببعض، أو ينفتح باب فهم جديد، فمن قال إن النبي(ص) له حق الولاية في التشريع من باب الولاية لا النبوة، وإن ذاك يكون بالاجتهاد، فقد جانب الصواب، كما ظهر لك من خلال ما قدمناه.

وحاول البعض أن يستدل بقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59)، على أن إطاعة أولي الأمر تكون في الفراغ التشريعي، وهذا فهم لا واقع له؛ إذ يتعيّن الرجوع إلى أولي الأمر في كل شيء، والقرآن هو الذي يعيّنهم لنا بقوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83).

فأولوا الأمر هم الذين يستنبطون أحكامهم ويرجعونها إلى القرآن الكريم لا أنهم يبدون آراءهم من عند أنفسهم، وما ذكرناه لا يعني الجمود وعدم الحركة في الاجتهاد، فلو راجعت المجتهدين والفقهاء من صدر الغيبة إلى يومنا هذا لرأيت التطور الكثير والفهم المتحرك المستمر للنصوص الشرعية، واختلاف كثير في الفروع فلذا قال بعض المفكرين الإسلاميين: »الاجتهاد هو القوة المحركة للإسلام«(التجديد والاجتهاد للشهيد المطهري نقلاً عن إقبال اللاهوري)، وإذا فقد الاجتهاد فقدت الروح الإسلامية، ولكن لابد أن نفرق بين الاجتهاد المشروع والاجتهاد الممنوع عرفت مما مضى أن الاجتهاد المشروع هو الذي يعتمد على الكتاب والسنة في مراتب بيانها الثلاث وأنه لا يشذّ عن الكتاب حكم شيء أبداً.

ولعلم الأئمة (ع) بوقوع الغيبة وإخبارهم عنها، فقد أودعوا في أخبارهم ما يحتاجه الناس في عصر الغيبة، وإن كل ما يقع فهو موجود في أخبارهم، ولكن يحتاج فهمه إلى دقة نظر وتعمق في مجموع كلماتهم، ولعله إلى هذا المعنى يشير حديث الإمام (ع) في توقيعه الشريف: »وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا«. فإن كل ما يقع من حوادث لابد من الرجوع فيها إلى الرواة فكيف نرجع إليهم إذا لم يكن عندهم حل ولم يكن فيما أودع عندهم علمه فهل هذا إلا تناقض؟! وحاشاهم عن ذلك، إذن لابد أن يكونوا قد ملأوا الفراغ وسدوا الحاجة في أحاديثهم؛ فلا مجال إذن للقول بالفراغ التشريعي.

كما أن هناك مرونة في التشريع تستفاد من النصوص التي تبين علّة الأحكام التي يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، مثلما استفاده القوم من تعليل حرمة الخمر من النصوص فمنه يعمم لحرمة كل مسكر سواء سمي خمراً أم لا، وما يوجد منه على مدّ الدهور والعصور، فلذا كتب علماؤنا كتباً في هذا الشأن بعنوان (علل الشرائع) أو (مقاصد الشريعة) وبعناوين أخرى مستمدين من النصوص العلل لجري الأحكام وما يستفاد من نهي النبي (ص) عن أكل لحوم الحمير الأهلية لئلا تتعطل حركة الحياة التي كانت واسطتها في النقل الحمير الأهلية ولحفظ هذا النوع ومنه يمكن الاستفادة أن أنواع الحيوانات المعرضة للتلف لابد أن تحفظ أو أن نهيه عن بيع الثمار قبل ظهورها لحل الاختلاف الذي كان يحدث ويتشاجرون على أثره في المسجد النبوي الشريف وغير ذلك مما يظهر للمتتبع، خصوصاً ما يراه في المسائل الخلافية. وعلى كل حال فما تراه من الشعارات تحت عنوان (منطقة الفراغ التشريعي) هو إحياء لشعار قديم وتجديد للخط الأشعري القائل بأن كل مجتهد مصيب وإن ما أفاده المجتهد هو حكم الله في حقيقته.. والصواب ما ذكرناه - تأييداً للكتاب الكريم وسيراً على نهج سيد المرسلين (ص) - من عدم وجود فراغ في التشريع حتى يبقى لأحد أن يملأه؛ وذلك للحكمة الربانية العارفة بأن البشر إذا ترك لهم هذا الحق لكفّر بعضهم بعضاً، كما فعلوا مثل ذلك، ولا تخذوه ذريعة لتأييد كثير من الحكام الظالمين كما شهد بذلك التاريخ، ولكن الله تعالى جعل الدين خاتم الأديان ونبيه خاتم الأنبياء حيث قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (المائدة: 3).