مجلة النبأ - العدد61

 

من هدي المرجعية

 

 

 

الحرب حالة استثنائية في حياة الإنسان؛ حالها حال العملية الجراحية، وإلا فاللازم عند الخلاف تحكيم الحوار، ورضوخ من ليس له الحق للحق، وقد كان من مفاخر الأديان أنها تحكّم الكلمة؛ قال سبحانه وتعالى: (اقرأ)(1).

والحرب على قسمين:

1- حرب باطلين.

2- حرب حق وباطل، والحق لا يقدم على الحرب إلا دفاعاً، أو لأجل إحقاق الحق وإنقاذ المستضعفين، ولذا قال سبحانه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (2)، فهي أيضاً حرب دفاعية، وإن كانت تسمى بـ(الجهاد الابتدائي) واللازم أن يأخذ الصلح مكان السيف، أما ما ذهب إليه (دارون) وأتباعه في موضوع أصل (تنازع البقاء) و(بقاء الأصلح)، فذلك ما دل الدليل على خلافه، فهو مثل أن يقال بـ (أصل الجريمة) حيث لا يخلو مجتمع من الجريمة، وجاء بعده ماركس ليذهب إلى (حرب الطبقات) وقد قام الدليل على خلافه.

والحرب كما تقع في المجتمع الإنساني، تقع في بعض المجتمعات الحيوانية.. لكن الفرق بين الحربين:

1- إن حرب الحيوانات بدنية، بينما حرب الإنسان بدنية وغيرها.

2- الحيوان لا يستخدم آلات في حربه، بخلاف الإنسان.

3- حرب الحيوانات سريعة الانتهاء، بخلاف حرب الإنسان فإنها قد تطول مدة.

4- حرب الحيوان لا تتطور إلى غير الجراح والقتل، في حين حروب الإنسان تتطور إلى كلامية - وتسمى بالحرب الباردة - واقتصادية وغيرها، وإن كان تسميتها حروباً أشبه بالمجاز.

5- وأخيراً لا فداء لحرب الحيوان، بينما جعل الإنسان لحروبه أقساماً من الفداء.

الشعوب تكره الحروب:

وحيث أن الحرب هي خلاف طبيعة الإنسان؛ لأنها تفني الأفراد، وتهدم الديار، وتلتهم الأموال، وتبعث على الخوف والاضطراب، بل وأحياناً توجب هتك حرمات النساء وسبيهن، وإذلال المغلوب؛ فالأمم لا تريد الحروب، وإنما جماعة من الناس لها مصلحة في الحرب، فهي تشعلها، وغالباً ما تتجنب هي ويلاتها؛ إذ تقف خارج الميدان، بمختلف العناوين، وتدفع بالآخرين إلى الحرب..

ولذا كان سبب الحرب:

1- إما جلب النفع.

2- أو توهم جلبه.

3- أو دفع الضرر.

4- أو توهم دفعه.

نعم قلة من الحروب هي حروب التحرير؛ مما تندفع الأمم إليها، لأجل دفع المعتدي على العقيدة الصحيحة، أو على الاقتصاد أو على ما أشبه ذلك.. ودوافع الحروب، لم تختلف في الحال الحاضر عن دوافع الحروب عند الإنسان غير المتحضر؛ فقد كانوا سابقاً يحاربون لأجل الغنائم، أو لأجل إظهار الشجاعة، أو لأجل الخوف من الأعداء (وقاية) أو لأجل دفع الأعداء (علاجاً)، أو لأجل إرضاء الغرور.. فمثلاً: كان إنسان من عشيرة يهين شيخ عشيرة أخرى؛ فالشيخ هذا - إرضاءً لغروره - كان يلقي بعشيرته في الحرب ضد عشيرة المهين.. والجامع في كل ذلك، الأمور الأربعة المتقدمة.

وعلى ما ذكرنا فإن توهم أن الحرب من طبيعة الإنسان، مثل الجوع والعطش، توهم غير مدعوم بدليل، ولو كانت كذلك، للزم تحققها في فواصل زمنية خاصة، مثل سائر الغرائز الإنسانية، مع أن الأمر بالعكس.

الفوائد المزعومة للحرب:

كما أن توهم كون الحرب لها منافع بقدر ما لها من أضرار أو أكثر، غير تام، وإن استدل لذلك بأنها تنفع:

1- في توحيد الأقوام؛ إذ الطرفان يتعارفان بعد انتهاء الحرب، ويتوحدان أخيراً بعد أن يكتشف كل طرف نفسيات الطرف الآخر النظيفة.

2- وفي تقدم الفكر؛ حيث تتلاقح أفكار الطرفين، بما يوجب تقدم الفكر، فإن حال الفكر كحال البدن؛ في أن تلاقح البدنين يوجب تقدم النسل الإنساني.

3- وفي تقدم الصناعة؛ حيث أن حالة الحرب تفتق الكفاءات، من جهة أن كل طرف يفكر لإنجاح نفسه؛ وكثرة التفكير توجب ظهور الاكتشافات والاختراعات، مما ينفع الإنسان في حال السلم أكثر من ضرره في حالة الحرب.

4- في تقليل الناس؛ فتكون سبباً لتحسين حالة الذين يعيشون بعد الحرب، ورفاههم.

5- وأخيراً توجب تجديد المدن والقلاع وما أشبه؛ لبنائها من جديد، حيث يصيبها الخراب بواسطة الحرب، وكذلك تجديد الرياش والأثاث التي تلفت بسبب الحرب.

مناقشة:

وفي الكل نظر، إذ:

1- الأقوام إنما تتوحد بالثقافة المشتركة، لا بقتل بعضهم بعضاً، سواء غلب أحدهما الآخر، أو وقع بينهما صلح وهدنة؛ ولذا نرى أن الأقوام المختلفة، لما توحدت ثقافتها في ظل الإسلام توحدت، بينما الاختلاط والتعامل ونحوهما بين اليهود والمسلمين، لم يجعل منهم أمة واحدة، وإن بقي ذلك بينهم أكثر من ألف سنة.

2- وتلاقح الأفكار فرع وحدة الاتجاه، لا الحرب؛ فالحرب إن أتت بوحدة الاتجاه - أي إطلاع بعضهم على بعض - تلاقحت الأفكار، وإن لم تأتِ به، لم تتلاقح؛ فأيهما أصلح، التحارب حتى تتلاقح الأفكار أم توحد الاتجاه بدون حرب، حتى تتلاقح الأفكار؟ وتوحيد الاتجاه يحصل بانفتاح العلماء على أفكار الآخرين، وهذا ما حققه الإسلام؛ ولذا تجد في كتب الشيخ والعلاّمة وغيرهما، ذكر آراء الآخرين، وقبول الصالح منها، ورد غير الصالح؛ والحاصل أن التلاقح وإن حصل بالحرب - أحياناً - إلا أنه أسوأ قسمي التلاقح؛ فاللازم الأخذ بالحسن منهما لا بالسيئ.

3- وكذلك الحال بالنسبة لتقدم الصناعة؛ فتهيئة الأجواء الصالحة للعلم والعلماء، بصنع المختبرات وتشويق العلماء بالمال وأشكال التكريم والمنافسة ونحوها، تعطي نفس النتائج التي تعطيها الحرب، لكن بدون أضرار الحرب، فهل من التعقل أن يسير الإنسان في الطريق المعوج، وأمامه الطريق المستقيم؟!.

4- وتحسين حال الإنسان، يمكن بعدم صرف الثروة في الهدم والدمار.. وقد ذكر في تقرير أن الدول تصرف كل يوم مليار دولار في التسليح، فأي مال ضخم هذا الذي يصرف في الدمار؟ ولو صرف هذا المال في البناء، لما بقي جائع، ولا حاجة معطلة.. هذا مع صرف النظر عن أن كثيراً من الثروات تكدس أو تصرف إسرافاً وتبذيراً.

5- ولماذا نجدد المدن والقلاع، بالدمار؟! أليس من الأفضل أن نجددها بالثروة التي تصرف في الدمار والتكديس والإسراف؟ أليس مثل ذلك كمثل إنسان يجرح نفسه، ثم تجرى له عملية جراحية، فهل له أن يفرح بأن اللحم الجديد أنضر؟ في حين أنه كان من الممكن تحصيل النضارة بالعيش الحسن، دون أضرار وآلام!!.

الحرب.. أسبابها.. علاجها:

ثم أنه لا فرق بين الحروب الخارجية، والمنازعات الداخلية (ومنها الحروب الأهلية)؛ إذ كلها تنشأ من عدم تحكيم (الكلمة)، وعدم التحاكم إلى (المنطق)، ومنشأ عدم التحاكم إما الجهل أو الطمع.. فالجاهل لا يريد أن يسمع كلام الآخرين، أو أنه يسمع ولكنه لا يملك حاسة التمييز.. والطامع يعرف ويحرِّف، وقد أشار القرآن الكريم إلى كلا السببين، فقال بصدد الأول: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)(3)، وقال بصدد الثاني: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) (4)، وقال: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) (5).

وحيث أن علاج الجهل العلم، وعلاج الطمع نظافة النفس، والإنسان لا يستعد بسهولة للتعلم وتنظيف نفسه، فكان من اللازم على العقلاء والمصلحين ترسيم خريطة:

1- التوعية العامة تعليماً وتنظيفاً.

2- جعل الطامعين في قفص الاتهام، لكي لا يتمكنوا من التحرك؛ وذلك ممكن إذا وعى الشعب أن الباعث على الحرب أطماع قلة من المستكبرين في تحسين أوضاعهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

فإن وعى الشعب ذلك، لم يقدر أولئك القلة على إغرائه بالحرب، بذريعة مصالح الشعب، كما هي العادة في القلة؛ حيث أنهم يريدون منافعهم، لكنهم يظهرون أنهم يريدون منافع الشعب، وبذلك يتمكنون من تزييف الواقع والدفع بالشعب الغر إلى أتون الحرب.

بين حرب الاستغلال.. وحرب التحرير:

وعلى ما مر ذكره، فالحرب تنقسم إلى:

1- حرب التحرير.

2- حرب الاستغلال.

والهدف من الحربين متعارض؛ فالأولى لأجل إنقاذ الناس من الاستغلال، والثانية لأجل إدخال الناس في ربقة الاستغلال، وحيث أن الباطل يلبس ثوب الحق، وكل مشعل للحرب يدعي أنه يحارب لأجل التحرير، كان اللازم ملاحظة علائم الحرب التي تقع، هل هي علائم على هذه أم تلك؟ فإن الفارق بين الحربين أمران:

1- هل أن الأمة دخلت الحرب بملء إرادتها، أم أن الحرب فرضت عليها فرضاً؟ حيث أن الأمة لا تدخل طوعاً إلا في حرب التحرير، أما حرب الاستغلال فإنها تفرض على الأمة فرضاً.. ومن الممكن معرفة الأمرين بملاحظة أجواء الحرية وعدمها؛ فالحرب في أجواء الحرية لا تكون إلا حرباً تحريرية (سواء أكان تحريراً من مستغل متسلط، أو من مستغل يريد التسلط)، بخلاف الحرب في أجواء الكبت فإنها لا تكون إلا حرب استغلال.

2- عدم كون أصحاب المصالح (السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية أو غيرها) وراء الحرب، ولا الذين يريدون المصالح مستقبلاً (إذ قد لا يكون وراء الحرب أصحاب المصالح الحالية، وإنما يكون وراءها الذين يريدون المصالح مستقبلاً).

الحرب ظاهرة مرضية:

والحرب وإن كانت ظاهرة قديمة، بل قيل أنها مؤيدة من قبل القرآن الحكيم في الجملة، حيث قال سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (6)، بل قال البعض أنها مظهر من مظاهر (تنازع البقاء) الذي هو وصف طبيعي ملازم لجميع الكائنات الحية، لا ينفك عنها بحال، وإنه سنة من سنن الاجتماع البشري، إلا أن اللازم الحيلولة دون وقوعها؛ فإن المرض أيضاً ظاهرة بشرية قديمة، وكذلك سائر العوامل الطبيعية التي تؤذي الإنسان، لكن ذلك لا يجعل من الحرب أمراً لابد منه، فليست الحرب حقيقة أولية، وإنما هي ظاهرة ثانوية تقع بسبب شراسة بعض الأفراد.. ولذا قال جماعة من العلماء: إن الحرب في ذاتها قبيحة، لما فيها من قتل النفوس والتخريب والتدمير؛ وقد قال سبحانه وتعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. ) (7)، فإن الظاهر من هذه الآية أن القتال لو كان أمراً طبيعياً، لما قال سبحانه: (وهو كره لكم).

فالحرب ظاهرة اجتماعية تمليها الغرائز الفاسدة، وليست أمراً طبيعياً في البشر.. ولذا نجد رسول الله (ص) لم يقدم على حرب واحدة، وإنما كان (ص) يحارب دفاعاً عن النفس، بل كان (ص) لا يلجأ إلى الحرب الدفاعية أيضاً، إلا بعد فقدان الخيارات التي كانت عبارة عن الأمور التالية:

الحياد أولاً؛ كما حدث بين الرسول (ص) وبين الحبشة، فالحياد هو أول مراحل عدم اعتداء بعض على بعض، ثم بعد الحياد يأتي دور (العهد) أو (معاهدة عدم الاعتداء) - على الاصطلاح الحديث - كما عاهد الرسول (ص) في المدينة المنورة اليهود، وكما عاهد كفار مكة في صلح الحديبية، وبعد هذين الأمرين يأتي دور (الإسلام) فإذا أسلم الطرف الآخر، فقد حقن دمه، ولا عدوان إلا على الظالمين..

وإذا لم يكن الأمر حياداً ولا عهداً ولا إسلاماً، يأتي دور (الجزية) كما صنع الرسول(ص) مع نصارى نجران، فإن الجزية نوعان:

النوع الأول: جزية أهل الذمة الذين يعيشون تحت لواء الإسلام؛ فالجزية تؤخذ من الكفار، كما يؤخذ الخمس والزكاة من المسلمين.

النوع الثاني: ما يؤخذ من الكفار الذين ليسوا تحت لواء الإسلام، وإنما يؤخذ ذلك لأجل عناد أولئك، بعد ظهور الحق لهم، كما فعل (ص) مع نصارى نجران، حيث تباحث مع زعمائهم حول أحقية الإسلام، لكنهم أفحموا، ثم باهل معهم، لكنهم أحجموا؛ فأي شيء بعد هذين إلا العناد؟ والمعاند يلزم أن يخفف من غلواء عناده بما يرجعه إلى الحق تدريجياً.

حروب الرسول (ص) كانت دفاعية:

وإذا انقطعت كل هذه الوسائل والسبل، يأتي دور (الحروب الدفاعية)؛ ولذا اتصفت كل حروب رسول الله(ص) بصبغة الدفاع؛ فمثلاً كان أول اصطدام للمسلمين بقريش - حيث تعرضت (سرية) عبد الله بن جحش لقوافل قريش القادمة من الشام بقيادة أبي سفيان - رداً على اعتداء المشركين، حيث أنهم اعتدوا على رسول الله (ص) وأصحابه طيلة عشر سنوات، فقتلوا بعضاً منهم، وشردوا آخرين إلى الحبشة، وإلى المدينة وعذبوا جملة منهم، وهتكوا أعراضهم، كما في قصة سمية أم عمار، وصادروا دورهم وأموالهم في مكة المكرمة، ثم لم يكتفوا بذلك، حتى أتوا إلى القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورةِ، وأرشوا زعاماتها، ليمنعوا قوافل المسلمين من المرور في أراضيهم؛ أي أنهم ضربوا حصاراً اقتصادياً على المدينة المنورة؛ مما هدد المسلمين بالموت جوعاً.. ومن الواضح أن الحصار الاقتصادي الدفاعي من الوسائل المشروعة المستخدمة في الحروب؛ فالمسلمون أرادوا بهذه السرية وما تلاها (كغزوة بدر وما أشبه)، ضرب الحصار الاقتصادي حول أهل مكة المحاربين للرسول (ص) من باب المعاملة بالمثل.

أما بقية غزوات الرسول (ص) وحروبه وسراياه، فكانت إما لنقض العهد من قبل الطرف الآخر، كما فعله يهود بني قينقاع في المدينة، ومشركو قريش في نقض صلح الحديبية، وإما لردّ العدوان، كما في غزوة أحد والخندق، أو لشن حرب وقائية كما في قصة مؤتة، حيث أن الفرس والروم أخذوا في الاعتداء على الدولة الإسلامية؛ فقد أحيط الإسلام بأعداء من الفرس والروم، يريدون بالإسلام كل سوء، بحيث راحوا ينتهزون الفرص المواتية للانقضاض عليه، واجتثاث جذوره في عقر داره، وقتل الرسول(ص) وإبادة المسلمين، وقد شرعوا في ذلك بالفعل، فهرقل عظيم الروم قتل جماعة من ولاته أسلموا في بلاد الشام.. وكل ذلك أعطى للرسول (ص) الحق الشرعي والعرفي والقانوني في الدفاع.. وكذلك الفرس، فإن كسرى أمر واليه على اليمن بأن يرسل بعض جلاوزته إلى المدينة المنورة، ليأتوا برأس الرسول الأعظم(ص) إليه، لكن هؤلاء الجلاوزة رجعوا بخفي حنين، حيث رأوا التفاف المسلمين العظيم حول نبيهم(ص)، وحاجّهم الرسول (ص) في قصة مذكورة في التواريخ..

ثم إن الرسول (ص) كان يتحرى أقل قدر من القتل والأسر في حروبه، بما لا يذكر العالم مثله، لا قبل الإسلام ولا بعده؛ فقد ذكر أحد الكتاب أن جميع القتلى من الطرفين - المسلمين والمشركين - لم يتجاوز عددهم ألفاً وبضعة أشخاص، في كل الحروب التي خاضها الرسول(ص)، والتي بلغت أكثر من ثمانين حرباً.. وذكر كاتب آخر أن عدد الذين قتلوا في جميع الحروب، هو ألف وثمانية عشر شخصاً، وآخر قال: إن عدد الكفار والمسلمين الذين قتلوا في جميع الحروب لم يتجاوز الألف والأربعمائة، وليس هذا إلا لأجل احترام الإسلام للدماء وتجنبه القتل مهما أمكن.

فظاعة الحروب الحديثة:

هذا في حين نجد الأمر بالعكس في الحروب الحديثة؛ فأميركا قتلت بالقنبلة النووية ربع مليون إنسان في اليابان خلال ساعات، وأحرقت كل شيء.

ولما جاء البريطانيون إلى العراق، عاملوا الناس أسوأ معاملة، وكانوا يقتلون الجرحى، ولا يرحمون الأسير، ويخرجون الجثث من القبور طمعاً في الملابس!!.

وفي السودان كانت الجيوش البريطانية تقطع رؤوس المقتولين، وترسلها إلى لندن، ليتخذوا من الجماجم مطافئ سكائر، حقداً على المسلمين.

وفي ليبيا قتل الإيطاليون نصف الشعب الليبي الذي كان يبلغ المليون نسمة في ذلك اليوم، فقتلوا منهم نصف مليون إنسان بأبشع الصور، وكانوا يمثلون بالجثث، ويعذبون الأحياء تعذيباً بشعاً.

وكذلك صنع الفرنسيون بالجزائر ذات التسعة ملايين نسمة - آنذاك - حيث قتلوا منهم مليوناً ونصف مليون إنسان، وبعض الإحصاءات تقول أنهم قتلوا منهم مليونين، وكانوا يمثلون بالجثث، ويعذبون الأحياء تعذيباً قاسياً قل نظيره.

وفي الحرب بين الهند وباكستان قضى أكثر من ثلاثة ملايين إنسان نحبهم، جوعاً وتعذيباً وقتلاً، كما مات بعضهم بسبب انتشار الأوبئة.

والروس قتلوا من المسلمين في طاجيكستان وتركمنستان وغيرهما من البلاد الإسلامية التي استولوا عليها، خمسة ملايين مسلم، بمختلف أساليب القتل، من إحراق وغرق وتعذيب إلى حد الموت والرمي بالرصاص وغير ذلك.. وفي أفغانستان - أبان الاحتلال - قتلوا أكثر من مليون إنسان، وقد ملأوا سجونهم بالأبرياء وعذبوهم أبشع تعذيب، كما ارتكب الأميركيون مجازر رهيبة في فيتنام وغيرها، ذهب ضحيتها الملايين من البشر، وكانوا يعذبون الأحياء، ويحرقون المحاصيل الزراعية والمواشي.

وهكذا يرى العالم، في العصر الحديث أبشع أنواع القتل والتعذيب والامتهان لكرامة الإنسان.. ووقائع وأهوال الحربين العالميتين أشهر من أن تذكر.

نحو تعميم السلام في العالم:

من اللازم لأجل انتهاء الحرب في العالم وتعميم السلام، أن تبدل مصانع الأسلحة إلى مصانع للأغراض السلمية.. ولا يقال إن الأغراض الحربية توجب اشتغال ملايين العمال؛ إذ إن كثيراً من هؤلاء يمكن أن تستوعبهم المصانع التي تعمل للأغراض السلمية، كما يمكن وضع مناهج للإسكان والصحة، وغير ذلك.. فإذا فرض أنه بقي فائض من العمال، ليس لهم عمل، فلا يستلزم ذلك بطالتهم، لأنهم يشتغلون بالعلم والعبادة والأسفار، بعد توزيع العمل عليهم، وعلى غيرهم..

مثلاً: لنفرض وجود عشرة ملايين عامل، كل واحد منهم يشتغل ثماني ساعات يومياً في مختلف الشؤون الصناعية والزراعية، وخمسة ملايين منهم يشتغلون في صناعة السلاح، فهؤلاء إذا اشتغلوا في الأغراض السلمية، يبقى مليونان بلا عمل، لأن ثلاثة ملايين من الخمسة، تستوعبهم المشاريع السلمية، وفي هذه الحالة يوزع العمال على مجموع العشرة، وتخفض ساعات العمل؛ ففي المثال: بدل أن يشتغل كل عامل ثماني ساعات يعمل ست ساعات وخمس الساعة فقط، وفي الباقي - أي الساعة وثلاثة أخماس الساعة - يشتغلون في العلم، تعليماً وتعلماً وتجربة، وفي العبادة الموجبة لخير الدنيا والآخرة، وفي التنزه بالأسفار وغيرها..

وليس من الصحيح القول: إننا نصنع السلاح فنقتل الناس، لكي لا تكون بطالة!!.

فهو مثل أن تكون هنالك عائلة نصفها لا عمل له ونصفها الآخر يعمل، فنقول: إن النصف الذي لا عمل له، يشتغل بقتل النصف الآخر، كي لا يبقى عاطلاً؟!.

إن هذا المنطق لا يقبله عقل أو شرع، بل هو منطق الانحراف فحسب؛ فاللازم إذاً أن نوجد العمل السلمي للعاملين في مصانع الأسلحة، كما يلزم أن نوجد العمل للذين يعملون في المجالات العسكرية من الضباط والقواد، وأصحاب المراتب والجنود وغيرهم.. نعم تبقى قلة منهم لاحتمال الطوارئ، والآخرون إذا تدربوا فإنما يتدربون بقدر، ويكونون كجيش احتياطي لا كجيش متفرغ.. وعلى أي حال فاللازم حل مشكلة الحرب بهذه الصورة، أو بصورة أخرى.. هذا من ناحية السلاح كماً، أما من ناحية السلاح نوعاً، فاللازم تخفيف الأسلحة، يعني أن تكون هناك لجان - مثلاً - لتبديل الأسلحة المتطورة إلى الأسلحة الخفيفة، كالبندقية وما أشبه..

وهذا شيء ممكن، إذا تمكنا من التعبئة العامة لأجل السلام؛ فيبطل بذلك إنتاج الأسلحة، ويستخدم العمال في سائر الشؤون السلمية، وتحل الجيوش الكبيرة، وتدمر الأسلحة المعقدة لترجع إلى أسلحة خفيفة، وربما تنتهي الدنيا إلى سلاح السيف؛ فقد ورد في بعض الأحاديث المعنية بشأن الإمام المهدي (عج) أنه يحمل السيف، وفي بعض الروايات أنه سيف (ذو الفقار)، وهو السيف الذي استخدمه الإمام أمير المؤمنين (ع) في معارك الإسلام، وفي بعض الأحاديث أن هذا السيف نزل من السماء على رسول الله(ص) فأعطاه علياً (ع) وأصبح فيما بعد من جملة المواريث التي توارثها الأئمة (ع) حتى انتهى إلى الإمام المهدي(عج).

ولهذا ورد في الأحاديث الشريفة أن محور الحرب التي يخوضها الإمام المهدي (عج) وأصحابه، هو ما بين مكة والكوفة، وهذه مساحة قصيرة جداً، أما بقية البلاد فإنها سوف تنضوي تحت لوائه (عج) بدون حرب..

وإلى ذلك فإن حفظ السلام لا يمكن بمجرد الإعلام، ومنظمات السلام؛ لأن السلام ليس أمراً سطحياً، كما أن الحرب ليست أمراً سطحياً، بل اللازم قطع جذور الحرب حتى يسود السلام، وجذور الحرب هي (حرمان الإنسان) مما يوجب له الثورة ضد الطبقة التي حرمته، وأسباب الحرمان هي: الاستعمار والاستغلال والاستبداد في الحكم، أو في المال، أو في العلم.

فاللازم لمن يريد اجتثاث جذور الحرب أن يحول بين مثيري الحروب، وبين مآربهم، وذلك عبر إشاعة الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإن الوعي السياسي يوجب عدم استسلام الشعوب للديكتاتوريين، والوعي الاقتصادي يمنع تكدس الثروة بيد جماعة معينة كما أن الوعي الاجتماعي يوجب أن يعرف الإنسان التساوي في تحصيل فرص التعلم والحكم واكتساب المال.

معطيات السلام:

إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين، مهما كان لهم من الأعداء، وحتى إذا عثر بهم الزمان وسقطوا، فإن السقوط يكون وقتياً، فالمسلمون إذا أحاطوا أنفسهم بجو السلام، كفو أعداءهم أولاً، فلا يتمكنون من القضاء عليهم، وثانياً: إذا تمكن الأعداء منهم، فسيكون تمكنهم وقتياً.

ولذا نرى أن الأنبياء (ع) كانوا يجنحون - دائماً - إلى السلام، وهذا رسول الله (ص) كان يسالم أعداءه، حتى عندما كان في أعلى درجات قدرته، وحروب الرسول (ص) كانت دفاعية - كما قدمنا - ولم يبتدئ (ص) بالحرب، وكان إذا حارب اتصفت حربه بالسلام في أغلب شؤونها، إلا القدر المضطر إليه؛ ولذا تقدم الإسلام ذلك التقدم الهائل، وإلى اليوم لا زال في تقدم مطرد، وما من يوم إلا ويزداد فيه عدد المسلمين، رغم ما يواجهونه من الكيد والمكر..

وكذلك الإمام علي (ع) فإنه قد جنح إلى أكبر قدر من السلام، وهو لم يحارب أهل الجمل وإنما هم حاربوه، وبمجرد أن انتهت الحرب عامل الإمام (ع) البقية معاملة الأصدقاء والأخوة، وكأن شيئاً لم يكن، وهكذا حرب النهروان، فالخوارج هم الذين حاربوا الإمام وأشاعوا الدعايات، وواجهوه بالسب، حتى أن الإمام قال كلمة رائعة بالمناسبة - وردت في نهج البلاغة-، وكان حوله أصحابه، وكان هناك خارجي يسمع كلام الإمام (ع)، فعلق على كلامه بقوله: قاتله الله من كافر ما أفقهه(!!)، فأراد أصحاب الإمام علي (ع) تأديب الخارجي، فقال (ع): (دعوه فإنما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفو عن ذنب وأنا أولى بالعفو) (8)، يعني أنه سبني، فجاز أن أسبّه، أو أعفو عنه، لكني أولى بالثاني، وعفا عنه.

وقد تمكن الإمام (ع) أن يسيطر على حركة الخوارج التي كانت حركة انحرافية، بلينه ومرونته..

وهكذا كان الإمام (ع) يصبر على النقد، حتى النقد الظالم، وكان يصبر على الضغط، حتى إذا كان من قبل أناس منحرفين، لأنه كان يعرف أن السلام أحمد عاقبة وأن المسالم هو الذي يبقى، كما نرى ذلك بالفعل، حيث بقي الإمام (ع) منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وسيبقى على طول التاريخ عَلَماً هادياً، مهما تطورت الظروف.

ولكل ذلك نرى أن الإمام (ع) ظل كالطود الشامخ، رغم أن بني أمية ضغطوا عليه ولعنوه على سبعين ألف منبر، ما يقارب المئة سنة، ولكن ماذا كانت العاقبة؟ إن هؤلاء أساءوا إلى أنفسهم ولم يسيئوا إلى الإمام - إلا في الظاهر - وقد قال الإمام (ع) ذات مرة: (ما أحسنت إلى أحد ولم يسيء إليّ أحد) (9).

قيل: يا أمير المؤمنين، قد أحسنت كثيراً وأساءوا إليك كثيراً.

فقال (ع): (ألم تسمع قول الله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (10)، فإني أحسنت إلى نفسي بإحساني إلى غيري، والناس أساءوا إلى أنفسهم بإساءتهم إلي).

تشدد الإسلام في حقن الدماء:

لقد حرم الإسلام إراقة الدماء أشد التحريم؛ فقد قال سبحانه وتعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (11).

وعن أبي جعفر (ع) في تفسير الآية قال: (له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلا ذلك المقعد) (12).

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر (ع) قال في معنى قول الله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) قال: قلت: كأنما قتل الناس جميعاً فربما قتل واحداً؟!.

فقال (ع): (يوضع في موضع من جهنم إلى أن ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعاً لكان إنما يدخل ذلك المكان، قلت: فإنه قتل آخر، قال: يضاعف عليه) (13).

وعن أبي عبد الله (ع): (إن رسول الله (ص) حين قضى مناسكه في حجة الوداع.. إلى أن قال: أي يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا اليوم، قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا الشهر، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت؟. قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفاراً) (14).

وعن علي بن الحسين(ع) قال: قال رسول الله (ص): (لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت، قيل: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: النار) (15).

وعن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): (أول ما يحكم الله في يوم القيامة الدماء، فيوقف ابني آدم فيقضي بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء، حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك، حتى يأتي المقتول بقاتله فيستشخب في دمه وجهه، فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته؟.. فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً) (16).

المصـــادر:

(1) الصياغة الجديدة: آية الله العظمى الإمام السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(2) السبيل إلى إنهاض المسلمين: آية الله العظمى الإمام السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(3) موسوعة الفقه/ كتاب الاجتماع: ج110، آية الله السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(4) طريق النجاة: آية الله العظمى الإمام السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (دام ظله).

الهـــوامــش:

(1) العلق: 1.

(2) النساء: 75.

(3) البقرة: 78.

(4) النحل: 83.

(5) النمل: 14.

(6) البقرة: 251.

(7) البقرة: 216.

(8) نهج البلاغة: قصار الحكم، ص420.

(9) نهج البلاغة: الكتاب 47.

(10) الإسراء: 7.

(11) المائدة: 31.

(12) البرهان: ج1 ص463 ح2.

(13) البرهان: ج1 ص463 ح1.

(14) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص66 ب19 ح1.

(15) نفس المصدر: ج4 ص66 ب19 ح2.

(16) نفس المصدر: ج4 ص69 ب19 ح16.