النبأ

 

 

 

الأزمة الحضارية.. وضرورات استئناف الدور (الاندماج)

 


عبد الله الفريجي

تترابط جميع مظاهر الأزمة الحضارية الراهنة التي واجهت الأمة لأن (الثقافات كائنات عضوية) (1) وأن جميع مظاهرها سواء أكانت قوة أم ضعف فإنها تؤول إلى جذر واحد، ذلك هو صلب الحضارة وقوامها وجوهرها الرئيسي.

ويمكن الإشارة الى الأزمة المعاصرة من خلال مظاهرها الرئيسية؛ أي التجزئية والتبعية والتخلف، وهذه الأوصاف والمظاهر مترابطة لأنها نابعة من أصل المركب الحضاري الذي خسر عناصر قوته خلال المسار التاريخي؛ فالحضارة كالفرد عندما تولد، تولد مزودة بجملة استعدادات لامتلاك القوة، وأخرى قادرة على إفراز الضعف، وعندما تدخل الحضارة في طور القوة فإنها تكون قد تمكنت من تحفيز استعدادات القوة لديها بنجاح، وهو يعادل قدرتها على حصر استعدادات الضعف في حالة من الكمون طوال مدة نهوضها، وعندما تبدأ بخسارة عناصر قوتها فإنها تعجز عن ضبط استعدادات الضعف، فتبرز إلى السطح لتفرض عليها السير في طريق التراجع والانكماش.

وعلى هذا فإن الأزمة الحضارية التي تواجه الأمة نتجت، أثر تفعيل عوامل الضعف وتراجع عوامل القوة المقابلة لها؛ أي إن النهوض والتراجع عبارة عن صراع بين عوامل التلاحم والتماسك (والنهوض) وبين عوامل التفكك (والتراجع)؛ فالتبعية لم تكن لتبرز كظاهرة تجسد أعلى طور من أطوار التراجع، إلا بعد أن قطعت عوامل الضعف شوطاً طويلاً في التفلت من عوامل الكبح وتحولت إلى بديل يملأ الواجهة ويحسد شخصية الأمة أو كبديل لعوامل القوة المتلاشية.

فالتبعية تحتاج إلى ما يعرف بـ (القابلية للاستعمار) وهذه بدورها تعني وجود فضاء في الذات يكفي لنفوذ القوى الخارجية ولعبها الدور على صعيد التطورات الداخلية كعامل رئيسي في توجيه الواقع.

فالبداية ذاتية دائماً ولا بد أن تكون نهاية الأزمة ذاتية أيضاً؛ أي فرض التراجع على عوامل التراجع أو إعادة ضبط عوامل الضعف وإرجاعها إلى وضع الكمون، فأمامنا دائماً مركب حضاري ضعيف يتراجع ككل ويتقدم ككل ولا يمكن الفصل بين هذه المفردة أو تلك كما أننا لا يمكن أن نتصور حصول نهوض إلا في حالين:

الأول: هو تواصل عوامل التراجع حتى تصل الحضارة إلى أقصى التراجع وهو الزوال أو تواصل هذه العوامل حتى الدخول في دورة جديدة.

أما الحال الثاني: فهو يقظة تقود إلى التواصل مع أسس الحضارة، والتغلب على ما دبّ فيها من عوامل الضعف.

وما يدور الآن هو الحديث عن استئناف الدور الحضاري، لكن هذا الاستئناف يصطدم دائماً بعائق التفاوت الهائل في موازين القوى بين الأمة وهي في هذا الطور من التراجع وبين قوى الهيمنة العالمية التي صارت تعمل كقوى محافظة تعمل على الإبقاء على التراجع.

الأمر الذي يضعنا أمام معضلة تبدو بلا حل وتحتاج إلى مزيد من التأمل العميق لتلمس إمكانات إيقاظ عوامل القوة التي فشلت تجارب النهوض السابقة في إيقاظها لحد الآن فنحن (نرى من خلال تحليلنا للمجتمع العربي في القرن العشرين أن فجوة واسعة وعميقة تفصل بين حلم التغيير الذي طمح العرب إلى تحقيقه في عصر النهضة والواقع الهزيل الذي يعيشونه في نهاية القرن العشرين، ورغم الكفاح المرير الذي خاضه العرب مع الذات وفي مواجهة الآخر اكتشفوا بعد صدمات متلاحقة أن زمنهم هذا هو زمن سيادة الجماعات على المجتمع، وبالتالي التفكك والتفتت والإحباط) (2).

والقبول بهذا التحليل يعني ترك العزف على كافة الأوتار التي دأب رواد النهوض (الانفعاليين) على العزف عليها؛ لأن التجربة أثبتت أن تجارب النهوض إنما قامت على قراءة سطحية للمجتمع وأنها نظرت إلى الشعارات أكثر من نظرها إلى الواقع.

ولهذا فإن البدء يحتاج إلى قراءة مغايرة أكثر تأنياً للازمة، قراءة نضع بين يديها القراءة السابقة لتصل إلى النضج المطلوب.

  القراءة الثانية:

إن المسار التاريخي كما أشرنا قد أفرز فسحة في البناء الحضاري اسمها (القابلية للاستعمار) وهذه الفسحة تعكس تنامي عوامل التفكك في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فهنا إذن مساحة تسمح للبؤر الناشئة في عصر التفكك للارتباط بمركز آخر وهذا في الاقتصاد يعني ارتباط اقتصاديات هذه البؤر بالمركز الاستعماري والتحول إلى طرف معه وهو لا يقع إلا على حساب المركز القديم، ونفس الشيء يحدث بالنسبة للوعي عندما يبدأ بالتواصل مع مرجعيات مغايرة وليس المهم أنها تابعة للمركز الاستعماري بقدر ما هي مبتعدة عن المركز الحضاري الأصلي وبالتالي فإن الوعي سيبدأ بالتغير وستفقد المقولات الأصلية هيمنتها عليه فيغدو القبول بمقولات الآخر شيئاً مألوفاً، وهذا يعني إلغاء التجانس (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الاعتقادي) ذلك الذي يعد أهم مظهر من مظاهر وحدة الحضارة ولذا يمكن أن نعرفه بأنه (العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء مجتمع واحد للأمة) (3)، وعليه فإن مقابلة أي التعدد سيعني زوال التجانس والطابع الموحد الذي تفرزه الحضارة.

وتبعاً لما تقدم فإن الحضارة عندما تكون في طور الرقي والقوة إنما تعيش حالة من التماسك والاندماج بينما تعيش حالة من التفكك في الطور التراجعي، ويلعب التجانس دوراً مهماً في تهيئة مستلزمات الاندماج، بينما يلعب التعدد دوراً معاكساً له، إلا أن الاندماج يمكن أن يفقد التعدد دوره المعيق إذا أتيح للمركب الحضاري الناهض خلق تجانس على أسس أخرى، والمهم أن الاندماج هو الحالة التي تعيشها الحضارة في أعلى أطوارها، ولكي يتاح لنا استئناف الدور الحضاري، نحتاج إلى قراءة الاندماج الذي عاشته الأمة ليكون بمقدورنا استئناف إيجاده أو إيقاف عملية التفكك عند طورها الحالي وصولاً إلى إعادة الاندماج.

عوامل الاندماج:

يمكننا الإشارة إلى جملة عوامل تساهم في بناء مركب حضاري قوي وهي:

1- القوة السياسية: وهي تنشأ كمعبر عن الحضارة فتمنح الجماعة حدودها عندما تستطيع ضبط عوامل الصراعات الداخلية التي تكون موجودة بصورة فطرية في أي جماعة، كما أنها تمنع القهر والتسلط الخارجي؛ وبذلك تعمل كعامل بقاء واستمرار داخلي وتوازن مع القوى الخارجية.

2- المصالح: وهي درجة من التواثق المصلحي تساهم في التأليف بين مختلف الفئات ذات المصلحة داخل المنتظم السياسي(4).

3- الوعي: وهو الأساس الذي يشكل أهم سمات المنتظم السياسي من حيث وجود رؤية مشتركة إلى الذات والآخر والمصالح والعلاقات وما يجب وما لا يجب.

وتختلف الحضارات من حيث اعتمادها على هذه العوامل فتختلف تبعاً لذلك درجة تماسكها؛ فربما قامت حضارة على أساس الوعي بصورة رئيسية أو على أساس المصالح أو على أساس القهر السياسي والغلبة أو ربما تقوم على التجانس القومي إلى جانب التواثق المصلحي أو الوعي، لكن التجانس القومي وحده لا يمكن أن يكون عاملاً كافياً لقيام منتظم مندمج (فالأمة الإيطالية وجدت وحدتها.. في صراع مع السيطرة النمساوية) (5)، وقد سجل لنا التاريخ نزاعات وحروباً دامية بين أفراد الوطن الواحد نتيجة لتضارب المصالح أو اختلاف الآراء؛ فنرى - مثلاً - أن الأمة العربية اليوم لا تستطيع إنجاز وحدتها رغم التجانس القومي فيها كما أن القبائل العربية قبل الإسلام ورغم امتلاكها للتجانس القومي عاشت صراعات دامية تعد حرب البسوس أكثر نماذجها سوءاً؛ إذ دامت ما يقرب من أربعين سنة متواصلة(6).

بينما توجد دول غير متجانسة قومياً إلا أنها متماسكة وتقدم نماذجاً حضارية قوية؛ ومن هنا فإننا لا بد وأن نضع التجانس، رغم أهميته، في الدرجة الثانية من حيث قدرته على إنتاج الاندماج وعليه فإن بذور التفكك الحالي أو الأزمة الحضارية الراهنة قد وجدت في الحلقات الأولى لبناء الأمة الحضارية.

  تحليل الأزمة: 

إذا كان الاندماج هو عبارة عن تطويق عوامل التفكك، فإن الأمة وخلال مسارها التاريخي قد أغفلت بعض الجوانب التي أسفرت في النهاية عن انفجار الأزمة، وبالتالي فإن العودة إلى دراسة الهوية التي تشكل أساس الاندماج هي العامل الحاسم في تحديد الخلل ومن ثم كيفية تفاديه؛ فالأمة العربية - مثلاً - حينما نقلت قدمها الأولى باتجاه التحول من الحالة القبلية إلى وضعية الأمة فإنها عملت على وضع نفس هذا التحول كأساس ونواة لبناء الأمة الإسلامية ففي زمن ما، كانت الأمة الإسلامية هي الأمة العربية، ولكن ليس لعلة كونها تجمعاً عرقياً عربياً فحسب، بل لعلة كونها الجماعة (النواة) التي تحمل عقيدة الإسلام، والتي سوف لن توقف حركتها في حدود العرق العربي بل ستحمل راية الإسلام كمشروعٍ إنساني مفتوح يطمح لاستيعاب كافة بني البشر.

ومن هنا فإن الإسلام طرح بعداً عالمياً ولم يضع في أهدافه الاقتصار على إنجاح القوة السياسية الناشئة بالاعتماد على التجانس القومي في البيئة العربية التي ولد فيها وهذا أمر ملفت للنظر؛ ذلك أن الإسلام كان يفترض فيه بعد أن ولد في بيئة عربية وأقام نجاحاته على العنصر العربي، أن يكتفي بهذا النجاح ويكمل بقية أشواطه التاريخية بالعرب وللعرب، هؤلاء الذين كانوا مادة الإسلام وقوامه وسر قوته ونجاحه، وأن يحاول تأسيس إمبراطورية عربية تعتمد على إخضاع بقية الشعوب، مثلها مثل الإمبراطوريات الأخرى، لكن هذا الأمر لم يحصل ولم نر لا في النظرية ولا في التطبيق أن هويته الحضارية كانت تحمل هذا البعد القومي، بل إنها حملت البعد الإنساني الذي لا يعطي للعربي أي ميزة على سواه ولا يعطي لسواه ميزة عليه؛ ولهذا فإن الإسلام أقام هويته على بعد (فوق قومي) وطرح أساساً لتجانس جديد غير موجود بالفعل لكنه يجب أن يوجد من خلال الفعل والممارسة؛ هوية تقوم على تهميش روابط الدم داخل القبيلة العربية؛ لتصب انتماءها في وعاء الإسلام، كما تحاول تهميش أي علاقة قومية أخرى لتعيد انتماءها إليه أيضاً.. لقد كانت العملية عملية إنتاج هوية أساسها وحدة الإنسان، عملية موجهة لاستيعاب التنوع القبلي بنفس الطريقة التي تستوعب بها التنوع القومي، ومع ذلك فإنه لم يحاول تجاهل هذه التنوعات، بل أنه انطلق من خلالها لإقامة الرابطة الأشمل وهي رابطة - كما أسلفنا (فوق قومي)- أي إنها لا تقف عند حدود القبيلة أو القومية التي يجد الإنسان نفسه منتمياً إليها بمجرد الولادة، بل تعمد إلى ربط الإنسان إلى حالة الانتماء الأشمل والأكثر أصالة، وهي حالة الانتماء إلى الإنسانية، وهي أيضاً عبارة عن قومية أكثر اتساعاً إلا أنها غائبة خلف انتماءات أضيق، وفي مواجهة هذا الغياب (غياب الهوية الإنسانية) فإن الإسلام عمد إلى ربط الانتماء بالوعي الذي سيستخدم لخلق عملية استئناف حضور البعد الإنساني الغائب؛ فالإنسان غالباً ما يتعامل مع الطبيعة ليس كما هي عليه، بل بما تكوّن لديه من رؤى عنها؛ ولهذا فإن حالات الاعتماد على الرؤية الكونية هي أكثر تأصلاً عند الناس من التعامل المباشر مع الكون نفسه؛ فقد يعبد الإنسان الحجر لأنه يضفي عليه طابعاً خاصاً مستوحى من الرؤية الكونية.

وعلى أساس تشخيص الإسلام لدور الوعي في توجيه الإنسان فقد عمد إلى جعله أساساً لعملية بناء الهوية، وبالتالي لتحقيق عملية الاندماج؛ فكانت هوية الإنسان المسلم هوية وعي تضبط الانتماءات العرقية وتمنحها زاوية محدودة من التأثير، ومن ثم فإن استمرار هذه الهوية يعتمد بصورة عامة على استمرارية الوعي؛ فكلما كانت التصورات الإنسانية حاضرة ومهيمنة، فإنها تكون قادرة على دفع المشاعر القومية (التعدد القومي) أو المصالح المتعارضة، في زاوية عدم التأثير، ويبقى الانسجام والتجانس حاضراً كأساس للهوية التي بناها الإسلام، وبمجرد حصول الارتخاء في الوعي فإن عوامل تعارض المصالح والتعدد القومي، تكون جاهزة للتفجر والتحول إلى عوامل تهديد للاندماج تنذر بوضع الحضارة على مسار التفكك ولو ببطئ كما حصل بالنسبة للحضارة الإسلامية.. وفق هذا التصور فإن الهوية الإسلامية لا بد وأن تمر بطورين:

الأول هو طور التأسيس، والثاني هو طور الاستمرار..

ففي الطور الأول يقوم الإسلام على إقامة النموذج ثم يمده بإمكانيات الاستمرار، وفي الطور الثاني توضع هذه الإمكانيات لتمارس دورها الذي قلنا أنه ينحصر في منع الارتخاء في الوعي الذي يجر تلقائياً إلى انطلاق عوامل التفكك.

  جذور الأزمة: 

من الطبيعي أن يساعد تتبع المسار التاريخي للأزمة كثيراً في تحديد النقطة التي تعثرت عندها عملية الاندماج وانطلقت - تبعاً لذلك - عوامل التفكك؛ ولهذا يجدر بنا العودة إلى البداية، عندما اختار الله العرب للتصدي لحمل لواء الإسلام، وكما يبدو فإن وراء هذا الاختيار جملة عوامل - عدا العوامل الغيبية التي تدخل ضمن التخطيط والتقدير الإلهي - وهي:

1- الموقع الجغرافي.

2- الخلفية الثقافية.

فبالنسبة للموقع الجغرافي كانت الجزيرة العربية حلقة الوصل بين القارات المأهولة (آسيا وأفريقيا وأوروبا) التي تضم أكبر التجمعات البشرية فوق كوكب الأرض؛ ولهذا فإن الانطلاق من هذه النقطة الجغرافية يعني سهولة الاتصال بالتجمعات البشرية الكبرى، ويترتب عليه سهولة عملية الاتصال تخلق الاحتكاك بهدف نشر الدعوة، وبالفعل استطاع الإسلام الانتشار في العالم القديم بسرعة منقطعة النظير، بعد أن (كسب الإسلام العصر الأول من الأطلسي إلى بحر الصين بثورة اجتماعية تقاطعت مع التصور الروماني للملكية بوصفها (حق استعمال وتفريط وإفراط) وحالت دون تكديس الثروة في قطب من المجتمع وتكديس الفقر في القطب الآخر منه، واكتسبه من جهة ثانية بوحي الهي كنس المذاهب المغلقة وامتيازات إمبراطوريتي فارس وبيزنطة المتحجرتين) (7).

فأما الخلفية الثقافية فقد كانت تتعلق بكون العرب أمة بكر ولم تكن الوثنية في تاريخها إلا حالة عابرة نشأت قبل (200) سنة قبل الإسلام كما يذهب إليه بعض المؤرخين كما أن معالم التوحيد كانت باقية ومؤثرة؛ فقد كانت (أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل والانتقال إلى البلدان والانتجاعات فكانت قريش وعامة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم) (8).

ولهذا فقد برز انسجام عالٍ بين العرب والدين الجديد بسبب عدم وجود قيم أو ثقافات سابقة تعيق قبول الثقافة الجديدة أو تحاول استيعابها ضمن الموروث الثقافي أو تنشأ ازدواجية في المعايير ولم يكن لدى العرب من عوامل الإعاقة سوى ثقافة القبيلة وهي ثقافة مكونة من عنصرين: الأول هو الإرث التوحيدي وهو عنصر قابل للانسجام مع الدين الجديد وثانياً، الوثنية والعصبية القبلية وهي الأجزاء الأخرى التي كان عليها أن تزول، وقد نجح الإسلام في محو الوثنية وأن يواصل هجومه على العصبية لحصرها في أضيق دائرة ممكنة لأنها كانت من العناصر المهمة التي تتعارض مع تأسيس الهوية الإسلامية العالمية، ولذلك فإن بناء الهوية الإسلامية اقتضى وجود مرحلتين:

الأولى: هي مرحلة الاعتراف؛ وهي أيضاً مرحلة تهشيم الضد والتي خاض الإسلام فيها معارك سياسية وعقائدية واقتصادية تهدف لخلق الفضاء الملائم لبناء الهوية الحضارية الجديدة من خلال تحجيم الضد السياسي وهدم الضد الاقتصادي متمثلاً بالعلائق الاقتصادية وهدم الضد الاعتقادي متمثلاً بالشرك وما سوى ذلك من الاعتقادات ومع عمليات الهدم يتقدم نحو طرح البدائل كمقدمة لعملية البناء، فمرحلة الاعتراف كانت مرحلة تهدف إلى توفير مستوى من الوعي، يمنع الانكفاء مقروناً بتهشيم الضد فكانت متميزة بالهجمات العسكرية الصاعقة والسعي للامتداد في أكبر رقعة جغرافية إلى جانب إدخال أكبر عدد من الناس في الإسلام، وهو دخول يشبه الإعلان أكثر منه دخول حقيقي؛ فالإسلام في مرحلة الاعتراف يقتصر على شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله، ومن هنا تبدأ حركة جديدة تتجه نحو الدخول الحقيقي في الإسلام وهي عملية طويلة الأمد تحتاج إلى نوعية خاصة من الفهم يمكن الفرد المسلم من إحداث قطيعة كاملة مع الموروث الثقافي الجاهلي، ولهذا جاء الأمر الإلهي بضرورة التفقه بالدين (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة: 122).

فعملية الاعتراف هي مقدمة لعملية التركيز؛ لذلك فإن الضربات الخاطفة كانت هي الاستراتيجية الملائمة لإحداث أكبر أثر نفسي في القوى المعادية التي كانت تحيط بمركز الإسلام في المدينة وهو مركز ينطوي على إمكانيات غاية في الضآلة إذا ما قيست بما عند الأعداء كما أن الأعداء الداخليين كانوا يتربصون به، فضلاً عن إدراك الإسلام لخطورة الاتكاء على أنصار لم يبلغوا بعد المستوى الكافي من الفهم لمراميه فيما عدا عدد قليل من المقربين من الرسول والذين نهلوا من علومه(ص)، ولهذا فإن الإسلام اتجه في اهتمامه إلى الجوانب المعنوية قبل القوى العسكرية، ولذلك نراه ينتصر على الإمبراطوريات وهي في كامل قواها فيغنم الثروات والأسلحة والأنصار.

لقد أسس الإسلام أول منتظم سياسي (عقائد) في المدينة في ظروف صعبة جداً فالمدينة لم تكن كاملة الولاء آنذاك ولهذا فإن الرسول(ص) عمل على توظيف القوة المتاحة توظيفاً إعجازياً ولم ينتظر حتى تهاجمه قريش بل هو الذي شن عليهم الهجوم الوقائي، وتمكن بعد عدة جولات من إسقاط أهم معاقل الأعداء في الجزيرة العربية وتحقق لديه هدفان مهمان:

1- تأمين عدم وقوع أي عملية تراجع في المدينة.

2- القدرة على توجيه ضربات للقبائل الخطرة التي لا هم لها سوى الغنائم كهوازن التي شاركت في معارك ضد المدينة طلباً للغنيمة وبمجرد سقوط مكة فإن الرسول (ص) زج المكيين في معركة ضد هوازن، وبعضهم كان لا يزال على شركه، وهو أمر تقتضيه عملية الاعتراف، أراد بذلك قطع كافة الوشائج بين مكة وحلفاء الأمس، فضلاً عن دفع التهديدات إلى الوراء، وبذلك يحصل تأمين المعقل الجديد مكة عندما ييأس أهلها من أي أمل في محاولة تعيد إليهم سلطانهم.

وكانت أي ضربة تحدث هلعاً في القبائل وتدفع بعضها إلى إعادة حساباتها وإرسال مبعوثين للرسول(ص) لعقد صلح أو الانضمام إليه؛ ولذلك سرعان ما تم تأمين الجزيرة العربية، وصار الخطر ينحصر في القوى من خارجها؛ ولهذا فإن عملية الاعتراف تمت بنجاح وكان لا بد - لكي تؤتي هذه العملية ثمارها - من تأييدها بالعملية التالية وهي عملية التركيز التي تهدف إلى تركيز الهوية.

  تركيز الهوية: 

الانتصار السريع لم يكن يمثل انتصاراً نهائياً لأن الاندماج في الإسلام الذي تأسس، يحتاج إلى تدعيم الرؤية الكونية (العقيدة)؛ إذ بدون هذا التدعيم لا يمكن للهوية أن تستمر كعنصر انسجام يقوم عليه الاندماج الإسلامي، وهذا يقتضي أن تكون القيادة هي القيادة ذات الوعي الأعلى في المجتمع.

بينما يشير المؤرخون إلى حالة من الإقصاء للقيادة ذات المستوى العالي من الوعي حصل بعد ثلاثين سنة فقط من التجربة، وهذا - طبقاً لما أسلفنا - يمثل ضرباً لمرتكز الهوية الأساسي، أي عملية التركيز، وهو يعادل تعطيل مقومات الهوية التي قلنا أن عملية الاندماج تستند إليها.

فالعصبية القبلية استعادت هويتها بعد ثلاثين سنة فقط، ولذلك فإن الدكتور حليم بركات يقول: (تحولت الثورة مع الوقت إلى مؤسسة ومملكة وذلك خلال ثلاثين سنة، فغلبت الدولة وسخرت الدين كما سخرت القبيلة لغايتها) (9).

فالثورة التي قادها الوحي توقفت، وتحولت إلى مؤسسة تعمل لخدمة نفسها، وصارت تستظل بالدين لتحقيق المصالح، فأيقظت العصبية القبلية التي جاء الإسلام لمحوها، معطلةً لعمل الإسلام الرامي لدفع القبائل للانصهار في الأمة؛ ولذلك فإن عملية التحول من قبيلة إلى أمة توقفت وبقي العرب حتى اللحظة الراهنة كقبائل.

ويحلل الدكتور أحمد أبو سليمان الأزمة التي يسميها ظاهرة فيقول: (فأصل هذه الظاهرة بدأ حين حدثت الفرقة بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية وذلك في أعقاب الفتنة التي اجتاحت عهد الخلافة الراشدة) (10)، وهذا بالضبط ما نريد أن نؤكده، فالقيادة السياسية لا تلتزم بالأفكار الإسلامية أما القيادة الفكرية الملتزمة فقد تم إقصاؤها؛ ولذلك حدثت عملية صراع بين السلطة السياسية والقيادة الفكرية.

وما يهمنا هنا أن العناصر اللازمة لإدامة حضور الوعي الكافي لاستمرار الهوية، التي أسلفنا أنها تحتاج إلى مثل هذا الوقود، قد فقدت هذا المعين؛ لأن القيادة القادرة على رفع الوعي لم تعد قادرة على ممارسة مهامها، وإذا قامت بذلك فإنها تصطدم بالسلطة السياسية.

وبرزت الدولة العربية لتحاول منح الإسلام هوية عربية بدلاً عن الهوية الإسلامية، مع أن الرسول(ص) الذي هو أكثر عروبة من سواه لم يمارس عملاً من هذا النوع؛ وبذلك تكون عملية تعريب الإسلام بدعة وأول عنصر من عناصر تفكيك الهوية، وخصوصاً في الطور الذي دخلت فيه قوميات أخرى، وهو طبعاً بالنسبة للقوميات غير العربية شبيه بسياسة التتريك العثمانية التي دفعت العرب إلى التوجه نحو القومية، هروباً من الشعار الإسلامي الذي استخدم لفرض السيطرة العثمانية.

  الاندماج الناقص: 

فالاندماج الذي أراد الإسلام له أن يكون أساساً للحضارة الإسلامية وبضمنها القومية العربية، باعتبارها أنها نواة هذه الحضارة، لم يكتمل بسب تعطل عملية التركيز التي أسلفنا أنها ضرورية لبقاء الهوية الإسلامية، تلك الهوية التي أقيمت على الوعي.

وفي ظل هذا الاندماج الناقص برز التعدد القومي كظاهرة خطرة، كما برز التعدد الاعتقادي، بيد أنه تم التعويض عن هذا البروز بعوامل كبح، مثل القوة السياسية التي كانت تستطيع، في ظل التمثيل السطحي للإسلام، كبح التمردات بالاستفادة من القوة والتبرير الديني، كما أن نفس هذا التبرير ساهم في قمع الاتجاهات الإعتقادية التي عارضت السلطات، كما أن المصالح لعبت دوراً في مد الاندماج الناقص بالبقاء، عندما استطاعت القوى المتنافسة الاستفادة من الواقع القائم للحصول على بعض المصالح في ظل إمبراطورية مترامية الأطراف، إلا أن هذه العناصر ظلت تضعف تدريجياً بسبب الصراع وتنامي طموحات القوى المختلفة باتجاه السيطرة على المركز أو الاستقلال عنه وخصوصاً في الفترة المتأخرة عندما بدأت الدولة العثمانية تفقد السيطرة على الولايات التابعة لها، فصارت النزعة الاستقلالية تقف وراء أخطر أشكال التردي المتمثلة بإفساح المجال أمام القوى الاستعمارية للنفوذ إلى داخل بنية الدولة وتوجيه التطورات لصالحها؛ وبهذا فإن المركز لا يقل أدائه عن الولايات في إيجاد هذا التبعثر طالما أن عنصر الاندماج قد تم طمسه وإبعاده وصار شيئاً يخص الطبقات الفقيرة والمعدمة من العامة، أما الحكام والطبقات النافذة والثرية فإن العقيدة لم تكن بالنسبة لها سوى مظاهر شكلية تمارس كتقليد أو أعراف فارغة لا معنى لها؛ ولهذا أصبح كثيرون لا يميزون بين التقاليد وتعاليم الإسلام.

وهكذا فإننا نضع أيدينا على المسار التاريخي الذي تم فيه إقصاء عنصر الهوية الرئيسي وعامل الاندماج، ألا وهو الوعي الذي يقام بناءاً على العقيدة الإسلامية، وإزاء هذا المسار من التردي فإننا نشهد مزيداً من التراجع حيث حلت القطرية كعنصر جديد يضاف إلى الهوية وصارت تلعب دوراً واضحاً كعازل بين أبناء الإسلام، وهذا يعني خطوة إضافية في اتجاه التردي، وضمور الهوية.

وفي النهاية فإننا أمام حلين مفترضين لأزمة الهوية:

الأول: العودة إلى استئناف الدور الحضاري على نفس الأسس؛ وهذا يعني إيقاظ الهوية الإسلامية.

الثاني: التنازل عن هذه الهوية والقبول بهويات أخرى كالهويات القطرية أو القومية.

وبالنسبة لكلا الحلين هناك صعوبات؛ فالعودة إلى الهوية الأصلية (الإسلامية) يعني التعارض مع واقع بات مدعوماً بقوة الوجود السياسي فضلاً عن رفض القوى العالمية لهذه العودة، أما التنازل عن هذه الهوية والبحث عن بدائل فإنه أيضاً معارض بقوة الوجود الإسلامي الذي لا يزال فاعلاً ومؤثراً رغم كل الضربات التي وجهت له كما مر.

الثالث: بقاء التعارض الحالي وهو تعارض لا يمكن أن يؤول إلى نهاية بسبب قوة الطرفين خصوصاً أن تجارب النهوض التي سعت إلى إقامة نهضة بدون تراث قد فشلت في إقصاء التراث، ولم تستطع القضاء عليه، حتى مع استخدام العنف ومن هنا فإن الحل الوحيد يكمن في حل التعارض عن طريق إقامة الجسور، ولكن على أسس جديدة قادرة على استيعاب النموذجين.

أما الأسس الكفيلة بخلق هذا الاستيعاب، فهي لا تعني تبادل القبل والتصالح أو الوقوف في وسط الطريق، بل إن القضية أعمق من ذلك وأكثر جذرية، والحل كما يبدو قد لاح في الأفق، من خلال بدء الظروف التي تدفع الأطراف نحو العودة من جديد إلى الأصل؛ لأن المركز الاستعماري صار يهدد الأطراف، وهو تهديد حقيقي بعد أن كان عنصر بقاء بالنسبة لها، وهذا بدوره يخلق مقدمات اللقاء، و إذا جمعناه إلى القوة التي صارت تتجذر على شكل وعي جماهيري، فإنه يمكن أن يعيد الاعتبار للعقيدة مرة أخرى.

غير أن هناك شرطاً ضرورياً أكثر أهمية لإحداث النقلات، ألا وهو خروج تيار الوعي الإسلامي من لعبة المصالح، ومواصلته رفد الوعي بصورة مستمرة بالعناصر الضرورية لإعادة اللحمة.

كما أن من الواضح أن بعض التيارات الإسلامية سقطت في فخاخ القطرية؛ مما فرض عليها صب الوعي بنفس الاتجاه، لكنها ستضطر عاجلاً أم آجلاً إلى نزع الأستار والحركة باتجاه الهوية الإسلامية.

وفي النهاية فإن الاندماج الناقص الذي مرت الإشارة إليه ظل يطبع الهوية بطابعه، وانه بهذا المقدار جزء من الحقيقة الحضارية لجميع المجتمعات؛ وبالتالي فإن تغير هذه الهوية يمكن باتجاه واحد فقط هو الاندماج الكامل، كما أن عوامل الإعاقة مهما تجذرت فإنها تبقى ضمن هذا الإطار ولا تتغير إلا باتجاه الاندماج الكامل وهذا ما أدركته القرون الأخيرة.. ورحم الله إمرءاً انتفع من التجربة.

الهـــوامـــش:

(1) التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه، نتائجه، ج1، افياي انزيوي، وايفاانزيوي، مراجعة عبد الكريم ناصيف، ترجمة محمد أحمد حسونة ص43.

(2) المجتمع العربي في القرن العشرين، د. حليم بركات ص17.

(3) المجتمع العربي المعاصر: حليم بركات، مركز دراسات الوحدة العربية، ص14.

(4) علم السياسة: الدكتور حسن صعب ص327.

(5) مصدر سابق (المجتمع العربي المعاصر): ص59.

(6) تاريخ اليعقوبي: ج1 عن دار الثقافة والنشر قم، إيران ص335.

(7) الجوامع المشتركة بين الأصوليات الإسلامية المعاصرة: روجيه غارودي، تعريب خليل أحمد خليل، مجلة دراسات عربية ص11 عدد 30.

(8) مصدر سابق (اليعقوبي): ص254.

(9) مصدر سابق (المجتمع العربي): ص226.

(10) أزمة العقل المسلم: الدكتور أحمد أبو سليمان ص39.