النبأ

 

الفن الديني.. الواقع والتوجهات

 

 

 

د. حسن السوداني

تمهيد:

في البدء لا بد من فض التشابك بين عدة مصطلحات غالباً ما تتداخل عندما يطرح موضوع (الفن الديني) على طاولة الحوار، حيث تبرز تداخلات عديدة بين المصطلحات (التاريخي والديني) من جهة، وبين (الأسطوري والتاريخي) من جهة أخرى، وكل مصطلح منها يتفرع إلى تفرعات أخرى؛ فالأسطورة على سبيل المثال تأخذ تفرعات أخرى كالحكاية الشعبية والحكاية الخرافية والملحمة و الفلكلور وغيرها.

ولكل من هذه الفروع ارتباطات مفاهيمية أخرى، وحتى لا نذهب بعيداً وتأسرنا المصطلحات، فإننا سنتناول ثلاثة مفاهيم هي: (الأسطورة، التاريخ، الدين) وعلاقة كل منها بموضوع البحث الأساسي (الفن).

فالأسطورة كما يعرفها (ميرسي الياد): رواية أبطالها كائنات خارقة للطبيعة أو عجائبية تعني بالنسبة إلى البدائيين (قصة حقيقية) ذات طابع قدسي ومغزى هام إلى جانب كونها عبرة لمن اعتبر(1) والأسطورة اليوم تستخدم في معنييها: القديم بمعنى الحكاية Fiction والجديد بمعنى (التقليد المقدس والوحي البدائي والعبرة لمن اعتبر) فعندما يتكلم اللاهوتيون عن تجريد الخبرة الدينية المسيحية من (اسطوريتها)، فإنهم يفهمون كلمة أسطورة بمعناها اليوناني وهي الحكاية الخيالية أو الخرافية، أما مؤرخو الأديان فإنهم يشيرون إلى المجتمعات التقليدية (البدائية) حيث تعيش الأسطورة وتكرس نماذج السلوك البشري وبذلك تعطي الحياة معنى وقيمة، وهي تمثل أهم عنصر في الثقافات السحيقة في القدم منها أو التقليدية، فالأسطورة تقص تاريخاً مقدساً وهي تروي حدثاً من الزمن الأولي زمن البدايات العجيب، والأسطورة هي دائماً قصة

(خلق) تخبرنا كيف أن شيئاً صار موجوداً وشخصياتها كائنات خارقة للطبيعة وهي تعرفنا بنشاطهم الخلاق وتظهر لنا قدسية عملهم أو بكل بساطة تكشف لنا طبيعة أعمالهم الخارقة(2) ولعلّ هذا الفهم لطبيعة الأسطورة أدى إلى اقتراب مفهوم التاريخ منها إلى درجة التداخل العجيب بنفس القدر الذي تبعده عنها! فالتاريخ كما يعرفه (بوركهاردت) هو انقطاع مع الطبيعة يحدث استيقاظ الوعي.. التاريخ هو النضال المديد للإنسان، عبر استخدام عقله لكي يفهم بيئته ويؤثر فيها، ولكن الفترة الحديثة قد وسعت النضال بطريقة ثورية، فالإنسان لا يسعى الآن لكي يفهم، ويؤثر في بيئته فحسب، وإنما في نفسه كذلك وقد أضاف ذلك بعداً جديداً إلى التاريخ(3).

ومن خلال هذا الفهم للتاريخ، استطاعت السينما الأمريكية -على سبيل المثال- النفاذ إلى الأسطورة كي تبني لها تاريخاً وهمياً يتجسد صورياً وصوتياً عبر سلسلة من أشهر الأفلام الأسطورية، وهي محاولة إرساء قواعد وتقاليد همها الكبير ينحصر في بناء جدار تاريخي وهمي وعميق مع الأسطورة يجري الاتكاء عليه في لحظات مواجهة الشدة؛ فالأسطورة في أحد تعريفاتها العميقة: (رواية قائمة لمواجهة خطر خارجي يحاول القضاء على راهن الجماعة التي تحاول اختراقها وهي تستحضر الماضي في الراهن لكي تتغلب على عدوها بغية الوصول إلى المستقبل) (4)، وقد تم استثمار هذا المعنى إلى درجة كبيرة أدت إلى إنتاج سلسلة أفلام (اصطدام الجبابرة) لـ(راي هاري هاوزنا) و(مليون سنة قبل التاريخ) وأفلام التوراة مثل (الوصايا العشر) و (سادوم وعمورة) لـ(سدي ميل) و(شمشون ودليلة) لـ(وليم ويلر).

ومن خلال هذا الإنتاج حاولت السينما الأمريكية أن تضع التاريخ محل الفلسفة في التوجه الفكري من زاوية الأسطورة وتعطي (الشرعية الربانية) لأبطال الأحداث المتناولة فضلاً عن نشر (السلام) في العالم مما يعطي هذا المثلث مقومات ارتكاز قيام النظام العالمي الجديد الذي عملت على قيامه الولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا كان هذا المدخل ضرورياً لفهم محتوى الفن الديني (لاحقاً) فلا بد لنا من إيضاح ماهية هذا المفهوم المركب... فهو متكون من كلمتين الأولى (الفن) والثانية (الدين) ومن هاتين الكلمتين نعرف أن كلمة الدين ملحقة بالفن كما تلحق كلمات أخرى مثل... الفن التجريدي.... الرمزي.... التكعيبي.. الملحمي.. الخ.

ومن هنا يعرفه (وجيه فانوس) بأنه: (الفن الذي يتناول الموضوعات الدينية) (5)، أي إنه الفن المرتبط بالدين وليس الفن الديني؛ فالدين بحد ذاته لا ينتج فناً، إنه يقدم المادة الفنية، أما الذي يسعى إلى العمل الفني فهو الإنسان، وبالتالي فهو فن إنساني مرتبط بالدين أو إن محتواه دينيٌ؛ مما يعطي مجالاً واسعاً للمواد المتصلة بالكتب المقدسة أو الأحداث التي عاشها الأنبياء والرسل والأولياء وأهل التقوى من الناس عامة، على أن يكون قد تمت من خلالها ممارسات هي شهادات للدين أو عليه، ومن خلال آخر كلمتين في هذا المعنى (شهادات للدين أو عليه) فإنها تعطينا تفسيراً واضحاً أن الفن الديني يدعو إلى الدين أو يشجع متبعيه على تعميق إيمانهم بما فيه من تشريعات وتعاليم وأخبار كما أنه قد يكون مضاداً ساعياً إلى التقليل من قيمة مبادئ الدين أو الحط من شأنه وربما الهزء به، وهذا ما يحصل باستمرار في الأفلام السينمائية التي تسخر من القيم الدينية ومن رجالاتها بطرق متعددة ومتشعبة، وبالتالي فإن مفهوم الفن الديني ذو حدين وهما متناقضان ويستخدمان بنفس الكفاءة على الجانبين.

الشكل في الفنون الدينية:

تتخذ الفنون الدينية أشكالاً متعددة بقدر عدد الفنون الأخرى، فكل نوع من أنواع الفنون سواء المتحرك منها أو الثابت، يمكن أن يسمى فناً دينياً، مثل المسرح الديني أو السينما الدينية أو الرسوم الدينية والإذاعات الدينية والشعر الديني... الخ وبالتالي فإننا إزاء كم هائل من الفنون التي يمكن استثمارها من الجانب الديني، ولعل أفضل مثال على ذلك التنافس الحاد بين التلفزيونات الفضائية العربية في تقديم المواد الدينية شأنها شأن الإذاعات التي تأخذ تسميات دينية مثل إذاعات القرآن الكريم أو الإذاعات التبشيرية، كما أننا نرى توسعاً في عدد القنوات الفضائية التي تنتهج خطاً دينياً وتخصص فترات لا بأس بها لتقديم البرامج الدينية، ولكي يأخذ هذا الموضوع حقه من البحث سنختار الشكل الفني الأكثر جدلاً بين الفنون الدينية ألا وهو المسرح الديني.

المسرح الديني:

تشير أغلب الدراسات الخاصة بنشوء المسرح أنه (المسرح الديني) كان قد خرج من بين الطقوس الدينية سواء الحركات الإيمائية المصاحبة للعرض المسرحي أو المضمون الحكائي المتضمن في العرض، ويتفق الباحثون على هذا الموضوع في مختلف بلدان العالم سواء الشرقية منها (الهند والصين واليابان) أو الغربية كبلاد اليونان القديمة التي تميزت بالأعمال الدينية التي كتبها (اسخيلوس)، ويشير الدكتور احمد أبو زيد إلى ذلك بالقول: (إن كثيراً من الممارسات الدينية والسحرية في المجتمع البدائي كان لها طبيعة درامية واضحة تتمثل في الصراع بين قوى البشر وقوى الآلهة وقوى البشر وقوى الطبيعية أو بين قوى البشر وبقية الكائنات.. والشعائر التي تمارسها بعض الجماعات القبلية في إفريقيا لاستنزال المطر والاستسقاء والطقوس الطوطمية ورقصات الشامان والطقوس التي تقوم بها بعض الجماعات للصيد والقنص أمثلة جيدة لذلك كله) (6)، وقد استفادت السلطات الكنسية من هذا الموضوع في العصور الوسطى وسخرت المسرح بشكل كامل لخدمة أهداف الكنيسة، إلا أن انتشار المسرح عربياً أو إسلامياً لم يكن بالشكل المناسب أو المطلوب فأغلب المصادر الحديثة تؤيد أن نشأة المسرح العربي كانت على أيدي المصريين وخاصة الشاعر أحمد شوقي وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وغيرهم، وإذا كنا نناقش الموضوع من زاوية البحث والمقارنة بين الأشكال المسرحية الخاصة بالشعوب وخاصة الطقوس والشعائر التي تطورت إلى أشكال مسرحية، كما يشير الدكتور أحمد أبو زيد، فالأحرى بنا تتبع ظاهرة الشعائر الحسينية التي تشير أحدث البحوث في هذا المجال(7) أنها قد بدأت منذ الأيام الأولى التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين(ع) أي قبل نحو 1350 عاماً وهو بحد ذاته يشكل إرثاً مسرحياً هائلاً تطور عبر مئات السنين لينتج أدباً مكتوباً (القصائد الشعرية التي تقال سنوياً في مناسبة الاستشهاد) وجمهوراً متلقياً (الجمهور الحاضر في مناسبات العزاء) ومسرحاً خاصاً (المكان الذي تقام فيه الشعائر الحسينية) وهي الشروط الثلاثة الواجب توفرها في المسرح الاعتيادي، إلا أن المؤسف في الموضوع أننا لم نحصل على توثيق دقيق وعميق لرصد هذه الظاهرة وإعطائها حقها من البحث والتحليل، فلو عقدنا مقارنة علمية بين مضمون هذه الشعائر وما يقابلها في المفهوم الغربي المسمى (الدراما) والتي فصل فيها الحديث (ارسطو) وأصبح المرجع الأساسي في جميع البحوث الخاصة بها بحيث وضع لها مجموعة من الشروط، منها مثلاً أن تتم أحداث (التمثيلية) في 24 ساعة (قدر الإمكان)، وهو شرط خاص ببعد التمثيليات عن مفهوم الملاحم وحتى يتحقق هذا الشرط وضع (أرسطو) فكرته عن (الوحدات الثلاث)، وهي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الحدث، وغالباً ما كان يستعاض عن شرطي الزمان والمكان بالجوقة أو فرقة المنشدين التي تعتبر من أهم عناصر التراجيديا عند الإغريق، وهي بالإضافة إلى دورها في التعليق على الأحداث فأنها تلعب دوراً هاماً في إتاحة الفرصة لتغيير الزمان والمكان إن أراد المؤلف المسرحي ذلك، ولكي ندخل في صلب المقارنة لا بد من ذكر تعريف أرسطو للمأساة أو (التراجيديا) كما يلخصها (ايركرومبي) بطريقته السهلة والميسورة بأنها:

1- تقليد لعمل جدي كامل بنفسه له شيء من الخطر والأهمية.

2- في كلام ممتع بدرجة تتفق مع أهمية كل جزء من المأساة.

3- في صيغة مسرحية، لا في صورة قصصية.

4- وتستطيع بما اشتملت عليه من الرحمة والخوف أن تحدثCatharsis (تطهير) لهاتين العاطفتين(8).

وبملاحظة دقيقة لهذا التعريف يتبين لنا أن الغرض من المأساة (هو الشيء الذي يراد تقليده) وواسطة ذلك - أي الشيء الذي يتم به التقليد - وكيفية التقليد أو الصورة التي يكون عليها فضلاً عن الوظيفة التي تؤديها المأساة.

وإذا كان هذا التعريف قد تناول أربع نقاط فإننا نجدها قد توفرت في الشعائر الحسينية إلى درجة تقترب من المطابقة؛ فالشرط الأول للتعريف نجده متوفراً في مأساة الإمام الحسين (ع) والتي يعاد تمثيلها سنوياً، وهي عمل جدي له خطر وأهمية، كما جاء في الشرط الأول حيث تقوم مجموعة من الممثلين (الهواة) بالانقسام إلى مجموعتين، الأولى تمثل مجموعة الإمام الحسين(ع) التي تقف قرب خيامهم، ومجموعة أخرى تمثل الأعداء (جيش عمر بن سعد) وهذان التشكيلان وما يرتديه الممثلون من ملابس وعُدَدْ وسيوف وما يحملونه من رايات، يعطيانهما صفة الجدية في العمل وبالتالي صفة الخطورة والأهمية فيما يقدم لاحقاً، وهو بحد ذاته تمثيل كامل للشرط الأول من التعريف، بعد ذلك تبدأ الخطب الحماسية بين المجموعتين، تعقبها المبارزات الفردية على الخيول الحقيقية التي يمتطيها الممثلون الرئيسيون من الجانبين، وتتخلل تلك الخطب والمبارزات حوارات فردية تعرف الجمهور بصاحب الشخصية المتحدثة وفضائلها ونسبها وصفاتها وهو كلام يبعث على المتعة، وتأكيد على الوعي الذي يحمله البطل في القضية التي سيستشهد من أجلها، وهذا بدوره يعطي أهمية لكل جزء من أجزاء المأساة، وهو ما يتفق تماماً مع الشرط الثاني من شروط أرسطو للمأساة، كما أن هذا الحوار الفردي أو الجماعي تتخلله مقاطع حوارية بكائية غالباً ما تؤديها مجموعة الكورس التي تمثل النساء المناصرات لفريق الإمام الحسين(ع)، ويؤدي هذا الحوار بالنتيجة إلى تعاطف الجمهور، بما يحمله من جمالية وحزن، فضلاً عن أن الحوار المؤدى من قبل الكورس يعلق على الأحداث ويدعو الجمهور أحياناً للمشاركة عندما يموت أحد الأبطال، كل ذلك بصيغة مسرحية وليس بصورة قصصية، وهو بالتالي يتفق مع الشرط الثالث من التعريف آنف الذكر، كما يتضمن هذا العرض مشاهد صغيرة لكنها في غاية الأهمية في التأثير الدرامي، كتلك التي يمسك فيها الإمام الحسين(ع) طفلاً صغيراً يعاني من العطش الشديد، فيطلب من جيش عمر بن سعد أن يسقوه ماءاً، وبدلاً من أن يسقوه الماء يقوم أحد الممثلين برمي سهامه ليقتل الطفل بشكل إيمائي فتصطبغ رقبة الطفل باللون الأحمر دلالة على مقتله، وهنا تثور ثائرة الجمهور وترتفع أصوات البكاء والحزن الذي يأخذ أحياناً أشكالاً هستيرية، وهذا الفعل يتطابق تماماً مع الشرط الرابع والذي يتضمن وينص على: (تستطيع بما اشتملت عليه من الرحمة والخوف أن تحدث (التطهير) لهاتين العاطفتين)، ويعقب ذلك الختام حيث يبدأ جيش الأعداء بحرق خيام الإمام الحسين (ع) بعد قتل أصحابه واستشهاد الإمام (ع) ويتم الحرق بشكل حقيقي وكذلك سبي عائلة الإمام حيث يقيدونهم بالقيود وسط تعالي أصوات الصراخ من قبل الجمهور، ومن الملاحظ أن أغلب هذه التمثيليات أو (التشابيه) - وهي المصطلح الشائع لهذه الشعائر - تتحاشى مشهد قتل الإمام الحسين (ع) للمنزلة العظيمة للإمام ويستعاظ عنه بخروج جواد أبيض مزين يحمل فوق ظهره عمامة الإمام (ع) ويدورون به أمام الجمهور.

فإذا كانت المأساة وفقاً للتعريف الأرسطي قد تطابقت مع المأساة الحسينية من حيث الشروط الأربعة للتعريف، فإنها قد تطابقت مع بقية الشروط التي وضعها أرسطو وخاصة شرطي الزمان والمكان، فالزمان هنا محصور بين ساعات الصباح الأولى من اليوم العاشر من محرم وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، كما أن المكان محدد بساحة غالباً ما تمثل واقع الحدث الافتراضي (كربلاء)، أما الحدث هنا فهو حدث محدد أيضاً يتمثل بقصة استشهاد الإمام الحسين (ع) وثورته ضد الطغيان والفساد، وإذا كانت هذه الشروط (الوحدات) قد توفرت أيضاً فإننا نتلمس أشكالاً أخرى مكملة للموضوع، فالأزياء هنا تلعب دوراً كبيراً في التمييز بين الفريقين، فغالباً ما تكون الألوان الخضراء والبيضاء والسوداء هي الغالبة على فريق الإمام الحسين (ع) فيما تميز الألوان الصفراء والحمراء والصارخة جيش عمر بن سعد.

أما الديكور فله أهمية أخرى في هذا النوع من الشعائر؛ إذ يتطلب بناء مجموعة من الخيام الملونة أيضاً والتي تُصنع غالباً من مواد سريعة الاشتعال كي تحرق بشكل حقيقي في نهاية المأساة فضلاً عن وجود مجموعة كبيرة من الرايات التي تحيط بموقع الحدث (المسرح) الافتراضي الذي تدور عليه الأحداث، كما يلعب المكياج دوراً بارزاً في تحديد معالم الشخصية ويساعد الممثلين الهواة في تجسيد شخصياتهم في الرواية المؤداة ومنها عملية لصق اللحى وتكحيل العيون وتحديدها لتمييزها عن بعد وكذلك المواد المستخدمة كبديل عن الدماء في حالة إصابة أحد الممثلين، كما هو الحال مع الممثل الذي يؤدي دور العباس (ع) عندما تقطع يديه، أو كما يظهر على رقبة الطفل الذي يحمله الإمام الحسين (ع) عندما يصيبه أحد الرماة بدلاً من سقيه الماء.

وإذا كنا قد ذكرنا بعض المكملات من الأزياء والديكور والمكياج، فلا بد لنا من ذكر (الموسيقى) المستخدمة في الشعائر التي تأخذ صفة البعد الدرامي التحريضي؛ فاستخدام الطبول الكبيرة والأبواق والصنوج يعطي جواً نفسياً عاماً يقترب كثيراً من استخدامات المسرح للموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية الأخرى، كما أنها تتميز بنغمة خاصة نستطيع تمييزها بسرعة ساعة عزفها، وهذا يحسب لصالح هذا النوع من الشعائر.

ومن خلال ما تقدم يمكن استخلاص ما يلي:

1- الشعائر الحسينية المقدمة في العاشر من محرم من كل عام والتي يطلق عليها (التشابيه) تقترب من المفهوم الأكاديمي للتراجيديا الأرسطية من خلال توفر الشروط الأساسية الأربعة التي حددها أرسطو فضلاً عن الوحدات الثلاث (الزمان والمكان والحدث).

2- تقترب عملية تمثيل الشعائر الحسينية كثيراً من المفهوم الحديث للمسرح الملحمي (البرختي) من خلال تمثيل وتشبيه الحدث وليس الاندماج فيه؛ لأن الممثلين (الهواة) يعرفون جيداً المهمة المناطة بهم، وهي إعادة خلق الأجواء القريبة من الحدث الحقيقي، وهم بالتالي يؤدون دون أن يعرفوا نظرية المسرح الملحمي التي نظّر لها الكاتب الألماني الشهير (برتولد برخت).

3- غالباً ما يؤدي الرجال أدوار النساء في الشعائر الحسينية وذلك مؤيد بواسطة أحكام شرعية.

4- تقترب مهمة الكورس أو النادبات في الشعائر الحسينية من مهمة الكورس الإغريقي التي أشرنا إليها في متن البحث، بالرغم من أن مهمة الكورس الإغريقي فيها الكثير من الرسوخ العلمي بسبب توارث عادات التمثيل في المجتمع الإغريقي القديم.

5- الجمهور المتلقي للشعائر الحسينية يعي جيداً القضية التي يشاهدها قبل بدء العرض، وهو بالتالي يعرف تماماً أن الذي يشاهده هو إعادة تمثيل الحدث التاريخي بما يتخلله من خطب وأحاديث وحوارات شعرية ونياحة.

6- تتوفر للشعائر الحسنية الأجواء النفسية العامة التي يعاني الكثير من المخرجين بغية توفرها في المسرح الاعتيادي؛ وذلك من خلال استخدام الطبول والأبواق والملابس والأدوات والألوان، فضلاً عن التهيئة النفسية المسبقة للجمهور عبر عدة أيام تصل ذروتها في يوم تقديم (التشابيه) في اليوم العاشر من محرم.

7- ما يميز المسرح الغربي أو المأساة الدرامية الغربية عن الشعائر الحسينية هو تناولها لموضوعات متعددة بينما تكتفي (التشابيه) بموضوع استشهاد الإمام الحسين (ع)، ولو قدر لهذه الشعائر أن تتطور وتأخذ موضوعات متعددة مستقاة من نفس الموضوع لأصبحت نمطاً جديداً ومؤثراً ولاستمرت طيلة أيام السنة دون اقتصارها على العاشر من محرم فقط، وما يدعم هذا الرأي هو ثراء الموضوعات الخاصة بهذه الشعائر عبر مئات القصص المرافقة للملحمة الكربلائية، سواءٌ تلك الخاصة بآل البيت(ع)، أو المناصرين لهم في نفس فترة الواقعة التاريخية، أو ما أعقبها من ثورات وانتفاضات عبر الزمان.

رأي الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) في فن التمثيل:

دار حول موضوع التمثيل الكثير من النقاش في الأوساط الدينية على اختلاف اتجاهاتها، وقد تراوح أكثر التحليلات لهذه الظاهرة بين التعصب الشديد بالرفض المطلق أو وضع شروط قاسية جداً تقترب من التحريم المطلق، وبين اتجاهات أخرى أقل تشدداً، إلا أن الإمام الشهيد حسن الشيرازي(قدس سره) في كتابه القيّم (الشعائر الحسينية) يخضع الظاهرة للتحليل العلمي، مستنداً في ذلك إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأحاديث الأئمة الأطهار(ع) فهو يقول: (لا أظن أنه يوجد اليوم، إنسان يحرم التمثيل باعتباره خدشاً لكرامة شهداء الطف؛ إذ الهدف ليس مجرد تمثيل فرد بفرد، وإنما الهدف إبراز صفة خاصة، أو حالة معينة، بأسلوب يستطيع إبرازها بصورة كاملة، ولا شك في جواز ذلك، كما ورد في القرآن الكريم تشبيه نور الله تعالى بمشكاة، وورد في أحاديث صحيحة تشبيه أمير المؤمنين (ع) طوراً بالأسد أو يعسوب النحل وتارة بالزناد القادح) (9).

ويستمر الإمام الشهيد الشيرازي(قدس سره) في تحليل وذكر الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي استخدم فيها التشبيه والمواضع الواقعية التي شبهت فيها أشكال بأشكال أخرى كتشبيه الملائكة بصورة الإمام علي (ع) في يوم بدر - مثلاً -، كما أن سماحته يضع حداً فاصلاً في الاختلاف بين التشبيه الدائم وتشبيه المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، وهو حرام ومكروه ونص عليه الحديث الشريف: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفي حديث آخر: (إنه لعن المتخنثين من الرجال المتشبهين بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال) وفي حديث ثالث: (لعن الله رجلاً تأنث وامرأة تذكرت).. وهذا كله جاء تحت باب التشبيه الدائم، أما التشبيه المؤقت فهو ما يحصل في حالات التمثيل الذي نقصده في البحث الحالي، ويورد سماحته أمثلة عديدة على ذلك أهمها ما جاء في الأخبار عن أمير المؤمنين (ع): (أنه سيّر عائشة من البصرة إلى المدينة - بعد حرب الجمل - في أربعين امرأة، ألبسهن العمائم والمناطق والأردية والدروع وأمرهن بحمل السيوف والرماح، صوناً لعائشة عن السفر مع الرجال الأجانب) (10).

ويخلص الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي(قدس سره) إلى القول: (لا مانع من تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال في التمثيل، بل يستحب في تمثيل فاجعة الطف مع صون التمثيل من الاعتبارات الثانوية التي قد تؤثر على الاعتبارات الذاتية الأصلية) (11).

وهذا الرأي الشرعي يضعنا أمام أبواب كثيرة من البحث العلمي في مجال فن التمثيل خاصة وبقية الفنون بوجه عام.

الهـــوامـــش:

(1) الأسطورة في القرنين التاسع عشر والعشرين: ميرسيا الياد، مجلة الفكر العربي العدد 73 السنة الرابعة عشرة ص39.

(2) المصدر نفسه: ص51.

(3) الأسطورة في السينما الأمريكية: عبيدو باشا، مجلة الفكر العربي، العدد 73 السنة الرابعة عشرة ص120.

(4) المصدر نفسه: ص122.

(5) الفن الديني والتعبير الفني الحديث: وجيه فانوس، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد 68 سنة 1996 ص155.

(6) الشعر والدراما: د. أحمد أبو زيد، مجلة عالم الفكر، العدد الأول سنة 15 عام 1984 ص8.

(7) لمزيد من البحث يراجع بحث (الشعائر الحسينية، النشأة والتطور): إعداد حيدر الجراح ، مجلة النبأ، العدد 56 السنة 7، سنة 2001.

(8) مصدر سابق: ص5 د. أحمد أبو زيد.

(9) الشعائر الحسينية: الإمام حسن الشيرازي، ط5، مؤسسة الإمامة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، سنة 2000 ص112.

(10) المصدر نفسه: ص122.

(11) المصدر نفسه: ص122.