النبأ

 

 

 

 

الفقه بين الاجتهاد والتقليد (1/2)

 

عبد الكريم الحائري

لقد كان بحث الاجتهاد من المواضيع المثيرة للجدل والنقاش في المنتديات العلمية، الأمر الذي دعنا إلى الإدلاء بدلونا في هذا المجال، وقد ارتئينا أن نعالج فيه أولاً بحث الاجتهاد، ومنه ننتقل إلى بحث التقليد ثانياً وفيه فصول:

(الفصل الأول)

البحث اللغوي

قال ابن الأثير في (النهاية): الجهد - بالفتح - المشقة وقيل المبالغة، وبالضم الوسع والطاقة.

وقال الأزهري: الجهد - بالفتح - بلوغك الأمر الذي لا تألوا عن الجهد فيه.

وقال ابن السكيت: الجهد: الغاية، والجهد - بالضم - الشيء القليل يعيش به المقل.

وعلى هذا فالاجتهاد هو الافتعال من الجهد والطاقة، والمتحصل من المعنى اللغوي أنّ الاجتهاد هو المبالغة في بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة في القول أو الفعل للحصول على الغاية أو الوصول إليها.

ولا يخفى أنه لا مجال للإشكال على مثل هذه التعاريف؛ إذ هي ليست تعاريف منطقية أو فلسفية بل هي للتقريب وشرح الاسم.

ومن الواضح اشتمال المعنى اللغوي على وجود غاية يسعى إليها المجتهد ببذل جهده واستفراغ وسعه، ومع عدم وجود غاية ينقلب ذلك إلى العبث.

( الفصل الثاني )

البحث الاصطلاحي

ولا نقصد هنا نقل كلمات الفقهاء والنقض والإبرام فيها، أو بيان التعريف الاصطلاحي الدقيق الجامع والمانع، بل نريد الإلماع إلى معناه وتقريبه للفهم العرفي، ولم يكن للفقهاء معنى آخر غير ما ذكر في اللغة مع تحديد هو بذل الجهد والطاقة واستفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ويكون ذلك ناشئاً عن الملكة والقدرة الراسخة في النفس.

ويشير التعريف أولاً إلى وجود الغاية؛ وهي تحصيل الأحكام الشرعية، وثانياً إلى أدلة لابد من النظر فيها، وثالثاً أن يكون ذلك باستفراغ الوسع وبذل الجهد؛ أي استفراغ الطاقة وبذل الوقت على هذا الأمر وعدم جعله على حاشية الأمور وحافتها، ورابعاً: يشير التعريف إلى كون ذلك منبعثاً عن الملكة النفسانية.

ومع عدم توفر أحد هذه الأمور لا يصدق الاجتهاد الاصطلاحي؛ فلو فقدت الملكة فلا يكون الشخص مجتهداً، وكذا إن لم تكن هناك غاية أو نظر في الأدلة الخاصة، أو لم يكن هناك بذل الجهد واستفراغ الوسع، بل كان يبذل القليل من مجهوده؛ بمعنى عدم النظر والإحاطة بما يحتاجه من المقدمات أو المقومات.. وفي الحقيقة أن التعريف يشير إلى الجانب النفسي وهو كونه ملكة ووجود غاية تحركه نحو المطلوب، فضلاً عن الجانب العملي وهو بذل الجهد للوصول إليها.

( الفصل الثالث )

البحث في الكتاب الكريم

ورد لفظ (جهد) بمختلف مشتقاته في القرآن الكريم إحدى وأربعين مرة وجاءت المعاني طبق الوضع اللغوي دون تدخل اصطلاح خاص، ومن مشتقاته الجهاد في سبيل الله بمختلف صيغه وواضح فيه وجود الهدف؛ إذ بدون هدف لا يتحرك الإنسان عادة، فيكون معناه بذل الوسع وإنفاذ الطاقة لطرد العدو عن ساحة الإسلام المقدسة، وهذا الأخير هو هدفه حتى تطهر ساحة قدسه ويظهر على الأديان كلها، ولم يستعمل لفظ الاجتهاد في الكتاب الكريم.

( الفصل الرابع )

البحث في ضوء السنة المطهرة

استعمل لفظ (جهد) بمشتقاته - وخصوصاً الجهاد - بكثرة في الخطب والكتب الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته(ع).. ولكن البحث في لفظ الاجتهاد ورد في كتب السنّة، حيث جاء لفظ الاجتهاد في أحاديثهم بشكل يلفت النظر، حتى نقل أن النبي (ص) لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: بم تقضي في الناس؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: باجتهاد رأي.(رواه أبو داود في سننه والترمذي والدارمي في حديث معاذ فيما أرسله النبي (ص) إلى اليمن).

و بناءً على هذا الحديث فإن القضاء والحكم بين الناس إما أن يؤخذ من كتاب الله أو من سنة رسول الله (ص) أو من عند المتصدي، فآراؤه ستكون معادلة لكتاب الله وسنة النبي (ص)!!. ويا ترى من أين جاءت آراؤه إن لم تكن من الكتاب والسنة؟! فهل له اتصال بالوحي حتى يسدد ويؤيد ويكون نبياً مع نبي الإسلام؟ أم كان يلقى إليه ومن أين؟ وإن لم يكن كذلك فهل يمكن له الفصل والقضاء بالرأي؟ من هنا انشأ أصحاب الرأي هذا التيار بعد وفاة رسول الله(ص) واستمر في ذلك بعدهم معاوية بن أبي سفيان حيث اجتهد في قتال الإمام علي بن أبي طالب خليفة رسول الله وأحدث فتنة كبيرة في الأمة، والقوم راحوا يبررون ذلك بأنه اجتهد فأخطأ، وكان من جملة اجتهاده أنه سنّ سبّ علي بن أبي طالب(ع) وكان أول من أسس سبّ الصحابة، حتى أن سنة سبّ علي (ع) استمرت قرابة ستين سنة؟.

وعلى ذلك يكون معنى الاجتهاد هو إبداء الرأي مقابل رأي الشريعة المقدسة الغراء؛ والاجتهاد بهذا المعنى صار مورد النقد والذم من قبل أهل بيت العصمة والطهارة، لأنه تأسس في مقابلهم، بحيث صار أصحابه يعتمدون في تصويب آرائهم على القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وغير ذلك مما لم يثبت بالدليل القطعي حجيته، بل ثبت خلافه؛ إذ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، فإذا لم يتمكن الإنسان من الإطلاع عليها باعتبارها أمراً غيبياً، فكيف يمكنه الإفتاء بها؟!.

فلذا لم يستعمل أهل البيت(ع) لفظ الاجتهاد بل كانوا يستعملون لفظاً أخذوه من القرآن الكريم، وهو لفظ الفقه ومشتقاته، وأبدلوا لفظ المجتهد بالفقيه، حيث ورد هذا اللفظ في عشرين مورداً في القرآن الكريم ومنها الآية الشريفة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة: 122)، فالتفقه في الدين هو فهم مرادات الشريعة من الشريعة ذاتها لا من خارجها وبالآراء، فالفقيه على هذا المعنى هو مقابل المجتهد على ذلك المعنى، وإن صار فيما بعد يطلق لفظ المجتهد على الفقيه أيضاً.

ومما ورد عن الأئمة (ع) أن: (فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب) (1)، وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: (المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة) (2). وشدد الأئمة (ع) على التفقه في الدين حتى جاء عن الإمامين الباقر والإمام الصادق (ع) قولهما: (تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لا يتفقه في دين الله لم ينظر الله له يوم القيامة ولم يزك عمله) (3).

ولكن التفقه هنا أعم من وصوله إلى مرحلة الاصطلاح بل هو بمعناه اللغوي الذي يعني فهم مرادات الشريعة بالأحاديث الشريفة المبينة للآيات القرآنية، وذلك أعم من أن يكون بمعنى الاجتهاد الاصطلاحي أو التقليد.

من هو الفقيه؟

جاءت حدود الفقيه على لسان أهل العصمة والطهارة مبينةً مقوماته ومقدماته، فمنها ما يرتبط بجانب زهده كما ورد في (الخصال) عن الصادق(ع) قوله: (لا يكون الرجل فقيهاً حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل وبما سد فورة الجوع) (4).

الذي يلاحظ من الحديث إلفات النظر إلى أن الفقيه همّه ليس الأمر الظاهري، دون أن يعني ذلك أن يظهر نفسه بمظاهر سيئة، بل لا يكون كل همّه ذلك ويصرف جلّ وقته عليه؛ فإذا وجد ثوباً جديداً لبسه وإلا لبس الخَلِقَ حتى يجد ما يرزقه الله به، ولا يتكالب على الدنيا، ويوضح هذا المعنى الحديث النبوي الشريف: (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيأ؟ قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم) (5).

ومن مقومات الفقيه أيضاً فهم النص والتعمق فيه ومعرفة الصحيح منه من الموضوع، كما جاء عن الصادق (ع) قوله: (لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا) (6)، وفي حديث آخر: (نتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) (7)، وجاءت علامات ظاهرية منها يشخص الفقيه كما قال الإمام الرضا (ع): (من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت) (8).

ومن ذلك يعرف معنى كلام أمير المؤمنين(ع) حيث قال: (ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يُرخّص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره.. ) (9) ولا يكون الفقيه حجة على غيره ما لم يكن كما ورد في الحديث عن الإمام العسكري (ع): (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه) (10).

( الفصل الخامس )

أدوار الاجتهاد ومراحله

مرّ تاريخ العلم بدور كانت كلمة الاجتهاد فيه مذمومة، بل ووقعت موقع النقد والأخذ والرّد حتى خلّفت آثاراً سلبية وانطباعاً سيئاً بقي قروناً عندما وقف الإخباريون منها موقف الحذر ظناً منهم أن ذلك تقليد للمخالفين وتبدلت إلى اصطلاح عند الإمامية فقدت محتواها الأول الذي كان ينمّ عن دور مقابل لأهل البيت(ع) وصارت تستعمل لاستنباط الحكم من القرآن وكلمات المعصومين (ع) والاستفادة من موائدهم؛ فكان الاجتهاد مصدراً من مصادر الاستنباط، ودليلاً من أدلة الفقيه، عند المخالفين، فإذا أعوزهم الدليل اجتهدوا بل ربما اجتهد كثير منهم مع وجود دليل شرعي ونص محكم وواضح، وهذا كان ديدن جماعة من الصحابة، ويكفيك مؤونة فهم ذلك كتاب الإمام شرف الدين في النص والاجتهاد، ولا شك أن هذا الأمر باطل ولا نقول به، كما ألمحنا إليه في الفصول الأخرى.

وقد كتبت كتب في الرجال والتراجم، منذ أوان وجود الاجتهاد، في الرد عليه من قبل أتباع أهل البيت (ع) من أصحاب الأئمة(ع) ومن تابعهم بعد ذلك كالشيخ المفيد (قد.س) في القرن الرابع الهجري، حيث رد على ابن الجنيد في (اجتهاد الرأي)، وكتب تلميذه السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس بأن الاجتهاد باطل، الإمامية لا تجوِّز العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد.

وقال السيد المرتضى أيضاً في (الانتصار): (إنما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد، وخطأه ظاهر) (11). وقال أيضاً في مسألة مسح الرجلين: (إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به) (12). واستمر على هذا الخط الشيخ الطوسي (شيخ الطائفة) فقال في (العدة): (أما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين بل محظور في الشريعة استعمالهما) (13). وقال ابن إدريس في أواخر القرن السادس الهجري: (القياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا) (14)، ولكن بدأ الغبار ينجلي عن الكلمة ابتداءً من زمن المحقق الحلي حيث استعملها وصحح استعمالها، وهو من علماء القرن السابع الهجري، وقد عرّف الاجتهاد قائلاً: (وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام من أدلة الشرع.. اجتهاد لا يبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص.. ) (15).

وهكذا أخذت الكلمة مسارها الجديد حتى تعورف إطلاقها على الفقهاء الذين يأخذون أحكامهم من مصادرها الخاصة دون إبداء رأي مقابل النصوص، بل يحكّمون الفهم العرفي واللغوي والدقة في ذلك ضمن ما ورد من نصوص كتابية أو سنة نبوية.

ثم تألق نجم هذه الكلمة وصار عنوان المجتهد مخصوصاً لمن حصلت لديه ملكة استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، كما مضى في تعريف الاجتهاد.

هذا وقد ذهب جماعة إلى أن آراء الصحابة والقياس من أهم طرق الاستنباط وحاولوا الاستدلال على ذلك ببعض الأحاديث الموضوعة التي لا تتلائم مع روح الشريعة، ومنها كتاب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله يرشدهم إلى هذا الوجه، وهؤلاء غفلوا عن أن فتح باب الاجتهاد بهذا المعنى يكون ذريعة لكل من أراد الإطاحة بالحق كما فعل البعض، وهذا الرأي واضح لمن راجع كتب الفقه والأصول لدى القوم، ولكن كان هناك خط معتدل حاول معالجة هذه الظاهرة لما رآه فيها من مخاطر ومفاسد على الدين، فلذا قال ابن حزم الأندلسي: (إن آراء الصحابة لا تلزم الناس، واستند إلى قول أبي بكر حيث قال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية في كتاب الله برأيي وبما لا أعلم). وصح عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتهموا الرأي على الدين وإن الرأي منا هو الظن والتكلف). وعن عثمان في فتيا أفتى بها: (إنما كان رأياً رأيته فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه).

وعن علي (ع): (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل القدم أولى بالمسح من أعلاه)، وعن سهل بن حنيف: (أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم). وعن ابن عباس: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، وعن ابن مسعود قال: (سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه - إلى أن قال: وكل رأي صدر عن الصحابة لا على إلزام ولا إنه حق ولكنه إشارة بعفوٍ أو صلح أو تورع.. ) إلى آخر كلام ابن حزم) (16).

ونقل ابن قتيبة الدينوري عن أبي بكر قوله: (أقول في الكلالة برأيي فإن أصاب فمن الله وإن أخطأ فمني ومن الشيطان)، وعن عمر: (لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره)..(17)

وهكذا تجد في كلمات المعتدلين أنهم ينظرون إلى الصحابة بإجلال، دون أن يعني ذلك أنهم معصومون، بل لم يقل أحد على الإطلاق بعصمتهم، لما رأوه من أخطاءٍ صدرت عن الكثيرين منهم؛ حتى أن النبي (ص) قال فيهم: (ليردّن عليّ أناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك) (18) كما قال (ص): (ستكثر بعدي الكذابة) (19)، فالأخذ بآراء هؤلاء يعد من الأخطار؛ إذ إن الله تعالى لم يسمح لنبيه(ص) بالتدخل والتقوّل، فكيف يقول أناس بالشريعة بآرائهم؟! وهذا هو الاجتهاد الذي كان مذموماً على مدى التاريخ، بخلاف من أجهد نفسه وأتعبها وبذل وسعه وأنفد طاقته في فهم النصوص الشرعية والتقيد بحدودها دون الخروج عنها، فحقيق به أن يسمى مجتهداً بالمعنى الصحيح مع حصول الملكة لديه في هذا الشأن.

( الفصل السادس )

مقومات فهم النص الشرعي

لأجل أن يتسنى للفقيه الوصول إلى مقاصد الشريعة الغرّاء فلابد له أن يكون معتدلاً في مزاجه وتفكيره، بل ويكون معتدلاً في أمور دينه ودنياه؛ ولهذا أشارت الروايات إلى وجوب كون المقلَّد عادلاً وصائناً لنفسه ومخالفاً لهواه.

ومن هنا يجدر بنا أن نشير إلى مقومات فهم الشريعة باعتدال؛ أي دون تفريط وإفراط، بشكل نقاط، علماً أن العوامل المؤثرة على فهم النصوص الشرعية قد تكون داخلية وقد تكون خارجية ومنها:

1- تجنب الإفراط في حب الذات؛ فإنه إذا ما انجذب إلى نفسه ومال إليها، يكون تفكيره حينئذٍ متأثراً بهذه الحالة؛ وبذلك يستجيب إلى وعيه الباطني، فيجر النفع إليه، حتى في أمور الشريعة، وهو ما يؤدي به إلى الانغلاق على نفسه؛ فربما يغتر بما عنده ويظنه الحقيقة، فلا ينصاع إلى التسليم لغيره؛ فلذا جاء في الحديث الشريف: (حب الشيء يعمي ويصم) (20).

2- تجنب حب الفكرة السابقة لأوانها؛ فإنه إذا ترشّح في النفس حب فكرة خاصة انطبعت فيها، وربما صار صاحبها يحمل الأدلة الشرعية عليها، وهذا قد حصل بالفعل، ويظهر واضحاً لمن يراجع التفاسير الشريفة - على سبيل المثال - حيث يجد طابع المفسر الذي له فكرة مسبقة على التفسير، وكيف سار في تفسيره على نهجه المسبق..

والملاحظ هنا أن الشريعة أكدت على التفكير والتدبر، كي لا يبقى الإنسان على خطأه السابق.

3- تجنب حب الانتماء الأسري والعصبية؛ إذ قد تكون العادات الراسخة المكتسبة في الوسط الأسري أو ما درجنا عليه من العادات والأعراف مانعاً من قبول الفهم الصحيح أو قبول الحق؛ ولذا نجد القرآن الكريم يؤكد على هذا الجانب بنقل بعض المشاهد عن الأمم السابقة (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف: 23).

فخاطبهم بقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (آل عمران: 31)، (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24).

4- ينبغي أن لا يحجب التعصب لثقافة معينة عن الفهم الصحيح والتسليم للحق، فإن التمسك بالإرث الثقافي دون وجود إدراك موضوعي يخرجه عن القدرة الاجتهادية للوصول إلى الواقع.

5- تجنب التأليه اللاشعوري للشخصيات؛ كما إذا أحب السلف من العظماء والعلماء وأفرط في حبه لهم، فهذا يدعوه إلى استقبال الأفكار المعلبة والجاهزة منهم دون أن يتجرأ على ردّ العليلة منها بل قد لا يرى خطأً - أصلاً - لتقديسه إياهم، وهذا ربما يوجب تعطيل التفكير والنمو العلمي وإغلاق باب المعرفة، فلا بد أن يحصل على الثقة بالنفس، ويتجنب الانهزامية، ويتحرز عن الذوبان في الشخصيات كيفما اتفق.

فلذا نرى القرآن يؤكد على الجانب القصصي عبر نقل قصص شخصيات تاريخية، ربما وصلت إلى أرقى مراتب الكمال والسموّ البشري، ومع ذلك سقطت إلى الحضيض؛ ومن ذلك قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.. ) (الأعراف: 175-176).

قال ابن عباس بأن هذه الآية أخطر آية في كتاب الله بحقّ علماء الأمة(21)، وفيها إشارة إلى سموهم وعدم عصمتهم.

6- تجنب التسرّع في الحكم؛ ولعلّ من دوافع التسرع في إطلاق الأحكام، هو حب إراحة النفس وتطمينها بالوصول إلى النتيجة، وقد يكون الدافع له أيضاً هو حب الظهور، أو غير ذلك من العوامل؛ فلذا أمر الشارع المقدس بالتأنّي، وجاء في الآثار أن الإمام زين العابدين (ع) كان يتمنى أن تكون له رقبة طويلة كرقبة البعير، مما يعني عدم التسرع في إطلاق الأحكام، وترك مجال لإعادة النظر.

العوامل المادية المؤثرة على فهم النص:

ذكر العلماء عوامل مادية تؤثر على تفكير الإنسان، فتحبب له فكرة، وتنفره من أخرى، وتقرّبه من منهج، وتبعده عن آخر، ومن أهم تلك العوامل ثلاثة:

1- العامل السيكولوجي.

2- العامل الفسيولوجي.

3- العامل البيولوجي.

فأما الأول فيعني التركيبة النفسية للإنسان؛ وهذا يتبع عدة عوامل، منها عوامل الوراثة، ومنها عوامل التربية الأسرية، والعوامل البيئية. ومن العوامل الوراثية ما يمكن ضبطه بتربية النفس وتهذيبها.

وأما الثاني فيعني التركيبة العصبية؛ وللإنسان في نظمها نصيب أيضا في مجال التربية والتهذيب والتلقين، وأمثال ذلك..

والثالث يعني التركيبة الحياتية؛ وهذا الأمر أكثره بيد الإنسان وتتأتى السيطرة عليه بعد النظر إلى الكتاب الكريم وتدبر آياته، والنظر في الأحاديث الشريفة التي تحث الإنسان على التزام السلوك الصحيح في مختلف شؤون حياته، ويعبر عن هذا القسم من الأحاديث بأحاديث العشرة أو أبواب العشرة؛ فالتركيبة الخلقية وإن كانت خارجة عن اختيار الإنسان إلا أن ضبطها يكون تحت سلطته وخاضعاً لنفوذه وقدرته.

العوامل الخارجية المؤثرة على التفكير:

هناك عوامل خارجية أكد العلماء أنها مؤثرة على تفكير الإنسان، وربما أوجبت له الاضطراب الفكري والعصبي، وقد يشعر بها أو لا يشعر؛ بمعنى أنه قد يكون جاهلاً بها أو غافلاً عنها، نذكر منها باختصار ودون شرح:

1- الملابس الضيقة.

2- الحر والبرد.

3- تلوث الهواء.

4- الضوضاء حتى مثل رنة الجرس أو التليفون في البيت.

5- الأضواء المتحركة والخافتة.

6- تحرك ظلال اليد على ورقة الكتابة أو ورقة المطالعة.

7- الجلوس الطويل دون فترات مشي أو استرخاء أو استلقاء.

والغرض من ذكر هذه العوامل، تأكيد الدقة في كون الفقيه بل مطلق من يروم الوصول إلى غرض وفكرة أن يلتفت إلى هذه الأمور والمؤثرات فيتجنب ما يصده عن بلوغ الأحسن.. هذا كله في القسم الأول وهو المقومات.

وأما القسم الثاني وهو المقدمات فنكتفي بما ذكره الشهيد الثاني في (الروضة ج3 ص62) في بحث القضاء ونأخذ منه موضع الحاجة حيث قال: (والاجتهاد في الأحكام الشرعية وأصولها ويتحقق بمعرفة المقدمات الست وهي: الكلام، والأصول، والنحو والصرف، ولغة العرب، وشرائط الأدلة (من المنطق)، والأصول الأربعة هي الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل، والمعتبر من الكلام ما يعرف به الله تعالى وما يلزمه من صفات الجلال والإكرام وعدله وحكمته ونبوة نبينا (ص) ومن أحوال الدنيا والآخرة. كل ذلك بالدليل التفصيلي ولا يشترط الزيادة بالإطلاع على ما حققه المتكلمون.

ومن الأصول ما يعرف به أدلة الأحكام من الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والبيان وغيرها مما اشتملت عليه مقاصده، ومن النحو والصرف ما يختلف المعنى باختلافه ليحصل بسببه معرفة المراد من الخطاب، ومن اللغة ما يحصل به فهم كلام الله ورسوله ونوابه.. ومن شرائط الأدلة الأشكال الاقترانية والاستثنائية.. ومن الكتاب الكريم معرفة ما يتعلق بالأحكام (آيات الأحكام)، ومن السنة جميع ما اشتمل منها على الأحكام).

ويقول في آخر كلامه: (فتحصيل تلك المقدمات قد صار في زماننا سهلاً لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها، وإنما تلك القوة (الملكة) بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69) ).

ولا يخفى أن الشهيد الثاني (رحمه الله) ذكر أهم العلوم التي يعتمد عليها فهم النص الشرعي لا على سبيل الحصر، بل يتوقف فهم النص على أمور أخرى فلابد من فهمها ولو كانت من علوم أخرى، نعم لا يجب الاستقصاء في العلوم إلا بمقدار ما يتوقف عليه الفهم ويكون ذلك مقدمة له، وجاء في كتاب (ما وراء الفقه ج1) للشهيد محمد محمد صادق الصدر (قد. س) ذكر العلوم الأخرى بفهرسة نحن نذكرها مع تعريف وتوضيح لبعضها، وهو يذكر ارتباط الفقه بالعلوم الأخرى من زوايا ولو محدودة منها:

1- بالفلك؛ من عدة زوايا منها ضبط الأشهر بحركة القمر، وضبط أوقات الصلاة بحركة الشمس، وترتبط بذلك أيضاً مسألة رأس السنة في الخمس، والحول في الزكاة، وكذا أعمال الحج.

2- بالجغرافيا؛ من زاوية اتجاه القبلة وموارد أخرى.

3- باللغة؛ من زاوية فهم المفردات اللغوية الواردة في الكتاب والسنة.

4- بالاقتصاد؛ من ناحية تعرضه للمعاملات بشكل مفصل ومطول.

5- بالأمور المالية؛ من حيث مباحث الخمس والزكاة والصرف وتبادل العملات.

6- بالكيمياء؛ من ناحية الاستحالة والانقلاب والاستهلاك.

7- بالرياضيات؛ كالإرث في تقسيم الثروة وموارد أخرى.

8- بالمنطق؛ من زاوية الالتفات إلى صحة البراهين وصحة الاشكال في الأدلة.

9- بالعرفان؛ من زاوية فهم الطهارة المعنوية والقربة المعنوية المشروطة في العبادات وفهم مرادات قولهم: (الصلاة معراج المؤمنين وقربان كل تقي) وغيرها..

10- بالنحو؛ في تشخيص بعض المقاصد المتوقفة على الإعراب أو كيفية الكلمة في الكتاب والسنة.

11- بالطب؛ من عدة نواح منها ما هو مربوط بالعادة الشهرية ومنها تشخيص الوفاة والتشريح والاستنساخ وغيرها..

12- بعلم الاجتماع؛ من عدة زوايا منها الاجتهاد والتقليد وتحريم الاحتكار وغيرها مما هو مؤثر على مجتمعاتنا.

13- بالتفسير؛ من زاوية آيات الأحكام بل أكثر القرآن بما فيه من قصص وأمثال وغيرها.

14- بدراية الحديث؛ في تشخيص الصحيح من الحسن والموثق والضعيف وغيره.

15- بالفلسفة؛ في فهم التأثيرات والحقائق وتمييزها عن الأوهام التي يمكن الاستغناء عنها بما ورد في الروايات، إذ فيه الكفاية - مثل تشخيص السحر والتنجيم أو حقيقة الموت وغير ذلك..

الهـــوامـــش:

(1) البحار: ج2 ص18 ح49.

(2) البحار: ج1 ص208 ح10.

(3) البحار: ج1 ص214 ح18.

(4) البحار: ج4 ص49 ح11.

(5) البحار: ج2 ص110 ح15.

(6) التشريع الإسلامي: ج1 ص157، للسيد محمد تقي المدرسي.

(7) المصدر السابق.

(8) البحار: ج2 ص55 ح26.

(9) البحار: ج2 ص48 ح8.

(10) الوسائل: ج18 أبواب القضاء ب10 ح20.

(11) أصول الاستنباط للسيد علي نقي الحيدري في أدوار الاجتهاد، المعالم الجديدة للشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر في أدوار الاجتهاد.

(12) المصدر نفسه.

(13) المصدر نفسه.

(14) المصدر نفسه.

(15) المصدر نفسه.

(16) المحلى: ج1 ص60.

(17) مختلف تأويل الحديث ص14.

(18) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الحوض، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب خطبة يوم النحر، كما أورده أحمد بن حنبل بطرق متعددة.

(19) البحار: ج2 ص225 ح2.

(20) سفينة البحار: مادة حبب.

(21) التفسير الكبير للفخر الرازي في تفسير هذه الآية.