مجلة النبأ

 

من هدي المرجعية

معطيات التعددية الحزبية وحق التنظيم والتجمع

الجماعة من الناس، إذا لم يكن لها لون بنائي - أي لم تبن على لون خاص - تسمى (شعباً)؛ فيقال الشعب الهندي، والشعب الأندونيسي؛ حيث أن الذين يعيشون في الهند أو أندونيسيا - مثلاً - لم يبنوا على هذا اللون، بل ولدوا في ذلك البلد بغير إرادتهم.. وإذا بنوا على شئ سمّوا (أمة)، مثل الأمة الإسلامية.. ثم في داخل الشعب والأمة، قد تتكون مجموعة لها هدف خاص، من سياسة أو ثقافة أو مال أو نحوها؛ فتسمى (جماعة) أو(جمعية) أو(هيئة) أو(فرقة)، وفي الغالب تسمى (حزباً)، إذا كان لها هدف سياسي؛ أي إدارة البلاد.

وقد تنسب الجماعة إلى محل جلوسها، مثل (مجلس العموم البريطاني)، و (مجلس الأمة) - باعتبار أن نواب الأمة يجلسون في ذلك المجلس، ومثله (مجلس اللوردات) وما أشبه ذلك، وهذه الأسماء اصطلاحات - ولا مشاحة في الاصطلاحات - وإن كانت هنالك واقعية، باعتبار (اللابناء) أي لا بشرط، و(البناء) يكون على شئ من عقيدة أو عمل، كما أنه قد يكون (واسعاً) كالأمة، وقد

يكون(خاصاً) كالحزب والجماعة، وفي البناء الخاص قد تكون النسبة إلى المحتوي - بالكسر - (كالمجلس) وقد تكون النسبة إلى المحتوى - بالفتح - كالجماعة والحزب.

وقد ورد اسم الحزب في القرآن الحكيم، لا بالمعنى الاصطلاحي في الحال الحاضر؛ فهناك سورة في القرآن باسم سورة الأحزاب، واستعماله في كتاب الله، تارة في الخيرين؛ مثل (حزب الله) (المائدة: 56)، وتارة في الأشرار، أو الأعم، مثل قوله سبحانه:(ولما رأى المؤمنون الأحزاب ..) (الأحزاب: 22)، وقوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) (المؤمنون: 53)، وقوله سبحانه: (..من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) (الروم: 32).

كيف تتكون الأحزاب؟..

وأصل تكون الحزب، إنما هو من وجود الفوارق النفسية بين الناس، فكل جماعة وأمة وقبيلة وشعب، لا بد وأن يوجد بينهم أناس لهم صفات نفسية متمايزة، وكفاءات خاصة، وتلك الصفات تدعو أولئك الأفراد إلى (الأنانية) تارة، وإلى (المشاركة الوجدانية) أخرى؛ وبهذا يجمع ذلك الإنسان حول نفسه جماعة، يصبهم في اتجاهه، إما لإشباع رغبته في السيادة والأنانية، أو لجعلهم خدمة الناس، بالقيام بحوائجهم، لحسّه بالمشاركة مع الناس في أحزانهم وآلامهم وآمالهم، وهذا ما يصطلح عليه بالمشاركة الوجدانية.

الأحزاب.. والتواجد الدائم..

وحيث أن التجمع الصغير في داخل التجمع الكبير، نابع من داخل الإنسان، فقد كان الحزب موجوداً منذ الأول، وإنما اختلفت الضوابط والخصوصيات، وتطورت، حسب تطور الزمان، وحيث أن الحكم كان موجوداً في كل تجمع، حتى البدائي، فالتجمع السياسي (الحزب) كان موجوداً منذ ذلك الحين..

ثم إن هناك فرقاً بين (الحزب السياسي) وبين (الجمعية السياسية) في المصطلح الحديث؛ فالأول عبارة عن جماعة ذات ضوابط خاصة، تريد الوصول إلى الحكم، بينما الثاني يكون في هامش الحكم، مثل ما يدعى بـ(جمعية الصداقة) حيث يكون في البلد جماعة يهوون حكومة خاصة، ويدافعون عن مصلحتها، حيث يرون من صالح البلاد الارتباط بتلك الحكومة؛ فمثل هذه الجمعية لا تريد الوصول إلى الحكم، وإنما تكون في هامش الحكم، لأنها تقوي الحكم.

وإذ قد عرفت أن لفظ (الحزب) ليس إلا اصطلاحاً، فقد كان هذا اللفظ غير متداول في السابق؛ ولذا خلي الدستور الفرنسي المدون عام (1831م) من هذا اللفظ، ثم لما دون الدستور البلجيكي، مقتبساً عن الدستور الفرنسي، لم يذكر فيه هذا اللفظ أيضاً، ولما أخذ الدستور الإيراني عن البلجيكي أبان الحركة الدستورية (المشروطة) خلي من هذا اللفظ، وإن ذكر فيه لفظ آخر بمعناه، مثلاً، ذكر في متمم القانون الأساسي الإيراني: (إن كل مجلس وتجمع لا يولد فتنة دينية أو دنيوية، ولا يوجب الفوضى، فهو حر في عمله).

أركان التكتل الحزبي..

إن السياسيين قالوا بأن الحزب لا بد وأن تكون له أركان خمسة:-

الأول: يجب أن يكون الحزب شلالاً مستمراً، كالنهر الجاري الذي لا يوقت بزمان دون زمان، بل اللازم أن يكون بحيث لا يرتبط وجوده ببقاء زعمائه، كلما مات زعيم، قام آخر مكانه، وحتى لو مات جميع الزعماء دفعة واحدة، لبقي الحزب، وإنما سميناه شلالاً، لأن الواجب في الحزب النشاط المتزايد المندفع، وإلا فلو سار الحزب سيراً جريانياً، لتوقف عن التزايد الكمي والكيفي؛ وكل شيء ليس فيه تزايد، مصيره إلى الزوال؛ كما ورد في الحديث الشريف: (ومن لم يكن في زيادة، فهو في نقصان)؛ إذ الأحداث تلطمه وتلطمه، حتى تمحيه من الوجود.

الثاني: أن تكون له فلسفة حزبية، ينبعث منها؛ فليس الحزب عملاً خارجياً فقط، بل فلسفة توجب شد بعض أجزائه ببعض، وتحدد له هدفاً ووسيلة، وتكون هي المرجع عند الاختلاف، وذلك مثل فلسفة استمرار الرأسمالية، أو الاشتراكية، أو تعميمها، أو ما أشبه، ومثل فلسفة تطبيق عقيدة أو شريعة، أو تعميمها، إلى غير ذلك من الفلسفات التي ترجع بالنتيجة إلى العقيدة، أو النظام، أو كيفية التطبيق - مثلاً -.

الثالث: يجب أن يكون الحزب ذا تنظيمات ومؤسسات محلية ترتبط كلها بالنواة المركزية للحزب؛ لأن تلك التنظيمات المحلية، إذا لم تكن، لم يقدر الحزب على العمل في ذلك المحل، ولو كانت، ولكنها لم ترتبط بالمركز، حصل الانفصام المخرج للحزب عن الوحدة؛ فلا يكون بينهما ترابط، وبذلك يخرج عن كونه حزباً واحداً، بل يصبح مثله، في عالم (الحكومات) مثل الملوك للطوائف، أو كالبدن المقطوعة أجزاؤه.

الرابع: يلزم أن يكون الحزب مرتبطاً بالناس، ارتباطاً وثيقاً؛ إذ إن ذلك هو الذي يمكن الحزب من التوسعة الكمية والكيفية والتصاعد، وإلا فلو انحصر الحزب بأعضاء خاصين، بدون الارتباط بالناس، لكان كأقلية في أكثرية؛ فإن الناس هم مصدر الاستمرار والتوسع والتصاعد، وكما لا يتمكن غصن بعد قطعه عن الشجرة، من الاستمرار في الحياة، وإعطاء الزهر والورق والثمر، فكذلك يكون الحزب الذي انقطعت صلته بالناس.

ولذا يتوجب على الحزب أن يكون مع الناس، فيشرح فلسفته لهم، ويخدمهم، ويعطي ويأخذ منهم؛ وبدون هذه الأعمال الثلاثة، يقطع الناس علاقتهم به؛ إذ هم لا يريدون ديكتاتوراً في الفكر، ولا دكتاتوراً في العمل، ولا من يريد السيادة عليهم وحسب، بل يريدون من يفهمهم ويفهمونه، ومن يعطونه ويعطيهم، ومن يخدمهم، لا من يستخدمهم.. وإذا قطع الناس علاقتهم بالحزب، بقي حزباً في فراغ، لا يمر زمان، إلا ويذوي ويموت، كما يموت الغصن المقطوع عن شجرته.

الخامس: يلزم زعماء الحزب، أن يكون هدفهم الوصول إلى الحكم، سواء كان قصدهم الوصول وحدهم، كما في الأحزاب المبنية على الدكتاتورية، أو بمعاونة الأحزاب الأخرى، كما في الأحزاب المبنية على الديمقراطية، وإلا فإذا لم يقصد الحزب ذلك، لم يكن له هدف سياسي، وهو خارج عن محل الكلام؛ وفي الاصطلاح الحديث، لا يسمى مثل ذلك حزباً.. وما ذكرناه من أن قصد الحزب إذا كان الاستئثار بالحكم لوحده، كان ديكتاتورياً، هو فيما إذا لم يكن هناك جناحان حقيقيان في الحزب، هما بمنزلة حزبين، أو أجنحة، وإلا فلم يكن ديكتاتورياً، إذا ما توفرت في تلك الأجنحة أو الجناحين، ما يتوفر في الأحزاب المستقلة، أو الحزبين المستقلين.

ومما تقدم من المقومات الخمسة للحزب، يتجلى تعريف الحزب، وهو (الجماعة المترابطة من الناس الذي لهم تنظيم على سطح الدولة، ولهم فلسفة خاصة، وهدفهم الوصول إلى الحكم) وهناك تعاريف أخرى لا يهمنا التعرض لها.

لكي يكون الحزب ناضجاً..

وأهم شيء في الحزب هو النضج، والنضج عبارة عن:

1- فهم السياسة والاقتصاد والاجتماع فهماً كاملاً.

2- الاتصاف بالحزم واللين والاستقامة وروح الشورى والواقعية.

قال الشاعر:

وأحزم الناس من لم يرتكب عملاً حتى يفكر ما تجنى عواقبه

وهذا المعنى هو شيء من الحزم، وقد وصف الإمام أمير المؤمنين (ع) أحد تلاميذه، بقوله: (كان والله بعيد المدى).

وقد قال الرسول (ص) للإمام علي(ع):(إن من مكارم أخلاق الدنيا والآخرة اللين والعفو والسخاء).

والاستقامة توجب اطمئنان الناس بالحزب؛ قال سبحانه وتعالى: (فاستقم كما أمرت) (هود: 112)، والاستقامة تكون في الكم والكيف.

وروح الشورى؛ أن يكون الحزب بحيث لا يريد الديكتاتورية والاستبداد برأيه؛ ففي الحديث الشريف: (من استبد برأيه هلك)؛ وذلك لأن الأعضاء يتفرقون عن الحزب، دون أن ينضم إليه أعضاء جدد، حتى يضمحل الحزب. والشورى وإن كانت تدمغ الأنانية الكامنة في بعض النفوس، إلا أن دمغة التأخر والسقوط أشد إيلاماً من دمغة الشورى..

والواقعية عبارة عن رؤية الواقع كما هو، والعمل بتلك الرؤية؛ فبالإضافة إلى أنه صدق، فهو يوجب التفاف الناس حول الحزب، بخلاف الكذب والخداع وما أشبه، الذي يوجب انفضاض الناس من حوله؛ قال سبحانه وتعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاءاً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد: 17).

وعلى أي حال، فالحزب مثله مثل الفرد، في أنه كلما كان متصفاً بالعلم والفضيلة، كلما كان تقدمه في المجتمع أسرع، والتفاف الناس حوله أكثر، واحتمال سقوطه أقل، وكلما كان العكس، كان الأمر بعكس ذلك..

ومما تقدم يفهم وجوب كون الحزب متصفاً بالدقة في فهم الزمان ومتغيراته؛ إذ الزمان كالنهر الجاري، كل آن غير الآن السابق، وكما قال الإمام علي (ع):(يتقلب بأهله من حال إلى حال)؛ فإذا لم يفهم الحزب متغيرات الزمان، تغير فجأة، بما يسقط الحزب، في كثير من الأحيان، ويجعله تأريخاً في ثنايا الكتب..

ولا يخفى أن من شرائط الحزب أيضاً الانسجام مع ذهنيات وعقائد الأمة التي يريد الحزب أن يعيش فيها؛ ففي البلد المؤمن لا يمكن أن يعيش حزب ليس مقيداً بالإيمان، فكيف بالحزب الكافر، فإذا أراد حزب أن يعيش في بلد الإسلام، وجب عليه أن يتقيد بالإيمان، عقيدة وشريعة ونظاماً..

فوائد تعدد الأحزاب..

نظام الأحزاب في الدولة، يسبب:

1- توفير الحريات للناس؛ حيث أن كل حزب يخاف من الحزب الآخر، فيعمل جهده لإصلاح شأنه، وخدمة الناس، لئلا يتقدم الحزب الآخر عليه، وبذلك يعيش الناس أحراراً، لا يتمكن من أن يكبتهم أحد، ولا يتعامل معهم إلا في إطار القانون.

2- يصل الناس في ظل مثل هذه الأنظمة إلى أهدافهم وحاجاتهم؛ وذلك لأن الحزب يعمل جاهداً لإرضاء حاجة الناس، لئلا ينفرط منه أحد إلى الحزب الآخر؛ فهو نوع تنافس، يسبب ظهور الكفاءات، ودرء المظالم والتقدم بالبلاد إلى الأمام؛ ولذا قال السياسيون: إن الأحزاب السياسية المتعددة، تسبب للجماهير تنسم الحريات، والتعبير عن آرائها، وإبداء رغباتها، والوصول إلى أهدافها.

ومن الواضح أن مثل هذا النظام، يقوم على حزبين أو أكثر، والأكثر يجب أن يكون بقدر تحمل الأمة؛ فإنه كما قد يكون الحزب ديكتاتورياً، فكذلك قد تكون كثرة الأحزاب فوضى، وفي النظام المتعدد الأحزاب يتعين أن تكون الجولة الانتخابية حرة وصريحة، وإذا أسفر الانتخاب عن فوز فريق على الآخر، انقطع التنافس والتصارع، ولم تكن هنالك أحقاد، وينتهي الأمر بوضع كل حزب يده في يد الآخر، في صداقة تامة، وإلى جولة انتخابية أخرى، ويبدأ الجميع، الفائز وغيره، بالعمل في إطار القانون.

موقف الإسلام من الأحزاب..

إذا كان الحزب مقدمة البرلمان الذي يحكم بحسب الآراء والأهواء، كان حراماً؛ وذلك لأنه مقدمة الحرام، وتعاون على الإثم والعدوان، بل يعد في عرف المتشرعة من أبشع المنكرات، حيث أنه تهيئة لهدم الإسلام كله، وإحياء الباطل كله، وانتهاك الأعراض والأنفس والأموال والحقوق. ولا يخفى أن مثل هذه الأمور تجعل الشيء من أشد المحرمات - وان قيل في الأصول بعدم حرمة مقدمة الحرام -.

وكذلك يحرم الحزب إذا كان سبباً لقبض أزمّة السياسة في البلاد، من دون الانضواء تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط؛ إذ الإسلام قرر الولاية لله سبحانه، ثم الرسول (ص)، ثم الإمام المعصوم (ع)، ثم الفقيه الذي هو نائبه.

ويحرم أيضاً إذا كان الحزب سبباً لتسليط من لا ترضى به أكثرية الأمة، ولو كان فقيهاً عادلاً؛ إذ إن رئيس الدولة في البلاد الإسلامية يجب أن يكون، بالإضافة إلى كونه مرضياً لله سبحانه، منتخباً من قبل أكثرية الأمة، فإذا كان الحزب سائراً إلى جعل من ليس كذلك، كان عاملاً على خلاف الموازين الإسلامية، وذلك محرم؛ لأن الإسلام دين بني على الشورى، وحرية الآراء - في الإطار الإسلامي -.

أما الحزب الذي ليس أساساً لتشريع الأحكام، وكان الهدف منه إقامة حكم الله، وإيصال الفقيه المرضي لله وللأمة إلى رئاسة البلاد - حسب الشورى الإسلامية - وكان لا يستبد بالأمر، بأن يسمح بعمل سائر الأحزاب المكونة في الإطار الإسلامي، فمثل هذا الحزب، إن توقف عليه إقامة حكم الله، كان واجباً تعييناً، وإن كانت هناك صورة أخرى لإقامة حكم الله، كان واجباً تخييراً، وبيان ذلك في أمور:

1- مجلس الأمة المنتخب، يجب أن يحكم بحكم الله، لا بحكم غير الله، وحكم غير الله له صورتان:

الأولى: الحكم المخالف للحكم الصريح لله سبحانه، مثل وضع حكم ينافي الحريات الممنوحة للإنسان، حيث قال تعالى: (يضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

الثانية: الحكم المخالف لمصلحة المسلمين؛ كأن يكون الدخول في السلم صلاحاً، فيقول بالحرب، أو بالعكس.

2- قد لا يهتم الحزب بماذا، أو كيف يكون الحكم، إذا وصل إلى البرلمان، وهذا غير جائز؛ إذ التربية الإسلامية مقدمة للتطبيق الإسلامي، وبدونها لا يمكن التطبيق الإسلامي؛ فإذا لم يهتم الحزب بالإسلام كتشريع، وكتطبيق، لم يقدر على العمل بالإسلام، بعد الوصول إلى البرلمان، وإلى السلطة التنفيذية والقضائية؛ وفي ذلك هدم للإسلام، وقد قال تعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) (التوبة: 46).

3- الذي يصح أن يجعل في الإسلام، رئيساً للدولة، هو الفقيه العادل، الجامع للشرائط؛ فالحزب يلزم أن يكون مقصده ذلك، وإلا كان حائداً عن الإسلام؛ فلا يجوز له أن ينصب للرئاسة العليا غير المؤهل، كما لا يجوز له أن يصوت لغير المؤهل.

4- لا يجوز للحزب أن يجنح إلى الأساليب الملتوية - غير أسلوب الشورى وأكثرية الأمة - في سبيل تقديم مرشحه للرئاسة، وإن كان ذلك المرشح مؤهلاً، لأن ذلك هدم للشورى الإسلامية، وإضاعة لحق الأمة.

5- أن لا يستبد الحزب بالأمر؛ فالحزب الواحد استبداد لا يجوز شرعاً، لأنه إضاعة لحق سائر المسلمين.

صور التجمع وأشكاله..

التجمع له صور، نأتي إلى تفصيل بعضها، فنقول:

1- التكتلات النقابية:

من التجمعات (النقابة) وقد أسست النقابات في الأصل لتجميع قطعة خاصة من الأمة، لأجل رعاية مصالحها، وقد ذكر في القرآن الحكيم، حيث قال سبحانه: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة) (المائدة: 12).

وإنما يكون العمال النقابات، للدفاع عن مصالحهم، التي أهمها زيادة الأجور، وخفض ساعات العمل؛ وليس ذلك اعتباطاً، وظلماً من العمال لأصحاب العمل، سواء أكان صاحب العمل رأسمالياً، أم شركة، أم حكومة، بل لأجل الأجر العادل - للجسد - بأن يكون الأجر بقدر العمل، بما يسبب الرفاه للعامل، وأن يكون بقدر العمل والفكر..

كما أن النقابة تهتم بحماية العامل، ضد إصابات العمل، وأخطار المهنة، وحماية المرأة العاملة، بصورة خاصة، حيث نعومتها الطبيعية، وحيث لها واجبات الحمل والولادة والرضاع، وحقوق الزوج...

وإذا وقع إجحاف على العمال، دعت النقابة إلى الإضراب والمظاهرات؛ مما يوجب إعطاءهم حقهم..

وفي نظر الإسلام، لا بأس بهذا الأمر، بل هو لازم شرعاً؛ إذا كان من طرق إنفاذ الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتقدم بهذا القطاع من الأمة إلى الأمام.. وقد جعل الإسلام دساتير خاصة، ومناهج محددة، للعمال والفلاحين، مذكورة في الفقه الإسلامي، وفي الأحاديث الشريفة.

ولم يتوقف أمر النقابات، عند حد نقابة العمال، بل تعداه إلى نقابات الفلاحين والمعلمين والأطباء والمهندسين والصيادلة والطيارين والموظفين.. إلى غير ذلك من سائر أصحاب المهن، وعمال المصالح، وهناك مجلس إدارة، وأعضاء منتخبين، وانتخابات حرة للجمعية الإدارية، كل سنة - مثلاً - مرة، إلى غير ذلك.. ثم تعدى نشاط النقابات الأمور المذكورة، إلى السياسة وكانت هي النواة الأولى لتكوين الأحزاب العمالية، في مختلف البلدان الصناعية في الغرب وغيره، وحاولت أن تستغل مثل ذلك الشيوعية؛ فتجعله سلماً إلى تسلمها السلطة، وبناء الدكتاتورية على أكتافهم. وإنما تدخلت النقابات في السياسة، لأجل أن توصل أصوات العمال ومطالبهم إلى مسامع الأمة؛ لإجبار السلطة التنفيذية على اتخاذ الإجراءات اللازمة، بشأن إنصاف العمال.. وبقيت نقابات لم تربط نفسها بالسياسة، كاملة،وإن كان لها دلو من الدلاء في هذا المجال.

وحيث أن النقابات تحتاج إلى المال، لأجل شؤون العمال، حال البطالة والمرض والشيخوخة وما أشبه، كان لا بد لها من وضع صناديق لجمع المال والاتجار به لأجل الاسترباح؛ لغرض الوفاء بالاحتياجات، لا لغرض التجارة على غرار الشركات، وإلا خرجت عن نظام النقابات إلى نظام الشركات - وذلك غير مقصود للنقابة -.

2- القوى الضاغطة:

وهي عبارة عن جماعات من الناس لهم مطالب معينة، في إطار مصلحتهم، أو المصلحة العامة، يشكلون مظاهرات وإضرابات ومراجعات إلى الدولة، لإلغاء قانون، أو تشريع قانون، أو تعديل قانون، وقد يطلق على هذه الجماعات كلمة (لوبي)، ويرمز بهذه الكلمة إلى الممرات، وغرف الانتظار، والمداخل، والأشخاص الذين يترددون على المجالس التشريعية، للتأثير على أعضائها، وهم يطلبون من رجال الحكومة وممثليهم في المجالس النيابية، أن يستجيبوا لمطالبهم؛ بتشريع أو إلغاء أو تعديل قانون، وفق مطالبهم، لإعطائهم حقاً، أو رفع كلفة عنهم، أو إعطاء الجماهير ذلك الحق، أو رفع الكلفة عنها..

ويعبر عن (اللوبي) في اللغة العربية بـ(اللولب)، وأهم الشرائط في هذه القوى الضاغطة، ما يلي:

1- استخدام الضغط، بدون العنف، ولا شق عصا الطاعة، وإلا كان فوضى واضطراباً، ولا تستعمل هذه القوى الضغط لتحطيم الأملاك الحكومية، ولا الأملاك الخاصة، ولا عرقلة المواصلات، وإرهاب الناس في الشوارع، ولا حرق المباني، ونهب الحوانيت، والقتل والجرح، وما أشبه؛ فالضغط أدبي بالإضراب والمظاهرات، ومراجعة القوى...

2- أن يكون الضغط في خطوط مدروسة، لفترة معينة، تبدي فيها الجماعة احتجاجها على السلوك المتبع في رعاية مصالحها، أو المصالح العامة.

3- الجمعيات التعاونية:

وهي تؤسس على أساس إعطاء كل ذي حق - المنتج والمستهلك - حقه، بالإضافة إلى التخفيف عن المستهلك، ما أمكن؛ حتى يتمكن من الوصول إلى حاجاته، فإن المستهلك قد لا يصل إلى حاجة إطلاقاً، وقد يصل إلى حاجة بأكثر من قيمتها، وكذلك المنتج، فقد لا يتمكن من الإنتاج إطلاقاً، كما قد يتمكن من الإنتاج، لكن بصعوبة أكثر من المتعارف، وقد يستغل؛ فيعطي إنتاجه بأقل مما يجب أن يعطيه.. ولذا كانت الجمعيات التعاونية، وسيلة وضع الحق في نصابه، بواسطة شعبها الثلاث:

1- شعبة تعاونيات المنتج.

2- شعبة تعاونيات الموزع.

3- وشعبة تعاونيات المستهلك.

حق التجمع والتنظيم مكفول في الإسلام

وهكذا فإن حق التجمع والاجتماع ونحوهما، وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات والأحزاب.. كل ذلك مكفول في الإسلام، وقد سبق الإسلام القوانين الوضعية في ذلك؛ فقد جعل الرسول (ص) المهاجرين والأنصار جماعتين، ويستفاد من أحاديث متعددة أنه كلما ضغطت عليه جماعة منهما، كان يلجأ إلى الجماعة الأخرى.

ففي حديث: إن رسول الله (ص) قال في قصة مشهورة: (لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً، لسلكت مسلك الأنصار، وتركت مسلك الناس).

وفي حديث آخر أنه (ص) عند وفاته، حينما لغط القوم عنده وكانوا من المهاجرين وقال بعضهم: (إن الرجل ليهجر) واختلفوا، قال رسول الله (ص):(قوموا عني فإنه لا ينبغي النزاع عند نبي). فلما خرجوا، أمر بعض الناس بطلب الأنصار، فطلبوهم، فجاؤا وتكلم معهم بما أحب أن يوصي.

وفي رواية أن حزبين من الأنصار كانا يتراميان، فقال النبي (ص): (أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع).

بل يظهر من الروايات وجود المهاجرين والأنصار كحزبين إلى زمان أمير المؤمنين (ع)، حيث أعطى (قرظة) - وهو من أصحاب رسول الله (ص) - راية الأنصار يوم صفين.. إلى غير ذلك من الموارد المتوفرة في السيرة الطاهرة.

بل إن ذلك هو مقتضى القاعدة المشهورة عند الفقهاء، المستنبطة من الآيات والروايات (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، يشمله قوله تعالى:

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: 104).

وتشمله أيضاً، بدلالة الاقتضاء، الآية المباركة التي تقول: (فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة: 122).

التنظيم ومواجهة التحديات..

إننا بدون التنظيم لن نستطيع مواجهة التحديات المعاصرة، ولن نتمكن من الوقوف أمام الاستعمار وأذنابه.

وإن لنا لعبرة في سيرة رسول الله (ص)، حيث كان يخضع جميع شؤونه للتنظيم الدقيق.. فمثلاً: في حرب بدر كان المسلمون زهاء الثلاثمائة، والكفار زهاء الألف، وكان هؤلاء مدججين بالسلاح، أما المسلمون فكانوا شبه عزّل... وفي قبال ذلك لم يكتف الرسول (ص) بالحالة الإيمانية لدى المسلمين، بل أضاف إلى ذلك حالة التنظيم الخارجي؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أن الرسول (ص) جعل كل مئة من أصحابه في دائرة، بحيث تكون ظهور بعضهم إلى بعض، ووجوههم إلى الخارج، وعندما بدأ المشركون بهجومهم على المسلمين، لم يستطيعوا الإحاطة بهم، فتبعثروا حول هذه الحلقات الكبيرة.

وبهذا التنظيم، مضافاً إلى الإيمان، استطاع المسلمون أن ينتصروا على الكفار الذين ما كانوا يمتلكون التنظيم.

ولكن يلزم التنظيم الإسلامي أن يكون مغرياً، يأتي علماً وعملاً، بما يسبق به العالم، وإلا فالناس لا يتركون ما هم فيه من الرفاه إلى الأسوأ - بنظرهم - وكذلك فعل الرسول(ص)، حيث أعطى العلم والألفة والرفاه والسيادة والحرية لعالم كان غارقاً في الجهل والانشقاق وصعوبة العيش، واستبعاد طبقة قليلة لجماهير الناس؛ ولذا أقبلوا إليه (ص) في وقت قصير.

فاللازم أن يعطي التنظيم الإسلامي، في العصر الحاضر، ما افتقده العالم المتحضر، من حرية الإنسان، وكون عمل كل إنسان لنفسه، والأخوة لكافة بني الإنسان.

فإن من طبيعة الناس أن لا ينضووا تحت لواء المتعجرفين الذين يجعلون آراءهم فوق آراء الآخرين، والذين يصعبون الحياة على الناس؛ ولذا قال سبحانه: (يريد الله بكم اليسر) (البقرة: 185)، وقال تعالى: (وشاورهم في الأمر) (آل عمران: 159)، وقال جلّ شأنه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران: 159).

المــصـــادر:

(1) موسوعة الفقه - كتاب السياسة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

(2) موسوعة الفقه - كتاب الاجتماع: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

(3) الصياغة الجديدة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.