مجلة النبأ - العدد61

 

 

 

الشهيد السيد حسن الشيرازي شاعراً

إبراهيم جواد

  ● مدخـــل: 

لا وقت لديه يضيعه في المجاملات والتحيات، يكفيك منه بشاشة وجه وحرارة استقبال.

فإذا اطمأننت جالساً بين يديه، بادرك بحكمة بليغة يفتتح بها مجلسه معك، ثم يتدفق حديثه إليك حلواً طلياً جذاباً ممتعاً، وتسأل نفسك مذهولاً: كيف قدّر أن هذا الموضوع بالذات هو ما كنت أحتاجه منه؟ وتسترق نظرة إلى وجهه المشرق المعبر، وتعلم عندئذ أنها فراسة المؤمن.. فالمؤمن ينظر بنور الله.

وما أن يتوقف عن الكلام، حتى تشعر أن الشحنة التي تلقيتها من سماحته مناسبة وكافية، وأنك لا تطيق حالياً أكثر مما أعطاك، وإذن فقد حان موعد الانصراف، فتقف مستأذناً بالانصراف، ويقوم معك، يشيعك بمثل ما استقبلك به؛ بشاشة وجه، وحرارة وداع، ورغبة شديدة بالعودة إليه وتكرار زيارته.

فإذا عدت إليه ثانية، استقبلك باسمك، وسألك عن وردك، ولم يعاتبك على بطء استجابتك، وزادك من طاقته طاقة جديدة، ولم يكرر شيئاً مما سبق أن زودك به، وبسطه أمام سمعك وبصرك.

ذلك هو الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي رضوان الله عليه، الذي التقيته قبل استشهاده مرتين أو ثلاثاً، وجهني خلالها إلى العمل المثمر، وزرع في قلبي الأمل المحيي.

كان الشهيد ينتقل بين بيروت ودمشق، عالماً عاملاً، يزرع ويرعى زرعه، ويتعهده وينميه، يزرع الشباب المؤمن ويبني لهم حصون العلم والتقوى، ويؤسس لغد مشرق.

أسس في بيروت مكتب جماعة العلماء وترأسه، وهَمٌّ رئيسٌ يمور في قلبه ووجدانه، هو إقامة الحكم الإسلامي في العراق كمنطلق للدولة الإسلامية الحديثة الكبرى، كما هو شأن معاصره الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر، لكن أيادي الغدر والإجرام بادرت إلى قصقصة الجناحين القويين، واغتيال الركنين العظيمين لتلك الثورة الفتية المباركة، الصدر ثم الشيرازي. وبذلك فقدنا عالمين عاملين، ومرجعين ثائرين..

وفيما يتعلق بالشهيد الشيرازي فقد خلف وراءه إرثاً علمياً وفكرياً وأدبياً ضخماً، لم يأخذ حقه من الدراسة والاعتناء، ورغم أن الجانب الأدبي ليس أهم جوانب شخصية الشهيد، فإن اهتمامي بشعره يعود إلى سببين اثنين: أولهما أنني قد أستطيع أن أقدم فائدة ما في هذا الجانب، والثاني أن هذا الجانب يكاد يكون مجهولاً لدى الناس، فشعر الشهيد غير منتشر، ومجموعاته الشعرية نادرة الوجود وأغلبها لم يطبع بعد، فوجدت من الخير والوفاء للشهيد تجلية هذا الجانب من جوانب شخصيته الفذة في الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاده، متوجاً بأجمل إكليل من الغار والمجد حياته الجهادية الطويلة، في مقارعة الطغيان والاستبداد، والانحراف والفساد.

  ● موضـــوع الدراســـة: 

في هذه العجالة سأتناول جانباً من جوانب شخصيته الفذة، سأتحدث عن الشهيد شاعراً تجسدت في شعره نظريات: الحداثة في الأدب، الالتزام في الأدب، الأدب الإسلامي. وتميز شعره بالواقعية، والسلاسة، والصدق؛ فكان بحق الشاعر الواقعي الذي يعبر عن واقع الأمة ومعاناتها، ودائها ودوائها، وآلامها وآمالها، واحتياجاتها بكل صدق وأمانة، وقوة وجرأة، وبأسلوب جذاب سلس كأنه السهل الممتنع.

كان ينظر إلى ماضي الأمة على أنه التراث الضخم، الزاخر بالكنوز والدفائن الثمينة؛ فهو السفر الذي يعج بالدروس والعبر، وهو الفكر(الركن) الذي إليه يكون الاستناد، وعليه ينبغي الاعتماد، ومنه يكون الانبثاق والانطلاق إلى الحاضر.

وكان ينظر إلى المستقبل بعين الطموح، ونصب معراج الارتقاء والصعود في سلم المجد، لا لشخصه، وإنما لدينه وأمته، وأخوته في أرجاء العالم الإسلامي، بل وللإنسانية جمعاء في كل أنحاء المعمورة.

وقع في يدي من شعره تسع مجموعات صغيرة(1)، ست منها طبعت في عام 1985، دون أن يعرف أي منها قبل الأخرى، وهي بدون ترتيب:

1- منابع الكلمة. 2- جذور الشرق. 3- الطغاة. 4- رسالة الصاروخ. 5- أنا عندي. 6- قلت اعمل.

أما الثلاث الأخرى فقد طبعت في عام 1999 وهي:

1- قصة البدء 2- يا طموحي 3- أنت المظفر.

ولا توجد أي إشارة في هذه المجموعات إلى تاريخ نظم كل قصيدة، وبذلك فقد فوت على النقاد، ودارسي الشعر أن يحصروا مراحل تطوره الشعري.

من المفيد أن أوضح بادئ ذي بَدْء أنني لست ناقداً، كما أنني في هذه العجالة لن أقدم دراسة كاملة عن جميع جوانب شعر الشهيد الشيرازي(قدس سره)، وإنما سأقوم بسياحة سريعة في هذا الشعر الجميل الذي ينطلق من عفوية مطلقة، نابعة من علم غزير، وجهاد متواصل حتى الشهادة، بأسلوب سهل ممتنع، يسيل رقة وعذوبة طوراً، ويمور بثورة عاصفة طوراً آخر، عارضاً بعض النماذج من شعره المبثوث في المجموعات التي ذكرت عناوينها، مع أو بدون تعليق.

  1) منـــابع الكلمـــة: 

ضمن مجموعة (منابع الكلمة) تسع قصائد قصيرة، تدور حول أهل بيت النبي (ع)، الذين هم بقية الله وعطيته ووصيته، وتأتي القصيدة الأولى(بقية الله) القصيرة جداً (أربعة أبيات)، وكأنها بمثابة تقديم للمجموعة التي ينطلق بعدها للدفاع عن أم النبي وأبيه وعمه في قبال من يروي بلا برهان ما يسيء إلى النبي(ص) وأقربائه، قائلاً بلسان حالهم:

فأبوه قد عبد المناةَ... وأُمُهُُ          ليست بآمنةٍ لدى الرحمان(2)
وضحاضحُ النيران تَلْهَمُ قمَّهُ          والنار في أقدامه(نعلان)

ثم يجيب مفنداً هذا المدَّعى:

أوَ أنت تذهب للجنان ووالد الـ          مختار والكـرار للنيران؟
فتنافُرُ الأضداد قاعدة فهل           نُسِخَتْ هنا فتناسخ الضدان؟
فمسلسلات الكفـر كيف تفاعلت          فأتت بنور الله في الأكوان؟
والله يعصم آل إبراهيم أن           يتلوثوا بعبادة الأوثان
ودعـــاءُ (واجنبني) أنا وبنيَّ من          أن نعـــــبد الأوثانَ خيرُ ضمانِ

وتحت عنوان (همس الإمام أمير المؤمنين) يصرخ بلسان حال أمير المؤمنين… قائلاً:

صُبّوا الجحيم عليَّ يا أعـــدائي           وارموا جرائمكم علـى أفيائي
وتمـــزقوا حقداً علــيَّ وَمَزِّقوا           أحشاء لَيْلِكُمُ بســيف دمائي
وتوحَّلوا في المعضلات وأوقدوا           مصـــباح ظلمِكُمُ بزيت فَنائي
وتراشفوا من أدمعي وتراشقـــوا          في أعظُمى وتقاسموا أشلائي

وفي لفتة - أظنها - غير مسبوقة يقول:

ثم افعلوا ما شئتُمُ فأنا هنا            في كل عِرْقٍ منكمُ أضوائي
لن تخلصوا مني فإني رأسُكُمْ          أنتم وأنتم كلكم أعضائي

ومن همسة الوصي الأول، إلى صرخة الولي الأخير، يقطع مئات الأعوام، ويتجاوز عشرات الأجيال، منذراً الطغاة والجاحدين والمستكبرين بسوء المصير ووخامة العاقبة:

سأعود فوق مناكب التيـــــــــار           وأُلَغِّمُ الأنوار بالإعصــــار
وسأترك الدنيا على رَهَج اللظى          رَهْواً يلوذ مَغُولُــــها بتتار

ويختم المجموعة ببيتين لطيفين، يحملان لفتة بارعة إلى حقيقة تلوح واضحة في عيون أناس، وتخبو غائمة في عيون آخرين:

ولسنا نرى فخراً - بذاك - لحيدرٍ           بل الكعبــــــة العلياء حلَّ بها الفخر
فإن فؤاد المرء مفخر صـــــدره          وليس افتخار القلب أن ضمه الصدر

ولعل في كلمة - بذاك - التي وردت في البيت الأول، دلالة على أن هذين البيتين جزء من قصيدة كاملة للشاعر الشهيد(قدس سره).

  2)  الطغــــاة : 

مجموعة قصائد ثورية، تمرد فيها على الطغاة، وأعلن الثورة عليهم حكاماً وأحزاباً ومنتفعين يدورون في فلكهم، وعانى من بغيهم وطغيانهم الكثير الكثير، وتمرد فيها على أوزان الخليل، وامتطى مركب التفعيلة ليخوض بها بحر الشعر الحديث، عدا القصيدة التي بها افتتحت المجموعة بعنوان(هوية) فهي من البحر الكامل، لكنها كتبت على طريقة الشعر الحديث مجاراة لبقية قصائد المجموعة:

شعري نفيرُ أشعةٍ سوداءِ

وتمزقاتُ مبادئٍ شمطاءِ

أنا لذة الحرمانِ

فوق قصائدي ترتاح ألف جهنمٍ خضراءِ

لا تقرئيني قبل أن تتعذبي

وتُراقصي الجلاّدَ كالأفياءِ

فأنا حروقٌ في الرياح تبددت

وبكل محرقةٍ هوى أشلائي

وسيعود الشهيد للحديث عن الشعر عامة وعن شعره خاصة في مجموعته(يا طموحي) في قصيدة (عراق البعث) التي لم يُخِلْ طولها النسبي بجمالها، ثورة عارمة على الشعارات الزائفة، ووصف دقيق لخيرات العراق وأحوال شعب العراق في ظل هذه الشعارات، وكعادته يفاجئك فوراً بالولوج إلى لب الموضوع دون تمهيدات ولا مقدمات:

الشعب الخائفُ

والحزب المتورط في النارْ

والجيش الجبار بقمقمه السحارْ

والوزراء الأسرى

ورئيس الجمهورية بالإيجارْ

هذا كل عراق البعثِ

وهذا ما يطلبه الاستعمار

- ويشكو من خنوع الجماهير واستسلامها لجلاديها:

يا هذا الجيل الطالع في حمأِ الغسلينْ

كم تكسرُ سيف الحقِّ

وتلثمُ أحذيةَ الجلادين؟

- ويصف درامية الوضع المحزن:

أصبحنا نحلم حتى بالزنجِ

ونهتف ألف نعم: حتى للتوابينْ

وننام على السِّجِّينْ

- ثم يتحسر على خيرات العراق:

أين البترول؟

وأين الغاز؟

وأين الكبريت؟

وأين الزرع؟

وأين الأثمار؟

لا شيءَ سوى الصحراءِ

يناور فيها الإعصارْ

لا شيء سوى غرف التعذيب

وأجهزة الاستخباراتِ

سوى أحواض أسيدٍ تفترس الثوارْ

» أمّمْنا شركات النفطِ

وأما النفط فقد أَمَّمَهُ الاستعمارْ

حررنا الأرض من الأشجارْ

أعطينا حق العاملِ والفلاح

من الرقصِ بذكرى تموزَ وآذارْ

وحَّدنا بالسوط فئاتِ الشعبِ

وأشركناها تحت أكاليل النارْ« .

أما (انهيار المرايا) فعنوان ينطوي على كثير من المفارقات والانعطافات الموجعة بل والانكسارات المفجعة:

كل شيء من حواليَّ حبيبٌ... ومريبْ

مثل موَّالٍ رتيبٍ... وغريبْ

مثل عصفورٍ رقيبْ

يا أساطيل البحار الناضبهْ

يا مواويل العروس التائبهْ

يا جماهير الكرات الغائبهْ

أين أفلاكُكِ في كفِّ الأثيرْ؟

أين زفَّاتُ الزئيرْ؟

ويحاول أن يستنهض بشعره الأرض للكفاح، مستنجداٍ بإمام العصر عجل الله فرجه الشريف:

يا إمام العصرِ.. يا سيف السماءْ

هَزْهِزِ الأرضَ.. فقد حمَّ القضاءْ

وتعصَّبْ بدماءِ الأبرياءِ الشهداءْ

ها.. فإن الأرضَ ضاقت والفضاءْ

ويقدم نفسه مثالاً ونموذجاً للثورة والكفاح والجهاد فيقول:

نفخةُ الصور بقايا نغمي

ودمٌ يحترق الأرض دمي

وفمٌ يختزل الجمر فمي

وشباً سالَ جحيماً قلمي

وكأنه كان على يقين من أن ثورته لن تُغتالَ إلا بالشهادة، وأن جهاده لن يتوقف إلا بريِّ الأرض بدمه الطهور، ولذلك يجلجل صوته بالنداء:

صرخةُ الحقِّ تنادي صرختي

وشهيدٌ مات صبراً قِبلتي

حربتي حقي وحقي حربتي

دولتي ديني وديني دولتي

والنبيون سرايا ثورتي!

ومن الصرخات التي يطلقها في ختام المجموعة، يصلك انفجار الجرح:

أيها الجرح انفجرْ

وتعمَّدْ بلهيبٍ مستعرْ

وابتلع طاغية النار... بسيلٍ منهمرْ

من جحيم البرعم الصاخب... في صمتٍ حَذِرْ

  3)  جـــذور الشــــرق : 

تعتبر هذه أكبر المجموعات المطبوعة، وقد ضمت تسع عشرة قصيدة، عبرت عن أحاسيس الشاعر وهمومه في كثير من المجالات، أهمها مجال الإنسان ومعاناته، وظلم بعضه بعضاً تحت أسماء شتى وشعارات متعددة، ففي قصيدته (علاقة الكون بالإنسان) الغنية بالعطاءات والحكم، يخاطب الإنسان:

ليست الأرض للكسالى سريــــراً           بل بساطاً على الرياح طحاها
ولمــــاذا هذي المعاناة بالشرِّ؟           ومــــــا يجتنيــــــــــه من تقواها
كلُّ هذي تجــــاربٌ توسِــــــعُ النفـ          سَ وتزكي القُـــــــوَى لمن زكاها
وتــــــــؤدي لنكســــــةٍ تتوالـــــى          في مهاوي الردى لمن دسَّاها

وبقدر ما كانت تستحوذ عليه إرادة الشهادة، وبقدر ما كان مصمماً على الكفاح والجهاد، ومقارعة الظلم والطغيان، كان يكبر في فكره معنى الموت، فلا يرى في نفسه أي خوف منه، أو تردد لتلبية ندائه، بل كان يطلبه واثقاً بمصيره بعده، كما هو واثق بالمصير إليه:

دعني أموت ففي الممات حياتي           دعني فخيــــــر للحياة مماتي
فالموت أروع قفزةٍ ثوريــــــةٍ          نحو الكمــــــال وأعمقِ اللّذّاتِ

وكم كانت له من لفتات بارعة، وتأملات عميقة، كهذه التي قدمها تحت عنوان (صراع الجاذبيات) نقتطف منها:

يا ظلام الصبح في ليلٍ بهيمْ

يا شعاع الليل في صبحٍ بسيمْ

حرِّر الأرقام من نوم النديمْ

وانبس الحرف عن السِّرِّ العظيمْ

واخطف النجم من الرَّجْمِ الأثيمْ

إلى أن يقول:

يبسَ الفجرُ على فكرِ عليمْ

فِعُلوم الأرض ويلاتُ حليمْ

والمجرات قصاصات رقيمْ

وشموس الكون ذرات حطيمْ

إن حسّه المرهف، وملاحظته الشديدة، لتلتقطان كل ما يجري في الواقع من حوله، فيجرد شعره حساماً في مدافعة الشعارات البراقة، ومواجهته الدعوات المزيفة الكاذبة، التي انطلقت في عصره، ومنها حرية المرأة فيخاطب بشعره السيدة المخدوعة بهذه الشعارات والدعوات:

أفيقي من السكرة الغادرهْ           ولا تتبعي الفكرة الفاجرهْ
قذفتِ حجابَكِ خلف الدروبِ           ودستِ فضيلتكِ العاثرهْ
فيا نعجةً غازلتها الذئابُ          لتبقى لها طعمةً حاضرهْ

  4)  قصيدة أو مجموعة (أنا عندي) :  

تكاد تكون مجموعة خواطر أو مجموعة قصص تصب في مجرى واحد، ويجمعها جميعاً عنوان(أنا عندي) و(أنا) هنا إنما تعني الإسلام، الذي يمتلك كل الحلول، وجميع أنواع العلاج، لكل مشاكل وأمراض الإنسان، فالحاكم الذي جمّد ناظريه على كرسي الحكم، واشترى من أجل ذلك أصوات الناس، بالمال والخداع والوعود الكاذبة، ثم ساقه فشله في النهاية إلى الأسر واليأس، يقول له الشاعر الشهيد (قدس سره) على لسان الإسلام:

يا هذا تعال

لا تخَبَّطْ في المحال

أنا عندي... كلُّ ما تبغيه عندي!

كلُّ ما تبغيه من مجدٍ وسعدِ

أنا عندي

والتاجر المهاجر في أحلامه المذهبة لجمع المال الحرام، والسارق يستقصي المدينة ويتصدى لاختطاف الطائرات ونهب البنوك، والراهب الماضي إلى الدير بآمال الطغاة، قانطاً بالوهم ويقتات النواة، هامساً تحت ركام الخوف هل لي من نجاة؟ كل هؤلاء.. يقول لهم الإسلام: أنا عندي ما تريد.. آمن بي واتبع نهجي تسعد في الدنيا، وتجد ما تبتغيه وتسعى إليه نعيماً في الآخرة.. أنا عندي كل ما تبغونه من عز ومجد وسعادة.. فقط آمنوا بالآخرة (نعيمها وجحيمها) وتجنبوا اقتراف هذه الموبقات، واحذروا التورط في هذه المنكرات وسواها مما يتورط فيه الكثير الكثير من الناس غفلةً وجهلاً أو طغياناً وكفراً.

  5)  رســـالـــة الصـــاروخ :  

وأما (رسالة الصاروخ) التي ألقيت في الكويت عام النكسة.. نكسة حزيران عام (1967م)، فيسجل فيها الشاعر الشهيد لمعاً من المجد الذي بناه لهذه الأمة نبيها محمد(ص) ، فعجزت الأمة عن البقاء طويلاً على عرش هذا المجد، ثم جاء وعد بلفور بقوافل اليهود إلى فلسطين، وسلموهم مفاتيح المسجد الأقصى، وتخاذل الحكام، وانهزمت الجيوش، واستسلمت الشعوب العربية والإسلامية لهذا الخطر الداهم، وسلمت رقاب أبنائها لجزار لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً،ثم حل عام (1967م):

فإذا النسورُ - بساعة الصفر- ارتمت           في الأرض نشوى بالشراب.. تعربد
واستسلمــــــت تلك الصواريــــــخ التي           تغـــــزو العدوَّ إذا أشــــار المرصد
والطائـــــرات الجاثمــــــات كأنهـــــا          للقصـــــف تُنْضــــَدُ لا لحــــربٍ تُرْصَد

وحلت النكسة التاريخية المشهورة، ولكن بعض الحكام المهزومين حولوها بقدرة قادر إلى نصر عظيم، حينما تفتفت أذهانهم عن مبررات زائفة ووعود جديدة كاذبة:

فالاشتراكيون قد سَلِموا وقد          سَلِمَتْ مناصبهم، وهذا المقصد
وغداً نعود على العدوِّ بغارةٍ          شعواءَ يُكْوَى من لظاها الفرقد

ثم يختم القصيدة بما يعتبر بيت القصيد:

الحقُّ هذا اليوم طائرة وأسـ           طولٌ وشعبٌ ماردٌ متمرِّد
ورسالة الصاروخ خير رسالةٍ          لا ملحدٌ فيها ولا متردِّد

  6)  قلـــت اعمـــل: 

أما قصيدة (قلت اعمل) فهي حوارية لطيفة بين فلسفتين شائعتين بين جماهير شعبنا، فلسفة البكاء التي تميل إليها الجماهير مع بعض نخب المجتمع، وفلسفة العمل التي تنحاز إليها معظم النخب الثقافية مع بعض الجماهير الواعية، والشهيد - كواحد من وجوه النخبة - يتبناها ويدعو إليها:

قال لي: إبكِ على الأمجادْ

إبكِ هذي الأرض عاقتها البلادْ

إبكِ شعباً في مزادْ

إبكِ فجراً في رمادْ

إبكِ رأساً من سمادْ

إبكِ أفكاراً صديَّهْ

تُنْتَقَى من متحفِ التاريخ...

مثل المومياءِ الأثريهْ

إلى أن يقول:

إبكني.. إبك على نفسكَ

إبكِ الناس.. إبكِ الضعفاءْ

إبكِ حتى الأقوياءْ..

كلُّ شيء ضاع.. حتى الأرض - منا - والسماءْ

قلت: دعني للتحدي

لست أبكي

أنا لا تعرف آماقي البكاءْ

أنا لا أعرف ما معنى البكاءْ

أنا لا أعرفه إلا انهزاماً وانحناءْ

قلت: إِعْمَلْ

قَوْلِبِ الدنيا كما تهوى.. كما ترضى السماءْ

إننا مرضى.. فجئنا بالدواءْ

ليس يجدينا البكاءْ.

ثم بعد حوار رائع عن مبررات البكاء وجدواه، وضرورة العمل وثماره، يحاول الشهيد أن يصالح بين الفلسفتين، وأن يجمع بينهما في فلسفة واحدة، تعطي الأهمية والأولوية للعمل، وتترك حيزاً للبكاء، فيكون البكاء عن الماضي الذي فات، حافزاً للعمل الحاضر والمستقبل الذي هو آت:

أنا قد أبكي على الماضي

على ما فاتنا في مبتدانا

حيث يعلو عن مدانا

حيث لا أقدر فيه أن أؤثرْ

وعلى الحاضر والمقبل..لا أبكي

لأني إن تحدَّيتُ أُغَيِّرْ

- ثم يبين مقصده من عدم البكاء:

أنا لا أبكي... ولا تبكِ

ولا توصي سوانا بالبكاءْ

دعه في قلبك حقداً أسودا

ينذر الأوضاع والأشياء يوماً بفَناءْ

دعه شيطاناً على قلبك.. كابوساً على صدركِ

عفريت (نصيبينَ) يُرَوِّي دمكَ المجنونَ بالنارِ

كتيارٍ من الذَّرَّةِ في بحر من البترولِ ينمو..

ويعاني... ويثورْ

يتمادى... يتطورْ

فعساه يتفجَّرْ!

  7)  قصـــة البـــدء:  

يقول منسق مجموعات الشهيد الشعرية في مقدمة هذه المجموعة: إن الشهيد كان قد عزم على صنع ملحمة شعرية، تستجلي تفاصيل مراحل إبداع الكون والإنسان، وما يتعلق بهما من ملابسات وتطورات، إلا أن ثقل الأعباء الملقاة على عاتقه، تمكنت من صرفه عن مشروعه الضخم، فلم يخرج من هذا المشروع إلى النور سوى قصائد قليلة ومشتتة، ضمت إلى بعضها البعض، لتشكل هذه المجموعة التي تمثل آية في الإبداع الشعري.

ففي قصيدة (قصة البدء) يفلسف انبثاق الوجود عن الموجد:

كان نوراً في قبضة الله يجري           نقطةً أُرْصِدَتْ - بها - الأشياءُ
فإذا النقطة البداية طــــــــالت           ألفاً... ثم كان - منها - الباءُ
واحتوت جاذبيةُ النقطةِ الحــــر           فَ، فأجراه - في مداها - الولاءُ
فإذا الحرف صار دائـــــــرة الإيـ           جابِ... والسلبُ نقطةٌ صمَّاءُ
وبفعل الأرقام والأحرف والنقطةِ           والدائرات... كان الضياءُ
واستمر الضياء يجـــــري خيوطاً           وتلاقت خيتـــــوطها البيضاءُ
وتوالت تفاعلات خيــــــوط الـ           ضوء... حتى استبان - منها - الهباءُ
والهباءات واصلت رحلةً عَبْـ           رَ انفعالاتها.. فكان الماءُ
يومها كان عرش ربّك ماءً          وبفعل الضياء كان الهواءُ

ويتابع كيفية تشكل البحار والجاذبيات والأرض والسموات إلى أن تكامل بناء الكون، فيقول:

هكذا... هكذا... إلى أن تناهت قصة البدء... واستقام البناءُ

في القصيدة التالية يتحدث عن (كينونة الإنسان الأول) حديثاً طويلاً نقتطف منه:

اِحملي فكرة السنا يا سماءُ           كرةُ الأرض - بعدُ - ثلجٌ وماءُ
آدمٌ - بعدُ - ما احتواه البلاءُ           فهو - كالنور - صفحةٌ بيضاءُ
لم ينازعه - بعدُ - إغراءُ حوّا           ءَ.. ولم ترتطم به الأخطاءُ
صفوةُ اللهِ فيه كلُّ سجايا           ملكوتِ السماءِ... والأسماءُ
كعبة اللهِ فالسجود له تجـ          ربةٌ... مُيِّزَتْ بها الفرقاءُ

***

نفخ الله روحه في كيانٍ           أبجديّاتُه ترابٌ... وماءُ
ورآه إبليس فارتاع منه           هيكلاً... وهو طينةٌ جوفاءُ
وجرى في عروقه فإذا أجـ           هزةٌ... مجهريَّةٌ... صَمّاءُ

***

ورآه الأملاكُ، فاكتتموا السِّرَّ           وهم في التحفظات سِواءُ
كظموا قشعريرة الخوف من أن          يتعالى، فهزهم كبرياءُ
وتوالت تساؤلاتٌ غِضابٌ           واحتوتهم مشاعرٌ دكناءُ

***

وتهاوى الأملاك لله شكراً           أن أتتهم قيادةٌ غراءُ
غير إبليس كان من معدن الأر           ضِ.. وسارت على هواه القضاءُ
فأبى الاعتراف بالندِّ... بحثاً           عن مطبِّ له به إقصاءُ
قال: إني نارٌ... وهذا ترابٌ          وانهيار المعاولات جفاءُ
وتناسى أن الترابَ.. لباسٌ          وهو - من نور ربه - لألاءُ

ووصف عصيان آدم في الجنة بأنه:

تلك أولى تجارب الخلق تُروَى          عظةً.. لا لأنها نكراءُ
فلنا - كلَّ ساعةٍ - ألفُ ذنبٍ          في لَظاه الجحيمُ ثلجٌ وماءُ

ويقدم اعتذار آدم من ذنبه في صورة فلسفية منطقية مقبولة، ترتاح لها النفس ولا يرفضها العقل:

أنا ما صبوتُ.. ولا تصورت التصبِّي           فعلى عبير المكرُمات فرشتُ دربي
وزحمتُ أجواء التحدي في الصرا           عِ على الصلاحيات في وهج التنبي
من حيث عارضتِ الملائكةُ الخلا           فةَ واحتوى الشيطانَ سلبياتُ قربي
وقد اصطفاني اللهُ منطلِقَ القيا           دة، عبر كلُّ رسالةٍ.. ولكل حقب
واختارني - عبر التحدِّي - قِبْلَةَ الـ          ملأِ المقدَّسِ وامتلأتُ بروح ربي
نخبي ينابيعُ الرسالة.. والوِلا           يةِ فالشموس تشعُّ من قطرات نخبي
والعصمة الكبرى تسدِّدُ أبجديَّا           تِ المسيرة في مَداراتي وقطبي
وعلمتُ أن الله يعصمني ولا          يغتال بالإهمال في الصبوات حبي

ويختم المجموعة بقصة (هابيل وقابيل) نقتطف منها هذا الحوار بين الأخوين يفتتحه قابيل:

وأخي - يا أعزّ مني على نفـ          سي وخيرَ الإخوانِ.. والأخواتِ
رغم أني أراك لحن بطولا           تي ونهر الفولاذ في عضلاتي
سأواريك في التراب.. لذنبٍ           معه لا أطيق ستر شَكاتي
وهو أني أراك فوق مَدارا           تي... حويتَ الحياةَ بالمعجزات
ونقلتَ الجِنانَ - مما وراء الـ           عرش للأرض في رؤى الملكات
وفتحتَ السماءَ حتى فَتنتَ الـ             حُورَ.. تهفو إليكَ كالصلوات
ودعوتَ الشهابَ يرفع قربا           نَكَ، فانقضَّ نحوه كالبُزاة
وأنا.. ليس لي مجاراة سلطا           نِكَ إلا في عالم الأمنيات
وإذا كان قتلُكَ اليومَ مكرو           هاً.. ففيه مدى الحياة نجاتي
إنني إن أزحتكَ اليوم عن در           بي.. أشقُّ الطريقَ للنَّيِّراتِ
قال هابيل: يا شقيقي أراك الـ           يومَ تجتاز أسوءَ العقبات
فصعابُ الحياة تدفع للأعـ           لى.. وتُردي مصاعبُ الشهوات
وإذا انهارت الفضائل تبقى           صفحاتُ التاريخ مستنقعات
أحرفُ النور تنزوي فَتُغنِّي           أحرفُ النار رعشةَ الكلمات
وجهاد النفوس - بالعقل - أقسى          من جهاد الأعداءِ بالقاصفات

  8)  أنت المظـــفر: 

تضم قصائد ثلاثاً، لا يفصل الواحدة عن شقيقتيها سوى العنوان.. فهي في الحقيقة قصيدة واحدة حملت عناوين ثلاثة، أنت المظفر، أنت أكبر، كم تفكر، والمخاطب في هذه المجموعة هو الإنسان بشكل عام، والإنسان المسلم بشكل خاص، ينفخ الشهيد فيه روح الثورة والوقوف على قدم العمل، والتشمير عن ساعد الجد، لأنه الأكبر من كل الطغاة، والأكبر من كل المعوقات والعقبات، وما عليه إلا أن يستحضر في روحه وعلى لسانه وجوارحه إرادة النصر والظفر ليظفر بالنصر، هل تغني هذه التعليقات الباردة عن الشعر الدافىء الثائر؟!‍ لا بد من مقتطفات متناثرة:

أنتَ.. يا أنتَ، تَفَجَّرْ

أنتَ.. يا أنتَ المظفرْ

فإلى مَ الفجر يغفو؟

وإلى مَ الليل يثأر؟‍

***

موجةٌ أنتَ... فإن لم تَكْسِرِ الأمواجَ تُكْسَرْ

منكَ قَدِّرْ كلَّ ما تهوى... مِنَ اللهِ يُقَدَّرْ

لا تَوَرَّعْ... ورعُ المظلومِ ذنبٌ ليس يُغْفَرْ

***

عد إلى نفسك... كن أنتَ

فلا شيءَ - من الإنسان - أكبرْ

***

فإذا كان من الذَّرَّةِ قد تُبْنَى مَجَرَّهْ

ومن البذرة سِدْرَهْ

ومن القطرةِ بحرهْ

أوَهل أنت من الذَّرَّةِ

والبذرةِ

والقطرةِ

أصغرْ؟‍!

***

مِمَّ تحذرْ؟

أين آماُلكَ.. هلاّ تتبلورْ؟

أين آلامُكَ... هلاّ تتفجَّرْ؟

أين إنسانُكَ... هل في ذاتك الإنسان يُقْبَرْ؟‍

جوهراً كنت.. فهل جوهرك الفرد تخثّرْ؟

وم‍َعينَ الماسِ قد كنتَ

فهل في ذاتك الماسُ تبخَّرْ؟‍!

  9)  يــــا طمــــــوحي: 

يقول السيد الشهيد (قدس) في القصيدة الأولى (هذا شعري) ضمن هذه الباقة الشعرية الرائعة:

شعري.. قدري.. أطرده كاللعناتْ

فيطاردني كالسُّلْطاتْ

ويورِّطُني في صَبَواتٍ.. فيجرُّ عليَّ الويلاتْ

أشكو منه كما أشكو من قلبي

وأحاول أن استغفر منه كما استغفر من ذنبي

فإذا بي في اللهب الأبيضْ

بين الكلمات المنغومةِ والأوزانْ

وأمامي ينتصب الشيطانْ

***

من قَبْلِ القَبْلِ.. وبَعْدَ البَعْدِ... وهذا اليومْ

سرٌّ مزروعٌ في جسمي مثلَ التومْ

ينفضني في نوم الصحو... وصحو النومْ

لا أعرفه.. لا يعرفني.. لكن لا يتركني للصحو.. ولا للنومْ

ويقول كلاماً أرفضهُ

وأحبُّ بأن يبقى محفوراً في قلبي

وأعاني منه.. وأرجو أن أنساه وأن ينساني.. فيكرِّسُ حُبِّي

وأورِّي عنه.. فينبت - كالصَّبّار - على دربي

وأضج إلى ربي

ليخلصني منه، فيعرض عني ربي

هذا قدري.. هذا شعري

وفي قصيدة أخرى عنوانها(عالم الشعر) يقول الشهيد:

قال: دعني للتمنِّي

لا تورِّطْ صبواتي

في مطبَّات الحياةِ

أنا حلمٌ.. أكره الواقعَ... فالواقع مضني

أنا شعري... وشعوري غير فكري

فبساط الريحِ - في عالمي السحريِّ - يجري طوعَ أمري

فتمسّكْ أنت بالواقعِ... واتركني لشعري

وفي قصيدة ثالثة بعنوان (الشعر) يقول:

الشعر زلَّتي الكبرى... نُكِبْتُ بها           وأحرقتني لُهوفُ الحرفِ والرَّقم
شرٌّ من القيح... يهتاج الحكيم به           حتى يُشَوِّهَ إيجابيَّةَ الحِكَم
كالسحر... والرمل... والتسخير ما انتشرت          إلا لتُطْوَى حضاراتٌ على أمم
وربما السِّرُّ أن الكونَ منتظمٌ          والشعر يوحي بكونٍ غيرِ منتظَم

ويصف في قصيدة رابعة الشعر بقوله:

الشعر دمعة طفلةٍ خرساءِ           أو ثورةٌ يبست على الشهداءِ
ودمٌ ترقرق في الملاحم فكرةً           تطوي القرون بنبضة الإيماءِ
وحرارة الإيمان تبعث في المدى           وهجاً... وتبرد غُلَّةَ الرمضاءِ
ويُفَجِّرُ الجسمَ الكثيفَ ويطلق الـ          فكرَ الشفيفَ لعالم الأسماءِ

هذا من شعره، أما عن نفسه، فتحت عنوان(ليتني) يقول:

ليتني لم أتخلق في جَسَدْ          ليتني لم أتورَّط في كَبَدْ
ليتني لم أتعرف من (أنا)          ليتني لم أتميز من (أحد)

الهـــوامـــش:

(1) ولا تزال هناك قصائد أخرى طبعت أو هي قيد الطبع في مجموعات، كما أن هناك وعداً بصدور هذه المجموعات في ديوان واحد تحت عنوان(ديوان الشهيد الشيرازي).

(2) المفارقة العجيبة أن أبا النبي اسمه عبد الله فكيف أصبح عبداً لمناة؟ وأن أمه اسمها(آمنة) فجعلها هذا الراوي الكاذب غير آمنة، قلباً للحقائق إرضاء للحكام.