اعلى

من أعلام الشيعة

سيف الدولة الحمداني

( سطوة القلم وشهامة السيف)

(303 - 356 هـ = 915 - 967 م)

علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان المعروف بسيف الدولة، الملك العربي الجليل، الشاعر الرقيق والأديب الفارس، المحارب الشجاع حامي الثغور العربية وراعي العلوم والفنون.. صاحب الصفحة الناصعة والراية الخافقة.. وأحد رجالات أمة العرب المجيدة وبطل من أبطالها الأشاوس، الذين عاشوا في تاريخها وأسهموا في الإبقاء عليها، وأبلوا البلاء الحسن في الحفاظ عليها.

ولادته ونسبه:

ولد الأمير علي بن عبد الله في (ميافارقين) بديار ربيعة سنة (303 هـ) من أسرة حمدان التي لعبت دورها بمهارة على مسرح الأحداث الهامة للدولة العباسية سياسياً وحربياً. ويعود نسبه إلى قبيلة تغلب، التي كانت منجبة للأبطال الفرسان، أمثال كليب الذي كان يحمي مواقع السحاب وأخيه البطل المهلهل، وكلثوم بن مالك أفرس العرب، وعمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند. ومنجبة لكبار الشعراء أمثال المهلهل وعمرو بن كلثوم في الجاهلية، والأخطل والقطامي وكعب وعميرة أبناء جعيل والعتابي في الإسلام.

اتسم آل حمدان بالشجاعة والفروسية وروح المغامرة. وكانوا محاربين من الطراز الأول يخوضون المعارك بقلوب من حديد وكأنما قد عقدوا مع النصر ميثاقاً، إضافة إلى الكرم والفصاحة والسماحة، يقولون الشعر عذباً أخاذاً يصافح الأسماع في رفق وحنان كأبي فراس الحمداني، وأبو زهير المهلهل، ومنهم أبو وائل تغلب ابن داود بن حمدان.. ومنهم من يقول:

وقد علمت بما لاقته منا قبائل يعرب وبني نزار

لـقيناهم بأرماح طوال تبشرهم بأعمار قصار(1)

في فترة انحلال عرى الروابط بين الأمصار الإسلامية وضعف الخلفاء، وقيام الثورات الداخلية وشيوع الفتن وكثرة الاضطرابات في قصور الخلفاء، الذين أصبحوا كالدمى تحركها أيدي الوزراء والقواد.. وأصبحت الخلافة غير مستقرة وأعمار الخلفاء في كفة القدر.. وغدت إهانة الخلفاء وسمل أعينهم وسجنهم وقتلهم وعزلهم أموراً عادية.. وكثيراً ما كان يموت الخليفة فيتعذر تعيين خليفة جديد مكانه.. وازدادت الحالة سوءاً إثر انتشار الفوضى في دولة الخلافة الممزقة، بعد أن باتت أقاليمها نهباً للأطماع الخارجية والداخلية، يتخاطفها القواد الأقوياء.. في تلك الفترة برزت أسرة حمدان. (لقد شجعت الظروف الروم المتربصين بالدولة الإسلامية على الغزو والاغارة على الثغور وان ينتقموا لأنفسهم مما قد أصابهم على أيدي الخلفاء الأقوياء من بني العباس في الأزمان السابقة، فأغاروا على ديار بكر غير مرة وأصابوا نجاحاً في هزيمة المسلمين)(2) وكانت تلك الفترة بمثابة ارهاص لظهور إمارة عربية صميمة قوية، تحفظ التوازن وتحمي الثغور وترد غارات الروم (فلم يمض طويل وقت حتى قامت الدولة العربية الحمدانية متأنية في الموصل، ثم قوية عزيزة ناهضة في حلب على يد القائد العربي المظفر سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان)(3).

كان الحمدانيون الفئة العربية ذات النفوذ في بغداد، لذا كان الخلفاء يستريحون إليهم ويثقون بهم، لأن عنصر الدم العربي يجمعهم. وكان الخليفة يعتمد عليهم ويستعين بهم في خوض المعارك ومطاردة المخالفين والقضاء على الفتن والاضطرابات.. وكانت رقاب بعضهم تحز إثر ثوراتهم ويكون السجن القصير ثم يتبعه العفو ثم الخلع.. ذلك لأنهم عرب يقفون في صف الخليفة أمام الترك والفرس والديلم.. كما أن خطر منطقة الموصل وعدم استقراراها، استدعى تعيين أمير جريء قوي مغامر يقف بوجه اطماع الأجانب ولم يجد الخلفاء أفضل من بني حمدان، الأسرة الجريئة القوية.

جـده:

كان جده حمدان بن حمدون يتربع على عرش السيادة والكرم، في بداية النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. وقلعته منيعة ببلدة ماردين من أعمال الموصل. وقد بنى سوراً على (ملطية) بكلفة سبعين ألف دينار! (يقول سيف الدولة: دخلت ملطية وكنت لم أزل صبياً في رفقة ابن عمي أبي العلاء سنة (313 هـ) فقرأت اسم جدي حمدان مكتوباً على سورها، ثم دخلتها مرة أخرى بعد ذلك بعشرين عاماً وبرفقتي الأمير الشاعر الفارس أبو فراس وقصدنا موضع الاسم فوجدناه لا يزال مكتوباً((4).

يطمح حمدان للزعامة فيخرج على الدولة العباسية، ويستولي على الموصل بالتعاون مع هارون الشاري الخارجي. (فيخرج الخليفة المعتضد بنفسه ويسترد الموصل سنة 281 هـ ويحتل قلعة ماردين ويستولي على خيراتها ويهدمها ويفر حمدان. ثم تضيق به السبل فيسلم نفسه ويوضع في السجن)(5).

ويبقى الشاري سكيناً في خاصرة الدولة، ولم يجد الخليفة بداً من الاعتماد على (الحسين بن حمدان) للقضاء عليه.. فينجح هذا الفارس في مهمته أيّما نجاح مما يفرح المعتضد فيطلق سراح أبيه حمدان، مكافأة له ويحقق مطالبه الأخرى (إزالة الأتاوة عن بني تغلب وإثبات خمسمائة فارس منهم يضمون إليه)(6).

(كما إن الخليفة طوقه بالذهب وخلع على جماعة من رؤوس أهله)(7).

يشتد عود الحسين بن حمدان الذي كان ينازل الأسود في حفلات مصارعة علنية مشهورة، ويقتلها بيديه. (ويستعمله الخليفة يداً ضاربة للقضاء على القرامطة وبني تميم والطولوزيين.. فيعيّنه المعتضد بعد مقتل المقتدر وابن المعتز والياً على قم وكاشان في بلاد العجم)(8).

والــده:

أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، الذي يعتبر مؤسس الدولة الحمدانية وان كان للدكتور الشكعة رأياً آخر (نميل إلى قول أكثر واقعية واعتدالاً وهو انه قد وضع أساس الدولة وأرسى لبناتها الأولى)(9) وكان فارساً شجاعاً وأحد السيوف البواتر، عاش حياته كلها محارباً ثائراً كأخيه الحسين.. يخوض الحروب ويرهب القواد ويساهم في عزل الخلفاء. وبسبب جرأته سمي أبا الهيجاء. (ولي أمر الموصل وحدث ان أغارت الأكراد على حلب وكان حديث عهد بها فطاردهم حتى أرمينه في عناد وصبر يدعوان إلى الأعجاب ولم يزل بهم حتى استأمنوا له)(10). وحج بالناس ذات مرة فهاجمت الحجيج بنو كلاب. فلاحقهم أبو الهيجاء وأوقع بهم الهزيمة وكان معه أخوه أبو سليمان المذرفن(11).

ولي أبو الهيجاء حلب وديار بكر ثم ولي خراسان والدينور.. وكان يقيم في بغداد ويحكم الأقاليم التي يلي أمرها عن طريق أبنائه أو أنصاره.. ولقد ثار على الخليفة غير مرة، وعزل ودخل السجن غير مرة أيضاً.. وآخر المطاف اشترك في خلع المقتدر سنة 317 هـ. لكن الخطة فشلت فأرسل الخليفة إليه من قتله في السنة ذاتها.

تـربيتـه:

بعد موت أبي الهيجاء أكمل بناء الدولة الحمدانية ابنه الحسن (الذي قتل عمه سعيد والد الشاعر أبي فراس سنة 323 هـ)(12)، (ويعتبر بعض المؤرخين تلك السنة هي البداية الفعلية لقيام الدولة الحمداينة)(13). وحينها كان الأمير علي لم يزل لين العود رطب الإهاب، فيتولى الأخ الأكبر رعايته وتربيته في كنفه.. وعلى يديه تعلم فنون الحرب وخوض وقيادة المعارك وفن الحكم وصناعة النصر والصبر على الهزيمة، فينمي فيه روح المغامرة الأصيلة المترسخة في نفوس أبناء الأسرة الحمدانية. وان عامله بقسوة متناهية وشدة ترسبت في أعماقه.. لكنه تحملها بصبر وأناة.

يعيش الأمير الصغير بين الموصل ونصيبين وميافارقين مسقط رأسه. ثم يوليه أخوه الحسن إمرة نصيبين. فيعيش فيها عالي الهمة ينشر المعالي التي عاش عليها جده وأبوه وأعمامه. (وينشأ أديباً محباً للأدباء والشعراء فيلتف حوله منهم عدد صغير في مستهل حياته لا يلبث ان يزداد مع الزمن حتى يصل إلى ما يقارب عدد شعراء الرشيد عندما تتحقق أمنياته في ملك كبير بعد ذلك بعدد من السنين)...(14)

وكما نشأ الأمير أديباً نشأ فارساً أيضاً ينشد منفذاً لطاقة الفروسية والحرب الأصيلة في نفسه. فيتعلم أصول الفروسية وفنونها لكي يدافع عن قومه ويكتسب أمجاداً جديدة تضاف إلى أمجادهم. فلم يكد يبلغ العشرين حتى يخوض غمار (معركة جبارة) عند رأس العين، أوقع فيها بعمرو بن حابش الأسدي وبني ضبة ورياح التميمي فينتصر عليهم انتصاراً مؤزراً.. يؤرخها المتنبي بقوله:

عن أوحدي النقض والإبرام
لم يرض بالدنيا قضاء ذمام
في عمرو حابش وضبّة الأغنام
جارت وهنّ يجرن في الأحكام
غضبت رؤوسهم على الأجسام(15)

 

وإذا أمتحنت تكشفت عزماته
وإذ سألت بنانه عن نيله
مهلاً ألا لله ما صنع القنا
لما تحكمت الأسنّة منيهم
فتركتهم خلل البيوت كأنما

وفي الخامسة والعشرين من عمره ينطلق على رأس جيش كبير مقتحماً بلاد الروم (البيزنطيين). يتوغل إلى (حصن زياد) المنيع، في قلب بلاد الأعداء يفتحه ويقيم عليه ليالي عديدة فيخرج إليه ملك الروم (الدمستق) في مائتي ألف مقاتل، وهو عدد لا قبل للأمير الصغير بملاقاته فيعمل فكره ويلجأ إلى المراوغة والتقهقر المنتظم كي يطمع فيه العدو.(حتى إذا سحب جيش الأعداء إلى الأرض التي يريدها بين حصني زياد وسلام انقض الأمير الفارس عليهم، فأعمل فيهم الضرب والقتل وأنزل بهم شر الهزائم وأسر منهم سبعين بطريقاً، كما أخذ سرير الدمستق وكرسيه وكان ذلك موافقاً لعيد الأضحى السنة (326 هـ) وبعد عامين فقط من ذلك التاريخ يقدم الأمير علي على غزوة جديدة)(16).

فيتجه من نصيبين نحو بلاد الروم زاحفاً، كاسحاً، فيصل إلى (قاليقلا) ثم المدينة الجميلة (هفجيج). وتطأ أقدامه مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين قبله فيهدده ملك الروم بالويل والثبور.. فلا يبالي به بل ويستخف، ويرد عليه بجواب سريع وعنيف.. ولا يكاد ملك الروم يقرأ الرد حتى يستبد به الغيظ ويستنكر ان يخاطبه العربي الشاب هكذا! ويردف قائلاً: يكاتبني هذه المكاتبة كأنه قد نزل على (قلونيه)؟!! … استفظاعاً لما حصل.. (ويبلغ القول مسامع الأمير القائد الجرئ فلا يضيع من وقته يوماً واحداً بل يمضي متوغلاً إلى قلونيه البعيدة الحصينة المتأبية.. ويستعظم بعض قواده الأمر ويكادون يثنونه من هذه المخاطرة، ولكن الأمير الجرئ العنيد يجيبهم قائلاً: لست أقلع عن قصد هذه المدينة فإما الظفر وإما الشهادة.. وينطلق إلى هناك يفتحها ويحرق رساتيقها ويكتب إلى ملك الروم مستهزءاً به وبمنعة بلاده)(17)..

اللقب والإمارة:

في تلك الأثناء تحتل بغداد من قبل (البريديين) (سنة 330 هـ) ويفر الخليفة المتقي إلى الموصل مستنجداً بالحسن، الذي قاد جيشه وانطلق نحو بغداد برفقة أخيه الأمير علي. (وما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا البريديون بأنفسهم وفروا أمام الجيش الحمداني وعاد الخليفة إلى قصره آمناً مطمئناً، فأنعم على الحسن بن حمدان بلقب ناصر الدولة وعلى أخيه علي بلقب سيف الدولة)(18).

وبينما أصبح الحسن (ناصر الدولة) أول عربي يتولى إمرة الأمراء في بغداد، يمضي سيف الدولة قدماً، فيلاحق البريديين ويلتحم بهم ويهزمهم هزيمة نكراء ويأسر عدداً كبيراً من قوادهم وجنودهم يقابلها الناس بالرضا والدعاء في المساجد والطرقات...

بعد ذلك يقيم سيف الدولة في واسط بعض الوقت، يبسط حكمه عليها ويجني ضرائبها، ويعيش فيها أميراً حاكماً مهاباً.. ويصل في مطاردته للبريديين حتى البصرة.. لكنه يواجه دسائس ومؤامرات القواد الأتراك المتنفذين وعلى رأسهم (توزون) الذي يسعى للإيقاع به في محاولات عديدة.. فيتجنب سيف الدولة الاحتكاك به، وخشية من ثورة الجنود الأتراك عليه يعود إلى الموصل وقد تعاظم نفوذه وأشتد ساعده، فيباغت بخوف شقيقه (ناصر الدولة) منه، ويشعر بمعاملته القاسية؛ من قبيل إهماله واضطهاده وإبعاده عن شؤون المملكة.. لكنه لا يضمر حقداً ويقابل الإساءة بالصبر والتحمل.. وحتى لا تتطور المشاكل بينهما يمضي سيف الدولة إلى حلب.. فيفتحها سنة 333 هـ ويكون مملكته.. (وبعد سنوات يخرج ناصر الدولة مطروداً فلجأ إلى أخيه سيف الدولة الملك العظيم، الذي يستقبله ويبالغ في تكريمه حتى إنه كان يخلع له نعليه)(19).

زواجــه 

ينشئ سيف الدولة مملكته المنيعة.. ثم يضم حمص.. فيهاجمه الجيش الأخشيدي بقيادة كافور وفاتك، فيهزمه شر هزيمة ويلحق بفلوله الهاربة إلى الشام. مما يدفع الأخشيد ملك مصر والشام ان يركب من مصر متجهاً إلى الشام على رأس جيش كبير.. لكنه يدرك بعد حين انه خاسر الحرب لا محالة. وخوفاً من الفضيحة يضطر إلى المهادنة ومن ثم إلى المصاهرة..

(تنتهي المعركة نهاية سعيدة لا تخطر لأحد على بال، إذ تجري مصاهرة حمدانية أخشيدية، يتزوج فيها سيف الدولة من (فاطمة) ابنة الأخشيد وتنثر الدراهم والدنانير في معسكرات الطرفين المتحاربين)(20).

ويسجل أبو فراس الحمداني هذه الحادثة العجيبة التي بدأت حرباً ودماءً وانتهت زوجاً وأمهاراً.. فقال مفتخراً بابن عمه سيف الدولة:

تلافاه يثني غربه ويكاشرُ
ينال به ما لا تنال العساكرُ

 

فلما رأى الأخشيد ما قد أطله
رأى الصهّر والرّسل الذي هو عاقد

بطولاته وحروبه:

إثر هذا الزواج يشتد عود سيف الدولة. وتقوى شوكته، فيسرع إلى بلاد الروم الذين أخذوا يهددون ويتوعدون، فيحارب الدمستق ويوقع به هزيمة يصفها بعض المؤرخين بأنها أقبح هزيمة (وينتهز سيف الدولة هذه الفرصة الذهبية فيستنقذ أسارى المسلمين ويغنم كثيراً من الخيرات ويعود إلى حلب)(21) متألماً لما سمعه من الأسرى الذين أنقذهم بما لاقوه من سوء معاملة الروم لهم، وما يلقاه إخوانهم الآخرين من ذلة وهوان..

(فيتبنى قضية كل أسير من أسرى المسلمين وعمد إلى فدائهم بالمال.. ففدى ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين أسيراً من ذكر وأنثى)(22).

بدأت أطماع البيزنطيين تتجه نحو الشرق العربي من أجل السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أراضيه لضمها إلى دولتهم القوية التي يمتد نفوذها في آسيا الصغرى وأوربا حيث تركيا اليوم.. فوقف سيف الدولة لهم بالمرصاد.. تصدى لجيوشهم الكثيفة المجهزة أحسن تجهيز تحت قيادة أبرع وأعتى قوادهم أمثال الأخوين برداس فوكاس ونقفور، فانتصر عليهم وأوقع بهم شر الهزائم، وصدّهم عن البغي.. ولم يقف الأمر عند ذلك بل عمد إلى نقل المعارك إلى أرض الروم.. فأخذ يخرج للغزو مرتين أو أكثر كل عام، في الربيع والصيف، وأحياناً في الشتاء يحطم القلاع ويقتلع الحصون ويحتل المدن ويعود بالأسلاب والغنائم والسبايا، فأوقع الرعب في قلوب الروم، وأمن حدود إمارته من ناحية، وثبت حدود المملكة الإسلامية من ناحية أخرى ولقن العدو دروساً قاسية بما أوقع بهم من هزائم وبما قتل من جنودهم وبما أسر من بطارقتهم وقوادهم، حتى إن (برداس فوكاس) القائد الكبير اضطر بعد جرحه وأسر ابنه قسطنطين لأن يترهب ويدخل الدير نتيجة للهزائم المتوالية التي أوقعها به سيف الدولة، وبعد موقعة كبرى اندحر بها جيشه الكبير العدة والعدد الذي جند رجاله من مختلف البلاد الأوربية والآسيوية.. الأمر الذي كان مادة طريفة لشعراء العرب، فصوروا تلك الملحمة تصويراً جميلاً. قال المتنبي مخاطباً برداس:

وخلفت إحدى مهجتيك تسيل
ويسكن في الدنيا إليك خليل
نصيرك منها رنّة وعويل

 

نجوت بإحدى مهجتيك جريحةً
أتسلمُ للخطّية ابنك هارباً
بوجهك ما أنساكه من مرشّة

صفاته وأخلاقه:

ولأنه يحمل بين جنبيه قلباً من ذهب خاض سيف الدولة الكثير من المعارك المريرة الطاحنة، بكل أنفة وكبرياء، ولم يخرج مرة على تقاليد الحرب. فلم يغدر أو يضرب الأسرى أو يقتل النساء والأطفال.. متحلياً بأخلاقه العربية السمحة.. ولقد ابتكر فيالق الفدائيين التي أوقعت خسائر لا تقدر في صفوف العدو، ثم صرف النظر عنها وألغى نظامها، حين وجد فيها لوناً من الغدر، لا يطيقه! لأن الشجاعة والمروءة تقتضيان ألا يطعن الإنسان عدوه من الخلف، بل يقابله وجهاً لوجه..

وإذا ما اضطر إلى محاربة الخارجين عليه من القبائل العربية، التي كانت تتمرد وتشغب من حين لآخر، كان كريماً في تأديبهم، رفيقاً بأبنائهم ونسائهم، ثم لا يلبث ان يعفو عنهم ويصفح متى ما اطمأن إلى توبتهم.. وكذلك الحال مع الأخاشدة الذين انتزع منهم حلب وحاول ان ينتزع دمشق لفترة قصيرة من الزمان.. (ففي موقعة جسر الرستن التي جرت بينه وبين جيشهم الجرار بقيادة كافور انهزم الجيش الأخشيدي ووقع في النهر منه جماعة كثيرة فهّم جنود سيف الدولة بإفناء الجنود الأخشيديين ولكن الأمير العربي في نبله وأخلاقه صاح في جنوده قائلاً: الدم لي والمال لكم! فحفظ أرواح الإخشيديين وأسر منهم نحو أربعة آلاف على رأسهم الأمراء.. لم يلبث الأمير النبيل إلا قليلاً ثم اطلق الأسارى جميعاً فمضوا شاكرين)(23).

وكان يعالج أسراه ويهتم بهم.. وحين وقع ابن الدمستق أسيراً في قبضته، أمر بحمله إلى قصره في حلب.. وعندما مرض سهر على تمريضه بنفسه.

ومع كونه بطلاً مظفراً وقائداً موهوباً، متصفاً بالخلق العربي، متسماً بالجرأة والشجاعة الفذة، امتاز بمهارته في رسم الخطط الحربية واختيار ميادين المعارك وأوقاتها المناسبة.. ويشن هجماته على أسس مدروسة تدخل فيها طبيعة أرض الموقعة وقوة العدو وتمكنه من الحركة ومقدار ما يمكن ان تؤدي خيله ودوابه من دور في المعارك. (ومجمل القول ان سيف الدولة يقف موقف المتحفز ثم يفكر ملياً ولا يلبث ان ينقض كالأسد المقدام مقتطعاً لنفسه ملكاً يخلد به الزمان)(24) مثلما عرف بجلده في ملاقاة الأعداء وبدقة تنظيم جيشه وقواده، وفق نظام عسكري صارم..

وكان صاحب صولة ومهارة، وكانت حركاته وجولاته تبعث الثقة والإعجاب والطمأنينة في قلوب جنوده بقدر ما كانت تبعث الرعب والفزع في قلوب جنود أعدائه.. وعلى الدوام كان يتقدم جيشه بنفسه، يحرك الحرب حسب إرادته من متن فرسه، برمحه الطويل المتميز، مما أثار دهشة المتنبي الذي كان يرافقه في إحدى غزواته سنة (339 هـ) فأنشد يقول:

ونار في العدو لها أجيج
وأنت بغير سيفك لا تعيج

 

لهذا اليوم بعد غد أريج
عرفتك والصفوف معبأة

سيـاستـه:

وُصف سيف الدولة بالسياسي البارع.. فلقد تخلص من مكر ودهاء (توزون).. كما تخلص من ظلم أخيه ناصر الدولة.. وهادن القرامطة ووثق صلاته بهم، وعقد معهم ما يشبه الصداقة مع كرهه الشديد لهم في دخيلة نفسه، وتمنيه لو مُكن من القضاء عليهم.. كما هادن معز الدولة بن بويه، وحرص على أن يعيش بسلام مع الإخشيديين وصاهرهم.. وحاول مداراة أكثر الأعداء وأشدهم من المحيطين به من أجل أن يتفرغ لأعداء الأمة الإسلامية (الروم) ليس إلا، باعتبارهم الأخطر، الذين يجب القضاء عليهم.. ولقد سار على ذلك وفق خطة حكيمة وضعها نصب عينيه، وهي ألا يحارب في أكثر من جبهة (إذ ان تعدد الجبهات الحربية مدعاة للهزيمة)..

وهكذا لم يكن سيف الدولة محارباً وفارساً وحسب، بل كان أستاذاً في تكتيك الحروب وتنظيم الخطط، الأمر الذي مكنه من التفرغ للروم، وإيقاع الرعب بهم والهزيمة بين صفوفهم..

وكان يدرك إن الانتصار على جيش ضعيف تحت قيادة قائد مضمور أمر يسير، غير خطير، بل لا يكاد يعد انتصاراً، ولكن تعظم قيمة النصر كلما كان العدو خطيراً وجيشه كبيراً وقائده ماهراً.. ومن هنا يمكن تقدير حجم انتصارات سيف الدولة حق قدرها.. لذا عد انتصاره على برداس فوكاس معجزة من السماء، وكان ذلك من الأمور التي تعلي قدره من الناحية الحربية وترفعه إلى مصاف أبطال الأساطير..

كان دائماً تحت السلاح، حتى لا يؤخذ على حين غرة.. لمعرفته أن العدو ألف الغدر والخديعة واستعمال الأساليب الخسيسة، التي يترفع عنها الخلق العربي الذي يتخلق به سيف الدولة. الذي لم يكن رجل عدوان وبغي ولم يكن قائداً لحملات سلب وغزو للسطو على الروم.. ومع كل حرصه ويقظته فقد استدرج من قبل نقفور في وسائل لا تتفق وقانون الحروب إلى معركة غير متكافئة في الوقت الذي عمت فيه فتن المماليك الأتراك وغدرهم به.. ولقد أدرك الخطر بعد فوات الوقت وحدس ما قد يتعرض إليه جيشه فلم يشأ ان يدخل الحرب مباشرة، وانسحب علّه يفلح في اختيار الوقت والمكان المناسبين، مما سهل على العدو اقتحام حلب أثناء غياب سيف الدولة وتدميرها بعد حصار مستميت وقتل أهاليها المسالمين. وحين عاد إليها بعد شهر وقف على اطلالها حزيناً.. (وقد أسرّ في نفسه ان ينتقم لرجاله الذين هلكوا وللأبرياء الذين قتلوا وللمدينة الجميلة التي خربت وهو ما حصل.. إذ خرجت جيوش المسلمين من طرسوس واقتحمت بلاد الروم وأوقعوا بجيوشهم وعادوا بغنائم وفيرة.. وانتهز سيف الدولة فرصة خلاف الروم على اختيار الإمبراطور الجديد فدخل بلادهم وأحرقها وسبى أكثر من ألفين وغنم من المواشي أكثر من مائة ألف رأس.. وظل يضرب في أرض العدو حتى وصل إلى (ملطية) وقد سبى وغنم ما لا يسهل حصره)(25).

مذهبه وتسامحه:

كان الحمدانيون شيعة ولكن في غير غلو. وكان سيف الدولة نفسه يتشيع فغلب على أهل حلب التشيع(26).

خير الخلائف والأنام سميُّ
فأنجاب عنها العسكر الغربيُّ
حتى كأنك يا عليُّ عليُّ

 

يا سيف دولة ذي الجلال ومن له
أو ما ترى صفّين كيف أتيتها
فكأنه جيشُ ابن حربٍ رعته

هكذا خاطب المتنبي سيف الدولة (الذي كان اسمه علي بن أبي الهيجاء وشيعي المذهب ويطرب إذا ما شبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع))(27).

إضافة إلى ما لعبته حلب عاصمة سيف الدولة من دور خطير في تاريخ العرب والمسلمين، إذ كانت هي وثغورها بمثابة الدروع الحصينة التي حمت أرض المسلمين التي قام البيزنطيون للاعتداء على استقلال الإمارة العربية بصفة خاصة والدولة الإسلامية بصفة عامة، فقد كان عهد سيف الدولة متميزاً من حيث التسامح المذهبي والديني.. فلم تقع أية خلافات أو مشاحنات بين المسلمين في حلب كما جرت في أمصار أخرى..

(وكان المجتمع الحلبي من الناحية العقيدية مجتمعاً هادئاً بعيداً عن الغلو خالياً من التعصب المذهبي، حتى أن أحمد بن إسحاق الملقب بابي الجود الذي ولي قضاء حلب بعد أبي الحصين كان حنفي المذهب)(28).

كما عاش أهل الذمة من النصارى واليهود حياة آمنة مطمئنة في ظل دولة سيف الدولة.. بالرغم من الاتجاه العدواني الصليبي.. وكان لهم مطلق الحرية في اختيار لون الحياة التي ينشدونها..

(ننشر هنا المكرمة التي تدل على مدى عطفه على الضعفاء واستجابته لاستغاثة المعوزين. وعلى أنه كان ملجأ أبناء الشعب في محنهم حتى وهم بعيدون عنه في بغداد. قال الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) وهو يترجم للفقيه الحنفي عبيد الله بن الحسن البغدادي الكرخي: لما أصاب أبا الحسن الكرخي الفالج في آخر عمره، حضر أصحابه، أبو بكر الدامغاني، وأبو علي الشاشي، وأبو عبد الله البصري، فقالوا: هذا مرض يحتاج إلى نفقة وعلاج والشيخ مقل ولا ينبغي ان نبذله للناس.. فكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان. فأحس الشيخ بما هم فيه، فبكى وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني، فمات قبل ان يحمل إليه شيء.. ثم جاء من سيف الدولة عشرة آلاف درهم.. فتصدقوا بها عنه)(29).

الحالة الاقتصادية:

وكانت مملكة سيف الدولة تعيش في بحبوحة من الرخاء والنعيم، بفضل الرواج الاقتصادي المتمثل بنشاط الحركة التجارية، إذ كانت القوافل تخرج منها إلى شتى أرجاء المعمورة، إلى العراق والهند والصين شرقاً، وإلى الحجاز واليمن وعمان والبحرين جنوباً، وإلى مصر وأفريقيا والأندلس غرباً، وامتدت علاقاتهم التجارية حتى وصلت إلى بيزنطة، وأصبحت (طرابيزون) من أهم مراكز الاتصال بين التجار البيزنطيين والعرب، ويشير إلى ذلك المسعودي فيقول: (إن لها أسواقاً موسمية يأتي إليها الكثير من الأمم لتبادل السلع والتجارة، خصوصاً الروم والمسلمين والأرمن)(30) كما كان للصناعة والزراعة الدور الهام في ذلك الرخاء، لولا الحروب الداخلية والخارجية التي حولت الحياة إلى ما يشبه العيش في معسكر نشاط ويقظة وترقب وخوف.. لقد غزا سيف الدولة بلاد الروم أربعين غزوة. لذلك أثقل كاهل رعيته بالضرائب لحماية دولته. وكان قاضيه الظالم أبو حصيف الرقي صاحب الجملة المشهورة (كل من هلك فلسيف الدولة ما ملك) فعزله بعد أن تنبه أخيراً إليه (ولما سقط قتيلاً في الميدان سنة 349 هـ (960 م) داسه الأمير بفرسه وقال: لا رضي الله عنك فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم)(31).

ثقـافتـه:

لم تقف عظمة سيف الدولة عند شجاعته في ساحة الحرب وانتصاراته الباهرة، والوقوف في وجه أعداء البلاد الإسلامية سداً منيعاً حال دون تقدمهم.. بل كانت له ناحية أخرى من العظمة لا تقل عن عظمته الحربية، فهو إنسان كريم اليد أديباً شاعراً له مشاركة في علوم اللغة والفلسفة، مشجعاً للأدباء والشعراء.. وراعياً للأدب والفنون، حتى حظيت عاصمته بأشهر مجموعة عرفها الأدب العربي مجتمعة في مكان بعينه في عصر من العصور (لم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر)(32) مثل المتنبي وأبي فراس والسديّ الرفاء والخالديين والوأواء الدمشقي والنامي والببغاء وأبناء ورقاء والصنوبري وكشاجم والزاهي والناشي الأصغر والسلامي وابن نباته السعدي من الشعراء، وأبي الطيب اللغوي والحسين بن خالويه واللغوي النابه أبو الفتح ابن جني وأبي بكر شيخ أدباء نيسابور الخوارزمي من الأدباء، وفيلسوف المسلمين أبي نصرا الفارابي من الفلاسفة.. وهكذا كانت حلب تموج شعراً وتتضوع بالمعرفة وتتجلى في ظل حضارة فكرية مترفة بفضل ذلك الأمير الجليل.. الذي كان سبباً مباشراً في ارتقاء الشعر العربي واستحداث فنون جديدة وسعت دائرته بعد أن كانت محصورة في محيط تقليدي محدود..

وكانت ندوته التي يقيمها في قصره في فترات السلم حافلة بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، الذين وفدوا على حلب من مختلف بقاع العالم الإسلامي وقد خطف أبصارهم ذلك البريق الساطع الذي كان يلتمع في حلب يقصدونه من كل صوب، يلقون من كرمه الوفير وما يضفيه على الأدباء من خلع وعطاء وأموال... ما يدفع بهم إلى تجويد صناعتهم الأدبية وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت من عصر سيف الدولة ليس عصراً حافلاً بالأمجاد الحربية العربية والانتصارات العسكرية الإسلامية فحسب، بل كان أيضاً عصراً مفعماً بكل أسباب النماء العلمي والنتاج العقلي والتطور الأدبي، ثرياً بكوكبة عظيمة من العلماء والكتاب والشعراء الذين اعتلى بعضهم قمة الشهرة وذروة المجد.. وكان الشعراء في حلب كالعقد النضيد يتسابقون في مدح الملك النبيل، وكل منهم يلقى من التقدير الأدبي والمادي ما يرضيه.. (وقد أورد صاحب (نشوار المحاضرة) أخباراً كثيرة تدل على أن كرم سيف الدولة يبلغ في أحيان كثيرة حد الأسراف)(33).

(كان خطيبه ابن نباته الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطريه الفارابي، وطباخه كشاجم وخزان كتبه الخالديان والصنوبري، ومداحه المتنبي والسلامي والواواء الدمشقي والببغاء والنامي وابن نباته السعدي والشامي وغيرهم« وإضافة إلى هؤلاء فقد تخرج في ندوة سيف الدولة كثير من علماء العصر، كما كانت هذه الندوة سبباً في صقل كثير من المواهب الشعرية، كما تخرج الأديب الكاتب والناقد أبو الحسن الجرجاني صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.. وأبو علي الفارسي الذي كان مؤدباً لعضد الدولة البويهي.(وكان الصاحب بن عباد الوزير الأديب، وهو صاحب ندوة مشهورة، يتابع عن بعد ما يصدر عن ندوة سيف الدولة من بدائع وذخائر وتحصيل الجديد من الشعر الذي يصدر عن شعراء الندوة ويستملي الطارئين عليه من حلب ما يحفظونه من البدائع واللطائف حتى كتب دفتراً ضخم الحجم، كان لا يفارق مجلسه ولا يملأ عينيه غيره، وصار ما جمعه منه على طرف لسانه يحاضر منه ويستشهد به)(34).

الخطابة والكتابة والفنون في عهده:

الكثير يعرف أن مملكة سيف الدولة كانت ملاذاً لمشاهير الشعراء العرب في القرن الرابع الهجري، ولكن القليل من الناس الذين يعرفون ان المملكة الباسلة قد ضمت عدداً من الكتاب الحاذقين، كما نشأ في رحابها أشهر خطباء العربية في القرن ذاته، بل أشهر من جرت على لسانه خطب الجهاد والحضّ على مغالبة الأعداء واستحباب الشهادة في سبيل الله.. إذ اختص عهد الدولة الحمدانية دون غيره من العهود السابقة عليه إلى حدود القرن الثاني الهجري بأشهر خطباء العربية آنذاك، وهو أبو يحيى ابن نباتة الفارقي وولده أبو طاهر وكان أبو يحيى ممن أسهم بخطبه الجهادية إسهاماً إيجابياً في دفع الجيوش الحمدانية إلى ساحة القتال واستجلاب النصر...

وكما نشأ سيف الدولة على الإعجاب بالشعر الجميل والتأليف الجيد، فأنه كان يعجب أيضاً بالخط العربي الجميل ويجزل العطاء للخطاطين الماهرين.. ولقد زين جدران (قصر الحلبة) وابهاؤه بالآيات القرآنية وأبيات الشعر المكتوبة بخط مذهب جميل. وكان له خطاط خاص به من بني مقلة الذين اشتهروا ببراعة أصابعهم في الخط ببغداد، وانقطعوا للخلفاء، وولى بعضهم الوزارة لبراعته في هذا الفن.. فكان (أبو عبد الله بن مقلة) أخو الوزير (أبي علي محمد بن علي) خطاطاً لسيف الدولة (وكان لفرط إعجابه بصحائف ابن مقلة يصطحبها معه حتى حين يخرج للغزو ويذكر ابن النديم مشيراً إلى ذلك ان سيف الدولة فقد في معاركه سنة (339 هـ = 950 م) ضد الروم خمسة آلاف ورقة بخط أبي عبد الله الحسن بن مقلة)(35) وهذا دليل حي على أنه لا يفتأ ينمي ثقافته حتى في ميادين الحرب، حيث كان ينتهز فترات ما بين المعارك فيأوي إلى خيمته وينصرف إلى تزويد عقله وفكره بالقراءة والاستيعاب.. كان سيف الدولة أديباً بفطرته، وقد نمى هذه الهواية بتلمذته على ابن خالويه مؤدب أمراء بني حمدان وكان قصره يضم مكتبة كبيرة وزاخرة بأسباب المعرفة وأدوات الإطلاع. وكان أمين مكتبته الشاعر البارع أبا بكر الصنوبري ومن بعده تولاها الشاعران الأديبان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان، اللذان قدما للمكتبة العربية عدة كتب أهمها الديارات وحماسة الخالديين والمختار من شعر بشار وغيرها(وكثيراً ما كان الأمير يستفسر من علماء اللغة المحيطين به عن مسائل بعينها فينتشر الجميع في أرجاء المكتبة باحثين منقبين حتى يمدوه بما طلب من معلومات)(36).

شعــره:

كان سيف الدولة شاعراً رقيق الكلمة وشعره جميلاً عذباً: ومن شعره الوجداني، قال في جارية رومية وقعت أسيرة في إحدى الغزوات وكانت ابنة لأحد الأمراء:

كشرب الطائر الفزع
وخاف عواقب الطّمع
ولم يلتذّ بالجزع

 

أقبّله على جزع
رأى ماءً فأطمعه
وصادف فرصة فدنا

وله:

فما تنفع الشكوى إليه ولا العتب
وعاتبني ظُلماً وفي شقِّة العتبُ
فهلاّ جفاني حين كان لي القلبُ
تجنّى له ذنباً وان لم يكن ذنبُ

 

مقيم على هجري كأني مذنب
تجنّى عليّ الذنب والذّنب ذنبه
وأعرض لما صار قلبي بكفّه
إذا برم المولى بخدمة عبده

ورغم الجفاء الذي بينه وبين أخيه (ناصر الدولة) الذي ظلمه وأهانه قال:

وقلت لهم بيني وبين أخي فرقُ
تجافيت عن حقّي فتمّ لك الحقُّ
إذ كنت أرضى ان يكون لك السّبقُ

 

رضيت لك العلياء وقد كنت أهلها
ولم يكن بي عنها نكول وإنما
ولابدّ لي من أن أكون مُصليّاً

ومن شعره:

للناس مقياس معيار
يخرج غش الذهب النار

 

حب علي ابن أبي طالب
يخرج ما في أصلهم مثلما

وقال في قوس قزح:

فقام وفي أجفانه سنة الغمض
فمن بين منقض علينا ومنفض
على الجود كنا والحواشي على الأرض
على أحمر في أخضر أثر مبيض
مصبغة والبعض أقصر من بعض

 

وساق صبيح للصبوح دعوته
يطوف بكاسات العقار كأنجم
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
يطرزها قوس السحاب بأصفر
كأذيال خود أقبلت في غلائل

وفـاتـه:

ظل سيف الدولة ممتطياً صهوة جواد ممتشقاً حسامه يخوض المعارك ضد أعداء وطنه أكثر من ربع قرن من الزمان.. وكان قد جمع من نفض غبار معاركه طينة جعلها في شكل لبنة وأوصى ان توضع تحت خده في قبره..

وفي يوم الجمعة آخر صفر سنة (356 هـ - 967 م) انطفأت في حلب الشعلة الوقادة التي أضاءت الشام والجزيرة لفترة مباركة من الزمان وخمدت الجذوة التي أحرق لهيبها أعداء الوطن العربي والإسلامي.. فمات سيف الدولة وحنط جسده ونقل إلى مسقط رأسه في ميافارقين وأودع قبره بعد أن وسد اللبنة التي جمعها من غبار حروبه، وبموته انطفأ نجم مضيء من قادة العرب ونكس علم خفاق من أعلام الإسلام…

فيض من نتاج عصره:

كان سيف الدولة يتعصب للمتنبي كونه الأقدر في فن المديح الذي كان الأمير يطرب له كل الطرب، ويضعه في مكانه اللائق من الذروة بين بقية الشعراء الآخرين الذين كانوا جميعاً في مرتبة سامية من الإبداع.. حين مارسوا نشاطهم بقرائح مبدعة معطاءة كما مارس الكتّاب نشاطهم بأقلام بليغة سخية.. إذ حفل عصره الذهبي بالكثير من المؤلفين واغتنى بالعديد من المؤلفات النفيسة النادرة في موضوعاتها.. فألف أبو الفرج الأصفهاني كتاب (الأغاني) في عهده فمنحه ألف دينار.. وكان الطبيب عيسى الرقي يترجم من السريانية إلى العربية، وألف الطبيب الحسين بن كشكرايا (الحاوي)، وفي الهندسة والرياضيات والفلك نشط أبو القاسم الرقي المنجم، والمجتبي الانطاكي، ودينسيوس بطريرك اليعاقبة وقيس الماروني، ولكل واحد منهم مؤلفات جليلة.

وفي الفلسفة ألف الفارابي كتباً لازالت المنار الذي يستضيء به كل من يحاول سلوك دروبها في سلام وأمان من الزلل، وفي اللغة وعلومها ألف الحسين بن خالويه كتباً كثيرة تجاوزت العشرة أهمها (أسماء الأسد) و (إعراب ثلاثين سورة) و (البديع في القراءات) وغيرها وكان نجماً ساطعاً في سماء حلب وتوفي قتيلاً في أحداث حلب 351 هـ وألف ابن جني كتباً عديدة، منها (الخصائص) و (سر صناعة الإعراب) و (المنصف في شرح تصاريف المازني) وغيرها.

وأثناء وجوده في حلب ألف أبو علي الفارسي كتاب (المسائل الحلبية) الشهير وفي الجغرافية ألف بن حوقل الموصلي كتاب (المسالك والممالك)،وألف الشاعران الخالديان وصنفا العديد من الكتب. وألف السري (الديرة) و (المحب والمحبوب) و (المشموم والمشروب) وألف كشاجم كتابه الفريد والطريف (أدب النديم) و (المصاديد والمطارد) و (البيزرة).

ولقد خدم العديد من الكتاب البارعين في دواوين سيف الدولة كأبي عبد الله بن عمر الفياض، وأبي محمد جعفر بن ورقاء الشيباني، وعلي الجرجاني، وابن الكاتب أبو محمد الشامي، وأبي محمد الصلحي الكاتب وأبي الحسن المغربي، وأبي الفرج الببغاء وأبي الفتح كشاجم وغيرهم...

الهـــوامـــش:

1- يتيمة الدهر للثعالبي : 1 / 62.

2- الحضارة الإسلامية لآدم متز : 1 / 5.

3- سيف الدولة، لمصطفى الشكعة: 24.

4- شرح ابن خالويه على ديوان أبي فراس : 2 / 156.

5 - تاريخ الرسل والملوك للطبري، أحداث سنة 281 هـ.

6- شرح ابن خالويه: 2 / 128.

7- بري أحداث سنة 283 هـ.

8- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 8 / 10 - 14.

9- الشكعة : 44.

10- ابن الأثير : 7 / 371.

11- شرح ابن خالويه : 2 / 130.

12- ابن الأثير: 8 / 231.

13- الشكعة : 45.

14- الشكعة : 54.

15- أبو الطيب المتنبي، خزانة الأدب البغدادي: 1 / 281.

16- عن ابن ظافر كنار: 72.

17- الشكعة : 56.

18- ابن الأثير: 8 / 286 - 287.

19- الشكعة : 63.

20- ابن سعيد في المغرب في حلى المغرب، الجزء الخاص بمصر : 42.

21- كنار 8 عن الذهبي.

22- الشكعة : 76.

23- زبدة الحلب في تاريخ حلب لابن النديم: 1 / 113.

24- الشكعة : 63.

25- الشكعة : 137.

26- بغية الطلب في تاريخ حلب لابن النديم : 1 / 134.

27- الشكعة: 167.

28- زبدة الحلب : 1 / 152.

29- مستدرك أعيان الشيعة: 2 / 185.

30- مروج الذهب: 2 / 3.

31- زبدة الحلب : 1 / 131

32- يتيمة الدهر : 1 / 9.

33- الشكعة : 303.

34- مطالع البدور ومنازل السرور للغزالي: 2 / 176.

35- زبدة الحلبة : 1 / 122.

36- أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء لمحمد راغب الطباخ : 4 / 35.