مجلة النبأ - العدد61

 

 المثقف المسلم

 بين منطق القلق الكوني والإرهاب الاجتماعي

 والوصاية المفروضة

غالب الشابندر

ينتصر الفكر الديني - بشكل عام - لمقولته الرئيسية - أي الإيمان بالله - بحجج ذرائعية تتصل بحاجات الإنسان الجوهرية، ذات المساس بتكوينه النفسي والفطري؛ فالإيمان ليس قضية مشروعة لأنها ممكنة، بل هو ضرورة حياتية من أجل الحياة، بل من أجل الإنسان نفسه، فالإيمان بالله عز وجل يجلب الطمأنينة إلى النفس البشرية، ويخلصها من القلق، هذا المرض الذي استشرى خطره في العالم، والذي لم تنفع معه كل العقاقير الطبية؛ فالإيمان يوفر الاستقرار، ويعزز الواقعية في التعاطي مع كل ما يحصل، وما يمكن أن يحصل في هذه الدنيا؛ وبناءاً على هذه المقتربات برز اتجاه جديد في مجال علم اللاهوت المسيحي يرفض مبدأ الاستدلال العقلي على القضية الدينية، ويركز على مهمة جديدة يعتبرها جوهر علم العقيدة، فإن المهمة الأساسية التي يضطلع بها علم العقيدة هو عرض الدين وليس إثباته، توضيح العقيدة ببيان مفرداتها ومتبنياتها وآثارها وفائدتها، وليس جرد الأدلة والبراهين والشواهد على صدق هذه العقيدة بكل آفاقها المذكورة، وهذا هو الدرس الذي نستفيده من سير الأنبياء (ع) عبر تاريخهم الطويل الحافل بأروع صور النضال، فهذا الرعيل المؤمن كان في مجال العرض، تماماً كأي صاحب سلعة، بيد أن السلعة النبوية تتميز بهويتها الروحية، ويضيف هذا الاتجاه، أن الله ذاته إنما يطرح وجوده ليس من منطلق القضية العلمية، بل من منطلق الرحمة بهذا الإنسان، كي لا يتعذب؛ إنه جل وعلا الملاذ الأخير لهذا المخلوق، ينقذه من عذابه وشقوته، حيث يعرض الله لهذا الإنسان طريق الخلاص، وفي عقيدتي أن هذا الاتجاه اللاهوتي الجديد حصيلة التطورات الهائلة التي أخذت تجتاح كل ميادين المعرفة البشرية، خاصة وأن قضية اليقين دخلت في ذمة التاريخ، فلم تعد المعرفة هي المطابقة مع الواقع، بل هي ما يتوصل إليه الجهد البشري بصرف النظر عن أي تقدير آخر، ولا أريد هنا أن أناقش مدى جدية هذا الفكر، فهذا شأن آخر، ولكن التركيز على دور الدين في هذه الأيام في مواجهة الضياع أو على موازاة التغيرات السريعة بمنسوب كوني يكاد أن يكون خيالياً.. أقول إن هذه الدعوى وبهذه الدرجة من التركيز لا تنفصل عن سيادة هذا الاتجاه اللاهوتي الجديد، ومن هنا أطرح السؤال التالي:

ما هي العلاقة بين الإيمان والقلق؟!.

ــــــــــــــــــــ( 1 )ــــــــــــــــــــ

أطرح هذا السؤال كمؤمن أولاً وباحث ثانياً، وانطلق في معالجة المسألة من انتماء خاص يتجسد برؤية إسلامية خاصة بي، ذلك أن فهم الإسلام وأي أيديولوجية مسألة شخصية، لأنه يخضع في التحليل الأخير إلى مجمل التكوين الفكري والروحي والاجتماعي للإنسان.

يشكل قوله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الإحالة الرسمية الجوهرية لإقرار علاقة مطلقة بين الإيمان والاطمئنان، وبالتالي فان الإيمان هو المعادل الموضوعي لانتفاء القلق والهم والغم، إنه يزيل الغموض ويرفع أسباب الحيرة؛ إذ لكل حدث في هذه الدنيا حكمة ظاهرة أو باطنة، إذا لم تظهر آثارها اليوم فغداً، وإذا لم ألمسها بيدي ألمسها بوجداني، وإذا لم تتبدى لي فذلك لحكمة أيضاً، ومن هنا تتضح طبيعة العلاقة بين الإيمان والقلق، إنها علاقة سلبية، علاقة تنافي، وهذا السلب لا يتجسد بمقولة التناقض المنطقي المعروفة في الفكر الأرسطي المدرسي، لأننا لا نتحدث عن مفاهيم منطقية وتصورات، بل عن سلوك له واقع خارجي يمكن أن يخضع للمراقبة والعيان والتحليل والنقد والتقويم، فالإيمان في نطاق هذه الفلسفة علاج لمرض محدد، ذلك هو القلق، إنه عقار، دواء ينصب على الحالة المذكورة فيخفف من خطرها أو يزيلها تماماً، فعلى الإنسان الذي يعاني من هذه الأزمة الخطيرة أن يفتح صدره للإيمان، فذلك كفيل باقتلاع جذور هذا الشر الوبيل.

هذا الطرح يتسم بالعمومية والضبابية العلمية، ذلك أن القلق من القضايا الكبرى في ميدان الفكر والسلوك، وقد دخل مضمار الدراسات النفسية والفنية والفلسفية، ولم يعد مفهوماً ساذجاً، وتحول إلى مقولة حية تتسم بالحيوية والثراء، ولم يجمد على المعنى اللغوي الضيق، حيث لا يخرج هذا المفهوم في عرف القاموس اللغوي عن حريم التضاد مع السكون، الأمر الذي يهبط بالمضمون الراقي في كثير من الأحيان لهذا المفهوم الشمولي، وحتى التعريف اللغوي على طريقة الرديف، قاصر عن المساس بأطراف القلق كما تتناوله الدراسات الحديثة.

القلق أكبر من ذلك الشعور بالضِيق الذي يصاحب الإخفاق بسبب عدم تحقيق الأماني ذات البعد الشخصي والطبيعة المحسوبة بمنطق الزمن القريب، ويستوعب الشعور بالألم ليتجاوزه إلى آفاق وجودية، تضع أمام الإنسان فرصة المغامرة الكبرى، أقصد مغامرة السؤال عن سر الحياة ولغز الموت، وعدم الرضا بالنصيب الوافر من الطموحات العَرضية وما يستتبعه من جزع وهلع... هذه المفردات مهما كانت حادة وملحة ومؤلمة، إنما تتواصل مع القلق على مستوى الفهم الساذج، وهو في كثير من الأحيان قلق نابع من الإحساس بالمخاطر، أو منغمس في قاع الكسب المادي، أو متعلق بأهداب التطلعات الهامشية، ولم يكن نابعاً من المسؤولية اتجاه الوجود، ذاك هو قلق الإنسان الذي استوعبته الحياة اليومية، فلم يسأل عن سبب هذا القَدَر الغريب، فيما النموذج الثاني ينبع من حدة المواجهة مع الكون بكل جبروته وروعته وتغيراته المذهلة، إنه قلق النبي العظيم إبراهيم الخليل، الذي قاده إلى تلك النتيجة الخلاقة، أقصد التصالح مع الحقيقة الكبرى، مع الله جل وعلا، لقد وقف إبراهيم متسائلاً عن السرّ الكامن وراء هذه التحولات الضخمة التي لا تقف عند حد ولا يوقفها حد، وكان يتعامل مع السؤال بروح متحركة وعقل متأمل، فوصل إلى الله بكل اطمئنان.

هذا القلق الناشئ من حدة المواجهة مع الوجود يجد حله بالإيمان؛ إذ هو جواب يضع بين يدي الإنسان فرصة التعايش مع الوجود على أساس التلقي، على أساس القبول، على أساس الحكمة، وبذلك يزرع الطمأنينة في أعماق المؤمن، هذه قضية تكاد تكون واضحة، سواء على صعيد التنظير أو الواقع السلوكي، ولكن هل هذا نهاية المطاف في خصوص العلاقة بين الإيمان والقلق ؟

إن الإيمان يحررنا من القلق (من الوجود..) لأن الحكمة هي الحامل الموضوعي لهذا العالم، أو هي ذات العالم، لكون الحق متجسداً فيه وفاقاً للرؤية القرآنية الكريمة؛ وضمن هذه المعطيات يسدل بعض المفكرين الستار على هذا السؤال الرائع، فيما نرى أن القضية أعمق من هذه المحاولة المتعجلة؛ لأن القلق لا يتعدى بحرف واحد، فكما أن هناك (قلق من..) هناك أيضاً (قلق على..)، والتصور السابق يغفل هذه الناحية بشكل مروع ؛ لأنه يختزل موضوعات القلق بلغة هروبية، بل إن هذا التصور لم يوفق لاستيعاب الإيمان على صعيد جوهره، وعندي أن إهمال هذا الجوهر هو الذي قاد إلى هذه النظرة الأحادية المبتسرة.

الإيمان بحكمة الوجود يحررنا من الشك بموضوعيته ومن الشك بجماله - ولو في الجملة-، ويوفر لنا مقولة الأُنس الكوني فكرياً وعملياً، وهو عزاء فعال لاستيعاب أي نازلة؛ لأن باطنها حكمة قد تكون غائبة، ولكن هذا الاطمئنان ينطوي على قلق عميق، قلق مسؤول، فان الإيمان بشيء يستدعي الحفاظ عليه، حمايته، الدفاع عنه، يزج صاحبه في نار المسؤولية، يواجهه علناً وسراً بالواجب، يلاحقه، يزاحمه، يسائله، وإلا فسيكشف الإيمان المذكور عن كذبة كبيرة، أو هو إيمان ساذج.. القلق على الوجود يكمل الثقة بالوجود، وبتعبير أكثر دقة، مراقبة الوجود والذب عن حريمه والعمل على تنميته والسهر على تطهيره من إضافات العابثين.. كل هذه المسؤوليات تترتب منطقياَ على الثقة به، وعلى الإيمان بالحقيقة الكامنة وراءه، وهي مسؤوليات تخلق قلقاً دائماً، وهذا يؤسس لنظرية عميقة في مفهوم وماهية الإيمان وعلاقته بالقلق، تتجاوز المحاولة التي تحصر العلاقة بمرتقب واحد، محسوب بطريقة ميكانيكية آلية.

هذا القلق مصدر خلق وإبداع، وهو يعبر عن إيمان مركب، في داخلة يتشابك اليقين والخوف، ليس في نطاق من الصراع الذي يؤدي إلى الحذف، وإنما إلى التكامل، فكلما ازداد المؤمن ثقة بحكمة الوجود، كلما تصاعد قلقه على مصير هذه الحكمة من عبث العابثين؛ إنه كتلة من قلق، وبالتالي هو كتلة من عطاء؛ وعليه فالمؤمن لا يعرف الهدوء البارد، لأنه يتناقض مع المسؤولية الحية التي تنبع منطقياً من الإيمان بحكمة الوجود، وأستطيع القول - حسب مقتضيات هذه المعادلة - إن القلق جزء عضوي من تكوين الإنسان المؤمن بشرط أن يكون إيماناً واعياً، تسبب عن قناعة عميقة بحكمة الوجود.

القلق في الفكر الديني السطحي والفكر الآخر الذي يقف على أعتاب المفاهيم يتخذ موقفاً رافضاً من القلق بشكل عام، لأنه رديف الخوف، وأحياناً هو المعادل المساوي للفزع، وربما هو عين الهلع، حيث يقود الإنسان إلى إلقاء ذاته بعمق الخطر من دون وعي، وكما قلت إن هذا القلق ناشئ عن الخوف من الوجود، من تقلباته، من ظواهره التي لا تبعث على الارتياح أو الثقة بالمستقبل، قلق ذو موضوع لا ينفذ إلى أعماق الذات، فيما نجد القرآن الكريم يحث على رعاية الوجود، ويثير في الذات المؤمنة الخوف على مسيرة الحياة، ومن هنا فإن الشر من منظور هذه الفلسفة ليس سلباً، وإنما هو واقع موضوعي يمكن أن يظهر في البر والبحر، يمكن أن يُرى ويُلمس، يمكن أن نستنتجه من علائم كثيرة، وهذا الشر الذي دعاه القرآن الكريم بـ(الفساد) يبعث على القلق، يثير في الذات المؤمنة موضوعاً جديداً للقلق، (قلق على..)، وهو قلق مشرق، فعال، يباركه الله ويفرح به الوجدان، ويؤيده العقل.

المثقف المسلم إنسان قلق من الطراز الرفيع، تغلي في داخله صيحة الوجود واستغاثة الإنسان، لا ينام الليل مرتاح البال، ولا يتناول طعامه هنيئاً، بل هو يعيش على جمر، ويتنفس العذاب ويرتاد المخاطر كي يضع حداً، وللحزن العميق وجوده الفاعل في داخل ضميره، مهما أبدى من رضا خارجي، ومهما ظهر مستقر الطالع، ذلك أن الحياة لم تبلغ مداها الذي أراده الله تعالى، وبالتالي فالحياة تعاني من قمع وقهر وقسر، الحياة مأسورة، ولابد من تحريرها، والمثقف المسلم يحمل هذا الهم، فكيف يستقر؟. إن هذا الاستقرار دليل الأنانية ودليل الذات المسكونة بذلها وتفاهتها، وعليه فإن المثقف المسلم من اكثر عباد الله تقلباً ذات اليمن وذات الشمال، يلاحق مفردات الدنيا بكل عناوينها ومجالاتها ليعرف ماذا حصل وكيف حصل وما هي النتيجة؟ ليس للتذوق والاستمتاع، بل كي يرى ويلمس مقدار الزيادة والنقصان في هذا الوجود حتى يعرف ماذا عليه من جديد، وأي حزن ينبغي عليه أن يرتاد مجاله؟.

المثقف المسلم، لأنه بهذه السعة من الوعي ولأنه يتمتع بضمير متوهج بالألم، يبدع ويخلق ويعطي، وبمقدار ما يعمل من أجل الإنسان، يقبل هذا الإنسان على ما هو عليه، ولكن من أجل التغيير، وإلا فإن الإنسان المسلم عاطل.

ــــــــــــــــــــ( 2 )ــــــــــــــــــــ

والحقيقة أن الإنسان المسلم إذا كان قلقاً على هذا الصعيد، فإنه مأزوم من ناحية أخرى، ذلك أن المجتمع الذي يعيش في كنفه يتعامل معه بجفاء وأحياناً بشك، وهذه الحالة أقسى وأنكى على قلبه وعقله، ولكن الذي يهون الخطب، إنه يعي جيداً أن مرد هذا الارتياب إلى اختناق الوعي الإنساني وانحساره وضيقه، فيتحمل كل هذا، وفي الحلق شجا وفي الضمير حرقة ومن ورائهما إشفاق حزين وألم سعيد.

المثقف المسلم يتعامل مع هذه الظاهرة من منطلق علمي دقيق، مؤداه الحقيقي: إن المجتمع المتخلف لا يتحمل الفكر العميق، وإنه سهل الانقياد للفكر الهابط، يسلس له أمره ويستسلم لآلياته بكل رضا واطمئنان، فهذا المجتمع يخاف التغيير، يريد أن يبقى نائماً، ذلك أن الفحوى البعيدة والمضمون الحقيقي لليقظة سؤال ومسائلة، جواب ونقد، تطلع واستشراف، وهذه محامل ثقيلة، تتطلب النهوض مبكراً والسهر ليلاً، تستوجب أن تكون مادة الحياة ما استجد وأُبدع، وليس ما كان وما صار وما جرى، بل في منطق العصر الحديث، وفي ضوء هذا التدفق السيال من الفكر والوقائع والأحداث، أصبح موضوع الفكر والحوار والدراسة إنما هو المستقبل، وفي الحقيقة هذا ما تؤكده النظرة القرآنية إلى الكون، فقد أثبت كاتب هذه السطور في دراسة مستقلة، أن الكون في كتاب الله العزيز، لا يعني أنه مجموعة أشياء، ولا هو مجموعة خصائص كالوزن والطعم والرائحة والثقل، ولا هو مجموعة وظائف. إن كل هذه المقتربات تترشح عن تعريف أعمق وأدق وأوسع، هو أن المكون سيل من الحوادث في نطاق من العلاقات؛ ولذا ففي كل لحظة، هناك كون جديد، وهذه اللحظة هي أقصى ما يمكن تصوره من زمن بسيط وخاطف ومحدود، وطبقاً لهذا المقياس فالكون حقيقية مستقبلية، فيما المجتمع الذي يستظل المثقف المسلم في رَحمته الجافة الصدئة، إنما يتعامل مع الكون وفق منطق المعادلة التكرارية، إنه يتذوق المكرور، وقد تحول المكرور إلى نظام تفكير وتقييم وحكم، هو الفيصل في كل شيء.

إن المثقف المسلم في خضم هذه الإشكالية المعقدة بين أمرين لا ثالث لهما في تصوري، إما أن ينطق أو يسكت، صحيح إنه سيحترق في الحال إذا نطق، ولكنه سيضيء في المستقبل، وهذا هو المهم، بل هذه هي الرسالة، والمثقف الذي لا يحترق في الحال لا يضيء في المستقبل... إن نظرية التأجيل هي المعادل الموضوعي للموت، إن الذي يأتي فيما بعد، لينطق بما هو زمانه لم يفعل إنجازاً عظيماً، إن الإنجاز الحقيقي هو الذي من شأنه الصدمة في الحاضر لتكون مألوفة في المستقبل.. ينبغي أن نفرق بين المثقف والسياسي، هناك فارق جوهري على العموم، إن المثقف لا يراعي الزمن، إنما يتجاوزه، يتخطاه، وليعش فقيراً، مذموماً، ليبقى على الهامش، يتحمل سوط الجلادين وبصقة المتطفلين ونكاية الأصدقاء، وربما حتى غربة الأهل والأقرباء.

هذا هو قدر المثقف، ومثله الأعلى الحبيب رسول الله (ص): (اللهم ارحم قومي فأنهم لا يعلمون).

كان يقولها من أعماقه النظيفة، وحجارتهم القاسية تدق عظامه وتمزق لحمه وتدمي جلده.

المثقف المسلم يدرك أنه ضحية، وعليه أن يقبل هذا المصير، أهل المال ينظرون إليه خائفين؛ لأنه يرفع شعار أمير المؤمنين (ع): (ليس هناك ثروة إلا وبجانبها حق مضيع«، أو تلك المقولة الجميلة لـ(إميل زولا) - كما أتخطر -: (وراء كل ثروة عظيمة جريمة عظيمة)، وأهل السطوة يحقدون عليه لأنه يؤمن أن الحكم لله وحده، والمتطفلون يتربصون به الفرص لينتقموا منه، لأنه حرب شعواء على التسكع وضد نظرية الوقت الضائع، واللاهثون وراء الجاه يحقدون عليه لأن هذا اللون من المثقف يدير ظهره للهوامش والمظاهر والزخارف، جوهري، ينفذ إلى ما وراء الحياة اليومية ليكشف عن جوهرها؛ لأنها منطق عميق، ينطوي على أسرار المستقبل، وليست هي تكرار، وإن بدت للكثيرين كذلك، وهو منبوذ من قبل محترفي (الكلمة الدينية)، فالدين في مفهوم المثقف المسلم مبادرة وعطاء وتضحية، (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة 177)، وهو مرفوض من قبل روّاد الكلام الفارغ والحديث المشغول بهموم العملات الصعبة، ومنسوب الربح، وقواعد المضاربة الشيطانية، وربح هذه السلعة أو تلك، ومراقبة أسعار المنافسين؛ فإن هذا المثقف يؤمن بقاعدة ذهبية هي أن الإنسان يعيش ليحيا، وليس يحيا ليعيش، وهذا النمط من الناس - وكثير منهم مسلمون بل يدعون الالتزام - ساوى بين الحياة وهذه المفردات التي يجب أن تكون من أجل الحياة، وليس هناك أشرف من العمل في منظور هذا المثقف، ولكن ينبغي أن نميز بين العمل والاستهلاك.

المثقف المسلم - إذن - يقاتل على أكثر من جبهة؛ إنه شعلة من نار، حزين، وحزنه ذو مذاق خاص لا يمكن في مثل هذه العجالة أن نفصل فيه.

ــــــــــــــــــــ( 3 )ــــــــــــــــــــ

على أن أزمة المثقف المسلم تبلغ ذروتها عندما يعدم فرصته في العطاء، خاصة عندما يتفرغ له محتكرو (الكلمة الدينية)! فإن هؤلاء يقمعون، يثيرون في داخله الخوف، يمشي وهو يتحسس كلمة (قف)!!، تلاحقه وتطوقه وتسبقه، فيصاب بالجزع بل بالهلع، وربما يقوده ذلك إلى مواقع التهلكة من دون أن يشعر؛ إن المثقف المسلم في حاجة إلى رعاية كرعاية الإمام الصادق (ع) إلى زرارة ومؤمن الطاق وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم.

إن احتكار الكلمة، وخاصة (الكلمة الدينية) يقود إلى اختصار الحياة بكل ما ترفل به من معانٍ عميقة وآفاق عريضة، والمثقف هو الضحية الأولى في مجتمع يسيطر عليه محتكرو الكلمة، لأن هؤلاء يقتلونه من الداخل، وإذا كان بإمكانه أن يصرخ في وجه الجاهل العادي، أو المغرر به، أو المحروم من نعمة الفكر، أو معبود السلعة، فإنه محروم من هذه (النعمة..) إذا سيطر قتلة الكلمة على المجتمع والحياة والموت، فإن هؤلاء يقتلون الضمير، يقمعون الحرية حتى على مستوى التأمل؛ الأمر الذي يجعل هذا المثقف محاصراً.. مقموعاً.. مختنقاً.. وقد يشطّ به هذا الظلم إلى أفكار شاذة وتصورات مقلوبة، ينقلب عنده المنطق، يخرج من دائرة المعقول تماماً، يدخل في عالم الهذيان، فإن الكلمة تضغط عليه، والقمع يمنعه، تتقاطع الخطوط وتتصالب الضغوط، فتنتج إنساناً معتوهاً، والمسؤولية تقع على عاتق محتكري الكلمة.

كان الإمام الصادق (ع) يستمع بكل حواسه إلى الزنادقة، لا يعنفهم، ولا يكفهر في وجوههم، يلقاهم بشراً مبتسماً، لأنه سلام الله عليه يعرف جيداً، أن الكلمة المقموعة تنمو في الداخل فتكون أشد وأقسى، وقد تنفجر وتتحول إلى بركان يهز الكون ويعبث في الحياة، كان سلام الله عليه رائعاً، لم يدع أنه صاحب الكلمة العليا، بل هو يعرض ويدعو، انه كأي حامل فكر في هذه الدنيا، من حقه أن يقول ولكن لم يحتكر الحقيقة في يوم من الأيام.

يقول تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (التوبة: 6). (استجارك: استأمنك من القتل، مأمنه: ديار قومه).

هذه الآية الشريفة تقطع الطريق على محتكر الكلمة مهما كانت منزلته وقيمته الإجتماعية والفكرية والدينية، واعتقد أن بلوغ المأمن هنا، ينطوي على تصميم حرية الكلمة، وإعلاء من شأن المغدور المظلوم، مهما كان جنسه؛ لأن القضية لا تتعلق بموضوعة الهوية بقدر ما تتعلق بقانون عميق، تتوقف عليه سلامة الوجود وتطهيره؛ ذلك هو الصراع الفكري (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... )؛ فالكلمة لها حيزها من الحياة، وهذا الحيز حق كوني أصيل، ومن هنا يكافح المثقف الأصيل وخاصة حامل لواء الدين العظيم.. يكافح - إلى حد الموت - عن شرف الكلمة؛ فإن من أسباب قلقه المرعب هو العبث بالوجود، وذلك نتيجة تقطيع اللسان، وقمع الشعور الداخلي، والتفريق القسري بين الأصابع الحرة حتى لا تكتب، وترميم المسافة الحرة بين الشفاه كي لا تنطق، وتشميع الآذان لتتعطل مهمة السمع، والضغط على العيون باتجاه يعاكس الرؤية؛ لتعدم الصلة مع أي مثير في هذه الحياة العريضة؛ فهذا المثقف يعي أن القرآن الكريم إنما يركز على الحواس لأنها المدخل الطبيعي إلى العالم، لأنها في خدمة الوعي، فيصاب بالجنون من كل محاولة تهدف إلى سد هذه النوافذ الجميلة، إنه يسعى إلى فتح هذه النوافذ، يحميها من الغبار، ويحول بينها وبين الظلام، إنه يكتشف نفسه من خلال نوافذ الآخرين بشرط أن تكون مشرعة، وهو يعارض تلك المحاولات التي تسعى إلى استشراف العالم من خلال ثقب صغير.

إن البصيرة مسبوقة بالبصر، والفهم مسبوق بالرصد، والخبرة مشروطة بالمباشرة، والتدبر مرهون بالمعاينة، والتفكر متوقف على المشاهدة، ولهذا يهيم المثقف والمسلم بشكل خاص بتنشيط الحواس.. إن الاستغراق بالتأمل الصرف محاولة شيطانية اخترعتها السياسة الغاشمة، وزينها حواريو فرعون وفرح بها دعاة الملهاة غير الناقدة، وكل هؤلاء مجرمون، لا يعترفون بأي قيمة للإنسان.

المثقف بشكل خاص على علاقة جوهرية بالسؤال، يحب هذا الكائن المشاغب؛ لأنه مفتاح المعرفة، ومن فرط حبه وتعلقه وهيامه بالسؤال، حوَّله في الأيام الأخيرة إلى علم، نعم هناك علم جديد اسمه علم السؤال، كيف يبدأ وكيف يطرح وما هي مواضيعه؟ علم راح يتشعب و يتأسس ويتبلور، وهذا دليل على أن حواريات الفكر تتفاعل وتتجدد، وان العقل مقبل على انتصارات جديدة، لعلها تحدث تغيرات أعمق في بنية الكون، لعلها تفتح الحواس على غائب كان متمرداً عليها، لعلها تغير موضوعات الإعجاب والدهشة، سوف تغير موضوعات الشعر والفلسفة والمنطق والقانون؛ إن هذا العلم إذا استوى على عرشه، وإذا تغذى من رحيق التجربة الشفافة وارتوى من شهيق الحرية الحار، هذا العلم سيلغي الهامش، أو يجعل الهامش لصالح الجوهري، سيعري الخدعة التي يهدف صاحبها إلى احتكار الكلمة، وبالتالي فإن المثقف المسلم من أشد المناصرين لعلم السؤال.

قال تعالى: (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس.. ).

إن السؤال في فكر المثقف المسلم ينبغي أن لا يستغرق جهداً في الفراغ، لا بد أن يكون موضوعياً، ينصب على شئ أو فائدة، قابل للبرهان والنقض، يحمل إمكانية الإجمال والتفصيل، يجيش بولادات لا تقف عند حدود، يثير، يحرك، يفتح آفاقا غير مطروقة، وكل هذا يصعق محتكري الكلمة وخاصة الكلمة الدينية، لأن هذا النمط الظلامي من الناس، يتحرك بين نعم ولا، بين الجلد والعظم، وطالما يطرح السؤال الغامض، أو السؤال الذي يلغي الجواب سلفاً، أو يطرح الموضوع الذي من شأنه إلهاء العقل بمعركة دائرية، وفي تاريخ الفكر الإسلامي نماذج مرعبة من هذه الأسئلة، ولعل منها قضية الصفات الإلهية وعلاقتها ببعضها البعض وبالذات المقدسة؛ كان سؤالاً مقصوداً، وإذا كان السؤال عن الله مشروعاً، لأننا في ساحته وعلى متنه، نستطيع أن نتحرك من المعلوم إلى المجهول، لأننا نستطيع أن نستلهم هذا الكون فنكتشف الدلالة، وإذا كان السؤال عن الصفات بشكل عام هو الآخر مشروعاً، لان كل مظاهر الوجود تقول إن خالقه رحمن رحيم عادل عظيم، فإن السؤال عن كنه الذات المقدسة، وماهية هذه الصفات، ونمط علاقتها بالذات، والقانون الذي يربط بينها.. مثل هذا الأسئلة مضيعة للزمن وهدر للطاقة، واستهانة بالعقل؛ إن الحديث في ذات الله لا وجه له؛ لأن العالم الخارجي لا ينقلنا إلى كنه الذات، فيما الحديث عن ذات الله قمة الوعي لأن الكون كله يسمح بمثل هذا الحديث اللذيذ، وطالما يطرحه الكتاب العزيز.. ومحتكرو الكلمة يورطون الناس بالأسئلة الخرافية، الأسئلة التي تطلق للعقل عنان الحركة في داخله،تحصره في نطاقه الخاص، تزجه في سياحة ذاتية، وهذه أقذر مؤامرة على العقل. إن حواريي فرعون يستبدلون الـ(في..) بحرف الـ(عن..)، وبذلك يدمرون العقل، وهذا الاستبدال ينطلي على الإنسان البسيط، ولكن المثقف المسلم يكتشف اللعبة.