النبأ

 

 

جدلية الفكر والقوة

د. خالص جلبي

يسيطر على الناس مفهوم أن فكرة بدون قوة تسندها لامعنى لها ولارصيد من الواقع، ولكن كل فكرة تعتمد القوة في صدقها تحمل ضمناً خذلانها؛ لأن قوتها ليست من ذاتها، وبقدر اعتماد القوة الخارجية تتبخر القوة الذاتية، حتى إذا اضمحلت الفكرة لصالح القوة، لم تبق فكرة فتتحول إلى صنم لاينفع ولايضر..

في الحوار الذي أجراه الفيلسوف الرواقي ( ابكتيتوس EPICTITUS ) مع تلميذه المذهول من فيلسوفه الذي كان يفيض بالحرية وهو الذي كان يسمى سابقاً بالعبد(1) فيسأله: يا سيدي متى أكون حراً؟، يجيبه الفيلسوف سائلاً: هل يستطيع أحد أن يجعلك أن تصدق ما ليس يصدق؟، فيقول: لا!!، يكرر الفيلسوف سؤالاً آخراً: هل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل ما لا تعتقده؟، يجيب: نعم!، الفيلسوف سائلاً: وكيف ذلك؟ التلميذ: إذا هددني بالقتل أو الحبس؟!، الفيلسوف: فإذا لم تخش من الموت أو الحبس؟، التلميذ: لا يستطيع‍‍!!، الفيلسوف: أنت عندها حر.

هذا الحوار يقوم بتفكيك نفسي لعلاقات القوة والفكر، وتحرر الإنسان الفعلي وولادته الجديدة. فالفكر قوة، والقوة صنم.

هذا النوع من التفكير يشكل بداية الطريق لإنسان جديد، يعتنق مايراه صدقاً ولايتراجع عنه أمام الإكراه الجسدي أو المعنوي، كما لايرى الإكراه طريقة لإجبار الآخرين في تغيير

قناعاتهم، في لعبة تحييد كامل للجسد في الصراع الفكري.

وبهذا الشكل من التفكير والتصرف، يتم الانفصال والانخلاع والتباعد بين مفهومي الفكر والقوة، فالفكر لايأخذ صدقه من القوة، كما لاتتحول القوة إلى صدق بفعل الأمر الواقع وتكرار الانتاج.

الفكر قوة ذاتية وتحرر نفسي، والقوة طلاق للفكر، واستمداد للمشروعية من عناصر خارج ذاتها.

صعوبة تغيير الخرائط الذهنية:

ينقل عن بعض الفلاسفة قولاً مفاده أنك إذا شرحت فكرتك عشرين مرة وظننت أنها فُهمت فأنت متفائل جداً، خاصة إذا كانت الفكرة جديدة تخالف البرمجة الذهنية وخرائط التفكير الاجتماعية المتعارف عليها، وهذا هو الحاصل مع فكرة التدشين السلامي الاجتماعي، فبعد أن تأملتُ ظاهرة الحج، رأيت فيها رمزية تحويل البيت الحرام إلى أقطار الأرض جميعاً كهدف إبراهيمي قديم، فيكبر البيت الحرام ليستوعب بسلامه الكرة الأرضية كلها، من خلال تجربة صمدت عبر أربعة آلاف سنة، ومد الأشهر الحرم الأربعة لتعم السنة، أي امتداد السلام إلى العالم في مستوى الزمان والمكان فهذه في نظري أحد رسائل الحج السنوية تدريباً وتعميما، لبشر يفدون من كل المعمورة، على كل ضامر من كل فج عميق، في تكرار لايعرف التوقف أو التحويل والتأجيل والتمثيل.

أرسل إلي أخ فاضل من الرياض رسالة مطولة يشرح فيها مدى صعوبة إدراك فكرة السلام العالمي، منطلقاً من مجموعة من الأفكار الثقافية الراسخة، وطروحات البيئة والتاريخ المشبعة بالعنف، فكتب مستوضحاً: كيف دخل العالم مرحلة السلم، والحروب مشتعلة في أصقاع شتى ؟ بل كيف يمكن تصور إيقاف الحرب في ضوء الصراع الإنساني العقائدي المستمر ؟ وتساءل ثالثاً أنه على فرض تبني فكرة السلام فإن الطرف الآخر لن يدعك تعيش في سلام !! طالما كانت هناك قوى عظمى تفرض هيمنتها على العالم ؟! وكان أعجب شيء عنده وأصعبه فكرة التخلي عن القوة من طرف واحد، فشكل عنده استعصاءً عقلياً لم يعثر له على تفسير أو حل، وهو شيء متوقع ووارد في البلاسما الثقافية العنفية التي نسبح فيها، لأن هذه الأفكار التي أطرحها أخذت مني وقتاً وجهداً طويلاً حتى تبلورت.

المفهوم السلامي مرتبط ببعد استراتيجي :

يعتبر هذا الموضوع حيوياً للغاية، فالأفكار السلامية ليست ذات بعد سياسي لتأخذ زخمها من جو المفاوضات العربية - الإسرائيلية توقفت أم تحركت؛ بل هي تمثل حاجة المجتمع العربي - قبل كل شيء، في محاولة لحل أزمة الثقة، وتهميش وإزالة روح الغدر والتآمر، فما نحتاجه هو السلام العربي العربي قبل السلام العربي الإسرائيلي، بل إن المفكر الجزائري مالك بن نبي كان ذا بعد نظر مخترق، عندما اعتبر أن الصراع العربي- الإسرائيلي لا يشكل التناقض الجوهري، بل هو اختلاط ومضاعفات المرض العربي، فالخراج الصهيوني هو نتيجة عادية لانسمام البدن العربي، وانهيار جهاز المناعة الداخلي فيه، وهو مرض قديم وليس إفراز اليوم، وهو تعبير عن أزمة الثقافة العربية. فهذه قضية أولى يجب تحريرها، وهذا التصور لايكتب بسبب مرحلة سياسية بعينها من منظور تكتيكي، بل يشكل قناعة استراتيجية قمنا ببلورتها منذ أكثر من عشرين سنة(2)، وهناك من كتب في هذا الموضوع في اختراق عبقري لإمكانيات المستقبل قبل وقوع الأحداث بزمن طويل؛ فحذر من العنف في المجتمع العربي قبل مايزيد عن ثلاثين سنة(3).

هذه الكتابات هي بانوراما شمولية، من منظور فلسفي ومنظومة معرفية، ورؤية منهجية سيكولوجية اجتماعية تاريخية؛ لبناء ثقافة عربية اسلامية علمية سلمية، أكثر من كونها تخدم مرحلة سياسية بعينها.

الدفاع عن المظلوم:

ومن هذا المنظور يمكن تأمل الجهاد في الاسلام؛ فهو شرع ليس للهجوم على المجتمعات الأخرى واقتحامها بالقوة المسلحة، وإجبارها على اعتناق الإسلام؛ بل هو دعوة لإقامة حلف عالمي للدفاع عن المظلومين ولو كانوا غير مسلمين، لرد ظلم الآخرين ولوكانوا مسلمين، بمعنى أن الجهاد يأخذ بعداً إنسانياً وليس انغلاقاً عنصرياً، فهو موجه ضد كل ظالم ولو كان مسلماً، إذا كان يجبر الناس على ترك عقائدهم وديارهم بالقوة المسلحة، في حركة للدفاع عن المظلومين البؤساء ولو كانوا غير مسلمين في الأرض كلها، وهذا يظهر واضحاً من خلال الآية الأولى التي نزلت في سورة الحج، ويدخل ضمنه حماية حرية الرأي والعقيدة والتعبير داخل المجتمع الإسلامي(أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا) (الحج: 39)، وبمراجعة القرآن من أوله حتى منتهاه نراه يقرر حقيقة بدون كلل، أن الجهاد آلة مسلطة لحماية الإنسان من الفتنة أي الإكراه (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) (الأنفال: 39)، فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع (لا إكراه في الدين) فيحمي كل إنسان مهما كان دينه ولو كان غير مسلم، ضد من يمارس الظلم ولو كان مسلما؛ عندما يخرجه من دياره أو عقيدته بالإكراه دخولا وخروجا، فالجهاد إذاً آلة قد تستخدم ضد المسلم والكافر إذا كانا ظالمين، ولا تستخدم ضد من يمارس العدل مؤمنا كان أو كافرا، ومنه يفهم أن الهجوم على المجتمعات المجاورة لإدخالها بالقوة المسلحة إلى الإسلام ليس من روح الإسلام، وذكر القرآن هذه القاعدة للتعامل مع المجتمعات المجاورة بشكل صريح حيث أنه لا ينهى بل يحض على معاملتهم بالبر والقسط طالما لم يمارسوا الأمرين المكروهين من إخراج الإنسان من بيته أو مايعتقد به بالقوة المسلحة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة:8)، طالما لم يخرجوا الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة، وبضوء التأمل الحذر في هذه الفكرة ترتسم أمامنا خريطة واضحة لدينامية الأفكار وعملها الاجتماعي.

إذا فهمنا هذه القاعدة أمكن تطبيقها ميدانياً حيث تطلبت التطبيق، فإذا رأينا أن الوثنيين يُضطهدون ويعذبون ويطردون من ديارهم بالقوة المسلحة في أقصى جزر الأرض على يد المسلمين؛ فيجب نصر الوثنيين المظلومين ضد المسلمين الظالمين، والعكس بالعكس؛ لأن علة الجهاد هي ردّ الظلم من أي مصدر جاء. ويجب تجنيد إمكانيات المجتمع الإسلامي للتحرر من الظلم داخلياً، وحمل روح العدل إلى العالم، والتحالف والتعاون مع كل القوى الدولية لترسيخ مفهوم العدالة؛ فالإسلام يريد تحقيق العدالة في الأرض.

ما هي الحرب ومصيرها؟

غدت الحرب موضة قديمة يمارسها المتخلفون، وكل بؤر النزاع والحروب في العالم اليوم هي في معظمها مناطق المتخلفين، وعندما نتأملها نراها في أفغانستان والصومال وزائير، فكلها كما نرى مناطق المتخلفين بما فيهم الصرب العنصريين، والعالم الذي نعيش فيه مقسوم إلى شريحتين: شريحة أولى متقدمة تملك العلم والمال قد توقفت عن حل مشاكلها بالحروب، وشريحة ثانية متخلفة جاهلة لم تفهم طبيعة هذا التحول الصاعق، فمازالت تؤمن بالحروب، فهي تكدس السلاح، ومن المتناقضات والمضحكات المبكيات أن (مصير) الحرب يعود مرة أخرى إلى يد الشريحة الأولى باعتبارها تملك التقنية وأسرار التسلح ولذا فهي تنصر من تشاء وتخذل من تشاء، فيمكن لأي مجنون أن يرتكب حماقة دخول الحرب ولكن مصيرها سوف يكون بيد عالم الكبار، وهذا يعني أن من يريد حل مشاكله بالقوة المسلحة يكون قد ارتهن مصيره للعالم الأول من جديد (الذي أخذ لقب الدول الثماني بدءاً من مؤتمر دنفر في كولورادو صيف 1997م) حيث لم يمثل فيه العالم الإسلامي ولا بصفة مراقب، في إشارة واضحة ومذهلة إلى مركزنا وثقلنا العالمي!!.

هذه الحقيقة المزلزلة لم يفهمها سياسيو العالم الثالث حتى الآن، ويظنون أن شراء السلاح وتكديسه سوف يحل مشاكلهم، وهو في الواقع يرهن مصائرهم، ويبدد أموالهم فيما لا جدوى منه، سوى زيادة هذا الوضع العجيب المتناقض في العالم، والكبار يفهمون هذه اللعبة تماماً ويتمنون من كل قلوبهم أن تستمر إلى ماشاء الله.

وهذا المنعطف المصيري حدث في تاريخ الجنس البشري صباح يوم 16 تموز/يوليو من عام 1945 عندما تمت تجربة أول سلاح نووي في تاريخ الجنس البشري، حيث امتلك الإنسان سقف القوة، واكتشف معها حقيقة مفزعة، أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانتحار الجماعي، وأدرك أن الحرب عبث وباطل، وأنه لم يعد هناك منتصر، بل موت جماعي للكل، فلم تعد الحرب إلا أسلوبا قديما لا يحل المشاكل، بل يقود إلى نهاية الجنس البشري، وظهرت هذه الحقيقة بشكل واضح في كوبا مع أزمة الصواريخ النووية، عندما تواجهت أمريكا وروسيا، وعرف الطرفان في أيام عصيبة للغاية لاتمحى من ذاكرة السياسيين والمدركين لحركة التاريخ، أن العالم كان على حافة هاوية الدخول في حرب نووية، وعندها أدركت كل الأطراف أن الحرب أصبحت موضة قديمة، وأكد هذا الرئيس الأمريكي (آيزنهاور) عندما قال: (يجب أن نعلم أنه ليس هناك من بديل للحوار على طاولة المفاوضات إلا الانتحار!! ) (4)، أو كما عبر عنها الرأس العلمي المدبر الأول الذي أشرف على إنتاج السلاح النووي (اوبنهايمر) عندما قال: (أصبح العالم مثل العقربين تحت ناقوس زجاجي واحد، يتربص كل واحد بالآخر أن يقضي عليه) (5).

تطور وتصعيد القوة:

ومشى هذا التطور في خطوتين: الأولى الحرب الباردة، وتصعيد امتلاك القوة النووية (MAXIMIZING) إلى درجة تفجير الاتحاد السوفيتي أفظع قنبلة هيدروجينية التحامية حرارية في تاريخ الأرض عندما انفجرت بقوة 58 ميجا طن(6) عام 1961 م، مع العلم أن قنبلة هيروشيما كانت من عيار 18 كيلوطن (TNT)، أي إنها كانت أقوى من قنبلة هيروشيما بـ 3200 مرة ؟! حتى فهم السياسيون الذين لايرون في العادة أبعد من أرنبة أنفهم أن طريق القوة مسدود، والذي أفهمهم هذه الحقيقة الصاعقة هو العلم، فالعلم قاد إلى السلم.

وكانت الخطوة التالية في عام 1989 م عندما تم دفن الحرب الباردة، في جنازة خاشعة في باريس، وبعدها بدأ العد التنازلي للتخلص من السلاح جملةً وتفصيلاً؛ فالصواريخ النووية تفكك، وبراميل الغازات السامة تحرق، والبلوتونيوم المهرب يلاحق في أصقاع المعمورة وأرجاء الكون الأربعة، خوفاً من حماقة نووية.

ولكن يتعجب المرء مذهولاً من بعض التصرفات؛ فالسلاح مازال يصنع ويباع وسوقه رائجة مثل لعب الأطفال، فكيف نفهم هذا التناقض العجيب والسر المحير ؟ ألا يفهم العالم الأول أن الأسلحة أصبحت موضة قديمة وهو يبيعها ؟! ولماذا يبيعها طالما أنها لاتضر ولاتنفع مثل أصنام قريش القديمة ؟! هنا تكمن نقطة أخلاقية يعاني منها العالم الأول الذي يملك التقنيات، وهو أنه يريد المحافظة على امتيازاته وغناه وتفوقه؛ فالاحصائيات التي أعلنت عنها مؤسسات التنمية البشرية(7) أظهرت - من خلال معطيات معينة مثل: الأمية ومستوى دخل الفرد، ومتوسط العمر، والتعليم والطب المجاني، والضمانات الاجتماعية - أن البلد الأول في العالم العربي هو البحرين، ولكنه مع هذا أخذ رقم 42 في السلم العالمي، في حين أخذت كندا رقم واحد، وأمريكا رقم 4، ففي هذا المخطط البياني نرى أن الغرب يتمتع بامتيازات يريد المحافظة عليها من خلال إتخام نفسه بامتصاص وشفط أموال العالم، من خلال الإيحاء بشكل وآخر إلى العالم الثالث أنه بحاجة إلى السلاح، وأن هناك نوايا سيئة أو هجوماً مبيتاً من بلد على آخر؛ فلابد من التسلح أو حتى افتعال النزاعات، وإسرائيل في هذا المجال بارعة للغاية وهي تبيع كمية رهيبة من السلاح لكل العالم، ففي عام 1996 م باعت إسرائيل حوالي 2 مليار دولار أسلحة معظمها إلى دول في آسيا‍!.

مشكلة الغرب الأخلاقية والمحافظة على الامتيازات:

الإبقاء على هذا الوضع بشفط وامتصاص أموال العالم بأشد من الكنّاسة الكهربائية لغبار السجادة من العالم الثالث ببيعه السلاح، هو المشكلة الأخلاقية للعالم الغربي، الذي ينتج سلاحا لن يستعمله هو بالذات، وإذا شعر بالخطر منه فهو يدمره في أرضه حيث كان، فهو لن يبيعنا سلاحا لننتصر عليه بهذا السلاح الذي أنتجه، فهذا تناقض لا يقع فيه جحا وأشعب وهبنقة!!.

إن الدول الكبرى أدركت عقم مفهوم القوة، عندما قطعت الشوط إلى نهايته؛ فاصطدمت بالجدار النووي كما يصطدم الأعمى بجدار لم يره؛ فهم يعلمون أن أكبر خطر يهدد امتيازاتهم هو انتباه واستيقاظ المغفلين على هذه الحقيقة؛ فنكف عن شراء الاسلحة، ونفعل كما فعلت اليابان، فهي أجابت الولايات المتحدة عندما طلبت منها التسلح كي تحفظ نفسها من الخطر الروسي بكل أدب شرقي: نحن ملزمون باتفاقية الاستسلام اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية التي تحظر علينا التسلح، فنحن مشغولون الآن بصناعة الفيديو والكاميرات والتلفزيونات والسيارات، وهكذا كانت النتيجة أن ألمانيا واليابان اللتين استسلمتا بدون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية، قد ارتفعتا إلى قمة العالم بدون سلاح، في حين هوى الاتحاد السوفيتي وهو يملك كل السلاح، وانتبهْ إلى هذه الحقيقة، أما نحن فمازلنا نكدس (خردة) السلاح استعداداً لحرب مضى وقتها وأصبحت موضة قديمة، كما قال الشاعر العربي امرؤ القيس قديماً واصفاً الحرب:

أول ما تبدأ الحرب فتية تسعى بزينتها لكل جهــول

حتى إذا حميت وشب ضرامها غدت عجوزاً غير ذات حليل

شمطاء جزّت شعرها وتنكــرت مكروهة للشم والتقبيل!!

عندما نستيقظ سنصل إلى حقيقتين جوهريتين: إن السلاح والحرب لا يحلان المشاكل، وإن شعباً واعياً لايمكن أن يتسلط على رقبته طاغية أو ديكتاتور، كما لا يمكن مسكه أو احتلال أرضه من قبل أجنبي إلى الأبد، كما في (هونغ كونغ) التي تعاد اليوم إلى الصين بعد احتلال بريطاني دام 150 سنة (قرن ونصف) وبدون حرب، واليابان نموذج عجيب في هذا السياق؛ فهي وألمانيا تم احتلال أراضيهما بالكامل، ولكن البلدين لم يشعرا بالاستعمار، كما لم يقودا حرب تحرير شعبية للتخلص منه!.

ولكن نموذج أفغانستان يعطينا الصورة المعكوسة؛ فالأفغان اليوم لا يقاتلون (السوفييت) بل يذبح بعضهم بعضاً، وكابول تهدمت على يد (المجاهدين) أكثر من (السوفييت).

إن قصة النجار واللص فيها عبرة كبيرة، فعندما ذهب النجار إلى الصلاة غافله اللص فسرق بابه، فطارده النجار حتى التقيا خارج البلدة، واللص يطير بالباب على كتفيه، فهجم النجار عليه وطرق الباب قائلاً له افتح افتح!! فما كان من اللص الذي رأى كل هذه البلاهة إلا أن أغلق الباب في وجهه..

إن فلاة عريضة لاتنفع في فتح عقل مغلق، والعرب اليوم يعيشون أزمة ثقافة وعدم إدراك لطبيعة العصر الذي يعيشون فيه.

أخلاقية التخلي عن القوة من طرف واحد!!:

لم يستوعب الكثيرون بعد فكرة صراع ولدي آدم (ع) المذكورة في القرآن الكريم كأسلوب متقدم لحل مشاكل الصراع الإنساني، وكيف أن أحدهما ارتكب جريمة القتل في حين أن الثاني لم يدافع عن نفسه، وهي قصة حكاها القرآن أنها حدثت، في حين لم نستطع نحن استيعابها نظرياً، وهذا يروي قصة مرض الثقافة وتشربها بالعنف، بل إن القصة تحمل بعداً تقدمياً، مازال الشوط فيه بعيداً أمام الجنس البشري كي يحقق النموذج الإنساني السليم.

في الصراع الإنساني هناك نظريتان، تقوم الأولى على رد العنف بالعنف بل بأشد منه، فهو يلجم العنف المقابل، أو هكذا خيل للإنسان منذ مطلع التاريخ، وتقوم النظرية الثانية على عدم رد العنف بالعنف بل إطفائه بالحب.

النموذج الأول أسهل وله بعض النتائج التي تبدو للوهلة الأولى إيجابية؛ فالعنف المضاد يلجم العنف الأول الذي انطلق، وهي النظرية التي يقوم عليها العالم حتى اليوم، بما فيها السلاح النووي تحت فكرة الردع المتبادل، الذي بدأ يغير مسيرته وروحه ونظمه بشكل جوهري وأخلاقي.

النموذج الثاني لم يستخدم حتى اليوم إلا بشكل محدود، والسبب في ذلك تربوي ثقافي، فترى الإنسان الحضاري قصير؛ إذ الحضارة لم تبدأ مسيرتها الا منذ فترة قصيرة لاتتجاوز ستة آلاف سنة، مقارنة بعمر الأرض الممتد إلى 4,6 مليار سنة وظهور الإنسان قبل سبعة ملايين سنة على ظهر الأرض، مع التحول الحضاري الهائل الذي بدأ منذ ثلاثة قرون ولم يشتد عوده إلا منذ نصف قرن فقط.

نموذجان لحل جوهر الصراع الإنساني:

النموذج الأول اسُتخدم بما فيه الكفاية، وأثبت في النهاية أنه أسلوب عقيم ولايفضي إلى حل المشاكل، بل تصعيدها والدخول في دوامة العنف بدون توقف، فالعنف يولّد العنف، والعواطف تستحث مثيلاتها وتولد نظائرها، فالشر يفرخ الشر، والدم يهيج الدم، والحقد يزرع الحقد، والكراهية تعبير عن ارتداد وانكفاء على الذات، خلافاً للحب الذي هو عملية مشاركة، وهكذا فحلقة العنف والعنف المضاد لاتنتهي، بل يقود العنف إلى العنف المضاد، في مسلسل رعب لا تدرك العين نهايته ولا يحيط الأفق بجنباته.

النموذج الثاني يعتمد (سيكولوجية) خاصة لفرملة وإلغاء هذا المسلسل، وهو التوقف عن العنف من طرف واحد، فعندما يتوقف أحد الطرفين عن الصراع لا يبقى صراع؛ لأنه لا يعقل أن يصارع الإنسان نفسه، فتعريف الصراع هو اشتباك طرفين كما نعرف، ولكن المشكلة أن أحد الطرفين عندما يلجأ إلى إيقاف الصراع ولو من طرف واحد، يظن فيه الناس أنه جبن وهذا لا تتحمله النفس، أو هو استخذاء ورضوخ للباطل، وهو وضع نفسي لا يحسد المرء عليه ولا يطيقه، بل يتفجر لاحقاً في جولة عنف جديدة أشد هولاً في إيقاعها؛ لذا كان لابد من تفكيك وتحليل الجوانب الخفية في لعبة الصراع الإنساني، ولماذا كان الصراع غير مجدٍ والقوة لاغية، واستخدام السلاح وكل ما قرب إليه من قول وعمل، لا يقود في النهاية إلا إلى صبّ البنزين على النار، وإذكاء جذوة الصراع ولهيبها؛ لتأكل في النهاية كل الأطراف في أتونها التي تتلظى.

النموذج الأول هو استعداد الطرفين لخوض الصراع سواء على مستوى الأشخاص أو المؤسسات أو الدول، كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه، فهو اعتبر أن تسلح الدول وبناء وزارات الدفاع يحمل ضمناً سوء النية لدى الآخرين؛ فعندما تبني دولة وزارة وتعطيها لقب (الدفاع) فهذا يوحي بأنها تتوقع هجوما يجب عليها أن تدافع فيه عن نفسها ؟! ولكن المصيبة أن هذه الروحية والعقلية ليست في طرف واحد، فعندما لايأمن الإنسان بوائق جاره، يسعى للحماية منه، وكذلك الحال في أزمة الثقة في الثقافة والسياسة العربية، والتي أظهرتها حرب الخليج الأخيرة.

تفكيك نفسي لآليات الصراع:

عندما يضع الطرف الأول يده على السلاح، يتحرك الطرف الثاني آلياً فيضع يده على السلاح أيضاً (النموذج الأول) وهذا يعني أن الاثنين صارا جاهزين لإطلاق النار، كل ما ينتظرانه هو من سيبدأ؛ لأن الاثنين قد استعدا بنفس قوة التهيؤ النفسي والاستعداد المعنوي للدخول في الاشتباك.

القضية هي قضية سبق لا أكثر في هذا الماراثون الأحمق، تماماً كما في أفلام رعاة البقر مثل (جاك سلايد) في المسدسات الأمريكية، وكيف أن الأسرع هو الذي يفوز بقتل خصمه وغريمه، أو على الطريقة الفرنسية في حل الاهانات بضرب الغريمين بعضهما بالغدارات المحشوة بطلقة قاتلة، الأسرع والأمهر هو الذي يقتل الأبطأ والأجهل بفن القتل.

هذا يعني أن كلا الطرفين يحملان نفس الجرعة المركزة من روح الإجرام والقتل، أي أنهما مثل بعض، لايفترقان عن بعضهما بالتوجه النفسي والاستعداد العقلي، والفرق بين الاثنين هو من سيكون القاتل (الجاني)، ومن سيكون الضحية (المقتول)، إذاً هي مسألة السرعة والمهارة في استخدام أداة القتل.

في الواقع أن الاثنين قتلة ومجرمون، وأشار إلى هذا المعنى الحديث الشريف عندما اعتبر أن القاتل والمقتول كلاهما في النار، فالصحابة لم يستطيعوا أول الأمر استيعاب وهضم هذا التحول المفاجيء في المفاهيم، فكيف تحول وبشكل صاعق المقتول إلى قاتل، بل ويدخل النار فوقها؟!، فالمسكين مات مقتولا؛ فمشكلته أن خسارته مضاعفة بالقتل في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة فكيف يمكن فهم المسألة على هذه الصورة؟!.

الحديث الشريف حل المشكلة بزحزحة موضع النقاش، عندما لفت النظر ليس إلى التأمل البارد المغفّل في واقعة الجريمة، بل لاستحضار الوضع النفسي عند الطرفين قال: ( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه).

ويظن بعض الناس أن هذا الحديث يخص المسلمين فقط باعتبار أنه: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. في محاولة لفهم عنصري مغلق، في حين يبين الحديث الآليات النفسية للإنسان عموماً، وأن هذا يحدث كواقعة إنسانية تخص الإنسان أينما كان، وفهم محدود عنصري مغلق من هذا النوع حرمنا من الاستفادة من الكثير من كنوزنا الثقافية.

في النموذج الأول يخيل لطرف ربح الجولة الأولى أنه امتلك القوة والمصير عندما حطم خصمه، ولكن الذي يحدث أن جولة الصراع الأولى، تخلق حالة نفسية من الرعب المتبادل والحقد المتراكم والاستعداد لجولة الانتقام أو رد الانتقام المنتظر فيما بين طرفي الصراع؛ فيستعد الطرف الأول المنتصر لهجمة المهزوم المسحوق المتآمر الذي يستعد في السر والنجوى لرد الاعتبار والانتقام.

ولكن الجولة الثانية يجب أن تكون باستعداد واستنفار أفظع ونفقات أكبر؛ إذ يجب دخولها ساحقة ماحقة أعنف وأشد من الأول، فطالما انتصر الفريق الأول بأسلحة وتكتيكات معينة؛ وجب أن يهيئ الطرف المهزوم نفسه بفعالية أفضل، وتكتيكات أبرع، وأسلحة أعنف وأمضى وأكثر تدميرا.

الجولة الثانية ولدت من رحم الجولة الأولى، وستولد الثالثة بدورها من جحيم الثانية ونارها ولظاها، كما ستولد الرابعة من تضاعيف واختلاطات ومضاعفات الثالثة، مثل المرض الخبيث، في مسلسل لايعرف الا شيئاً واحداً، أنه في كل جولة يجب أن يكون أشد عنفاً وأكثر ظلما وأرعب وأبعث على الهول.

النموذج السلامي في المقاومة لا يعتمد المراوغة السياسية والتكتيك الوقتي العابر، ولا يعني أنه جبان بل عاقل وإنساني واقتصادي، ويخلق الجو الصحي لنمو التنافس الإنساني، ولا يريد تحطيم الخصم وإلغاء إرادته بل التقاء الإرادتين، وحفظ الكيانين، فالعالم فيه متسع للجميع؛ من كان له أذنان للسمع فليستمع.

مـــراجـــع وهـــوامـــش:

(1) فيلسوف رواقي من هيرابوليس بفريجيا ( عاش حوالي 55 إلى 135 م ) كان عبداً لكاتم سر نيرون ثم أعتق، يؤكد في فلسفته على الحرية والعناية الالهية والاتجاه العملي والنزعة الإنسانية، فعلى الإنسان أن يختار بين أن تستعبده الاشياء الخارجية، أو أن ينجو بحريته متحصنا بغرضه الحقيقي وهو الشيء الوحيد الذي يقع بأسره في نطاق قدرته، والذي لايمكن أن تنال منه الشرور الخارجية. وتتألق إنسانية تعاليمه ونبلها في مؤلفه (الموجز) وفي أربعة كتب من المحاضرات بقيت لنا من مذكرات تلميذه أريان وكلمة الرواقية ( STOICISM ) أو المشاؤون جاءت من الرواق أو الممر وهي مطارحة وتلقين وتعليم الأفكار الفلسفية أثناء المشي في الهواء الطلق أو في ممرات أعدت في المعاهد التعليمية، وهناك من يظن أن هذا الفيلسوف هو لقمان الحكيم المذكور في القرآن الكريم ـ الموسوعة الفلسفية المختصرة ـ نقلها عن الانجليزية فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق ـ دار القلم ـ ص 22 انظر كذلك موسوعة المعرفة الموسعة وكتاب ظاهرة المحنة للمؤلف ص 80.

(2) يراجع في هذا كتابي (في النقد الذاتي.. ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية ) الذي صدر في عام 1982 م.

(3) يراجع في هذا كتاب جودت سعيد (مذهب ابن آدم الأول) الذي صدر عام 1965 م قبل 32 عاماً وقام بتخليص المسألة بشكل رائع من الناحية الشرعية وتم عرض الكتاب على العديد من العلماء والفقهاء.

(4) عن كتاب مصير الكوكب الأرضي ـ تأليف جوناثان شيل.

(5) مجلة (دير شبيجل) الألمانية.

(6) الميجا: مليون طن أو ألف كيلو طن.

(7) إذاعة لندن بتاريخ 18 / 6 / 97 م.