اعلى

شورى المراجع في آراء الفقهاء

 

 

ناصر حسين الأسدي

إن طريق الوصول لمعرفة مصلحة الإسلام العليا هو (المؤسسة الشوروية) لا الفرد، والقيادة كلها لا بعضها.. وهذه المؤسسة هي التي تتولى دراسة المواقف والمشاريع عن طريق التداول وطرح الآراء المتباينة من جميع الأطراف ومناقشتها والاستماع بروح إيجابية موضوعية لمزايا وعيوب كل رأي يطرح، ومزج تلك الآراء بعضها ببعض، واقامة الفرصة للافكار المتباينة لتتفاعل ويكشف بعضها بعضاً، والوصول من خلال ذلك بأسلوب حر وروح ودية لخلاصة يبنى عليها الرأي الأخير الذي يجب أن يعتبر رأي (المؤسسة الشوروية المرجعية) أما بحصول الاجماع عليه أو بموافقة الأكثرية، وطريقة الوصول للرأي الجماعي القائمة على مزج وتفاعل آراء الجميع وعلى المناقشة الحرة، والمقارنة في ضمن المجموع، هي الوسيلة الصحيحة الوحيدة لمعرفة المصلحة الحقيقية للإسلام والأمة.

إن الدعوة إلى (الشورى) من قبل جمع غفير من الفقهاء والمفكرين والعلماء لم تكن في مقام الرد على نظرية تدعو إلى (أحادية القيادة).. بل كانت استنباطاً من الأدلة التي تؤكد لزوم الشورى واستحساناً عقلياً حول أولويتها على الفردية.. كما إن نظرية (شورى الفقهاء) طرحت في صيغ وألفاظ مختلفة.. وبالتصريح حيناً والتلويح أحياناً..

منهم المرجع العظيم الراحل الشيخ عبد الكريم الحائري(1) (مؤسس حوزة قم) فلقد دعا إلى تقسيم أبواب الفقه وإيجاد اختصاصات للفقهاء بعد اجتماعهم ومشورتهم وتنسيقهم(2) ولا ضرورة لتقليد الأمة لمرجع واحد، بل يمكن التبعيض، وتقليدها لمرجع في العبادات وآخر في المعاملات، وثالث في الأحكام مثلاً، ويكون ذلك شأن العلوم الحديثة، كالطب والهندسة، حيث يختص طبيب بآلام وأمراض العين وآخر بالأذن، وثالث بالمخ، ورابع بالقلب، وفي الهندسة يختص مهندس بالبناء وآخر بالمواصلات وثالث بالمدن، ورابع بالوحدات السكنية الصغيرة، فعالم اليوم قائم على الاختصاصات في كل المجالات العلمية والعملية.. ففي علم النفس مثلاً، هناك فرع اختصاصي لعلم النفس القضائي، وآخر لعلم النفس الاجتماعي، وغيرهما، وفي علم القضاء يوجد قسم للأحداث وقسم للإرهابيين، وقسم للمجرمين، وقسم لأصحاب الحرف وقسم للسياسيين وآخر للعسكريين وهذه التقسيمات والاختصاصات في مختلف العلوم أثمرت تكاملاً ورقياً باهراً في كل تلك المجالات العلمية وعلم (الفقه) قد توسع كثيراً... ولقد بذل شيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) كل ما بوسعه لجمع شتات مختلف المسائل الفرعية وأثبتها في كتابه القيم (المبسوط) الذي بسط فيه الفقه بسطاً.. إلا أن مبسوطه لا يعادل حتى عشر موسوعة (جواهر الكلام) ذات الثلاث وأربعين جزءاً.. و(جواهر الكلام) هذه ليست إلا أقل من ثلث (موسوعة الفقه) التي جمعت حوالي عشرة آلاف مسألة حديثة بما تتطلبه من توسعة واستدلال، غير آلاف المسائل الأخرى.. فكيف يستطيع فقيه واحد من الإحاطة بكل ذلك؟...

فلو لم يؤخذ باقتراح تنظيم الاختصاصات للشيخ الحائري ليس أمام الحوزات إلا تجميد حركة (تطور الفقه).. وتعليقنا على هذا الاقتراح هو: أن هذا (الاتفاق) على الاختصاصات لا يمكن أن يحدث عفوياً ومن تلقاء نفسه، بل إنه مشروط باتفاق مراجع الدين على ذلك، وهذا الاتفاق مشروط بقيام (شورى) لتنسيق العمل خلال مدة طويلة، حتى يستقر هذا الأمر بصورة تدريجية في هيكلية النظام الحوزوي وبنيته..

الميرزا النائيني: دعوة إلى الشورى

وقد ذهب إلى تبني (شورى الفقهاء) ثلة من فقهائنا منهم المحقق (الميرزا النائيني تغمده الله برحمته) وآخرون جُدد منهم الفقيد الراحل آية الله العظمى الإمام السيد حسين البروجردي (قدس سره) الذي طبق قدر ما استطاع (الشورى في القيادة).

وصف المرحوم النائيني القيادة الإسلامية، بأنها (الفقهاء العدول العارفون بأصول الدين وفروعه) وأضاف معقباً على كلامه: ( فينبغي على النظام الإسلامي أن يكون نظاماً دستورياً يقوم على مبدأ) إلاّ أنه لإثبات رأيه استشهد بسبب آخر هو (إن الشورى غالباً ما تسير بمسار الحق بعكس الحكومة الفردية التي تؤدي إلى الاستبداد والغصب والقهر)(3).

الإمام البروجردي والشورى

وتأييداً لفكرة (جماعية القيادة) قادنا السياق لمعرفة ما ذكره آية الله البروجردي الذي يعتبر من أبرز فقهاء عصره فقد اتضح من كلامه أنه يؤمن بمبدأ الشورى في الحكم، وذكر.. (في كل مجتمع ثمة قوانين سياسية واجتماعية كالحرب والسلم وإدارة البلاد داخلياً وخارجياً وكذلك القضاء وجمع الزكاة، يجب أن يتولاها زعماء السياسة والدين، الذين يمتازون بالخبرة الدينية والحنكة السياسية) ولإثبات ذلك أضاف (إن الولاية لا تقتصر على الفقيه الواحد بما أن الفقهاء جميعاً نواب الأئمة المعصومين) (4).

والسلطة العليا في الدولة الإسلامية تتولاها (لجنة الإفتاء) التي تتشكل من مجموعة فقهاء تتوفر فيهم شروط الولاية بما فيها شرط العدالة، لاستخراج الرأي الأوفق الناشئ من رأي الأكثرية الساحقة وبعد أن يتم تبادل وجهات النظر في المتطلبات التي تستوجب أبحاثاً جديدة.

إلا أنه من أجل تجنب الخلافات التي قد تحدث بين أعضاء (لجنة الإفتاء) في إدارة جلساتهم ذكر بعض العلماء أنه (ينبغي أن يرشح أعضاء اللجنة شخصاً واحداً من بينهم يمتاز بخبرته الفائقة وكثرة تدبيره والذي يلقب بـ(الأعلم) لتولي عضوية اللجنة والحفاظ على ترتيب الجلسات وتنظيم الحوار والتصدي لأية فوضى قد تحدث بين الفقهاء)، فتكون مهمة الأعلم محصورة في هذا النطاق وليس كما ذكرها أصحاب النظرية الأحادية، فبالرغم من امتيازه على سائر الفقهاء لكن الرأي النهائي يبقى مقتصراً على ما يقرره مجلس شورى الفقهاء(5).

ومسألة (انتخاب الأعلم) لإدارة (لجنة الإفتاء) أو (شورى الفقهاء) أمر صعب.. لأن تشخيص الأعلم أمر في غاية التعقيد وما أكثر الخلافات القائمة على مقاييس الأعلمية أولاً.. وتشخيص الأعلم في الواقع الخارجي ثانياً!! إلا أن جلسات (لجنة الإفتاء أو شورى الفقهاء) لا بد لها من إدارة داخلية.. لأن ترتيب الجلسات لا يتم إلا بهذه الإدارة وليس بالضرورة أن يشترط كون مديرها أعلم العلماء في الشورى.. بل تناط الإدارة بمن ينتخبه نفس الأعضاء.. إذ قد يكون غير الأعلم أمتن وأدق إدارة.. والأعلم عاجزاً.. إذ لا تناسب بين الأعلمية وإدارة جلسات شورى الفقهاء المراجع..

وثمة آخرون دعموا فكرة القيادة الجماعية في النظام الإسلامي من خلال تأييدهم لمبدأ الشورى في استنباط الرأي الفقهي لوجود الارتباط الوثيق بينهما.

وفي هذا السياق جاء في كتاب (المرجعية والروحانية):

(لا بد من تشكيل شورى تضم مجموعة من الفقهاء والمراجع تسمى بـ(لجنة الإفتاء) مهمتها بالمصطلح الفقهي بـ(الحوادث الواقعة) لغرض الحصول على الرأي الأوفق والأصوب الذي تقضي به آراء الأكثرية الساحقة من المراجع، ولتحديد المسؤوليات في المجتمع الإسلامي كما كان يحدث بالضبط بعد الغيبة الكبرى مباشرة) (6).

وهناك تجارب تاريخية تدل على الواقع التطبيقي لهذا المبدأ، فقد انعقدت في زمن المرجع الكبير الحاج (حسين القمي) في العراق، لجنة أبحاث في الأمور الفقهية، وكان من أعضاء تلك اللجنة المرجع الكبير السيد (ميرزا مهدي الشيرازي) والشيخ (محمد رضا الأصفهاني).

رأي الأعلم أم رأي الشورى؟

وتأييداً لما ذكر تحدث لنا السيد (مرتضى الجزائري) عن نظرية الشورى في الإفتاء، التي تتشكل من مجموعة فقهاء تطرح بينهم المسائل الإسلامية المرتبطة بأمور المسلمين عامة، ولأن الاتفاق على جميع الآراء أمر لا يمكن تطبيقه، لذا يستلزم على الشورى أن تستخرج الرأي الأوفق الذي تقضي به أغلبية الآراء، واستشهد في ذلك بأدلة أخرى متعددة منها:

أولاً: إن الشورى تقلل من نسبة الخطأ الذي يصيب الفقيه الواحد، والحكم الفردي، لأن الأفكار بعد مرورها على عقول أغلبية الفقهاء ستتبلور بصورة دقيقة ومركزة وتدرس من جميع جوانبها.

ثانياً: عمل الرسول الأكرم(ص) بالشورى في مواقف كثيرة، ليس لأنه قاصر في فكره، ومحتاج إلى تدبير الآخرين، وإنما ليحث المسلمين على ممارسة الشورى عملياً.

ثالثاً: دلت العصور السالفة على اهتمام الفقهاء بمبدأ الشورى يعرف ذلك من خلال المصطلحات الفقهية التي ذكرت على شكل (المتفق عليه - المشهور - الإجماع) فقد ورد في مرفوعة زرارة، قال: (قلت جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان، فبأيهما نعمل؟.

قال الإمام(ع): (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.. فإن المجمع عليه لا ريب فيه..

قلت: يا سيدي هما معاً مشهوران مأثوران عنكم؟

قال: خذ بما يقوله أعدلهما..).

أما الإشكال الذي طرحه السيد مرتضى الجزائري في نظرية الفقيه الواحد (الأعلم) فهو في تشخيص الأعلم (حيث يقع الباحث في اشتباهين. الأول: أن يتصور بأن الأعلمية منحصرة في نطاق الفقيه الواحد، في حين لا إشكال في إمكان تساوي شخصين أو أكثر في درجة الأعلمية.

والثاني: أن يتصور عدم اختلاف أهل الحل والعقد في تعيين الأعلم، والحقيقة أن أول من يقع في المشكلة هم أهل الحل والعقد أنفسهم الذين يتولون مهمة تشخيص الأعلم، فالقسم الأول منهم ينتخب زيداً وينتخب القسم الثاني عمرو) (7).

الولاية لكل الفقهاء

وفي معرض الحديث عن (ولاية الفقهاء) ووجوبها جاء في كتاب (أساس الحكومة الإسلامية) لآية الله الحائري:

(إن الولاية لم تثبت في الشريعة الإسلامية لفقيه معين، بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط، وهذا من ناحية يشتمل على حكمة بالغة، لأن الفقيه الجامع للشرائط ليس معصوماً كالإمام(ع) كي يُعطى بيده الأمر وحده، بل بالإمكان أن يتورط أحياناً في خطأ كبير، ويؤدي إلى حلول أخطار جسيمة بالمجتمع الإسلامي، فلا بد أن لا تكون الولاية لفقيه معين، بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط، كي يتدخل البعض في الأمور التي يتناولها البعض الآخر، ويعصم بعضهم البعض عن الخطأ، وينقض حكمه حينما تقتضي المصلحة النقض - على ما مضى منا من جواز نقض حكم الحاكم من قبل حاكم آخر في بعض الفروض - ولا يستبد فقيه واحد غير معصوم بأمور المسلمين) (8).

إذن فالولاية لم تثبت لفقيه واحد بل لا بد أن لا تكون لواحد والواحد يتورط في أخطاء جسيمة في بعض الأحيان، ويجوز للفقهاء نقض حكم الحاكم أحياناً..

الإمام الشيرازي: الشورى وجوب مؤكد

ومن بين القائلين بضرورة تشكيل (مجلس الفقهاء) تجنباً لمشكلة الاستبداد في الإدارة، وتحقيقاً للنصوص الشرعية التي تعطي الولاية لجميع الفقهاء، آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي الذي أتحف هذا الموضوع بالأفكار المستفيضة والأدلة المختلفة، يقول سماحته: (الولي الفقيه هو الفقيه العادل، الجامع للشرائط، والذي يكون مورد ثقة الناس وأهل الخبرة فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام، حيث أن نظام الإسلام استشاري كما في قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وقوله (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لايصح الحكم إلا فيما خرج، مثل حكم الرسول(ص) وحكم الإمام (ع) ، وحكم من عينه نصاً مثل تعيين الرسول (ص) أسيداً على مكة، وتعيين علي(ع) مالكاً على مصر، فإنه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات كما لا مجال للشورى مع النص في الأحكام)(9).

ومن هذا التصريح نعرف أن رأي الإمام السيد الشيرازي هو: أن للأمة كامل الحق في انتخاب واحد فقط لقيادتها.. ثم يأتي دور القادة المعتمدين المنضوين تحت لواء الشورى..

إلا أن الواقع التاريخي والحوزوي أثبت بصورة جلية أن القيادة المرجعية غالباً متعددة المحاور.. ذلك لأن الشريعة المقدسة فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه ودعت إليه.. فالمراجع يتعددون.. ويستمر التسلسل المرجعي متعدداً...

وعلى هذا فإن السلطة العليا في الدولة الإسلامية هي مجلس الفقهاء الذين هم مراجع تقليد الناس ومحل الأخذ والعطاء لأنهم هم نواب الأئمة(ع) وخلفاء الرسول (ص) الذي قال: (اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي) وفي حديث آخر قال الإمام(ع): (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم).

ومعنى ولاية الفقيه أن الذي يتصدى لإدارة البلاد والعباد على طبق القوانين الإسلامية هم الفقهاء الذين هم نواب الأئمة(ع)، وليس معنى ولاية الفقيه أنه يحق له الخروج عن القوانين الإسلامية والحكم وفقاً لرأيه، كما لا حق لبعض الفقهاء المراجع التفرد وإهمال وطرد من سواه فمثلاً إذا أرسل الإمام أمير المؤمنين ثلاثة أو أربعة ليحكموا بلداً، فإن الواجب عليهم أن يتشاوروا فيما بينهم، ويعملوا في أمور البلاد على حسب أكثرية الآراء، لا أن يستبد أحدهم ويطرد الآخرين، وعلى هذا فأمور التقليد راجعة إلى كل المراجع، فلو فرضنا في البلاد الإسلامية ذات الألف مليون مسلم مائة من مراجع التقليد، فهؤلاء هم السلطة العليا للأمة، يديرون أمور البلاد في السلم والحرب وسائر الشؤون بأكثرية الآراء(10).

الشورى لا تعني ذوبان المرجعيات

ولو كانت أمور الأمة تقودها الأكثرية من أعضاء شورى الفقهاء، فماذا يكون مصير مرجعية كل مرجع، وما هو برنامجه مع مقلديه، أم أن المقلدين يرجعون في كل الشؤون إلى الشورى؟

ويذوِّب الفقيه وكل مشاريعه ومؤسساته وأجهزته الإدارية في الشورى؟.

يجيب سماحة السيد الشيرازي قائلاً: (أما الشؤون التقليدية من الصلاة والصيام والحج وما أشبه، فإن كل مقلد يتبع مرجعه ويأخذ الفتيا منه، فيكون دليل الشورى مخصصاً لدليل التقليد، لأن الجمع بينهما لا يكون إلا بهذا النحو من التخصيص، فإذا حكمت شورى المراجع بحكم بالنسبة إلى أمور الدولة فالواجب حتى على الذين يقلدون الأقلية الذين لم يقولوا بذلك أن يرجعوا إلى رأي الأكثرية ولا حق لهؤلاء المقلدين أن يقولوا: (لا نعمل على طبق هذا الحكم لأن مرجع تقليدنا في مجلس الشورى لم يفت بذلك).

فحال المقام حال ما إذا اختلف مقلدان لمجتهدين في مسألة فقهية كالزوجية مثلاً فيما لو رأى أحد الزوجين صحة الزوجية من جهة عدم توفر شروط الرضاع(11) ورأى الآخر عدم صحة الزوجية من جهة توفر شروط الرضاع، فإنهما يرجعان إلى قاض يقضي بينهما حسب رأيه سواء وافق رأي هذا أو رأي ذاك، ويلزم عليهما اتباعه، بل وإن خالف رأي القاضي رأي كليهما، كما إذا اختلفا في مال أنه للولد الأكبر أو لكل الورثة، ورأى القاضي أنه ثلث الميراث.. على ما ذكره الفقهاء في كتاب القضاء وغيره، وفي المقام أولى بوجوب اتباع غير المقلدين لرأي أكثرية مجلس الشورى الإسلامي الأعلى للفقهاء فإنه بالإضافة إلى وجود ملاك القضاء في المقام، يكون الجمع بين دليل الشورى ودليل التقليد، تقديم قضية الشورى على قضية التقليد في مورد الاجتماع كما تقتضيه الصناعة الفقهية، بل ومقتضى الجمع بين جعلهم حكاماً وأنه لا فوضى ولا هرج ولا مرج في الإسلام...) (12).

وفي الجواب عن سؤال (لماذا شورى المراجع) جاء في كتاب (الصياغة الجديدة): (لأنه بدون شورى المراجع يكون محذوران:

الأول: المحذور الشرعي، وهو أنه لا يحق لبعض المراجع الذين هم خلفاء رسول الله (ص) ووكلاء الإمام(ع) أن يستبد بالأمر، ولنفرض: أن الرسول (ص) أرسل أربعة وكلاء إلى بلد ليكونوا حكاماً فهل يحق لأحدهم أو لاثنين منهم أو حتى لثلاثة منهم، أن يدفعوا الآخرين أو الآخر عن حقه ويستبدوا بالأمر؟ وهكذا في زمان غيبة الإمام (ع) حيث يقول: (جعلته حاكماً عليكم) فالفقيه حاكم من قبل الإمام (ع) فإذا اختارهم الناس، كان الواجب أن تكون بينهم شورى لإدارة الحكومة...) (13). وحيث إنه لا حكم إلا ورد به كتاب أو سنة، كما وردت بذلك النصوص مثل قول الصادق (ع): (ما من قضية إلا ولله فيها حكم) وقوله تعالى: (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) و(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ).. فينحصر مجال الشورى في الموضوعات، فما دل على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، فلا وجوب للشورى فيه، وإلا فظاهر الآيتين الوجوب...) (14).

والجدير بالذكر أن آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) آكد في الدلالة على الوجوب لأنها إنشاء في سياق الإخبار، وقد ذكر صاحب الكفاية (الآخوند قدس سره) هذه الأكدية مستدلاً بأن الإخبارات التي في مقام الإنشاء حيث إنها ترسل إرسال المسلمات فهي أكثر تأكيداً على الوجوب مما لو كان الأمر بصيغة الإنشاء..

ثم (إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل منه إلى نظام ليس كذلك، ولا شك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص، إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية، والمجتهد العادل، وإن لم يكن مغيراً لأحكام الله بلا شك، لأنه يفهم الأحكام، ومن يختاره من المنفذين، فربما كانت المصلحة الصلح مع الأعداء وهو يحارب أو بالعكس، وربما كانت المصلحة اتخاذه فلاناً مستشاراً لا فلاناً فيتخذ مستشاره من لا صلاحية له، ولا يؤمن المجتمع من هذه الأخطاء إلا بالشورى، حيث تكون صلاحيات المرجع حينئذ محدودة، وحيث يجد له الرقيب والمنافس فيهتم أكثر فأكثر، كما أن مستشاريه يهتمون في الضبط أكثر فأكثر، وبذلك يكون الحكم مأموناً عن الإنحراف الكثير وهذا الدليل (صغرى وكبرى) ضروري لكل مطلع على الموازين الإسلامية وعلى ما يراه الإنسان في الخارج من الواقع المعاش لدى المجتهدين العدول) (15).

كيف يرتقي الفقيه إلى الشورى؟

إن هذه مسألة بالغة الخطورة.. وقد تكون مبعثاً لتوترات وصراعات مريرة ما لم تكن خاضعة لضوابط محدودة.. والذي تصدى من الفقهاء للإجابة على سؤال: كيف يرتقي الفقيه إلى شورى الفقهاء؟ هو سماحة الإمام السيد الشيرازي.. إذ إنه يضع شرطين أساسيين لوصول الفقهاء إلى سدة الحكم والانتماء إلى الشورى:

الأول: المواصفات التي وضعها الله سبحانه للمرء حتى يكون مجتهداً فقيهاً، وهذه المواصفات هي (أن يكون فقيهاً، مستنبطاً للأحكام، عادلاً، يعرف الدين كفواً قادراً على إدارة دفة الحكم).

أما الشرط الثاني: فيحدده بانتخاب الأمة للفقيه، أي يكون له مقلدون، ويكون مورد ثقة الناس وأهل الحل والعقد، فإذا وجد فقيه عادل لا تقلده الأمة، فهذا بمعزل عن الحكم.

أما في كيفية صعود الفقهاء الناشئين إلى مجلس القيادة فيقول (إذا مات فقيه من مجلس القيادة أو مرض مرضاً شديداً، فلا يمكن له من مزاولة الحكم، فإن الفقهاء الباقين ينتخبون أحد الفقهاء الناشئين، فيسدون الفراغ. ويكون الفقهاء الناشئون في الحقيقة مساعدين ومعاونين للفقهاء الكبار العدول، فتدريجياً يصبح لهم مقلدون).

(...وحيث يدخل المراجع في السلطة العليا (المراجع الحاليون أي شورى الفقهاء) فلا شق للعصا من أحد، وحيث أن المراجع المستقبليين مستشارون وأهل خبرة ومرشحون من قبل السلطة العليا والأمة، فلا تنازع أيضاً...) (16).

إذن.. يرتقي الفقيه المرشح للمرجعية إلى شورى الفقهاء عبر أمور عدة:

1- ترشيح السلطة المرجعية العليا له للعضوية في الشورى.

2- وترشيحه من قبل أهل الخبرة (أهل الحل والعقد).

3- وكونه واحداً من المستشارين ومن أهل الخبرة المعتمدين من قبل (شورى الفقهاء).. أي إنه في الحقيقة عضو درجة (2) في شورى الفقهاء.. فيرتقي إلى درجة (1).. ليس إلا.

4- وأن تقلده الأمة.. ويصبح مرجعاً من مراجعها العرفيين وهكذا يرتقي إلى عضوية الدرجة الأولى في (شورى الفقهاء المراجع).

مكارم الشيرازي(17): الفردية منبع كل أنواع التخلف

وقال سماحة آية الله الشيخ (ناصر مكارم الشيرازي) تمهيداً لطرح رأيه في الشورى وتنديداً بالاستبداد والفردية: (المقصود من الحكومة الاستبدادية هي (الفردية) المعلوم سوء حالها جيداً سابقاً ولاحقاً.. وبجملة مختصرة نستطيع القول: إن كل أنواع الاستعباد وسوء الحظ والشقاء والتخلف الذي أصاب البشرية، كان نابعاً من هذا النوع من الحكومة الاستبدادية المدمرة) (18).

ثم يضيف: (الديكتاتورية المبطنة، هي حكومة الفرد الذي يزيح محاور الأمة وحركاتها ومراجعها، ويصطنع مجلساً للشورى ويتظاهر بالانتخابات، وغير ذلك من مظاهر الديمقراطية الزائفة) (19).

(.. ولا شك أن الاشتراك في الشورى في الشؤون المصيرية للأمة، من حق كل المسلمين، حق مستند على أهم ركن في الإسلام: القرآن الكريم.. ولا شك أيضاً أن مشاركة كل الأمة في كل المسائل إضافة إلى أنها غير ممكنة، فإنها خارجة عن اختصاص فهم البعض أيضاً (بل أغلبها)... لذا فالمسلمون مضطرون إلى أن ينتخبوا من يمثلهم ممن تجتمع فيهم صفات (الإيمان) و(الصلاح) و(الوعي)... ويلزم: أن يشرف جمع من العلماء على مصوبات الشورى..) (20).

إذن الشورى في رأي الأستاذ مكارم:

1- من حق الكل.. وأبرز المصاديق هم الفقهاء بالطبع.

2- ولذوي الاختصاص بالشؤون المصيرية وهم الفقهاء أيضاً.

3- وأصحاب الشورى يلزم أن يمثلوا الأمة.. وينتخبوا من قبلها.. والفقهاء أصدق وأبرز من يمثلها.. ومنتخبون من قبلها بتقليدها لهم.

4- وأن يكونوا من ذوي الإيمان والوعي والصلاح..

5- وأن يصوب جمع من العلماء مصوبات الشورى.. هذا فيما لم يكن المتشاورون فقهاء الأمة.. بناءاً على هذا.. فإن (شورى الفقهاء) (21) أظهر مصاديق ما ذكره سماحة الشيخ.

الشهيد المطهري: الشورى وتنظيم الاختصاصات

وأكد هذه الشورى التكاملية في تنظيم (الاختصاصات) العلمية الأستاذ الشهيد آية الله المطهري بعد أن نقل اقتراح الشيخ الحائري (قدس سرهما) قائلاً: (إن في عالم اليوم حيث الاختصاصات في كل الميادين العلمية، التي أحدثت هذا التقدم المحيّر للعقول، هناك قاعدة أخرى منفّذة، كانت ولا زالت عاملاً مهماً للتقدم والرقي هو: التعاون والتبادل الفكري بين العلماء من الطراز الأول ومفكري كل قسم علمي، إن علماء كل قسم يواصلون تبادل الآراء معاً، ويضعون نتاجاتهم العلمية بين يدي بعضهم البعض، وحتى علماء قارة معينة لهم تبادل علمي مع علماء قارة أخرى، ويتعاونون معهم، ونتيجة هذا التبادل في الآراء والأفكار بين علماء الطراز الأول، هي لو أن نظرية صحيحة ومفيدة قد ابتكرت تنتشر أسرع وأكثر، وتأخذ مكانها الطبيعي اللائق بها في أوساط العلماء، وكذا لو ظهرت نظرية سقيمة وباطلة، سيتضح بطلانها بصورة أسرع، وتأخذ طريقها نحو الفناء، ولا يظل تلامذة ذلك العالم صاحب النظرية الباطلة سنين طويلة ضحية خطأ أستاذهم، وبعد أن يؤكد الشهيد المطهري (قدس سره) لزوم التعاون الفكري بين علماء الطراز الأول.. حتى لو كانوا في قارات مختلفة يقول حول الشورى: (... للأسف إن في أوساطنا لا يوجد ذكر للاختصاصات وتقسيم الأعمال ولا للتعاون وتبادل الأفكار، وبديهي أن لا ينتظر من هذا الواقع أي تقدم وحل للمشكلات، وبالنسبة (للشورى العلمية) وتبادل الآراء، وإن كانت هذه المسألة واضحة وغنية عن الاستدلال، ولكن لكي يعلم أن الإسلام هو الداعي والمؤكد لهذه المبادئ التقدمية (الشورى والتعاون) أذكر آية من كتاب الله العزيز، ونصاً من نهج البلاغة قال تعالى في سورة الشورى مستعرضاً لبعض مواصفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).. فإذن يعتبر التعاون الفكري وتبادل الرأي في نظر الإسلام أصلاً من أصول حياة المؤمنين والسائرين على نهج الإسلام..

ويقول (أمير المؤمنين(ع)) في نهج البلاغة: (واعلموا: أن عباد الله المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه، يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة، ويتساقون بكأس روية، ويصدرون برية)... لو أن (الشورى العلمية) في الفقه، وأصل تبادل الرأي نفذ وتحقق، فإن التقدم والتكامل الذي يتحقق في الفقه، سيذيب كثيراً من الاختلافات في الفتاوى.. ثم يقول الشهيد المطهري مؤكداً ضرورة الشورى: (لو ادعينا بأن فقهنا من العلوم الحيوية الواقعية في العالم، يلزم اتباع الأساليب التقدمية التي اتبعتها العلوم الأخرى (أي الشورى)) (22).

الشهيد الصدر: المرجعية الموضوعية

الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) هو الآخر أولى قضية (المرجعية) أكبر اهتمام.. وركز على ضرورة نقلة استراتيجية في مسار هذه المؤسسة القيادية الكبيرة.. وتتمثل في تطويرها من (المرجعية الذاتية) إلى (المرجعية الموضوعية) حسب تعبيره (قدس سره).. فعلى المرجعية أن تتحول إلى (مؤسسة) تتوزع في ظلها الأدوار وتتجمع الطاقات، وتتنظم الاختصاصات، وهذا بطبيعة الحال يستلزم اجتماع الفقهاء أو على الأقل كحد أدنى التنسيق فيما بينهم، والتحرك الجمعي والنوعي الذي يصب طاقات الفقهاء وإمكانياتهم الهائلة في (المؤسسة) التي اقترحها الشهيد.. والتي هي مشروع للنهوض بالمرجعية وجعلها في مكانها القيادي والشرعي اللائق بها. فالمرجعية الموضوعية في فكر ومشروع الشهيد علاج ناجع لمشكلة الفردية والأحادية التي عبر عنها (بالذاتية).. والمرجعية الموضوعية تعبير يلتقي مع (شورى الفقهاء) في خطوطها المركزية والأساسية وهذا ما لا يختلف فيه أهل الفكر من المهتمين بالشؤون المرجعية...

آية الله السيد رضا الصدر: التعددية بلا تنسيق تمزق وضعف

يقول الفقيد الراحل العلامة آية الله السيد رضا الصدر(23) مندداً بالفردية في المرجعية.. مما يفهم من كلامه (قدس سره) أنه يناصر الشورى.. لأن التعددية بلا تنسيق تعني التمزقات والضعف.. وهذه المسألة مفروغ منها عند الجميع... يقول في جواب هذا السؤال:

لماذا لم يحصر الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) المرجعية في شخص واحد في كل فترة، بل جعلها شاملة لكل من توفرت فيه مواصفات خاصة حيث قال (أما من كان من الفقهاء، فللعوام أن يقلدوه) وهل نستفيد من ذلك أن التعددية أفضل من الانفرادية، وأن واضع أساس التعددية هو المهدي المنتظر (عج)؟.

أجاب سماحته: (نعم أقول إنّ تفرد شخص واحد بالمرجعية ضارّ بالإسلام وليس فقط غير نافع؟! من الثابت أن المرجع قد يخطأ. فهل يصحّ أن تكون (حكومة الخطأ) هي الحاكمة في البشرية؟!.

والمرجع الواحد يمكن أن يلتف حوله بعض الأشخاص ويؤثرون عليه تأثيراً مباشراً، ويستفيدوا منه في حقول معيّنة، أما لو كان متعدداً فلا، وأكثر من ذلك فإن التعددية علامة الحرية الفكرية في منظار المذهب بمعنى أن لكل شخص أن يستنبط أحكام الإسلام - حسب فكره ورأيه - من المبادئ الأولية (الأدلة الأربعة) وكيف يسوغ للشخص أن يترك قدراته على الاستنباط والتحقيق، ويسلّم للآخر، إن ذلك يستلزم هدر الطاقات الكبيرة التي يمتلكها كثير من العلماء.

وهذه هي علامة حرية الفكر في الإسلام، ولو كان من المقرر أن تكون الفردية هي المعتبرة فمعنى ذلك أن أفكاري تطرح جانباً وأفكارك أنت كذلك، وأيضاً بقية العلماء والمراجع عليهم أن يلقوا ببُنات أفكارهم في سلة المهملات، وعليهم جميعاً أن يتبعوا ذلك الواحد،.. على أن لحرية الفكر قيمة ذاتية لها أكبر الأثر في إيجاد التقدم...) (24).

كوكبة من طليعة الفقهاء المفكرين: الشورى لا مناص منها

ويقول سماحة آية الله الشيخ يحيى النوري(25) مؤكداً ضرورة التعددية والشورى: (إن جعل المرجعية منحصرة في فرد واحد بحيث لا يحق للآخرين بلوغ هذه المرتبة أو إظهار آرائهم أو يتحرجون من إظهارها مخالف للهداية وخلاف المقصود من التفقه الذي جعله الإسلام بوابة النور العلمي والإنقاذ العقائدي).

ويضيف قائلاً: (شورى المراجع جداً مهمة، خصوصاً إذا كانت تضم تحت لوائها وظلها المراجع والفقهاء والمتخصصين وأصحاب الرأي والنظر الذين ثبتت صلاحيتهم بحيث يكون هذا الأمر على أساس الاعتقاد به والتسليم له طبيعياً لا على أساس الضغوط المختلفة التي تؤدي إلى فرض شخص ما على المجتمع. فهذه هي مسألة مهمة يجب الاهتمام والاعتناء بها).

ويضيف سماحته قائلاً: (إن أفضل الطرق هو إيجاد الشورى والنظام الشوروي في كل المجتمعات الإسلامية بحيث ينضم إلى جانب الفقهاء، المفكرون وأصحاب الرأي والنظر والقلم، وأيضاً المتخصصون في النواحي الأخرى التي لا تنفك عن الشؤون الإسلامية).

ويضيف سماحته قائلاً: (العالم الإسلامي عالم واسع جداً، ويمتاز بقوة فائقة بَيْدَ أنه يجب أن تستجمع هذه القوى وتتحد ويشكل لها رأس يقودها ويسيرها كما في رأس الإنسان الذي يحتوي على الدماغ الذي يقوم بإدارة جميع أعضاء الجسم. فعلى شخصيات العالم الإسلامي والمفكرين والعلماء والمراجع والأخصائيين أن يجتمعوا ويتحدوا في شورى واحدة).

ويؤكد بشدة على ضرورة شورى الفقهاء قائلاً: (ومن الطبيعي أن توجد موانع جمة داخلية وخارجية، وعالمية تحول دون تحقيق هذا الأمر. ولكن من الواجب! الواجب! الواجب ومئة ألف واجب على العلماء والمراجع الأعلام أن يجتهدوا في دفع هذه الموانع بصورة شوروية وأن يهيئوا المقدمات والأسباب لأجل إدارة العالم الإسلامي ونشر الفكر الإسلامي في العالم لمقابلة الظلم العالمي...) (26).

ويؤكد سماحة آية الله الشيخ آصف محسني(27):

إن العمل الشوروي والجماعي يقلل ويقلص موارد الاشتباهات التي من الممكن أن يقع فيها أصحاب الرأي والفتوى إلى درجة ما.

وإن الاستنباط لو دار بين أن يتم بواسطة فرد واحد أو عدة أفراد فلا جرم أن يكون النضج والكمال والاستقامة مع الجماعة المتعددة دون الفرد المتفرد، وهذه قضية مسلمة لا ريب فيها أبداً. ولكن للأسف الشديد لم يحن للاجتهاد على طول التاريخ أن يحصل له عمل شوروي جماعي. فيا حبذا لو شكلت المجالس والاجتماعات فيما بين المراجع الأجلاء لأن ذلك أصوب في العمل وأسلم في بلوغ الهدف خصوصاً مع ورود الأمر بالمشاورة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وورود (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) في ذكر صفات المؤمنين.

وهذا يدل على أهمية الشورى وأفضيلتها على التفردية.

غير المعصوم معرض للخطأ

ويقول سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد تقوي النقوي(28):

(شورى المراجع من الناحية الاجتماعية والسياسية جيدة ونافعة، يعني يلزم أن يكون للمراجع الأعلام شورى ليبحثوا فيها حول المسائل العصرية التي يبتلى المسلمون بها ويتبادلوا الآراء حولها وينظروا في وجوهها وجوانبها وهو عمل مهم جداً).

ويضيف سماحته:

(من المهم جداً أن يجتمع العلماء للتشاور في مسألة الحكومة وتبادل الآراء، لأن مرجع التقليد مهما كان واجداً للشرائط والمواصفات المرجعية ومهما كان مستواه عالياً إلا أنه لا يتمكن منفرداً من الإدارة للعالم الإسلامي لأنه بشر وإنسان، والإنسان يجوز عليه الخطأ والاشتباه.

وفلسفة أمر الله لنبيه (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) هو لإرشادنا إلى أهمية المشاورة. وهو في الواقع متوجه لنا إذ لا مقايسة بين شخص عادي وبين مقام العصمة إذ إن أي عالم، غير المعصومين لو لم يتشاور مع أربعة أو عشرة أشخاص من العلماء فمن الطبيعي أن يقع في الخطأ بمقدار 80%.

لذا فإن الشورى أمر مطلوب ولازم، وإني منذ البداية كان رأيي على وجوب التشاور فيما بينهم ولو مرة في الأسبوع أو في كل شهر مرة، ويجب أن يكون لهم مجلس شورى يتبادلون فيه الآراء ويطلعون على المستجدات وتتلاقح فيه أفكارهم وبنات عقولهم وليعرفوا آراء الآخرين في المسألة ويدركوا احتياجات المسلمين، وما هي واجباتهم قبال العالم الإسلامي والحاكم والحكم.

فأكرر أخيراً أنه أمر لا بد منه وهو جيد وناجح) (29).

أما سماحة الحجة المحقق الأستاذ السيد مرتضى الشيرازي(30) فقد كتب عن (شورى الفقهاء) دراسة أصولية فقهية مستوعبة في (431) صفحة.. وقال في مقدمة كتابه العلمي القيم:

(ولقد تم في الجزء الأول منه البحث عن الآيتين الكريمتين (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) و(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وعن مدى دلالتهما (أي على شورى الفقهاء) مع التطرق للعديد من الإشكالات التي تورد على الاستدلال بهما مع ما ربما يجاب به عن الإشكالات) وتطرق إلى البحث التحقيقي عن مجموعة من روايات الشورى ووعد بالتطرق إلى قسم آخر منها في المجلد الثاني من كتابه الذي لم يصدر إلى النور حتى الآن، ولقد عزم على إتمام كتابه ضمن ستة مجلدات، مما يدل على سعة وعمق نظرية (شورى الفقهاء)... أما سماحة العلامة حجة الإسلام والمسلمين السيد صفدر حسين(31) فيقول: (إذا كانت عندنا شورى فذلك جيد جداً، إنني أهيب بمراجع الشيعة الأبرار أن يتحدوا فيما بينهم ويشكلوا شورى مرجعية، لأن هناك فوائد عظيمة في الشورى المرجعية) (32). ويجيب على سؤال: إذا كنا ننوي الحرب والصلح أو فتح العلاقات مع الدول فهل يكفي رأي فرد واحد أو لا بد من الشورى؟ بقوله: (في هذه الصورة لا بد من الشورى). وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد نعمت الله الهاشمي(33) يبدي رأيه قائلاً: (يجب التوضيح بأن بعض الأحكام أحكام فردية، كأحكام الصلاة والصوم حيث لا يحتاج أن يجتمع فقيه بفقيه آخر حتى يتشاور معه في الأحكام الفردية سواءاً أفتى بالأحكام الفردية أم لم يفت بها، ولكن هنالك أحكاماً اجتماعية للأمة الإسلامية مما يرتبط بالمصلحة الإسلامية العامة ولا شك في هذا القسم لو تم بالشورى فسيكون أبعد عن الخطأ وأقرب إلى الصواب)(34).

وأخيراً..

(إن أهم ما يميز المذهب الشيعي هو فتح باب الاجتهاد الذي يسبب تبلور الأفكار وتطورها وتواكبها مع الزمن. وبذلك فإن لكل فقيه أن يفتي بما توصل إليه من آراء ونظريات سواء وافقت رأي الآخرين أم خالفتهم والدليل على ذلك - إضافة إلى كونه من ضروريات المذهب - عمومات الأدلة الدالة على جواز الإفتاء من دون وجود مخصص لها بعدم مخالفة أحد مثل قوله (ع): (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) هذا إضافةً إلى أن ذلك خلاف بناء العقلاء من أهل الخبرة فلكل خبير أن يدلي برأيه وإن كان القول الفصل في النهاية لواحد منهم أو لأكثريتهم...)

والجدير بالذكر أن هناك كثيراً من العلماء الكبار ورجال الفكر لهم رأي إيجابي في شورى الفقهاء إلا أنه لا يسعنا ذكرهم جميعاً هنا.. ونكتفي بما ذكر... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهـــوامـــش:

1 - من كبار فقهاء الحوزة العلمية الحسينية المقدسة في كربلاء ولذلك لقب بـ(الحائري) نسبة إلى الحائر الحسيني الشريف مع كوكبة من العلماء الفقهاء، أسس الحوزة العلمية في مدينة قم قبل حوالي سبعين عاماً.

2 - نقله عنه الزنجاني في كتاب (الكلام يجر الكلام).

3 - تنبيه الأمة وتنزيه الملة/ المحقق النائيني/ 46.

4 - البدر الزاهر/ آية الله البروجردي/ 52 ـ 57.

5 - الحكومة الإسلامية/ الروحاني.

6 - المرجعية والروحانية/ السيد محمود الطالقاني/ 186 و191.

7 - المرجعية والروحانية/ 192.

8 - أساس الحكومة الإسلامية/ 203 ـ الحائري.

9 - الفقه: السياسة/ 504 ـ 505.

10 - من أوليات الدولة الإسلامية/ 47 ـ 48.

11 - يرى بعض الفقهاء أن اثنتي عشرة رضعة تنشر الحرمة، ويكون الوليد كأحد أولاد المرضعة في كل الأحكام، فتحرم عليه الزواج من بنات المرضعة لأنهن أخواته من الرضاعة، ويرى البعض الآخر من الفقهاء عدم انتشار الحرمة باثنتي عشرة رضعة.. بل لا بد من إكمال خمس عشرة رضعة..

12 - من أوليات الدولة الإسلامية/ 48 ـ 49.

13 - الصياغة الجديدة/ 507.

14 - الفقه: السياسة/ 504.

15 - الحكم في الإسلام/ 39.

16 - السبيل إلى إنهاض المسلمين/ 391.

17 - من مشاهير العلماء، يدرس بحث الخارج في حوزة قم وله تأليفات علمية وثقافية عديدة منها (أنوار الأصول) و(الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) ويقوم بإدارة مجموعة مؤسسات علمية وإنسانية منها (مدرسة أمير المؤمنين) تصدى للمرجعية وصدرت له رسالة عملية.

18 - طرح حكومت إسلامي/38.

19 - المصدر.

20 - المصدر/ 58.

21 - يندد الشيخ بالفردية في المرجعية بصورة شديدة راجع رأيه في هذا المجال كتاب (مطارحات مع قادة الفكر الإسلامي) ص98.

22 - يراجع مفصلاً بحث (الاجتهاد في الإسلام) للشهيد المطهري.

23 - الأخ الأكبر للإمام موسى الصدر (فرج الله عنه). كان من مشاهير العلماء المجاهدين ويدرّس بحث الخارج في حوزة قم، وله كتابات علمية وثقافية عديدة.

24 - مطارحات مع قادة الفكر الإسلامي/ 97 ـ 98.

25 - من كبار العلماء المجاهدين. يعتبر من الشخصيات النادرة. أسلم على يده حوالي عشرة آلاف شخص. مؤلفاته بلغت حوالي المئتين وترجم بعضها إلى اثنتين وعشرين لغة، ويشرف على مجموعة من المؤسسات العلمية والإنسانية. تصدى للمرجعية وصدرت له رسالة عملية.

26 - المصدر ص132.

27 - من الشخصيات العلمية المعروفة، مؤلف وأستاذ ويعتبر من القادة في أفغانستان.

28 - يعد من أهم مدرسي وخطباء طهران ومؤلفيها الأكفاء ألف مجموعة كتب منها (شرح نهج البلاغة) في (25) جزءاً، وهو من تلامذة الإمام البروجردي (قدس سره).

29 - المصدر.

30 - من أساتذة السطوح العليا في قم المقدسة وله جمع من التلامذة الفضلاء، مفكر إسلامي، اعترف جمع من الفقهاء ببلوغه مرتبة الاجتهاد في تقاريضهم على كتابه المذكور أعلاه.

31 - من علماء الرعيل الأول في الباكستان، والقائد الأول لجماعة (وفاق العلماء) له شخصية متميزة علمياً وأخلاقياً وجهادياً.

32 - مطارحات مع قادة الفكر الإسلامي/ ص142.

33 - من فضلاء الحوزة في مدينة قم مجاهد في الحقل الثقافي والتبليغي، له تأليفات عديدة منها: الحجاب.. وله سفرات إلى إفريقيا وأنشطة عديدة هناك في سيراليون.

34 - المصدر/ 129.