مجلة النبأ

 

كلمة النبأ

 قراءات نقدية لمشاهد متوترة

لاشيء أسوأ من أمة تواجه العجز المطلق وهي تستسلم لمصير انحداري نحو الدمار والتفتت؛ فالتيه واللامبالاة والاستسلام لقدر الآخرين هي علامات واضحة في مسيرة الأمة الإسلامية هذا اليوم، وليس هو عجزاً جزئياً بل شاملاً أصابها بالشلل التام، وهي تشاهد مشاهد القتل والمجازر والتفكك في فلسطين وأفغانستان، وبلاد إسلامية أخرى تحولت فيها المأساة إلى مألوف، والعنف الطائفي والعنصري إلى مسموح شرعي مباح، وكل ذلك أضحى مشهداً روتينياً يبكي الجمهور على دراماتيكيته فيخرج بعدها وقد افرغ شحناته الانفعالية ليدجن نفسه على القبول بالأمر الواقع.

ليست الأخطار الخارجية هي التحدي الحقيقي، بل التحديات الداخلية التي تعصف في أساس وبنية الأمة، فالخطر الخارجي عندما يكتسح أي أمة ويسيطر عليها يمثل النتاج العملي للانهيار الداخلي، فالحضارات انتهت واندثرت لأنها تآكلت من الداخل فأصبحت كالطريدة المتهاوية التي ينتظرها الوحش لافتراسها.. وسيطرة القوى الكبرى على قراراتنا السياسية ومصالحنا الاقتصادية وغزوها لقيمنا الثقافية ما هو إلا واقع مر خلّفه تهالك الأمة وضعفها وافتقادها للمقومات الذاتية للنهوض والبناء. ويرى (توينبي) إن الأمم لا تعتل بل تنتحر أي أن النخب المسيطرة تدخل في حالة نزاع دائم تعجز معه عن ابتكار حلول تحظى بالإجماع لمشكلاتها الحياتية المتراكمة والمتأزمة، وإن حالة النزاع الدائم، مع العجز عن إيجاد الحلول تدفع الناس العاديين إلى تقبل الحكم الأجنبي في المرحلة الأولى ثم الانحلال فيه آخر الأمر.

ويصبح العجز شللاً يسلب الأمة إرادتها عندما يخترق كافة المستويات والطبقات؛ فيتعايش المجتمع والإنسان مع هذه الحالة كشيء طبيعي يعتاد عليه ويقبل به، حينئذٍ لا يقع اللوم على جهة معينة بقدر ما تكون المسؤولية عامة لا يمكن لأي طبقة من المجتمع أن تتنصّل منها.

يمكن قراءة العجز والشلل من خلال ثلاثة مستويات رئيسية في المجتمع: النظام الحاكم، النخب، الجماهير.

فالأنظمة الحاكمة تواجه أزمة جوهرية بافتقادها القدرة على ترجمة تطلعات الأمة وآمال الجماهير لأنها تفتقد القدرة على التفاهم معها؛ إذ كيف يمكن إيجاد الترابط والتفاعل من فوق دون وجود إرادة حقيقية متجسّدة بالحريات والقدرة على التعبير عن الرأي.

والنخب بأطيافها المختلفة تحولت إلى تيارات منعزلة ومتصادمة تتكلم ولا تسمع ولا تسعى للتفاهم مع الآخرين؛ فهي تعيش في تيه كبير لتعاليها وإحساسها بالفوقية أو انهزاميتها وشعورها بالدونية؛ لذلك فهي ليست قادرة على صنع الثقافة المتقدمة والواعية والمبدعة.

والجماهير بعد أن فقدت ارتباطها بالواقع الميداني للفكر والعمل النهضوي، وشعورها بعدم أهميتها، وضربات الإحباط التي تلقتها، فقدت إحساسها بالزمن وتاهت عندها الحقيقة لتصبح غير مبالية بكل ما يجري حولها من أحداث وتحولات، لذلك اتجهت اهتماماتها نحو القيم الاستهلاكية والسلوكيات الترفيهية التافهة، هذا ويمثل أسلوب التفكير ونوعية الأفكار سبباً رئيسياً في تحول هذه الطبقات الثلاث نحو الضعف والعجز؛ إذ إن الأفكار المتطرفة والعنيفة لا تدع مجالاً للغة الحوار والعقل وتفرض أسلوب الأفكار المسبقة والمطلقة.

فالوعي والفكر المنغلق يهدف إلى أن يحبس الأمة على التاريخ الماضي، ويغلق أبوابه عن الانفتاح نحو المستقبل، ويجمد حركة المجتمع الدينية والفكرية ويوقفها حيث انتهى الأسلاف؛ فلا فكر متجدد ولا اجتهاد متحرك، بل هو انغلاق مطلق على الماضي وجمود متشدّد في الحاضر دون محاولة لفهم أن الحياة في تطور وتقدم دائمين، وإن الدين الإسلامي هو دين الاجتهاد والتطور والتغيير، وهذا النوع من التفكير يحبط أي إرادة للنهضة والتغيير، ويجمد الإرادة البشرية ويقمعها ويغل التفكير عن الخوض في مسائل الحياة لأنه يفسر الدين والتاريخ بحرفية مطلقة لا تعتمد على التفكير العقلي الواسع والمنفتح والمرن .

وهناك الفكر المتغرّب المفتتن بالقوي الذي يرى في حضارة الأقوياء المثال والنموذج الذي يجب أن يحتذى به لإيجاد النهضة، ومشكلة هذا النوع من الوعي أنه لا يرتكز على أرضية قوية في الفهم والتفكير؛ لأن أساسه ينشأ من إحساسه بالضعف وعدم الثقة بالذات، ورؤيته الدونية للقوي، وبالتالي خضوعه التام له، لذلك فهو يلتقط كل شيء من القوي دون أن يمحص ما هو جيد أو سيئ وهذا هو منشأ الخضوع للاستعمار، والإيمان المطلق بالثقافات الغازية.

إن الفكر القادر على تجاوز العجز وخلق إرادة فاعلة لعملية النهضة يبدأ من خلال الوعي المتبصر الذي ينشأ من التفكير العقلي الموضوعي، حيث يجرد نفسه من ضغوطات البيئة والنفس والمعيشة ويحرر نفسه وعقله من الجمود الفكري الذي يمنع التيار الفكري من الانطلاق.

وهكذا فإن حركة النهضة التي تعتمد على محور الإرادة والعقل تبدأ من خلال الحركة الذاتية للأفراد، أي إن المجموع بحد ذاته لا توجد فيه إرادة جماعية تنشأ بشكل جماعي، بل الإرادة الجماعية تنشأ عبر وجود إرادات فردية تحس بالواقع الذي تعيشه إحساساً عقلانياً صادقاً، وتحمل على عاتقها الهم الجدي بالتغيير، فتنشر تموجاتها في المجتمع خالقة تيارا عاما يسير نحو التغيير؛ ومثال ذلك الدور الذي لعبه الأنبياء (ع) في بناء حضارات وأمم صالحة؛ إذ بدأوا بأقلية مستضعفة تحولت إلى حركة اجتماعية عامة؛ فلا يمكن إيجاد نهضة فاعلة وقوية إلا عبر خلق إرادة جماعية والإرادة الجماعية لا تتحقق إلا من خلال إرادات فردية، تبدأ بإثارة الهموم ونشر الوعي وتحريك لإرادة الاجتماعية العامة؛ لذلك تحيا الأمم وتنتعش عندما يتصدى لأمورها أفراد وقيادات تمتلك الوعي والحكمة والإرادة للتحكم بالأحداث وقيادة الأمة، وتنهار الأمم وتموت عندما تنطفئ جذوة الحركة والفكر والإبداع في أفرادها ونخبها، وخصوصاً عندما تنغمس النخبة في الواقع الاجتماعي المر وتنهار أمام ضغوطات الحياة وتذوب في التيار الاجتماعي العام وتستسلم لقدرية التاريخ.

وفي الحديث الشريف: (إذا فسد العالِم فسد العالَم)؛ لأن العالم هو المثال المحرك والفاعل للقيم الأخلاقية والدينية في المجتمع؛ فإذا انهار وتخلى عن القيم، انهار المجتمع وفقد مبرراته الأخلاقية والإيمانية؛ يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في النهج: (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها.. الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم).

إلى ذلك فإن الحضارة لا يمكن أن تتجدد إلا إذا نشأت في عدد من الأفراد نزعة عقلية جديدة مستقلة عن تلك السائدة بين الجمهور، تكتسب التأثير تدريجيا على النزعة الجماعية، وفي النهاية تطبعها بطابعها، كما لا سبيل للنجاة من الفوضى والهمجية إلا بحركة أخلاقية وعقلانية حكيمة؛ أي إن التغيير الحضاري العام يبدأ من خلال تغيير الأخلاقيات النفسية والاجتماعية المتدهورة، وتغيير أنماط التفكير الجامدة وتحريك المنهج العقلي والفطري في التفكير والاستدلال، وهذه كلها أمور فردية ذاتية لا توجد في المجموع بشكل عام، بل توجد في كل فرد بحد ذاته، ويجب أن نعلم بأن التاريخ وسنن الله في الكون حركة ذات علية وسببية: )ولن تجد لسنة الله تبديلا)، أي إن الأسباب والعلل تنتج نفس الآثار لو تكررت في مكان آخر، فالوقائع لايمكن أن تحدث بصورة مختلفة لو كانت الأسباب نفسها تعمل وتخلق الآثار والنتائج ذاتها. وهذا الأمر لابد أن يوجد فينا التصميم لإيجاد حركة النهضة عبر فهم أسباب وعلل التقدم والنهوض ودراسة تاريخ الأمم والحضارات، وفهم أسباب تقدم وتطور الأمم للاستفادة من عناصرها الإيجابية في حركتها. ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (المائدة: 48).

إن الأمم عندما تبدأ طور النمو تستجيب بصورة إيجابية للتحديات وعندما لا تستجيب أو ترد بسلبية على التحديات، عبر ردود أفعال عنيفة في مواجهة الجديد، فإنها تنغلق على نفسها، وتنأى عن حركة التطور، وتعيش مزيداً من التخلف والتراجع؛ فالمشاهدة العملية للكثير من المتغيرات في مجتمعاتنا تكشف لنا عن أن معظم الأفراد يتغاضون عن الواقع المر ويتصرفون بلامبالاة مفرطة حيال السلبيات الوافدة، متشبهين بالنعامة عندما تدفن رأسها وتكشف مساوئها؛ هذه الاستجابة السلبية للمآسي الكبيرة سوف تزيد الأزمة تجذرا وتخلفا.

إن الاعتراف بالعجز، والإقرار بالخطأ، والتسليم بضرورة التغيير، عبر التبصر بالعيوب وعدم التستر عليها من أجل التغيير نحو الأحسن، يمكن أن يمثل منطلقاً حقيقياً نحو التعامل الإيجابي مع التحديات والتحرك الصحيح نحو الشفاء من الشلل، وذلك يمثل بداية النهضات الكبيرة. يقول تعالى: (ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(الأعراف: 96).

رئيس التحرير