العدد62

دور الأمة في النظام السياسي الديني
 

 

خــالد محمد

تحتل عملية التوصل إلى تعريف الشرعية والأحقية حيزاً مهماً في الأبحاث التي تنحو نحو تحليل أسس الحكومة الدينية، والتي تقع بصورة تلقائية ضمن مباحث الفلسفة السياسية، وتحظى ضمن هذه الدائرة بأهمية فائقة جداً.

المعنى:

(الشرعية في اللغة العربية مشتقة من الشرع أو (الشرعي) والذي يعني الطريق الذي أوضحه الله لعباده، والشرعي يعني ما طابق الأحكام والأوامر الإلهية.

ففي (لسان العرب) جاء في مادة شرع أن (الشريعة والشرعة، ما سنّ الله من الدين وأمر به، كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البر. قال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) (الجاثية: 18)، وقال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) (المائدة: 48)، وقيل في تفسيره: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق. وقيل: الشرعة والمنهاج جميعاً الطريق، والطريق هاهنا الدين.. وشرع فلان: إذا أظهر الحق وقمع الباطل)(1).

أما في (الموسوعة السياسية) فقد جاء ما يلي:

(الشرعية: مفهوم سياسي مستمد من كلمة شرع (قانون أو عرف معتمد راسخ ديني أو مدني) يرمز إلى العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم، والمتضمنة توافق العمل أو النهج السياسي للحكم مع المصالح والقيم الاجتماعية للمواطنين، بما يؤدي إلى القبول الطوعي من قبل الشعب بقوانين وتشريعات النظام السياسي)(2).

وبناءاً على أن الشرعية معناها قبول ورضى الناس، وأنها في دائرة علم الاجتماع السياسي تعني الأحقية في مقابل الغصب أو التسلط على الناس بغير وجه حق؛ فإن البحث يتوجه إلى سؤال حول الشكل الأفضل للحكومة الذي يحقق رضى الناس.

ومن المسائل المهمة والأساسية في قضية الشرعية هي نشأتها ومقوماتها، وهذا الأمر يعد من نقاط الاختلاف الرئيسية بين الرؤى، والتي يمكن تقسيمها (الشرعية) إلى قسمين رئيسيين هما:

أ) الشرعية الإلهية.

ب) الشرعية غير الإلهية.

والذي يهمنا هو البحث عن الشرعية ذات المنشأ الإلهي، والتي تكون أساساً لأي نظام يقام على أساس الدين والمعتقد، وقد أكدت هذه النظم جميعاً على أن منشأ هذه الشرعية هو التفويض الإلهي، باعتبار أن الله خالق وموجه هذا الكون، وهو الحاكم الفعلي للوجود، وأن جميع أنواع السلطات تتفرع عن سلطته.

ولعلّنا نجد هنا أن الفكر السياسي الإسلامي يختلف عن الأفكار السياسية الدينية الأخرى في جوانب عدة، كما تختلف رؤية فقهاء الشيعة عن رؤى بقية فقهاء المسلمين اختلافاً كثيراً حول هذه النقطة، ويمكننا أن نجد أن فقهاء الشيعة يقيمون رؤيتهم على أساس مَبنيين رئيسيين هما:

أ) الشرعية الإلهية المباشرة.

ب) الشرعية الإلهية بواسطة الناس.

وبالنسبة للمبنى الأول فهو مؤسس على كون الولاية الإلهية في إدارة شؤون المجتمع وتنظيم السلطة تبدأ من الرسول الأكرم (ص) والأئمة المعصومين(ع) ولا دور للناس في هذا التفويض، كما أن رأيهم ورضاهم لا دور له في شرعية الحكومة.

أما أنصار المبنى الثاني فيعتقدون أن رأي ورضى الناس بصورة مباشرة أو غير مباشرة دخيل في شرعية الحكومة؛ لأن الله أعطى للناس في إطار الشريعة (حق تقرير المصير) وهو الذي يمكن استنباطه من خلال القاعدة الفقهية المعروفة (الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم).

وعلى أساس هذه القاعدة لا يحق لأي شخص أن يتصرف في متعلقات أي فرد بدون إذنه ورضاه، سواء كان هذا المتعلق من الأشياء المادية كالأملاك، أو الحقوق بما فيها الحقوق المعنوية.

وهذه الرؤية لا تقول بأن دور الناس يشكل كامل الملاك لموضوع الشرعية، بل إنه جزء من الملاك فقط؛ وهذا يعني أن الناس يجب عليهم اختيار أحد الفقهاء، ممن تنطبق عليه شروط الفقاهة والعدالة وبقية الشروط المكملة لأهلية التولي والولاية على الناس، فمثل هذا الفقيه إذا أصبح ولياً فإن أوامره ستكون نافذة ولازمة الاتباع من قبل الناس.

ولكل من هذين المبنيين مؤيدون ومعارضون، يقومون بنقد الرأي الذي يخالفونه وفقاً للأدلة الشرعية، وهناك رأي ثالث جديد يحاول توسيع دائرة الدور الممنوح من قبل الشارع للناس، جاعلاً منه كامل الملاك بالنسبة لحاكمية الحاكم، وهذا الرأي تم تداوله من قبل البعض هذه الأيام ومفاده: (إن الرأي العام مؤثر إلى درجة أنه لا يجوز تصدي الحاكم للولاية بدون إحراز قبول الناس وتأييدهم، ويترتب عليه أن الحاكم إذا تصدى للولاية دون هذا الإذن فإنه يكون قد ارتكب عملاً محرماً يدخل في دائرة نقض الشرعية، وهو يعني الانتقال إلى غصب السلطة).

وهذا الأمر لم يقل به أي من علماء الشيعة سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين.

ويستند أصحاب هذا الرأي إلى عدد من الأدلة منها:

1- الاستناد إلى كلام منسوب لأمير المؤمنين(ع) قاله للناس عندما أرادوا أن يبايعوه بعد مقتل عثمان: (دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا أني أجبتكم..).

وحين نتأمل هذه الرواية فإننا نجد أن هذا الكلام لا يدل على المدعى؛ ذلك أن الإمام قاله لأناس لا يؤمنون بأصل التنصيب الإلهي وإمامة الإمام علي(ع) بواسطة التنصيب الإلهي؛ لأنهم كانوا يرون شرعية ما تمخض عن (سقيفة بني ساعدة)، وأن كل الأحداث السياسية التي ترتبت على المداولات في تلك السقيفة كانت صحيحة، ولهذا فإن هذا القول يحمل على المحاججة وإثبات الحجة، ذلك أن المطالبين بالبيعة للإمام - بما أنهم قوم لا يؤمنون بأن تنصيب الإمام من الله - سيرون أنهم هم الذين نصبوه، وحين سيختلف نهجه عن (الخلفاء) الذين سبقوه - وهو قطعاً سيختلف لأن الإمام(ع) رفض التصدي للخلافة بعد مقتل عمر بمجرد أن طالبه البعض بالسير على سيرة الشيخين، والإمام علي(ع) بنظره الثاقب علم أن هؤلاء - سوف لا يتحملون نهجه في الحكم؛ ولهذا فإنه أراد إلقاء الحجة عليهم، وأن يؤكد أنهم هم الذين طالبوه بالولاية وأنهم ألحوا في الطلب، لذا فإن التمرد سيكون منهم نقضاً للعهد، ولو حمل الرأي على ظاهره فإن تناقضاً سيلوح بين قضية الإيمان بتنصيب الإمام من قبل الله سبحانه وتعالى، وبين الاعتقاد بأن الولاية لا تتم إلا برضى الناس؛ إذ كيف يعقل أن يكون الله سبحانه هو الذي نصب الإمام ثم أعطى الناس الحق برفض هذا الاختيار أو قبوله؟!.

2- الاستناد إلى ما نقله ابن الأثير من أن الإمام(ع) عندما بويع في يوم الجمعة في المسجد قال: (أيها الناس إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر) (4).

فطبقاً لهذا النقل يكون الإمام علي(ع) قد صرح بأن الحكم وتعيين الحاكم المرجع النهائي فيه هم الناس.

لكننا هنا أيضاً لا نستطيع إلا أن نفهم هذا التصريح بأنه حديث عن أعمال الولاية ونفاذها وليس عن ثبوتها؛ لأن الثبوت قد تم الفراغ منه في مرحلة سابقة عندما قام الرسول(ص) بتعيين الولي على الناس.

أما ما يؤكد هذا الفهم، فهو مجموعة أقوال أخرى قالها الإمام علي(ع) منها:

أ) قوله عندما بايعه الناس بالخلافة: (الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله) (5).

ب) قوله عند تولي أبي بكر الخلافة (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى.. ) (6).

ج) قوله(ع) أيضاً: (إنما طلبت حقاً تحولون بيني وبينه) (7).

د) وقال عندما شكل مجلس شورى من ست أشخاص بعد مقتل عمر كان هو أحدهم (فيا لله وللشورى) (8).

هذه الأقوال جميعها تعد من مرتكزات التفكير الشيعي، كما أنها تعكس تمسك الإمام علي(ع) بحقه بالخلافة علي أساس التنصيب الإلهي، الذي أكده الرسول(ص) في مناسبات كثيرة، تعد حادثة غدير خم أهمها، لكنها كانت الإعلان الصريح من قبل الرسول (ص) عن هذا التنصيب، وأنه جاء بأمر الله سبحانه، كما أن الأئمة من أبناء علي(ع) وأحفاد الحسين(ع) إنما يؤكدون إمامتهم من خلال التمسك بحديث الغدير، وكل ذلك ينقض الرأي القائل بدور الناس في تنصيب الحاكم.

3- ويستند هؤلاء أيضاً إلى قول الإمام(ع): (إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً) (9).

فهذا القول يفهم منه أن المهاجرين والأنصار هم الذين حازوا رضى وقبول الناس باعتبارهم أهل الخبرة وأن الناس يعودون إليهم، وقد أكد الإمام(ع) صحة هذا الرجوع كما أنه أحال تعيين الخليفة إليهم.

ويمكن أن نفهم من هذا القول إشعار الإمام(ع) للأمة بأهمية الشورى والتشاور، وهذا طبعاً لا مجال للمناقشة في صحته وفي أهميته وفائدته، لكن كما هو معلوم أن الشورى ليست عملية مطلقة، بل إنها تأتي في دائرة ما لا نص فيه، أو في عمليات تطبيق النص، وإذا كانت الإمامة والولاية هي من الأمور النصيّة فإن الشورى لا تقع في نفس دائرة الولاية، وإلا فإن هذا يعني تصويباً لشورى السقيفة التي نقدها الإمام في مواضع عديدة.

4- الاحتجاج بالبيعة؛ وهو على خلاف ما ذهب إليه أكثر الفقهاء من أن منشأ الحاكمية إلهي، مع تأييد أهمية وفوائد البيعة، ويمكن الاستناد إلى عدد من الأدلة منها (بيعة عدد من المسلمين في السنة الثانية عشرة للبعثة أي بيعة العقبة الأولى، كذلك بيعة عدد من المسلمين في المدينة في السنة الثالثة عشرة للبعثة بالعقبة الثانية، وكذلك بيعة الحديبية التي عرفت ببيعة الرضوان والتي وقعت في السنة السادسة للهجرة، وبيعة النساء والرجال بعد فتح مكة، وكذلك عندما بايع الناس الرسول الأكرم (ص) فبايع الرسول(ص) بدوره الإمام علياً(ع) في غدير خم وبايع الناس الإمام علياً(ع) بعد مقتل عثمان).

ومن جهة أخرى فإن البيعة في الأساس وفي صدر الإسلام لا تعني منح المشروعية أبداً للحاكم؛ فيكون المراد هو الاحتجاج برأي الناس لا أكثر كما ذهب إليه البعض، أي إن البيعة تعني العودة إلى التولي، وهي تعني التسليم والخضوع للولاية المعينة من قبل الله تعالى أو أي منصب آخر.

وفي الحكومة الدينية وعندما تأخذ الحكومة شكلها فإنه وبدون تردد لا بد من حضور الناس، وبعبارة أخرى فإنه بدون البيعة لا تتشكل السلطة، لكن حضور الناس ومشاركتهم ليست كما هي في المفهوم الغربي، أي حضور الرغبات والميول، فالبيعة تختلف عن الرأي في جوانب أساسية، فالرأي في مذهب (أصالة الإنسان) يكون أصلاً مستقلاً بذاته ولا يرتبط بالوحي، وجوهر الرأي رضى الإنسان الذي يمثله المجموع حتى ولو لم يكن موافقاً لسنن الصلاح، مع أن المصلحة التي يتبعها الإنسان ويسعى لتحقيقها، هي المصالح الدنيوية التي يمكن الوصول إليها بواسطة الرأي، فتتحول إلى الصورة العملية، وبتعبير أفضل هي النمو الاجتماعي، وأيضاً يعني تحقيقاً للنمو والأهواء، وبناءً على هذا فإن الرأي ليس تجسيداً للصلاح بل هو تجسيد لعبادة الدنيا ولكن من خلال ساحة المجتمع.

والنقطة الأخرى بالنسبة لتحليل البيعة هي الاعتقاد بأن الولاية والإدارة هي عبارة عن وكالة يكون الأساس فيها هو الموكل، والوكيل هو الفرع وهو الممثل للناس ولرضاهم، وبالتالي فإن مهمته أداء الأعمال التي تقع في حدود التفويض الذي فوضه إليه الناس، وعليه فإن عنان الأمر في يد الموكل وله أن يأخذه في أي وقت يشاء وأن يعزل الوكيل، وتبعاً لهذا الرأي فإن البيعة هي التي تؤسس الولاية.

ويمكن أن نجمل أهم معطيات البيعة في التالي:

أ) البيعة لها دور أساس في التجسيد العملي للولاية والحاكمية كدورها في تقدم واستمرار الحكومة بواسطة رضى الناس.

ب) ولا تفرض البيعة مسؤولية على الذين يبايعون فقط بل إنها تفرض مسؤوليات على من تتم له البيعة أيضاً.

ج) الذي تتم له البيعة يشعر بوجود أنصار له في داخل المجتمع مما يمنحه الثقة بوجود مقومات ومقدمات بناء النظام.

ومما جاء في كلمات أمير المؤمنين علي(ع) يلاحظ وجود تعارض ظاهري فيما يتعلق بالأقوال الخاصة بالحكومة، ولرفع هذا التعارض الظاهري يجب القول بأن هذا قد جاء في مقام الجدل، والذي يجب أن يكيف بحسب عقلية الخصم.

وقد كتب أحد المفكرين المعاصرين في هذا المجال بالنسبة لأقوال أمير المؤمنين هذه ما يلي: (فالأمر دائر بين الأخذ ببعضها ورفض سائر ما ورد منها في نهج البلاغة، أو حملها على الجدل الثابت في المنطق والقاضي بالأخذ بمسلمات الخصم ولا ريب أن المتعين هو الثاني).

وبناءً على هذا فإن كلمات الإمام علي(ع) في باب البيعة كانت تصور الواقع القائم بالنسبة لها، ولبيان أن البيعة كانت بيعة عامة شملت كل الناس، ولذلك تختلف عن الحالات المعاصرة لها والتي تمت للخلفاء قبله، فهل كانت تلك الساحة المثيرة تعني حقاً الاعتراف الرسمي بأن البيعة هي التي تمنح الإمامة والقيادة (الشرعية)؟! طبعاً لا، كما أن المعطى الأكثر أهمية الذي نفهمه منها هو الرضى والقبول، فهل يعد رضى الإمام(ع) أساس مشروعية التصدي للحاكمية؟!.

إذن بالاستناد إلى البيعة التي يقول بها الخصوم لا يوجد مبرر أكثر إدانة لهم منها، ذلك أنها قائمة على نفس الخطاب الثقافي الذي يستندون إليه، فهذا الأسلوب من طرف الإمام يتميز بالعقلانية الكاملة لغرض المحاججة.

ومن طرف آخر يلوح أن أقوال الإمام(ع) تشير إلى نمط من القوانين الخاصة بالحكومة العلوية التي لا يمكن فرضها على الناس في تلك الفترة؛ لأن الناس قد اعتادوا على عدم الانضباط القانوني، وعلى العيش في ظل الحكومات الجائرة، ففي مجتمع كهذا الذي تسود فيه خروقات القانون وتضيع العدالة، ومن الأفضل للإمام علي (ع) أن يكون وزيراً أو مشيراً وليس على رأس النظام؛ كما قال (ع): (..وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً) (تصنيف النهج: ص454)، ولهذا فإن الإمام يقول: (بل أسير بسنة الرسول ورأيي).

والسبب الآخر لضرورة البيعة يمكن أن يكمن في (قاعدة الإلزام) وهي التي وردت في نهج البلاغة وربما في غير نهج البلاغة أيضاً.

وتوضيحه أنه بواسطة البيعة فإن المؤمنين يرتبطون مع القائد الإلهي ويعاهدونه على اتباع أوامره، فإذا ما نقض المبايعون هذا العهد فإنهم سيكونون مسؤولين أمام الله، ولا يكون المقصر هو القائد.

إذن فالبيعة بمنزله إتمام الحجة الإلهية من قبل القائد على المخالف، وفي فقهنا تؤكد (قاعدة الإلزام) هذا المضمون، هذه القاعدة تقول: ألزم المخالف بما ألزم به نفسه، لكن بالنسبة لناكثي العهد يجب فرض الوفاء بالعهد عليهم، وهو لا يعني فرض البيعة للإمام؛ ولهذا فإن الإمام خاطب معاوية بهذه اللغة، وطالبه بأن يطيعه كما أطاع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه قائلاً له: (إن الذين بايعوا أولئك هم أنفسهم من بايعني فلماذا الخلاف) (نقل بالمضمون).

إذن فإن القائد الإلهي من أمثال الإمام علي(ع) يلجأ إلى انتزاع أسلحة المخالفين وإجماع الأمة، ولذا ذكر مراراً أن إمامته مستندة إلى بيعة الناس، فدعاهم - وخصوصاً المخالفين - إلى طاعته، وإلى إلزامهم بها؛ ولذلك فإن الاحتجاج بالبيعة كان مجرد وسيلة لتثبيت الموقع السياسي بالنسبة للقائد الإلهي، ولا يمكن أن تكون سبباً في إثبات حق الحاكمية، وهذا النوع من الحديث لا يمكن أن يعني المشروعية بالبيعة ورأي الناس، مع أنها تتنافى مع الحكومة التي منشؤها إلهي، وهو ما ذهب إليه العلماء من المتقدمين والمتأخرين، كما أن ظاهر الأدلة الفقهية تشير إلى التنصيب وليس إلى الانتخاب، والأدلة العقلية في هذا المجال تؤيد هذا الرأي.

إذن تكون البيعة، وكلمات الإمام(ع) في هذا المجال هي في مقام الجدل والمحاججة والاستدلال، طبقاً للمنطق السائد والمقبول يومذاك، والذي تأسس بالاعتماد على البيعة؛ ولذا فإن الإمام اتكأ على هذا الملاك وهذا المعيار، وخصوصاً حين يكون المخاطب معاوية الذي كان في الشام، والذي بدأ يختلق الإشكالات حول بيعة الإمام، أو طلحة والزبير اللذين نقضا العهد وصارا من الناكثين، أو عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت و.. هؤلاء الذين لم يبايعوا منذ البدء.

وبحسب مباني التشيع يمكن القول في النهاية:

1- إن البيعة ليست للإمامة والولاية، بل للحكومة.

2- إن البيعة إنما هي لأجل تأكيد الطاعة وزيادتها لا أكثر.

3- إن أخذ البيعة هو مراعاة للعرف السائد بين الناس؛ ولهذا فإن الرسول(ص) والإمام علياً عمد إلى تحكيم الولاية الظاهرية.

4- إن النص على الإمامة والولاية جاء في مرحلة الاقتضاء ولكن البيعة تأتي في مرحلة الفعلية.

5- هذه البيعة مجرد علامة اعتراف وقبول النبوة والإمامة.

6- هذه البيعة ملاك لأعمال الولاية والحكومة وليست لإثبات وتعيين الإمام.

وفي الخاتمة فإن القول بأن تولي أمور المسلمين وتشكيل الحكومة يرتبط برأي الأكثرية مردود، لأن من المسلم به - بناءً على هذا المبنى - أن مراد الإمام من عبارته هذه هو تحقق وإجراء الحكومة، وإن هذا من المستحيل أن يكون بمعنى عدم جواز التصدي والولاية.

وإذا ثبت من خلال كل ما سبق أن الحاكمية هي بالنص، فإن دائرة النص أيضاً محدودة بوجود الإمام المعصوم(ع)، ولكن كما هو معلوم أن عصر الغيبة عصر طويل وأن الفقهاء هم نواب المعصوم فكيف يكون دور الأمة في هذا العصر؟.

دور الأمة في عصر الغيبة(أو شورى الفقهاء):

بالنسبة للحديث الوارد عن الإمام المهدي(عج) الذي أحال فيه الأمة إلى العلماء العدول من ذوي العلم والإدارة والتدبير فيه؛ فإن الإمام قد أحال الأمة إلى ضابطة كلية ربما تنطبق بتفاوت على هذا العالم أو ذاك، وبالتالي لا بد من حضور الناس بصورة فعالة من خلال نظام الشورى، ولكنها شورى يشترك فيها الناس والعلماء بصورة متوازنة؛ إذ يكون للأمة الحكم على انطباق الشروط على المصاديق.

ومن خلال أجواء الحركة الحرة للعلماء في بيان إمكاناتهم العلمية والإدارية، عبر تاريخ طويل من العمل الجهادي والعلمي، يترشح عدد معين منهم لاحتلال مواقع الصدارة، وبذلك ينفتح الأفق أمام الأجيال الجديدة من العلماء للمساهمة في رفد الساحة بالطاقات العلمية.

فيتشكل وفق هذا الطريق نظام يتميز بالملامح التالية:

1- تحقيق كامل للتمثيل الحر، لأن كل مجموعة من الناس وبحسب علمها وإطلاعها تلتف حول عالم معين بواسطة علاقة التقليد، فكأنه يكون مرشحها للرئاسة.

2- تحقيق كامل الفرصة للطاقات الحقيقية دون أي تأثير لوسائل الإعلام والدعاية، لأن العالم يحتاج إلى مراحل طويلة من الإعداد والتأهيل العلمي في البداية، ثم لإثبات القدرة القيادية، ومن خلال هذه المراحل تكون جموع الأمة قد اطلعت على خصائص كل عالم، لتختار من بين هؤلاء العلماء من تقلده، ومن هنا تنفتح فرص التنافس العلمي وكذلك تبرز المهارات القيادية.

3- وفي المرحلة اللاحقة يتم اختيار المرجع الأعلى بين العلماء ومقلدي الأمة، وبهذه الطريقة التي تجمع مزايا النظام الديمقراطي وتحقق الشورى الإسلامية بالإضافة إلى تخلصها من عيوب الديمقراطية التي من أبرزها ممارسة تضليل الجماهير بواسطة الإعلام والدعاية نكون قد وصلنا إلى نظام غاية في الكمال هو نظام شورى الفقهاء(10).

الهـــوامـــش:

(1) لسان العرب: ابن منظور باب الشين باب (شرع).

(2) الموسوعة السياسية: د. عبد الوهاب الكيالي -ج3- حرف الشين - كلمة شرعية ص451.

(3) تصنيف نهج البلاغة: لبيب بيضون، ط2 ص454 مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي (إيران) 8- 14هـ.

(4) الكامل: ابن الأثيرج3 ص193.

(5) نهج البلاغة: الشيخ محمد عبده، الخطبة الثانية.

(6) المصدر نفسه: الخطبة الثالثة.

(7) تصنيف نهج البلاغة (مصدر سابق ص423).

(8) نهج البلاغة: الشيخ محمد عبده، الخطبة الثالثة.

(9) تصنيف نهج البلاغة: مصدر سابق ص433.

(10) راجع كتاب (شورى الفقهاء) للسيد مرتضى الشيرازي.