مجلة النبأ

 

الخلق والتسوية في القرآن الكريم

 

 

 

غالب حسن الشابندر


  (1) 

نلتقي على صفحات القرآن الكريم بمركب متنوع من الكلمات التي تدل على أنماط الوجود الكوني، وتشير إلى حركة المخلوق وعلاقاته وسيرته، ونظرة سريعة إلى هذا المركب من الكلمات، تبين لنا بوضوح عن مدى النظرة القرآنية الشاملة للكون وعن عمق وفائه الفذ في التعبير عن أشكال وألوان الفعل في هذا المضمار الحيوي، ومزيداً من التعمق في المركّب المذكور يضطرنا إلى التعامل مع كل حدث كوني عبر مراحل ومراتب، فليس الحدث الكوني لحظة من التحقق الجاهز، الخامل، المنتهي، وإن كان الإنسان في سيرته هذه يكدح صوب الله، فإن كل مفردة كونية ثروة من الآفاق والتجليات المتدفقة بالجدّة!!. وفي الواقع إن إمعان النظر في الموجودات في أفق الإمكان بالمعنى الفلسفي؛ إنما هو مجرّد نظر تصوري بحق، ولا ينفع في اكتشاف حيوية الكون الذي يحيط بنا والذي نعيش فيه، أن المطلوب هو النظر في الواقع المجسّد، الواقع المطروح، أي الكون...، هذه المفردات التي يتجه الحس إليها والتي تتبدّى للحس بدورها هي الأخرى...

هذا المركب أو من حالات هذا المركب هي (خلق، أبدع، أنشأ، جعل، سوى، قدّر، برأ، ذرأ، خطر، صنع، بدأ.. ).

مرة أخرى أقول: إن فهم هذا المركب يتأتى من خلال عملية تطبيقية على هذا الكون المجسّد، وليس من خلال التأمل النظري البحت في الوجود.

  (2) 

الخلق هو الإيجاد في اللغة، وفي تهذيب اللغة للأزهري: الخلق: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه، وقد قال أبو بكر الأنصاري: الخلق في كلام العرب على ضربين، الإنشاء على مثال أبدعه، وفي مفردات الراغب: الخلق: أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل إلا احتذاء. وفي مقاييس اللغة: خلق: أصلان، أحدهما: تقدير الشيء..

وفي معجم ألفاظ القرآن؛ خلق الشيء يخلقه خلقاً: أبدعه من غير أصل ولا احتذاء، وخلق الشيء يخلقه: صوّره، يقال: خلق الأديم إذا قدّره كما يريد قبل القطع، أي قاسه ليقطع منه قربة أو ما أشبه. واستعمل القرآن (الخلق) للإشارة إلى المعنى المصدري كما في قوله (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) (سورة الكهف: 51)، وللدلالة على المخلوق كما في قوله تعالى: (وزادكم في الخلق بسطة)(سورة الأعراف: 69)، وفي ما يصلح للمعنى المصدري معنى المخلوق كما في قوله تعالى:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (سورة آل عمران: 190).

وفي الحقيقة إن الأصل في (خلق) كما في المعاجم هو (التقدير)، وهذا قبل التنفيذ كما هو معلوم، فقد جاء في الفروق اللغوية (الفرق بين الفعل والخلق والتغيير إلى الخلق في اللغة التقدير، يقال: خلقت الأديم إذا قدّرته حقّاً أو غيره وخلق الثوب وأخلق لم يبق منه إلا تقديره.

فالخلق حسب هذا المنطق قبل التنفيذ، لأنه تقدير؛ أي تشخيص خصائص وأبعاد وطبائع، وهكذا!! ولكن في القرآن الكريم نلتقي بدخول الفعل (خلق) وهي تشير إلى واقع مجسّد... كما أن كلمة (خلق) في القرآن تأتي وهي تعطي معنى الإيجاد الفعلي!!

قال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض... ) (سورة الأنعام: 1).

قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرم) (سورة التوبة: 36).

قال تعالى: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (سورة النحل: 4).

قال تعالى: (خلق كل دابة من ماء) (سورة النور: 45).

قال تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً) (سورة الفرقان: 54).

فالخلق هنا الإيجاد بلا أدنى شك، ولما كان الأصل هو (التقدير)، نستطيع أن نقول: وكما استظهر بعضهم أن الخلق في القرآن هو الإيجاد وفق خصائص معينة أو محددة تتطابق مع إرادة قاضية قاصدة!!

هذا هو مدلول (خلق) في الكتاب العزيز.

ولكن معنى (خلق) لا تعني الإيجاد الفوضوي، الإيجاد الكيفي، بل بلحاظ خصائص معينة، وهذا الخلق على ضربين:

أحدهما: إيجاد على نحو مخصوص من مادة سابقة.

قال تعالى: (خلق الإنسان من نطفة... ) (سورة النحل: 4).

قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً... ) (سورة الروم: 21).

قال تعالى: (والذي خلق الأزواج كُلها... ) (سورة الزخرف: 12).

ثانيهما: إيجاد على نحو مخصوص من غير سابقة..

قال تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق) (سورة الأنعام: 73).

وكل الآيات التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض إنما تشير إلى ابتداعها حيث لم تكن موجودة...

وهنا ملاحظة دقيقة..

إن هذا لا يعني أن السماوات والأرض مخلوقة من عدم، بل هي مسبوقة بعدم، وفارق كبير بين المعنيين.

  (3) 

الخلق أو الإيجاد وفق خصوصيات معينة تتصل بشبكة من العمليات الأخرى، الخلق بداية المشروع، حيث هناك التسوية...

قال تعالى: (... كان علقة فخلق فسوى) (سورة القيامة: 38).

قال تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوّى) (سورة الأعلى: 2).

قال تعالى: (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) (سورة الكهف:37).

قال تعالى: (الذي خلقك فسوّاك... ) (سورة الانفطار: 7).

قال تعالى: ( وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) (سورة السجدة:9).

قال تعالى: (الذي خلقك فسوّاك... ) (سورة الانفطار:7).

وفي الحقيقة لنا هنا ملاحظة دقيقة، أن التسوية مع الخلق في الآيات القرآنية تأتي بعده دائماً!!،وهذا واضح حسّاً من الآيات السابقة، فما من تسوية إلا وأتت بعد عملية الخلق، وهذا التعاقب موجود حتى مع الذكر المباشر لعملية الخلق.

قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات) (سورة البقرة: 29).

قال تعالى: (ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها) (سورة الشمس: 8).

فالتسوية بعد الخلق، أي تحققت بعد الخلق، إنها مضافة إليه، تقع على امتداده، يفيده حركة واتصالاً في عالم الكون...

ولكن ما هي التسوية؟!.

في الحقيقة أن الأصل اللغوي لفعل (سوّى) يدل على الاستقامة والاعتدال بين شيئين وسواه، كما في مصباح اللغة: ماثلة وعادلة. وفي مفردات الأصفهاني: المساواة هي المعادلة المعتبرة بالذرع والوزن والكيل... واستوى يقال على وجهين وهما: يسند إليه فاعلان فصاعداً، نحو استوى زيد وعمرو في كذا أي تساويا وقال: (لا يستوون عند الله) (سورة التوبة: 19)، والثاني أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو (ذو مرّة فاستوى) (سورة النجم: 6)، وقال (فإذا استويت أنت.. لتستووا على ظهوره، فاستوى على سوقه) (سورة المؤمنون: 28)، والسوي يقال فيما يصان عن الإفراط والتفريط من حيث القدر والكيفية، قال تعالى: (ثلاث ليال سوّياً) (سورة مريم: 10)، وقال تعالى: (... من أصحاب الصراط السوي) (سورة طه: 135)، ورجل سوي استوت أخلاقه وخلقه عن الإفراط والتفريط...

وقوله: (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها) (سورة الشمس: 14) أي سوّى بلادهم بالأرض.

وفي الصحاح: السواء: العدل، وسواء الشيء وسطه. وفي مقاييس اللغة: سوّى: أصل يدل على استقامة واعتدال بين شيئين.

من هذا البيان يتضح لنا أن التسوية هي:

1- ساوى الشيء الشيء أي عادله: (حتى إذا ساوى بين الصدفين قال أنفخوا) (سورة الكهف: 96).

(قل هل يستوي الأعمى والبصير) (سورة الأنعام: 50).

(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) (سورة النساء: 95).

(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً) (سورة هود: 24).

(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون) (سورة التوبة: 19).

فالتسوية هنا هي التعاون والتماثل، وموضوعنا ليس هنا بطبيعة الحال.

2- التسوية اعتدال الشيء في ذاته: (ذو مرة فاستوى) (سورة النجم: 6).

(ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً) (سورة القصص: 14).

(لتستووا على ظهوره) (سورة الزخرف:130).

(استوت على الجودي) (سورة هود: 44).

فالتسوية هنا، استقرار، اعتدال، وذلك في خصوص شيء واحد.

3- التسوية من استوى إلى الشيء، أي انتهى إليه وقصده: (ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات) (سورة البقرة: 29).

(ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (سورة فصلت: 11).

4- التسوية من استوى على، أي سيطر أو استولى أو استقر: (ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه ) (سورة الأعراف: 54).

(ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (سورة يونس: 3).

(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) (سورة الحديد:4).

فاستوى هنا تدل على الاستيلاء والتمكن، وعودة إلى القرائن اللغوية التي تحف الكلمة من قبلها ومن بعدها يشير إلى ذلك بوضوح.

5- السوي: المستقيم المعتدل (فستعلمون من أصحاب الصراط السوي) (سورة طه: 135).

(فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) (سورة مريم:43).

هذه هي أهم استخدامات الفعل (سوى)... أنها..

(التماثل، التعادل، التشابه، سواء بين شيئين أو أكثر أو في شيء واحد، السيطرة و التمكن عندما يتعدى بـ(على) القصد والجملة عندما يتعدى بـ (إلى) المستقيم المعتدل التام).

إن التسوية التي نبحث عنها هنا هي التي تقترن جلياً أو خفياً بـ (الخلق).

قال تعالى: (الذي خلق فسوّى) (سورة الأعلى: 2).

قال تعالى: (ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها) (سورة الشمس: 7).

يشير بعض المفسرين إلى أن التسوية هنا التوسط مع الاعتدال، وهو تعبير آخر عن استقرار المخلوق على مقتضى حكمته واستمراره وديمومته.

في الحقيقة أن التسوية في هذا المجال لا علاقة لها بمعنى التماثل والتشابه والسيطرة والقصد والاستقامة، ولا هي اعتدال الشيء بذاته.

من أجل الوصول إلى المقصود من (سوّى) المقترنة بـ (خلق) نتبع المنهج التالي:

أولاً: استعراض كل مناسبات الاقتران، واضحاً أو خفيًاً، تصريحاً أو تلميحاً، كلمة أو إشارة.

ثانياً: استعراض الصور والمعاني والعلائم التي تتبع الفعل (خلق)، أي ما يأتي بعدها من إشارات وبيانات.

ثالثاً: استكشاف مجالات التسوية بعد الخلق ودورها في تشييد العلاقة بين الطرفين أو المعنيين.

رابعاً: الاستئناس بالمعنى اللغوي القاموسي التقليدي.

نستعرض الآن حالات الاقتران:

1- قال تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى) (سورة الأعلى:1-5).

2- قال تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً) (سورة الكهف: 37).

3- قال تعالى: (ثم كان علقة فخلق فسوّى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) (سورة القيامة: 39).

4- قال تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك) (سورة الانفطار6-8).

5- قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (سورة الحجر: 28-29).

6- قال تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (سورة ص: 72).

7- قال تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) (سورة السجدة: 7-9).

8- قال تعالى: (ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها) (سورة الشمس: 7-8).

9- قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) (سورة البقرة: 29).

10- قال تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسوّاها) (سورة النازعات: 27- 28).

وفي الحقيقة إذا دققنا النظر في كلمة أو فعل (سوّى) الواردة في هذه الآيات سوف نرى أنها جاءت بعد (خلق)، فهي وهذه الحالة على امتداد عملية الخلق، مرحلة لاحقة، وهذه المرحلة تتسم بعلائم التطور في عملية الخلق، فنحن إذا أجلنا النظر في المستحقات التي تترتب على التسوية لوجدناها استحقاقات وافرة بالعطاء زاخرة بالآثار، وأنها استحقاقات تكشف عن مرحلة من الوجود الشاخص بهويته، فالتسوية إذن على طول ظاهرة الخلق، وهي شاملة لكل مخلوق(سبح اسم ربك الذي خلق فسوّى) والفاء ليس للترتيب الزمني بقدر ما هي للترتيب في الدرجة.

إن التسوية في هذه الآيات لا تعني أبداً التماثل أو التعامل أو التوسط مع الاعتدال، فإن هذه المعاني ذات منحى أخلاقي أو قيمي، فيما التسوية هنا إشارة إلى نحو وجود، أي التسوية في المجال الذي نحن فيه تحقق عيني خارجي، يتجوهر في كل مخلوق، نحو وجود يتسم بالاكتمال أو على درجة من الاكتمال.