النبأ

 

كلمة النبأ

 

 

المرأة.. الإنسان.. وغياب الرؤية المتوازنة

لاشك بأن الواقع - أي واقع - يحمل في أعماقه دعوة عميقة للتغيير، لأنه يحفز دائماً لدى الأفراد الرغبة في الوصول إلى الأكمل والأفضل، وتتأكد هذه الدعوة كلما تضاعفت الحوافز وعوامل الإثارة؛ خصوصاً إذا كانت أوضاعاً ضاغطة غير سليمة ترهق الإنسان وتشدّه إلى التطلع نحو العيش في عالم أكثر رفاهية وانسيابية.

فإذا كان الواقع الاجتماعي محفزاً بعوامل التردي فإنه يضاعف الرغبة لدى الإنسان للانفلات من قيود اللحظة الراهنة والارتماء في مستقبل يحمل معالمه في فكره كصورة جميلة قابلة للوجود والتحقق، صورة يتخلق فيها من معالم الظلم ويستعيد معالم وجوده المعروفة التي يدرك بفطرته أنها كرامة وحرية (ولقد كرمنا بني آدم..) ، ولهذا فإننا نلاحظ ضيق الإنسان بالسلبيات والتردي بمجرد أن يراها أو يواجهها.

إذن ستتعالى صرخات الضمير الإنساني في فضاء النفس، وتلح وتطالب باستعادة المفقود والمغيب؛ استعادة الحرية والكرامة التي تغيبها آلات القهر وأفكار الاستعباد.

لكن هذه المطالبة متفاوتة فهناك من يكتفي بإطلاق آهة وآخر يمط شفتيه امتعاضاً بينما يأتي ثالث ليصرخ بملء حنجرته مطالباً بالتصحيح.

هذا التفاوت مترتب على مستوى أداء الطرف الآخر، الطرف الذي جعل الاستعباد مهمة وجودية له ورزقاً، فصارت سعادته تتقوم بعذابات الآخرين، ولذلك فإنه سيقاوم الامتعاض ويمنع المطالبة ويرفض التغيير، فإذا قدر له النجاح في ذلك لاحق الإنسان وحاول النفوذ إلى ضميره ليطارد الرغبة في التحرر فيصب عليها أفكار التبرير والتسويغ وأفكار القناعة بالواقع.

هؤلاء يدّعون بأن العذاب والشقاء هو جزء من حكم (الآلهة) على البشر؛ ولذلك فإنهم اخترعوا (الآلهة) ووضعوها بين الله وبين عباده تحكم بما لم ينزل به سلطان، هذه الآلهة سواءٌ أكانت من الحجر أم البشر، فإنها تحمل فلسفة التبرير والتسويغ وأدوات الإقناع بالواقع الترهيبية والترغيبية.

لكنهم لا ينجحون دائماً في أدائهم، لأنه ضد الفطرة؛ ولذا فإن درجات الانصياع والقبول والقناعة ستتفاوت؛ فهناك درجات دنيا تمثل أسوأ حالات القبول بالتردي، وهناك الأقل فالأقل - قبولاً - وصولاً إلى الرفض والثورة.

وداخل درجات القبول أيضاً درجات ومراتب؛ حيث يتحول القبول باستلاب الحقوق والحرية إلى حالة مفروغ منها تستند إلى العجز عن القهر الذي تعاني منه الطبقات الضعيفة والتي تكون المرأة هي الضحية الرئيسية فيها.

ولقد كان ضعف المرأة الجسدي هو الذريعة الرئيسية لافتراسها وتحويلها إلى ضحية، إنها عميلة تزييف نادرة المثال أنتجها العقل المتردي القابل بالأمر الواقع الذي يلتهم ذاته لصالح قوى القهر.

هذا العقل ينظر إلى المرأة كجسد واهن فيتغافل عن حقيقتها كإنسان، إنه يمارس عملية تناقض عندما يعترف أنها جزء من هذا الوجود البشري الذي يعترف أنه وجود عظيم لا يمثل فيه الجسد إلا الجزء الظاهر من جبل الثلج، لكنه ينكر عظمته تلك عندما يصل إلى المرأة!!.

وهكذا دأبت المجتمعات على سلب المرأة روحها؛ لأنها - الروح - عنصر قوتها وإنها في هذا مثلها مثل الرجل جرم صغير انطوى فيه العالم الأكبر؛ إنها قادرة على فرض التغيير ورسم مستقبل العالم.

إنها لا تختلف عن الرجل؛ لأنهما كائنان متساويان في الحقيقة والجوهر الإنساني، وإن التباين الجسدي ليس ذا قيمة لأنه الجزء الظاهر فقط في الإنسان ذلك الكائن الذي انطوى فيه العالم الأكبر.

فالمطب الأول؛ حيث يوقع الفكر التسلطي المرأة ليبرر قهرها وسلبها كرامتها، هو إقناعها بأنها ضعيفة؛ متخذاً من البنية الجسدية دليلاً على ما يزعم، ثم يضعها في أحلك زوايا المجتمع ليملي عليها تصوراً ظلامياً لذاتها.

الشواهد التاريخية والنماذج المشرقة للمرأة تغيب وتبعد وتقصى، لكي تستولي القتامة على المشهد، وتتم مؤامرة الاستلاب بنجاح، ويتم إقناع الرجل بأن هذا الكائن الجميل هو كائن متدنٍ وأقل شأناً منه، كما يصار إلى إقناع المرأة بأنها أيضاً كذلك، فتقنع بالواقع وتنسى المحاولة وتيأس من تغيير معالم الواقع.

لكن الحقيقة لا تغيب ولا تضيع ولا تزيف، ويخرج بين الفينة والأخرى والحقبة والأخرى، من يصل إلى الخطوط، ويتبع الآثار، فتتجلى له المعالم الأصيلة، ويكتشف الأجوبة، ويرى أن كل هذا الركام إنما هو مجرد زيف لا أكثر.

ولقد سجل لنا التاريخ كفاح الإنسان - رجلاً وامرأة - لبناء واقع أفضل، وبرز الأعلام من الرجال والنساء ليمنحوا التاريخ صوره المشرقة التي تأتي الأجيال لتتخذها مناراً، فهذه فاطمة الزهراء(ع) نموذج المرأة الفذ، التي حملت أعباء الرسالة، وهي في سن الطفولة الغضة،

ووقفت كالطود الشامخ لتصرخ في وجه التاريخ، فتوقفه عند حده، وتدفعه نحو مسار

خاص، ثم لتدفع ثمن كل ذلك فتخلد نموذجاً ثراً للعطاء.

وهذه زينب(ع) الشامخة التي ثارت وشاركت في معارك التغيير الحسيني، وطبعت التاريخ الإسلامي بطابعها ومعها الكثير من النساء في تلك العرصات التي تخجل العظمة منهن.

هناك نماذج تستعصي على الحصر من النساء اللواتي يؤكدن أن المرأة هي صنو الرجل كما أفاد الحديث الشريف: (النساء شقائق الرجال)، وأن دورهما واحد، وأنهما شريكان في صنع مجد الإنسان؛ فلا تقدم ولا تحرر، ببدون أن تتظافر جهود المرأة والرجل، كما أن التردي ليس تردياً للمرأة وحدها وإنما هو تردٍ للرجل أيضاً، ولن نجد مجتمعاً يعيش فيه الرجل أوضاعاً صحيحة بينما تكون المرأة مقصاة في الزوايا المعتمة.

وعلى هذا فإن التحرر والتحرير لابد أن ينال الإنسان بما هو إنسان، من خلال رؤية كونية تؤسس لعلائق إنسانية سليمة وتعطي كل ذي حق حقه؛ رؤية درست المعايير والقيم والأسس قبل النتائج؛ فالمشكلة - كما أسلفنا - هي دائماً في الأسس والمرجعيات الفكرية التي تضعها بعض الفئات والطبقات الاجتماعية، فتدعي أنها الموازين الحقة والعادلة، وأنها حكم الطبيعة وقانونها، مع أنها مجرد آراء تعبر عن مصالح فئة معينة.

ولعلنا نرى البعض يحاول في هذا العصر أن ينقل المرأة - من خلال الشعارات - من ظلم العصور السالفة التي وضعت المرأة في مكانة لا تحسد عليها، إلى ظلم معاصر يتعامل مع المرأة كسلعة وأداة لترويج البضائع وزيادة الأرباح؛ إنه لا يرى إلا جسدها الذي يصلح لزيادة الأرباح وترويج السلع!!.

ولعلنا نلاحظ أن المجتمع الذي كان يجعل المرأة في موقع أقل من الحيوان، كان يبيع الإنسان ويرى فيه عبداً وسلعة يبيعها ويشتريها؛ وبالتالي فإنه يسمح لنفسه أن يستخدمه كما يستخدم الحيوانات، كما أننا نرى أن المجتمع المعاصر الذي صار يتاجر بكل شيء، قد حوّل شعار حرية المرأة إلى شعار تستخدمه الرأسمالية العالمية، لينقل المرأة إلى موقع متدنٍ، ولكنه جديد، فيستفاد منها في الإعلان، ويزيل عنها وقارها لأنه يريد أن يحررها من القديم فقط!!، فهو لا يريد أن يحررها من الظلم التاريخي الذي يمكن أن يستمر بأكثر من صيغة وأن يرتدي في كل عصر حلة.

فالحرية - إذن - ليست هي التحرر من الظلم القديم وصولاً إلى ظلم معاصر وجديد، وليست مجرد تحرير المرأة من العمل في الحقل والمنزل لأن الآلة حلت محلها، أو الإفادة منها في الإعلان.. فالحل يكمن في إعادة المرأة إلى فطرتها.. إلى القيمة الإنسانية التي سلبت منها في العصور السابقة، في إطار منظومة قيم وعلاقات صحيحة تفهم ما هو الإنسان وتعيد إليه كرامته وحريته التي منحها الله له سواءً أكان رجلاً أم امرأة.

فاهتمامنا في مجلة النبأ بالمرأة - إذن - هو جزء من مشروع كلي لا يرى فوارق بينها وبين الرجل، ولئن جاء التأكيد على المرأة فإنه من باب الاهتمام بالواجهة الأبرز والأكثر تجسيداً للتغيير..

وهكذا ولدت فكرة إعداد ملف المرأة، الذي ساهم في كتابته ثلة من أصحاب الأقلام الخيرة من رجال الفكر؛ إبرازاً لهذه الضرورة، وتوخياً لعبور عتبات التقدم نحو مستقبل مشرق للإنسان المسلم..

أسرة التحرير