مجلة النبأ

 

الحوار والاعتراف.. أزمة مواجهة بين الطرح والرفض

 

حسن علي الغسرة

  مــدخــل: 

الحوار اليوم هو من روح العصر وأحد ظواهره المهمة ووسيلة إنسانية لمعرفة الواقع والدخول في مجال التفاهم والإقناع ولم يكن أبداً من مظاهر العنف والاستبداد.

ولا بد لكي يأخذ الحوار مداره في المجتمع ويؤدي دوره في تحقيق التواصل بين بني الإنسان أن يتوافر له مناخ من القدرة على التواصل وحرية التعبير والاعتراف بالطرف الآخر للحوار.

وافتقاد الحوار لعنصر (الاعتراف) يولد نوعاً خطيراً من الحرمان عند الإنسان لا يعالجه إلا الحوار الهادف القادر على مناقشة المواضيع بأساليب سليمة وروح أخلاقية عالية فهذا ضروري للقيام بالعمل الجماعي،فمن خلاله تتم عملية تحديد الاختلافات والفوارق وإيجاد نقاط اللقاء ومن ثم الالتقاء عليها.

 

  الأزمـــة: 

الأزمة بين الحوار والاعتراف ظاهرة عالمية؛ فالحوار فضيلة إنسانية وقيمة أخلاقية،وأما الاعتراف (بالإنسان ورأيه وفكره ومفاهيمه) فهو مشكلة الأمم التي يواجهها العلماء والباحثون والمفكرون في عصرنا هذا، حيث تولدت لدى بعضهم ردة فعل خوفاً من طرح آرائهم على شرائح المجتمع لئلا يتهموا بالتطرف والزندقة وفساد العقيدة،والوقوف ضدَ هذا الطرح ومحاربته، واتخاذ الموقف العدائي وإصدار توصيات بوجوب مقاطعتهم واعتزالهم، وإطلاق الشائعات لتمويه المفاهيم والحقائق في شن حملات هجومية للطعن والتشويه على صاحب الفكرة (وإن التفكير والاتهام بالزندقة والمروق هو مظهر للإرهاب الفكري، حيث يدعي البعض لنفسه أن الإسلام ينحصر فيما يراه ويفهمه هو وأن من يخالفه في ذلك الفهم أو الرأي فهو كافر لا مكان له في أجواء الإسلام ومجتمعه!.

ولقد حذر رسول الله (ص) من أن يشهر مسلم على أخيه المسلم سلاح التكفير(1) كل ذلك لمجرد الاختلاف في وجهات النظر فكراً ورأياً مع كونهم من أبناء دين واحد وعقيدة واحدة.

 

  شرعيـــة الاختـــلاف:

الاختلاف سنة شرعية أكدها القرآن الكريم ونص على وجوبها بين الناس لاختلاف مراتب عقولهم وأفكارهم ومعتقداتهم و.. يقول الله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(2) وقال تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير)(3) بينما نجد البعض يرفض شرعية الاختلاف فيجعل الناس يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة دون تجديد وتطوير وتطلع للإبداع والتغيير، فلماذا هذا الاستبداد الفكري وإثارة الإشكاليات التي يفترض أن تكون قد ولت، لما قد حملته الحضارة الإسلامية من مناهج ونظم شاملة؟.

من الغريب أن نجد من يدعي لنفسه فهم الإسلام وحقائقه وهو لا يعطي فرصة حق الاختلاف للرأي الآخر، (إن مصادرة (الرأي الآخر) لن يحقق إلا تمزيق الأمة وتفتت وحدة المجتمع وخلق الفتن والصراعات العبثية المنهي عنها شرعاً وعقلاً ومنطقاً وأخلاقاً.. في حين أن احترام (الرأي الآخر) وتشجيعه سيؤدي إلى التقدم والإبداع والابتكار.. كما أن ضمان حرية الرأي للجميع سيساهم في بناء وحدة الأمة وصلابة عودها) (4).

فالحوار والاعتراف بحق الآخر يفسح مجالاً واسعاً للبحث في الدراسة المقارنة بحثاً موضوعياً يتوخى من ورائه حل مشاكل التعصب المذموم.

وقد أكد ديننا الحنيف على مبدأ الحوار في كثير من نصوصه القرآنية وكان الحوار هو الأسلوب الأول الذي انتهجه الأنبياء في الدعوة إلى الله لهداية الناس نحو الخير والصلاح، التكامل والتقدم، التفاهم والتضامن، الأمن والاستقرار فقال الله تعالى: (وقولوا للناس حسناً) (5) فالقول الحسن هو الذي يحقق التقارب بين الأمة الإسلامية ويبعدها عن مواضع الخطأ والتخلف.

فكما نرى أن دعوة موسى (ع) اعتمدت على مبدأي الحوار والاعتراف منذ البداية عندما أرسل الله تعالى نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى الطاغية فرعون وأتباعه حيث أمرهم بأن يبلغوا رسالته بأسلوب الحوار ومواجهة الطاغية بالبينات لترسيخ القيم الإلهية في النفس الإنسانية، فقال الله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) (6)، (قولا له قولاً لينا) هي الرسالة التي أعطيت لموسى (ع) وأخيه، فكانت بمثابة الزاد الذي حملاه للتبليغ بينما نجد الأزمة -الحوار والاعتراف- واضحة جلية، عندما رفض فرعون أن يتحاور مع نبي الله موسى (ع) لعدم الاعتراف بشرعية نبوته وصحة رأيه وذلك لأجل خدمة مصالحه الشخصية، لكي لا يفقد مكانته بين قومه فلجأ للإرهاب كوسيلة للحفاظ على سلطته، فعمل على إخفاء الحقائق وتزييفها لإلباس الحق بالباطل.

وكان يستهدف من وراء ذلك القضاء على الحركة الرسالية الفضلى، فقال الله تعالى على لسان فرعون: (إني أخاف أن يبدل دينكم) (7)، حيث كان خوفه نابع من خطورة التغيير الإيجابي الذي سيحدثه موسى (ع) لما يملكه من بينات وبراهين تكفي لتكميم الأفواه وتغيير نظام حكم فرعون وهدم صرحه.

فسعى إلى إثارة الناس ضد الحق عن طريق الإيحاء بأن هذه الدعوة تحارب دينهم وتقضي على ثقافتهم وتبدل أفكارهم ومفاهيمهم التي ورثوها عن آبائهم.

تلك كانت دعوة موسى (ع) حيث اتخذت طابع الحوار والكلمة الطيبة فأتم بذلك دائرة الحوار (بالاعتراف) بوجود رأي مختلف، وتلك كانت معارضة فرعون الطاغية ورفضه للدعوة بتزييف الحقائق وتوجيهه التهم ومحاربة الآراء وقطع دائرة الحوار على موسى (ع) بخلع أهم بند فيها وهو الاعتراف (بالرأي الآخر المختلف) وبوجود التنوع واحترام طرف الحوار فكان فرعون بذلك ممثلاً (للإرهاب الفكري) حيث عمل على سلب مبدأ (الحرية للرأي الآخر) وهي حق شرعي مطلق للإنسان لكي يعبر بها عن آرائه وأفكاره، ومع ذلك لم يمنعه موسى (ع) من ممارسة حقه في المعارضة باعتبارها -حرية المعارضة- حق من الحقوق الشرعية.

(إن كل تعاليم وقيم الإسلام تحث على التسامح واحترام الآخر وإعطاء كل ذي حق حقه انطلاقاً من أصالة الحرية، وحق الإنسان في الاختلاف، ومن أكبر الأدلة على ذلك... التجربة الإسلامية الأولى التي قادها النبي (ص) والتي تؤكد وقائعها وشواهدها التاريخية على شرعية الآخر في الإسلام) (8)، (وهنا لا بد من مبادئ أخلاقية وتعاليم تربوية تجعل العقول منفتحة والصدور متسعة لاختلاف الرأي وتعدد وجهات النظر وهذا ما صنعه الإسلام في التأكيد على التسامح واحترام الرأي)(9).

 

  الاعتـراف قاعـدة أساسية:

إذاً الاعتراف أولاً هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها الحوار، إذ لا حوار دون الاعتراف بوجود تنوع وتعدد آراء في مجتمع واحد، فالحوار والاعتراف يضمنان حرية الرأي والتعبير وحرية المعارضة.. وحرية المعارضة حق لكل الناس، وليس من حق أي أحد كان أن يفرض سلطته بالقهر وأن يضيق الخناق على المعارضة بأي شكل، لأن مشروعية المعارضة للأفراد والجماعات تأتي من مشروعية وجودهم (فإن الفطرة تقتضي الحريات الفردية إطلاقاً، ولا خارج منه إلا أمران: ما إذا كانت ضارة بنفس الإنسان، أو بفرد آخر، أو ضارة بالاجتماع)(10)، وقد سمح النبي (ص) والإمام علي(ع) للمعارضة سواء كانوا أفراداً أو جماعات أن يقوموا بدورهم تعليماً للامة في السماح للمعارضة، وإن كانا هما معصومين، وقد ورد في القرآن الكريم في حق النبي (ص) (وما ينطق عن الهوى) وقال(ص) في حق الإمام علي(ع): (علي مع الحق والحق مع علي) وعليه فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت المعارضة(11).

وحرية المعارضة وحرية الرأي تأتي بالشورى لأنها نابعة من احترام المؤمن ورأيه، فعلى الإنسان أن يستعد لتقبل أفكار الآخرين والاعتراف بوجود تنوع ورأي مختلف، ثم التسليم للحق والبحث عنه، قال تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (12) فهذه قاعدة أخلاقية تربوية حقوقية وجدت ضمن مناهج القرآن، لتؤكد على احترام الآخرين بإعطائهم حقوقهم المشروعة.

(لقد بنى الإمام (ع) حكمه على أساس الشورى والحوار ولم يتراجع عن هذين الأمرين في أحلك الظروف، بالرغم من أن كثيراً من الذين عارضوه كانوا ينطلقون ليس من خلاف في الرأي، بل من طمع في الحكم أو حقد في النفس، أو حب في الأثرة، أو فرار من عدل أو رغبة في الدنيا... ولكن للمعارضة حقوقاً، ولا بد من مراعاتها مع قطع النظر عمن يكونون، وماذا يريدون، وماذا تكون منطلقاتهم) (13).

 

  نتــائـــج إيجـــابية: 

من النتائج الإيجابية للاعتراف بوجود تنوع وتعدد في الآراء واحترام هذا التنوع والالتزام بمبدأ حرية الرأي والاعتماد على أسلوب الحوار، حل النزاعات التي وجدت بين أفراد الدين الواحد، وكذلك العمل على تجديد الفكر الإسلامي والنهوض بالمشروع الحضاري، (ويفترض في هذا التنوع والتعدد الواقع أن يساهم في إثراء الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه العقائدية والفكرية والاقتصادية... لو كان ذلك يتم في إطار ممارسة الفكر بطرقه السليمة عبر مقارعة الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، والعقل بالعقل في حوار ينفتح فيه الجميع وتتبادل فيه الآراء والطروحات بموضوعية وعلمية بعيداً عن التعصب) (14).

فكان رسول الله (ص) قدوة وأسوة لأمير المؤمنين (ع) في احترام حريات الناس وإعطائهم كافة حقوقهم المشروعة، لأن مواقفهما متشابهة تتجلى فيهما عظمة الإسلام، مصدرها واحد وهدفها واحد مع اختلاف الظروف التي عاشوها.

وقد عانى أمير المؤمنين (ع) عند توليه الحكم الكثير ممن عارضوه وألبوا الناس على حكمه (فمنهم من رفض الخروج معه في حروبه مع أعدائه، ومنهم من خذل عنه الناس، ومنهم من أخذ يبث الدعايات ضده، ومع ذلك فإن الإمام -هو على حق وهم على باطل- فلم يقم بكتم الأصوات، ولم يمنع المعارضين من التجمع وعقد الاجتماعات، ولم يضيق الخناق على المعارضة بأي شكل من الأشكال) (15) فكفل لهم حق المعارضة وحق حرية الرأي والتعبير عنه وأوضح (ع) حقوق المعارضة في الأمور التالية:

1- حق الكلام.

2- حق الفيء.

3- حق التردد على المساجد.

فكان المثل الأعلى الذي نقتدي به ونتعلم منه كيفية التعامل مع المعارضة تعاملاً إسلامياً.

(وأهم ما نستطيع استنتاجه من تجربة الإمام علي (ع) مع معارضيه أن للرأي الآخر مكاناً في الدولة الإسلامية وأن الإسلام يكفل كافة الحقوق المشروعة للمعارضة السياسية السليمة، أما المعارضة المسلحة ضد الدولة الإسلامية فلا شرعية لها، إذ لا شرعية في محاربة الشرعية) (16) وتقرر تعاليم الإسلام بوضوح وجوب احترام الإنسان وصيانة حقوقه وحرمة سلب حريته، وذلك بالالتزام بمنهج الحوار والكلمة الطيبة ومن ثم الإقرار والاعتراف بوجود رأي مختلف.

المصـــادر:

1- التعددية والحرية في الإسلام: الشيخ حسن موسى الصفار/ ص131.

2- سورة هود: 118-119.

3- سورة الشورى: 8.

4- شرعية الاختلاف: عبد الله اليوسفي/ص16.

5- سورة البقرة: 83.

6- سورة طه: 43- 44.

7- سورة غافر: 26.

8- التعددية والحرية في الإسلام: الشيخ الصفار/ص131.

9- التعددية والحرية في الإسلام: الشيخ حسن موسى الصفار/ص131.

10- الفقه -كتاب السياسة: السيد محمد الشيرازي/ج100-ص20.

11- الحرية في الإسلام: السيد محمد الشيرازي.

12- سورة الأعراف: 85.

13- أخلاقيات أمير المؤمنين(ع): السيد هادي المدرسي/ص290.

14- بصائر من التشريع الإسلامي (الإسلام والفكر المضاد): ص26.

15- أخلاقيات أمير المؤمنين (ع): السيد هادي المدرسي/ص289.

16- شرعية الاختلاف: عبد الله اليوسفي/ص116.