النبأ

 

الخطاب الثقافي بين التأسيس والممارسة

 

 

السيد مصطفى السادة     

[email protected]

 

يعتقد علماء الاجتماع أنه مع نهاية قرن وبداية قرن آخر وازدياد وقع الأحداث وتأجج حدة الصراع بين الحضارات فأن حركة التغيرات تتسارع وتيرتها وتتبدل أساليب المواجهة بين القوى الرئيسية في هذا العالم مما يكوّن عاملاً من العوامل المهمة التي تسهم بدورها في صنع حركة جديدة وحلقة من حلقات الحركة التاريخية.

وهذا ما يمكن فهمه والتحقق منه من خلال النظر لحركة عالمنا المعاصر مع نهاية الألفية الثانية ووصولنا السريع والمفاجئ إلى الألفية الثالثة ومعالمها المتطورة خصوصاً في بعدها المعلوماتي، ومظاهرها المتعلقة بأساليب وأدوات جديدة للصراع التي لا تشكل المواجهات العسكرية فيها عنصراً رئيسياً ومزاحمة عاملين مهمين لها هما العامل الاقتصادي والمعلوماتية خاصة ما يرتبط بالجانب التكنولوجي منها، وبروزهما كأدوات جديدة على ساحة الصراع العالمي، وغدا الغزو الثقافي والفكري كمعلم من معالم المواجهة الحضارية بين مختلف الثقافات.

وفي ظل هذه التحولات السريعة وهذا التبدل والتغير الواضح لا تزال حركة المسلمين تتسم بنوع من البطء - أو الغياب - الناشئ عن عدم الإدراك الدقيق لحركة التاريخ والتحولات الهائلة من حولهم وتبدلاتها وما يمكن أن تجره تبعاً لها من أخطار تطال أو تحدق بعالمنا الإسلامي مترتبة على غيابنا عن الساحة العالمية.

بيد أن ما يجدر التنويه إليه هنا انه ومن خلال هذه الرؤية لحركة المجتمعات لا نريد أن نتنكر لوجود الصحوة لدى بعض المجتمعات الإسلامية وبروز بعض علامات الوعي والعودة إلى أحضان الدين من جديد دون أن نتناسى أنها لا تزال في خطواتها الأولى، يكبّلها ركام هائل من الفهم القاصر لأكثر المفاهيم الإسلامية.

هذا ما يطفو بوضوح على سطح ساحتنا الإسلامية ويمكن قراءته في أدبياتنا المنتشرة في الكثير من المواقع الفكرية والتي تبدو كقناعات فكرية تعكسها أفعال الإنسان أو تصوراته الذهنية التي يقذفها واقعه المنتج وهي في حقيقتها أمراض يعيشها خطابنا الثقافي من خلال الفهم المشوش - والمشوب برائحة السلم الثقافي والتفكير الجبري - لكيفية التعامل مع المفردات الفكرية، وبسبب هذه الممارسات والسلوكيات الخاطئة التي يتحرك من خلالها الفكر التجزيئي والاقتطاعي لهذه المفاهيم والقيم وتحميلها ما لا تحتمل والتي أوصلت الإسلام إلى الآخر في غير لباسه الصحيح؛ أصدر الآخر - بقصد أو بدونه - أحكامه الخاطئة على الإسلام وطور نظريته المعروفة حيث صنف الإسلام في خانة الأيديولوجيات العقائدية التي تكرس النظر إليه كنظرية شمولية قابلة للمناقشة والجدل، وأدى هذا الفهم إلى تعرض كل ما هو إسلامي للهجوم سواء من قبل المستعمرين مباشرة أو من قبل صنائعهم وعملائهم ولم يستثن من هذه الهجمة الشرسة كمال النص القرآني، ولا أصالة رسالة النبي (ص) وسنته الشريفة، ولا تمام الشريعة الإسلامية ولا الإنجازات الإسلامية المجيدة في ميادين الحضارة والثقافة.. والهدف - طبعاً - من وراء كل ذلك زعزعة ثقة المسلم بنفسه وأمته ودينه(1).

ولا نهدف بهذا التحليل إلى إلقاء اللائمة في مواقف الغرب من الدين على نمط العملية الفكرية وكيفية فهم النصوص الدينية فقط.

وإنما نعتبر ذلك عاملاً من العوامل التي أدت إلى حصر الدين والمشروع الديني في دوائر ضيّقة، ومحاولة لإيقاف المد الإسلامي الذي يحمل بين طياته مشروع إنقاذ العالم عن طريق الامكان الاستعدادي والقابلية للانتشار والتوسع.

ومن اللازم جداً التفريق بين الفكر (المنهج) كحقيقة وأصل موضوعي وبين علمية التفكير الخاضعة للموروث الفكري وفكر الانتماء؛ فليس من الضروري أن يتوافق التفكير والفكر معاً، فليست المشكلة في المنهج الإسلامي، إنما جوهر المشكلة يرجع إلى طبيعة منهجية التفكير الإسلامي والقدرة على الاستنطاق الصحيح للنصوص في العصور المختلفة وكيفية التعامل مع مفردات التنمية؛ فلابد من التفريق بين المصطلحات الثلاثة: (الواقع الإسلامي) و(المفاهيم الإسلامية) و(الخطاب الإسلامي).

المشروع الثقافي والتفاعل مع العصر

منهج الإسلام في بناء الإنسان وتنميته ليس ضيّقاً أو مقتصراً على جانب دون آخر، بل هو منهج متكامل وشامل يسع مختلف أبعاد الحياة للإنسان، ويسعى جاهداً لأن يشمل حتى حياة الإنسان في النشأة الأخرى، كما هو الاعتقاد الإسلامي، - خلافاً للمناهج والنظريات التي وضعها الإنسان لنفسه فانها تقف عند حدود السعادة المادية ولم تستطع تجاوز هذه المرحلة من الحياة - فهو مشروع حياتي قادر على الاستجابة لجميع متطلبات وطموحات الإنسان - الفرد والمجتمع - بل وقادر على تفعيل الكثير من المفاهيم المعاصرة (كمفهوم الدولة والجماعة والجهة) وحل مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية:

- كمفهوم الشراكة الإنسانية في الحاجيات الأساسية.

- ومفهوم الأمن.

- ومفهوم التنشئة الأخلاقية.

- ومفهوم التنشئة العقائدية.

- ومفهوم التنشئة الاجتماعية.

- ومفهوم التنشئة الثقافية والفكرية.

وغيرها من المفاهيم الحضارية المعاصرة التي كانت واقعاً متحركاً في العصر الإسلامي الأول، وقد أشار القرآن إلى الكثير من هذه المصطلحات المعاصرة كما في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء: 70) وقوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: 4) وقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13) وغيرها من الآيات الشريفة التي طرحت هذه المفاهيم بصورتها الحضارية، وحيث نجد هذه المفاهيم واضحة في مسيرة الحركة الإسلامية خصوصاً فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي وتقوية أواصر العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد.. فالإسلام يدعم العلاقة الإيجابية بين أفراد الأسرة ويبعث على توثيق صلة القرابة وهذا كله من باب التأكيد على مفهوم الأسرة التي هي أقرب الدوائر الاجتماعية إلى الإنسان، ويعزز من هذا المفهوم الداعم والرافد له (الإنسان) عن طريق وضع تشريعات متصلة بالعائلة والتربية والإرث، فهو يعمل بذلك على إرساء دعائم هذه الحلقة المهمة ليستطيع أفراد الأسرة الواحدة الاجتماع حول طاولة واحدة يتعايشون تحت ظل سقف واحدٍ متماسك.

وينبغي على المفكر والباحث المسلم الملتزم أنه يعمل على بلورة هذه المفاهيم والقيم والأبعاد الحضارية للمشروع الإسلامي، وجعلها واقعاً وسلوكاً يعيشه الإنسان المسلم في كل حياته، بعيداً عن النظرة الأيديولوجية الخطرة إلى الدين والتي ينظر من خلال زاويتها الضيقة بعض المثقفين والباحثين المسلمين الذين يعتنقون الأيديولوجية الفكرية للغرب في التعامل مع الأديان كظاهرة من الظواهر البشرية التي يمكن إخضاع نصوصها للحس البشري؛ وهذا بدوره يساهم أيضاً في تأخر العملية الفكرية والتنموية.

المشهد الثقافي في واقعنا الراهن..

عندما يبحث الإنسان في تاريخ الحضارات التي ظهرت وعمّرت طويلاً يجد أنها خلفت وراءها عدة عوامل كان لها أثر - بعض الشيء - في النسيج الحضاري لهذه الأمة في بعض مراحل تطوره، وأصبحت تراكماً ثقافياً وحضارياً يدلل على مدى تطور هذه الأمة وتقدمها على غيرها من الأمم.

ومن هنا ينشأ التنافس الثقافي بين الحضارات المختلفة والذي سرعان ما يتحول - مع غياب بعض الشروط والضوابط - إلى صراع بين ثقافة وأخرى ولكنه يبقى عاملاً من العوامل التي تساهم في إغناء ثقافات الشعوب.. ويستطيع القارئ أن يقيس نبض الأمم عن طريق قدرتها على خلق الثقافة والفكر ومدى صمودها في المواجهة الفكرية والثقافية، وبالتالي قدرتها على البقاء حضارياً، وهذا لا يكون إلا بالبقاء الفكري والثقافي وقدرة الوصول والتواصل مع الآخر.

والمشروع الإسلامي يمتلك عوامل البقاء والقدرة على المواجهة والوصول إلى الآخر والتواصل معه حوارياً في ظل الاعتراف بالتنوع الفكري المنبثق من تعدد الانتماءات الفكرية المختلفة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. ) (الروم: 22)، وقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين.. ) (هود: 118).

حيث أن التعايش والتلاقي والتحاور مع الآخر في مناخ إيجابي يعني الإقرار بوجوده كفكر يتحرك على ساحة الواقع، وهذا لا يعني بالضرورة الإيمان بفكره.. وفي تجارب الإسلام ما يدلل على تعايش التيارات المختلفة في ظل الدولة الإسلامية الأولى وجريان جلسات الحوار بعيداً عن روح التشنج والتعصب الفكري والانتمائي ومحاولة قسر أو إكراه الآخر على القبول بالرأي المخالف؛ إذ (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256) و (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (سبأ: 24) وهذا يشير إلى انفتاح الإسلام على الآخر، وأنه لا يعيش الانغلاق والجمود والانطواء على الذات، ولا يعمل على محاصرة الفكر الآخر أو إقصائه من الساحة.

بيد أن المشهد الثقافي الراهن يعيش مجموعة من الأعراض السلبية التي تؤثر ليس فقط على الجهة التي ينتمي إليها، وإنما على المشروع الإسلامي وقدرته على التأثير والتواصل مع الآخر، وينذر في بعض تموجاته بالخطر بسبب حمل الآخر على التفاهم مع الجهة خدمة لأهداف وأغراض معينة، وهذا ما يكرس الفهم والفكر الأحادي؛ مما يسبب نشوء حالة من ممارسة الفكر الاكراهي، ونشوء ما يمكن أن يطلق عليه توالد المقدسات بطريقة غير واقعية، ومن هنا يتوجب علينا أن نلتفت إلى البعد المعرفي والتوعوي، وإدراك خطورة سيادة وانتشار مثل هذه القناعات وتحولها إلى واقع يمارس في حياتنا، غير غافلين عن أن الفهم يشيخ ويفقد بذلك بريقه وقوته، فنحتاج إلى استبداله بفهم جديد كما ينبغي قراءة واستيعاب التراث بعد التوافر على أدوات فهمه، قراءة واعية مصحوبة بالسماح للعقل باستشراف واقعي للمستقبل، ورفع سلطة الجهة والمصلحة الشخصية القاسية عن العقل.

مراجعة الذات (الممارسة النقدية)

من أهم الأمور التي ينبغي للحريصين على الفكر والمهتمين بحقل التوعية الثقافي والساعين لتفعيل المشروع الإسلامي بصورة صحيحة، هو مراجعة الذات ودراسة الأسلوب والممارسة الثقافية بحيث تشمل المراجعة والنقد الذاتي الأمور التالية:

أولاً: مراجعة لعملية الاستنطاق الخاطئة للنصوص والفهم التفكيكي لها، وكيف تتوالد الأفكار من خلال هذا الفهم القاصر، وتحويله إلى مقدسات لا يمكن أن تطالها أدوات النقد والمراجعة، وتوالد المقدسات بطريقة غير منضبطة تلبية لحاجات نفسية أو مصالح شخصية، وعطل الممارسات النقدية التي يتوقف عليها التطور الحضاري والفكري حتى تعذّر على العلماء الواعين والمثقفين الرساليين مساءلة أي ظاهرة سلبية رغم افتقارها إلى الشرعية (2).

ثانياً: مراجعة الآليات التي نتذرع بها في سبيل عرض وإيصال هذا الفهم إلى الآخر، والنظر في مدى صوابيتها وقدرتها على التأثير والإقناع، عن طريق العرض بصورة دقيقة ومدروسة.

ثالثاً: دراسة العوائق الحقيقية التي يمكن أن تعطل دور المشروع والعناية الشديدة بمفرداتها وما يتولد عنها من أفكار واطروحات.

رابعاً: دراسة الفكر المعاصر ومدى ارتباطه بصوابية الفهم الحقيقي للموروث الديني والنص الشرعي.. والقبول بمستوى معين من الفهم والأسلوب هو ما يبرر نشوء فكر الجهة وسيطرته على أدبياتنا الثقافية وغيرها.. فقد نشأت مجموعة من الأفهام العلمية يعتبرها أصحابها فهماً صحيحاً للنظرية الإسلامية، وإضفاء نوع من القداسة على هذه الأفكار حتى أصبحت الموضوعية للفكر - بدل الطريقية - وبات من الصعب ممارسة دور النقد والتقويم لهذا الفهم أو ذاك.. وهنا يكمن جوهر المشكلة والعلة الحقيقية لتأخر مشروع التنمية الشاملة بشكل عام والتنمية الثقافية بشكل خاص في أكثر البلدان الإسلامية؛ إذ المشكلة وكما أشرنا إليها في دراسة سابقة إنما هي في استبدال الواقع بالشعار والحقائق بالمظاهر والشمولية بالجزئية(3).

وممارسة النقد للموروث الثقافي ليس هو المهمة الوحيدة التي ينبغي أن يمارسها الباحث والمثقف المسلم، وإنما ينبغي أن يتسع دوره لمد الأمة ورفدها بما هو صحيح ومطلوب وهذا يعني ضرورة تخلي الناقد - أولاً - عن سلوكيات الجهة والتحيّز الضيق لفكر الفئوية، ليستطيع بذلك ممارسة حالة الشهودية بعيداً عن التورط في مطبات الثقافة الخاطئة، ومن جانب آخر يتوجب عليه التحلي بالسلوكيات والممارسات التي من شأنها خدمة المشروع الثقافي للأمة، وممارسة الدور التنموي والحضاري المطلوب من المثقف.

ومن أخطر ما تتعرض له الأمم هو غياب هذا الدور عن وعي المثقف؛ ولهذا تجد القرآن يركز على تفعيل كل المفاهيم الصحيحة في سبيل إنجاح مشروع الأمة (وتكونوا شهداء على الناس) (الحج: 78)، وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة: 143).

حيث تقرر هذه الآيات ضرورة كون المسلم شاهداً على تصرفات الأمة، ولا يمكن ممارسة هذا الدور إلا بالوعي الحقيقي، بيد أن هذا لا يعصم المثقف من الوقوع في الخطأ، ولأنه أحد مفردات الأمة فقد تحتاج سلوكياته إلى نقد وتوجيه وتقويم، وإذا استطعنا ممارسة هذا الدور فنحن نخطو الخطوة الأولى على طريق خدمة قضايا الأمة الحيوية، وتفعيل دورها الحضاري الذي رسمه لها القرآن المجيد، وحثها للعمل على تحقيقه، لتصل - بالتالي - إلى مرتبة الشهودية على الأمم الأخرى.. ومما ينبغي إلفات النظر إليه هو أن القيام بممارسة دور الناقد والمقوّم لسلوكيات الأمة وتوجهاتها، لا يعني بالضرورة تخطئة المنهج الفكري الذي تنتمي إليه الأمة، فقد يكون المنهج في حالة غياب - أو تغييب - عن وعي الأمة بسبب انتشار الفهم التسطيحي الخاطئ للمفردات النصوصية، ولا يمنع كل ذلك من ممارسة النقد، فالثقافة النقدية الجادة تؤثر إيجاباً في تطوير الوعي والثقافة المنغلقة تفضي إلى واقع سلبي يغيّب الوعي ويعتّم الرؤية(4).

ثغرات في الخطاب الثقافي

لا يشك أحد اليوم بأن الخطاب الإعلامي أثبت أنه بمثابة سلطة خامسة في هذا العالم؛ وأصبح القوّة الرئيسية المحركة للمجتمعات بسبب قدرته على التأثير في القناعات، فالخطاب وسيلة الاتصال المختلف وخصوصاً الثقافي بين فئات المجتمع وشرائحه المختلفة؛ ويعد الخطاب الثقافي من أبرز المفردات الإعلامية لما يحمل من مؤشرات ودلائل على مدى تقدم الأمم وتطورها وقدرتها على التأثير في الآخر والتأثر منه.

وبالرغم من كونه من عوامل تقدم بعض الشعوب إلا أن خطابنا الثقافي لا يزال يعاني من بعض الثقوب والثغرات، فقد يجد المتأمل في بعض صور التفكير لدى البعض، والمتتبع لأدبياتنا، أن قسماً منها يعاني من ثغرات سلبية واضحة وجلية، فقد نجد من يرفض الآخر لأنه الآخر فقط، ويقبل الأنا لأنها الأنا فقط، منطلقاً من خلال مسلمات وموروثات دون وعي بأن ما قد يرفضه هو مسلّم وضروري الاعتقاد والقبول، ولكنه لا يخضع الفكر للمناقشة والتمحيص، ومما لا شك فيه أن بعض الأحكام الصادرة ضد الآخر ليس لها مقياس سوى مقياس الهوى والنفس، الأمر الذي يدفع الإنسان باتجاه الانقطاع عن الآخر والانغلاق في سراديب وعوالم الطوباوية والسوداوية التي تعني الموت الثقافي والعيش الفكري في غرف الانطواء على الذات وهو مرض يصيب الجماعات كما قد يصيب الأفراد.

خطاب الجهة أم الأمة؟!

إن جوهر المشكلة ليس في عدم وجود المنهج الفكري الراشد للأمة، وإنما يكمن في أزمة المفكر القادر على الاستلهام من هذا المنهج، ونحن هنا لا نريد التقليل من خطر الأزمات الأخرى، فكل الأزمات التي تتعرض لها الأمة خطيرة وحادة، ولكن نود القول بأن الأزمة الفكرية تأتي في بداية سلم الأزمات.

وما تعيشه الأمة اليوم من الاضطراب والقلق في فهم بعض المفاهيم الحركية سبب تشوش الرؤية الفكرية لدى البعض من المهتمين بالشأن الثقافي، ونشوء خطابات جديدة - لا نقول أنها وليدة الفراغ، وإنما ليس لها تأصيل حقيقي، فما نعرفه في الفكر الإسلامي انه خطاب الأمة بدليل قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة.. ) (المؤمنون: 52) وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: 110) - هذه الخطابات موجهة للجهة والجماعة والفئة، وهو منشأ ما يعرف اليوم بخطاب الجهة وخطاب الجماعة والفئة وغيرها من الخطابات التي أنهكت الساحة الإسلامية، وعمقت نقاط الخلاف والفرقة والتمزق الاجتماعي، وتشتيت الجهود في الخلافات الجانبية والنزاعات الجزئية التي عملت على تعطيل دور المشروع الإسلامي كبديل عن كل النظم الوضعية، والذي يتمتع بطابع الشمولية والقدرة على مخاطبة الأمة ووضع حل لمشاكلها الاجتماعية وإنهاء جميع الخلافات الهامشية.. ونحن هنا لا نريد التعرض بالإنكار لفكر الجهة وتغريمه عن كل ما يجري وما تعيشه الأمة من محن ونكبات، ولكن تقوقع الخطاب وتحزبه في أضيق الدوائر والتركيز الدائم على بعث هذه الروح، له أثر سلبي على صعيد الانفتاح على الفكر الآخر - خصوصاً إذا ما علمنا أن الفكر ليس حكراً على أحد أو جهة معينة - وإبعاد الخطاب عن القضايا الحقيقية الواقعية للمجتمع الإسلامي، وهذا بدوره يساهم في تعميق هوة الخلاف بين الفئات الإسلامية وظهور ما يعرف بحرب التراشق بالألفاظ والجدل العقيم.

ومن المعلوم أن التخلي عن الجدل والتراشق بالألفاظ والحكم بعدم صوابية منهج التفكير لكل من لا يتفق معي في العقيدة - المنهج -، والإيمان بكون العقل والمنطق هما الرائدان في ساحة التنافس الفكري، من شأنه أن يساهم في عملية النهوض بالأمة ووضعها على طريق التطور الحضاري.

وهذا يتطلب من المفكر أن يعيش دائماً مع العملية التجديدية في الفهم والإدارة والآلية.

الخطاب من التأسيس إلى الممارسة

استغرق الخطاب الإسلامي وقتاً طويلاً في التأسيس والتأصيل لمفاهيم وقيم نعتبرها جميعاً مفردات المشروع الثقافي، وقد استطاع هذا الخطاب التأسيس لعدة مفاهيم معاصرة:

- مفهوم الفكر الإسلامي.

- مفهوم الشورى.

- مفهوم الحرية.

- مفهوم الأمة.

- مفهوم القيادة.

- مفهوم الجماعة.

- مفهوم التجديد.

- مفهوم الأصالة.

- مفهوم المعاصرة.

- مفهوم الحداثة.

- مفهوم الواقعية.

- مفهوم التعايش مع الآخر.

وغير ذلك من المفاهيم التي بلورها المفكر والباحث المسلم.. وما يتوجب علينا بعد العملية التأصيلية لهذه المفردات هو أن ننتقل بالخطاب إلى مرحلة تحويل هذه المصطلحات إلى واقع متحرك.

لكن المشكلة التي يعاني منها خطابنا المعاصر هي مشكلة الانتقال من مرحلة التصور إلى مرحلة التصديق، ومن التأسيس إلى الممارسة والتطبيق، التي هي من أهم معطيات القرآن الذي لا يكتفي بالتنظير للفكر وإنما يضع إلى جانب ذلك المصداق الأكمل؛ فحينما تحدث عن مفردات مثل (اليقين - والصبر - والتواضع - والعفة - والجهاد) وغيرها وضع إلى جانب كل مفردة منها المصداق الأكمل المطبق لها، وحينما تحدث عن (القتل والتجسس والفتنة وخيانة الأمة والأمانة) مثلاً وضع إلى جانبها المصاديق المطبقة والمتمثلة لهذه المفاهيم.

وحاجتنا اليوم - خصوصاً وقد دخلنا إلى الألفية الثالثة، وانفتحنا على المفردات المعاصرة، وأهمها التعاطي مع الثورة المعلوماتية التكنولوجية، للوصول إلى أبعد إنسان في أبعد نقطة في هذا العالم- هي التعرف على الذات وقدرتها على الخلق والإبداع وتجاوز العقبات التي تعترض طريق إيصال المشروع الفكري الإسلامي إلى إنسان هذا العصر الذي يعيش الحاجة الماسة إلى مثل هذه القيم والمفاهيم الإسلامية.

وليست هذه دعوة إلى التنصل من الماضي بدعوى التحديث لأن من شأن ذلك أن يؤدي بالنتيجة إلى التبعية لالآخرين وفقدان خصائص حضارتنا الأصيلة ونسيان تجاربها المتألقة والتي يمكن أن تعطينا دروساً كبيرة في عملية التجديد والتغيير في الحاضر والمستقبل(5).

تناغم الخطاب والمشروع

بداية لا يمكننا الفصل بين المشروع الثقافي والخطاب الإسلامي فأحدهما رهن بالآخر ومتوقف عليه، فالخطاب وسيلة إيصال المشروع الإسلامي للناس وينبغي أن يكون الخطاب عبارة عن تأمل بمفردات وأفكار المشروع، ولابد من إيجاد حالة من التناغم والتوافق، وأن يتسم الخطاب بالموضوعية والواقعية التي هي نوع من التعايش الإيجابي مع الواقع، بالرغم مما يحمل من تناقضات وإفرازات قد لا تكون بالضرورة منسجمة مع إفرازات الفكر الإسلامي؛ وليس معنى ذلك القبول بتناقضات المجتمع وإنما التكيّف ومحاولة الاستفادة من أدوات الواقع في سبيل خدمة أهداف المجتمع والتعامل معها بلغتها ما لم يستلزم ذلك ضرراً.

وهذه من أهم الأمور التي يتوجب على الداعية والمبلّغ الإسلامي أن يتوسل بها أثناء ممارسة عملية الاتصال مع الآخر.

وهذا ما ركز عليه القرآن كثيراً في سبيل إرساء معالم الفكر والوعي الإسلامي والقدرة على إيصاله إلى البشرية؛ فقد ورد في القرآن قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)، وقوله تعالى: (فقولا له قولاً لينا) (طه: 44)، وقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) (فصلت: 34).

وما نراه من سلوكيات وتصرفات خاطئة يمارسها بعض المنتسبين إلى التيار الإسلامي، لا يمكن أن يدفعنا للقول بعدم عصمة المنهج الإسلامي، وإنما المشكلة ترجع إلى المنهجية الفكرية التي يتعامل بها المسلمون مع المنهج الإسلامي في العصور المختلفة، وإلى كيفية تعاملهم مع مفردات التنمية، ومن هنا يلزم علينا التفريق بين (الواقع الإسلامي) و(الخطاب الإسلامي) و(المفاهيم الإسلامية) لكي لا نحمل الواقع والخطاب على المفاهيم الإسلامية.

الهـــوامـــش:

(1) الفاروقي، إسماعيل، إسلامية المعرفة: ط1 دار الهادي بيروت.

(2) الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد: ص22 ط1 دار الهادي - بيروت.

(3) مجلة البصائر: عدد 20 ص44 مفردات التنمية الثقافية، صادق العبادي.

(4) الغرباوي، ماجد: مصدر سابق/ ص16.

(5) معاش، مرتضى، انطباعات الإصلاح والتجديد: مجلة النبأ عدد 54 ص9.