النبأ

 

 

 

المرأة في منظور إسلامي

 

 

 

د. محمود عكام

هل تجد المرأة نفسها في الشريعة أم في القانون؟

هذا هو السؤال الكبير الذي يلح على مساحات الاستفهام في تفكيرنا، ويطغى عليها أحياناً، ولعله من مفترقات الطرق التي يقف عليها الإنسان ليحدد اختياره ويرسم مساره، أإلى الشريعة يلتجئ؟ أم إلى القانون يولي وجهه؟! هل الحل هناك؟ أم هنا؟ أعني هل الشريعة أقدر من القانون على استيعاب الإنسان وصفاً وتوظيفاً، أم العكس هو الصحيح؟!.

أسئلة تراودنا، وحيرة تمسك بعصمنا ولا تكاد تفارقنا، والمرأة لهذه الأسئلة أكثر تعرضاً، وهي في حيرتها أشد تأرجحاً، فالويلات التي عانت منها جداً كثيرة، والتجاذبات التي مستها وفيرة، وهي اليوم كالأمس، هذا يطالبها بالهمود، وآخر لا يريدها رهينة الجمود، وثالث يسعى ليباهي بها -عفواً بشكلها وصورتها فقط- القريب والبعيد، ورابع يناديها لتدخل في كل مجال وميدان فهو يأبى لها القعود، وخامس يمنيها بمستقبل يكون أفضل عليها من سالف العهود، وسادس يظلمها بتبرير يزعم أنه من بعض احتمالات دلالات نصوص ديننا المجيد، وسابع يغمرها بالروايات الموضوعة موهماً أنها -الروايات- الدين، وثامن وتاسع... ولا يكاد العد ينتهي.

والأمر كل الأمر جواب نسمعه منك أنت أيتها المرأة، فالفصل فيك لك، والحكم عليك لا يكون إلا منك، وما نحن في مثل هذه المقالات والكتابات إلا عارضون، فاختاري بنفسك لنفسك، ولراحتك براحتك، واعلمي معي أن الحياة اختيار قائم على اختيار، فالله اختارك للحياة، فاختاري نفسك لما اختارك له ربك، أي لحياة كريمة بها تسعدين وتسرين.

وها أنا ذا أقدم بين يديك ملامح الشريعة عنك، استوحيتها من كتاب الله وسنة رسول الله(ص)، فهل تسمحين؟ ولكن..

قبل الشروع... عقل يجب أن يتحرر:

لقد انعم خالقنا علينا بالعقل، وجعله أساساً في تكوين علاقتنا مع الله ذاته، ومع كل من سِواه ومن سوّاه، ولا بد لهذا العقل من أن يكون حراً حتى ينتج، وحرية العقل تعني انعتاقاً من عادات معادية، وعواطف جامحة ضارة، وأهواء ضاربة، وأثقال كونتها الاوهام، وأساطير نسجتها الخرافات والخيالات.

فإلى متى ستظل عقولنا مكبلة بأحكام الرواية الأسطورية، والأفكار المغلوطة، والسلطة المرعبة، والشهوة الغادرة، والنزوة الفاجرة؟!.

إلى متى سنظل نشكو من ضعف تفكيرنا، وقلة انتاجنا، وهزالة عطائنا، جراء لهاثنا وراء سراب غير ممحص، وفراغ لا يحوي حقيقة ولا يلم شعثاً؟

إلى متى سنظل نرفض الفعل ونتبنى ردة الفعل، ونعز الشكليات ونذل المضامين، ونخضع للصورة ونأبى الحقيقة؟.

إن أي قضية يجب التأكد قبل معالجتها من صحة وحرية وسيلة العلاج، التي هي العقل: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر) (الغاشية: 17-21).

أي: ليجربوا عقولهم، وليدربوها قبل سماع التذكير، وليحرروا تفكيرهم قبل تلقي التكليف.

ملامح يرسمها الإسلام:

1- الرجل والمرأة من أصل واحد ولا خلاف:

قال الله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) (النساء: 1).

وقال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (آل عمران: 195).

وقال رسول الله (ص): (إنما النساء شقائق الرجال) أخرجه أبو داود.

جبل كل منهما مما جبل منه الآخر، مكرمان بالتكليف، مجزيان بالثواب نفسه، ومعاقبان بذات العقاب، فلا والله ما فرق في أصلهما مفرق إلا دلل على عدم فهمهما، ومن لم يكن عارفاً بموضوع الحكم رفض حكمه، وفسد رأيه: (إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل) (الحجرات: 13).

2- المرأة شخصية مستقلة، فلا اندماج ولا اندراج:

هي كائن مستقل، وتشكل نداً للجنس الآخر ورديفاً، وكذلك الرجل بالنسبة لها، قال الله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات) (الأحزاب: 35).

والواو هنا عاطفة مغايرة، والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه تعني استقلالية كلٍّ، وكينونة متفردة لكلٍّ.

وقال تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين، وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين) (التحريم: 10-11).

وقال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97).

وقال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) (النساء: 124).

وهاكم وقائع في العصر الأول تدعم هذا الذي قلنا، فقد روى البخاري عن القاسم أن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار، فقالا: لا تخشين، فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة، فرد النبي(ص) ذلك.

ولعلّ من التأكيد على الاستقلالية حديثاً وارداً عن النبي(ص) يقول فيه الراوي: (لعن رسول الله(ص) المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)، أخرجه البخاري.

فلا اندماج ولا اندراج، ولا التحاق ولا تبعية عمياء، ولا تقليد يلغي تفرد الكينونة.

وهذه ميمونة بنت الحارث زوج النبي(ص) تخبر النبي(ص) أنها أعتقت وليدة ولم تستأذنه، فأقرها النبي(ص) على هذا، أخرجه البخاري.

3- المرأة تشارك وتساهم في الحياة الاجتماعية:

فهي الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، الداعية إلى خير المجتمع، والناقدة المصلحة، الوطنية ذات الغيرة، قال الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71).

وقد ورد أن عبد الملك بن مروان لعن خادمه لأنه أبطأ، فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، فقد سمعت رسول الله(ص) يقول: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) أخرجه مسلم.

والمرأة في الإسلام صانعة ثقافة، وقائمة على إدارة منتديات ورعايتها، ولا أدل على هذا من قصة يرويها الإمام مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: قال لي رسول الله(ص): (انتقلي إلى أم شريك). فقلت: سأفعل.

قال: (لا تفعلي إن أم شريك كثيرة الضيفان يأتيها المهاجرون الأولون)، وعندما يأتي المهاجرون الأولون فالساحة ساحة حوار وتدارس وتبادل وجهات نظر.

والمرأة عاملة في المجتمع الإسلامي، ناشطة، تتعلم المهنة وتمارسها، فقد روى جابر قائلاً: طُلقت خالتي، فأرادت أن تجُدّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي(ص) فقال: (بلى، جدّي نخلك، فإنك عسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفاً) أخرجه مسلم.

والمرأة في المنظور الإسلامي تزور وتزار، وتدعو وتدعى، وتهدي ويهدى اليها، وتعود وتعاد، ولا يمنعها من ممارسة كافة النشاطات الاجتماعية مانع، وهيهات ثم هيهات أن تدعى إلى الركون والهمود، وهي التي تقرأ في كتابها العظيم: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت: 69).

لا فرق في الدعوة والثواب بين ذكر وأنثى، وقد وردت في هذا الشأن واقعة ذات دلالة واضحة على هذا الذي ذكرنا، فقد جاء في صحيح مسلم أنه كان لرسول الله (ص) جار فارسي وكان طيب المرق، فصنع لرسول الله(ص) ثم جاء يدعوه، فقال النبي (ص): وهذه، يعني عائشة فقال: لا، فقال رسول الله (ص): لا فعاد يدعوه، فقال رسول الله (ص) وهذه، قال:لا، فقال رسول الله (ص): لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله (ص): وهذه، فقال: نعم، فقاما -أي رسول الله وعائشة- يتدافعان حتى أتيا منزله.

والمرأة معلمة ومثقفة وموجهة، وحسبي هنا أن أنقل لكم واقعة ذات دلالة في هذا الشأن، فقد قالت الشفاء بنت عبد الله: (دخل علينا النبي (ص) وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلِّمين هذه رُقية النملة كما علمتها الكتابة) أخرجه أحمد.

وأنا هنا مقتصر على حركة المرأة في العصر الأول عصر التشريع، ولو سعيت لذكر وقائع من عصور تالية لنفدت الصفحات وما نفدت الحوادث والوقائع.

لذا فالاقتصار على المثال الرائد هو ديدني في هذا المجال، ومن أراد التوسعة فليعد إلى خزائن الكتب ومجمعات الأسفار وروايات التاريخ في موسوعات الأخبار.

4- المرأة تشارك في النشاط السياسي فأنّى لكم منعها؟!:

ما كانت المرأة بمعزل عن السياسة وميدانها في منظور الإسلام، الملتزمة بتعاليمه، وأنّى لها الانعزال وهي التي تتلو وتسمع مثل قول الله جل شأنه: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً.. فبايعهن واستغفر لهن إن الله غفور رحيم) (الممتحنة: 12).

والبيعة والهجرة مصطلحان ذوا صلة بالسياسة، وعلاقة بالحياة العامة، أو ما يسمى بالقانون العام الشامل الدستوري والدولي.

وكذلك الجهاد فالرُّبيِّع بنت مُعوِّذ، وهي صحابية، تقول: (كنا نغزو مع النبي (ص) فنسقي القوم ونخدمهم، ونداوي الجرحى، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة) أخرجه البخاري.

وإذا كانت السياسة مسؤولية من نوع خاص، فالمرأة مسؤولة في منظور الإسلام مسؤولية عامة، لا فرق بين طبيعة مسؤوليتها وطبيعة مسؤولية الرجل، وقد قال رسول الله (ص): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أخرجه البخاري ومسلم.

لا فرق بين ذكر وأنثى في توجيه الخطاب، والخلاف في مسؤولية الناس عن بعضهم، واختلافهما، إنما يكون في الموضوع والمساحة.

لقد ضربت النساء الأوائل أصدق الأمثلة وأروعها في هذا الشأن، من خديجة التي رعت الرسالة والرسول (ص)، إلى فاطمة(ع) التي ساهمت في إغناء المواقف الرسالية في دنيا السياسة والعلاقات مع الحاكم، إلى عائشة التي ناقشت في الفروع والأصول، إلى أسماء، إلى رقية، إلى... وما أكثرهن.

ومن قبل بلقيس، وامرأة فرعون آسيا، فهل بعد هذا البيان من طلب لزيادة برهان على أن الإسلام أعطى المرأة رعاية الإنسان كل الإنسان؟!.

دعونا يا ناس إلا من دين أو مبدأ يكرم الإنسان، ولا فرق بين جنس وآخر في الحقوق والواجبات، وهذا هو، ورب الكعبة، عين الإسلام الذي ارتضاه الله لبوساً لهذا الكائن الأسمى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (المائدة:3).

5- المرأة ذات أهلية كاملة، ولا خلاف:

ما كانت الأنوثة في يوم من أيام الإسلام عارضاً من عوارض الأهلية، وحاشا، فالمرأة المسلمة كالرجل من حيث الحقوق والواجبات، قال تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مم اكتسبن) (النساء: 32).

ويقول جلّ شأنه، فيما يتعلق بحق المرأة في الميراث، وانها كالرجل: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) (النساء: 7).

ويأتي المهر نموذجاً لحق مكتسب للمرأة: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) (النساء:4).

ولا يجوز للرجل، أياً كان، اقتناص أي قدر ومقدار منه: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً) (النساء: 4).

وإلا لا يحل أبداً، أي إن لم يكن عن طيب نفس منها وإرادة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) (النساء: 19).

وقال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) (النساء: 19).

وتابع البيان الإلهي تأكيده هذا الحق للمرأة فقال: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) (النساء: 20).

ولعلّ من مظاهر أهلية المرأة واعتراف الإسلام بها حق اختيار الزوج: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضَوْا بينهم بالمعروف) (البقرة: 232).

وقد جاء في مسند الإمام أحمد أن جارية بكراً أتت الرسول (ص)، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله (ص).

ويغنينا عن تتبع جزئيات وأمثلة الحقوق المنبعثة من تمتع المرأة بالأهلية الكاملة أن نقف عند هذه الآية الكريمة الجامعة: (والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71).

أهلية المرأة للولاية العامة في منظور إسلامي:

لا بد من الإشارة أولاً إلى أن الإسلام دعا إلى التساوي في الحقوق والواجبات بين كل الناس ذكوراً وإناثاً، وهذا لا يعني التماثل والتطابق، وإنما يقصد منه رعاية الكفاءات وتقديرها وإعطاؤها حقها بغض النظر عن مصدرها.

وعلى سبيل المثال: حق العالم ليس هو ذاته حق الجاهل، وحق الغني لا يمكن ان يكون نفسه حق الفقير، وقد كان هذا الحق للعالم أو الغني بناء على (صفة) كفائية أو اقتدارية معينة، والقضية في (أمر الرعاية) محسومة لصالح الأكفأ في امتلاك مقومات ساحة ومجال وميدان هذه الرعاية، والناس سواء أمام هذا(1).

هب أن الزوج فقير، والزوجة غنية، فمن الذي يرعى مسؤولاً أمر الإنفاق؟ ومن الذي يتولى راغباً زمام الإنفاق؟!

الجواب: الزوجة الغنية.

وينسحب هذا على كل خلية اجتماعية صغيرة أو كبيرة، وهذا ما تفرزه الآية الكريمة: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة: 71).

ويبقى السؤال الأكبر ما تعلق بالولاية العامة، وهل هذه -أي الولاية العامة- خلية من جملة الخلايا التي أشرنا إليها آنفاً، أم إنها خارجة عن ذلك بقطعية سندية ودلالية معاً؟

أما الجواب: فينصب أولاً على نفي القطعية السندية والدلالية، الداعية إلى إخراج هذه المساحة، أو تلك الخلية كما أسميناها، عن نظيرتها من سائر الخلايا الاجتماعية والسياسية.

فللمرأة حق التصرف اقتصاداً واجتماعاً وسياسة، وبحسب امتلاكها للكفاءة المطلوبة لكل مجال، كالرجل، لا فرق بينهما في ذلك.

وللمرأة (الولاية) إذا امتلكت مقوماتها كما هو الأمر بالنسبة إلى الرجل، ولا يمكن أبداً أن تفقد صفة (الأنوثة) أحقية المرأة بالولاية إذا كانت مقتدرة وممتلكة لمقوماتها.

وأقصد بالولاية هنا: الولاية بشكل عام، حتى إذا ما وصفناها بـ (العامة) وصار المراد منها (الرئاسة العامة)، قلنا ورددنا ما قلناه آنفاً.

وإلا فماذا يعني حديث الرسول (ص) القائل: (إنما النساء شقائق الرجال) (2).

وماذا يعني حديث رسول الله (ص) القائل أيضاً: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة)، فقالت أم حرام: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها(3).

نعم، ادع الله أن يجعلني منهم وهم الموصوفون بالملوك على الأسرة، فدعا لها النبي (ص).

وأما ما احتجّ به من قبل المعارضين، وهو حديث النبي (ص): (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، برواياته الكثيرة المختلفة، فإنه لا يدخل في عداد قطعي السند والدلالة على الإطلاق أولاً، ثم إنه واقعة حال، حسب رأي بعضهم، وواقعة الحال ليست دليلاً في البحث.

وما أظن أن قوله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) (النمل: 34)، يصلح دليلاً لرفض تسمية الحاكم ملكاً في إسلامنا، أو لنسف اعتبار (الملكية) صيغة من صيغ الإسلام السياسية المقبولة، إذا قامت على العدل والشورى ومرجعية القرآن الكريم والسنة الشريفة.

ولم نر في القرآن الكريم بعد ذكره وسرده قصة بلقيس الملكة تعليقاً يفيد الإنكار على كونها ملكة أو حاكمة أو رئيسة، ولو كان الأمر ممنوعاً قطعاً ومرفوضاً شرعاً لأشير إلى ذلك، سيما وان القرآن الكريم هو الكتاب الأعظم في اغتنام الفرص، والتعليق المناسب، واتباع القصص المحكية بالعبر المطلوبة.

إنها كلمة لا تشمل فتوى، وإنما هي مشروع بحث جاد في تلك القضية الهامة والهامة جداً.

سنعيد النظر كرة أخرى بوثائق أكثر ومفاهيم أوفى، إلى أن نصل إلى ما يقربنا من مرادات الله الحق أكثر، واعتقادنا أولاً وآخراً إن ما كان من الله حقاً هو الحق، وبقدر ما تقترب الأحكام من الحق المطلوب، بقدر ما تكتسب مقبولية إنسانية، واعتباراً ربانياً مرضياً.

خاتمة نريدها وقفة عامة مع القانون:

وسأذكر هنا ما يلي:

1- لم يكن القانون القديم، على اختلاف جغرافيته، ليعطي المرأة حقها أو بعض حقها، ومن عاد إلى ملفات التاريخ وقعت عيناه على غرائب وفظائع، فالمرأة في قوانين الهند القديمة والجرمان والصين -على سبيل المثال- لم تكن شيئاً، بل كان ينظر إليها على أنها متاع رخيص، تورث مع المال وتتداول مع الأشياء، وما أظن قوانين اليوم تفضل سوابقها كثيراً، فالزوجة في فرنسا اليوم ليس لها أن تعطي وتبيع وترهن إلا برضى زوجها خطياً.

ويقول الدكتور (شارل فيدز) أستاذ المعهد الأمريكي للدراسات الإسلامية: (كثيراً من الرجال وافقوا على قدرة المرأة للقيام بوظيفة الرجل إلا أنهم رفضوا تقاضيها نفس راتب الرجل لنفس العمل، هذا الاعتقاد بالمساواة في القدرة وعدم المساواة في التعويض ما زال سائداً في معظم الأقطار الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية) (4).

2- لقد بدل القانون نظرته إلى المرأة مراراً وتكراراً، وتخبط واضعوه وتحيروا ولا يزالون، وهم بين الفعل وردته يتمايلون، فتارة يلتفتون إلى ما كان قد سطره أفلاطون، وتارة يرجعون إلى ما سجله حمورابي ومن سار على منهاجه وطريقته، واللافت في الأمر أن القانون في هذا المضمار قلما يبحث مستقلاً أو يناقش بحرية، وإنما هو ردات فعل على ما جاء في رسالات السماء، تأييداً أو استنكاراً.

يقول (مونتسكيو) في (روح القوانين): (لقد وقف القانون مدهوشاً حيال قضايا الإنسان اللصيقة، وقد تكون وقفته متصفة بالحيرة، لأنه لم يكوّن الإنسان، فهو به جاهل أحياناً، فكيف يشرّع له؟! والتشريع يستلزم علماً دقيقاً بالمشرَّع له).

3- ما أظن أن عقلاء القانونيين يرفضون تشريع السماء الموثَّق النسبة لله، لأنهم لا يرفضون ولا يمكن أن يرفضوا خطاباً توجه إلى العقل من خالقه العليم به: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).

4- وقد يفصل القانون في أمور تتعلق بالمرأة تفصيلاً دقيقاً، وقد لا تجد في الشريعة هذا التفصيل، وهذا لا يعني إضافة أضافها القانون، أو تفوقاً أحرزه، بل القانون في هذا مطبَّق ومصنِّف، يجهد في إلحاق الوقائع الحالّة بالقواعد المجملة.

5- لئن كانت هنالك شبهات تحوم حول حمى ما جاء في الشريعة عن المرأة فذلك طبيعي ولا مناص منه، وليس السبب فيه قصوراً في الشريعة، وإنما نسبية عقولنا هي التي أوقعتنا في بؤرة الحيرة والتردد والإشكال ومتاعب الاستفهام، ولئن سنحت لي فرصة أخرى لتحدثت عن إشكالات تثار عن:

- طلاق، كونه بيد الرجل.

- وحجاب تصعب معه حركة ونشاط.

- وميراث لا تتساوى فيه المرأة والرجل.

- وتعدد يُمْنَحَهُ الرجل على حساب المرأة.

- وولاية عامة اختص بالأهلية لها الذكر دون الأنثى.

و...و...و...

6- أرني إنتاجك ولا تُرني احتجاجك، فهاكم نظاماً متكاملاً يقدمه القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهل عندكم من نظام متكامل فتخرجوه لنا؟! وإنا لمنتظرون.

كل الشكر لكم، وكل التقدير للمرأة الحرة التي تطالب بحقها بنفسها، ولا تخاف في طلب الحق لومة لائم، ولا تخشى في حوارها لأجل فهم صحيح يهمُّها سطوة غاشم.

اللهم كن لنا في كل حال...

الهـــوامـــش:

(1) فقد روى البخاري عن أم سلمة تأكيدها وقولها عندما سمعت نداء القرآن الكريم والرسول(ص) إلى الناس فقالت: (إني من الناس).

(2) رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمامان الترمذي وأبو داود في سننهما.

(3) رواه الامامان البخاري ومسلم في صحيحيهما.

(4) المرأة: للدكتور سعيد رمضان البوطي ص560.