اعلى

من هدي المرجعية

ولاية الفقيه في فكر الامام الشيرازي

 

 

لا شك أن الإسلام له نظام خاص في إدارة المجتمع، وإن بعض جوانب هذا النظام قد طبقت في البلاد الإسلامية طيلة ثلاثة عشر قرناً - سواء أكان التطبيق تاماً أم ناقصاً - حتى انتهت الدولة الإسلامية قبل نصف قرن تقريباً.

وقد يسمع الإنسان أن الحضارة الإسلامية كانت مثالية إلى أبعد الحدود، وأن الإسلام متكفل بحل مشاكل العالم، وأنه لو أعيد إلى الحكم لصارت الدنيا جنة نعيم.. فما هو هذا النظام؟!.

الدولة في الإسلام..

إن الدولة في الإسلام مبنية على الشورى في كل شؤونها، ومن الضروري تحكيم الشورى في الدولة الإسلامية، وفي العالم أجمع؛ فيجب أن تكون كل الأمور - من القرية إلى العاصمة، ومروراً بالمعمل والمصنع، واتحاد الطلبة والمدارس والجامعات وغيرها- مبنية على الشورى؛ فإنها تظهر الكفاءات، وتقدم الضوابط، وتزيل المحسوبية والمنسوبية والرشاوى وما أشبه، بينما الدكتاتورية على العكس

من ذلك تماماً، فهي تنزل بالمجتمع إلى الحضيض، في حين الشورى ترفعه إلى القمة..وفي الحديث أن رسول الله(ص) كان أكثر الناس استشارة، وأن علياً (ع) جعل من حق الأمة أن يستشيرهم.. وفي أحاديث أخرى أن من واجب المسلم (النصيحة)، ويراد بها إعطاء المشورة والنصح لإمام المسلمين، كما إن من واجبه النصح لغيره أيضاً، ففي رواية الإمام علي (ع) أن رسول الله (ص) قال: (إن أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجماعة المسلمين) وفي حديث أيضاً قال رسول الله (ص): (من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: النصيحة لله عزّ وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: قال رسول الله (ص) (أعظم الناس منزلة يوم القيامة أفشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه).

فكان الأساس في سياسة النبي (ص) في إدارة الأمور هو الشورى؛ وفي مواضع عديدة كان يأخذ برأي الأكثرية، ولا يخفى أن هذا النوع من الحكومة في العصر الحاضر قد يسمى بـ(الحكم الديمقراطي)، وإن كان بينهما بعض الفرق، وهذا النوع من الحكومة القائمة على الاستشارية في مختلف قضايا الدولة كان في المدينة المنورة، وقد تحقق بقيادة نبي الإسلام (ص) ، قال الله تعالى مخاطباً نبيه: (وشاورهم في الأمر) (آل عمران: 159).

التخصص أو التعهد..

كان النبي الأكرم (ص) يعهد في الأمور الاجتماعية والإجرائية، حتى إلى الذين قد أسلموا حديثاً؛ لكي يستفاد من تجاربهم وخبراتهم، ويعرفوا الإسلام ويقدروه من صميم أنفسهم، وكان - صلوات الله عليه وآله - يؤلف بين قلوبهم ويدعمهم، حيث كان بينهم الكثير من المؤلفة قلوبهم، أمثال الأقرع بن حابس.

وكان من بين المسلمين المؤمنين أفراد لائقون ومناسبون، تتوفر فيهم التجربة والإدارة وإن كان أحياناً عددهم غير كافٍ لإدارة الأعمال المتعلقة بالدولة المركزية وأطرافها، خصوصاً لو قارنا الزمن الماضي وانتصارات المسلمين في كل يوم، مع زيادة المساحة الجغرافية للدولة الإسلامية والطاقة البشرية، إضافة إلى أن النبي (ص) امتدت سلطته وتوسع نفوذه إلى الكويت، وإلى أكيدر قرب الأردن، وذلك في أواخر السنة العاشرة للهجرة، حتى أنه (ص) كان يحكم بحسب خريطة اليوم ما يقارب تسع دول.

فعلى هذا ربما لم يتوفر العدد الكافي من بين المسلمين المؤمنين لإدارة مثل هذا المجتمع الكبير الآخذ بالتوسع، ودخول المسلمين فيه زرافات ووحداناً، ولما كان النبي (ص) يوفد مثل هؤلاء المسلمين المؤمنين إلى خارج المدينة للتبليغ وتعليم القرآن، وجمع الصدقات والوجوه الشرعية الأخرى؛ فبطبيعة الحال أن المدينة المنورة - مثلاً - في ظل الدولة المركزية، وعند غياب هؤلاء المؤمنين كانت بأمس الحاجة إلى كادر مخلص ووفي، وقد ينجم عن عدم سدّ الفراغ بغيرهم حدوث مشكلات عديدة في إدارة الحكومة الإسلامية، بل حتى من الذين كانوا قد أسلموا حديثاً، وكان هذا من أسرار نجاح الإسلام؛ فالكل كان يشعر بمكانته الاجتماعية وبشخصيته في ظل حكومة رسول الله (ص).

فعلى سبيل المثال لا الحصر، أن العلاء بن الحضرمي في تفتيش الحساب وبشكوى عبد القيس منه قد عُزل عن البحرين واحتل مكانه إبان بن سعيد، وقد أوصاه الرسول (ص) بخدمة أهل البحرين والتودد إليهم.

الخبروية في الفقه الإسلامي..

وكما إن الإيمان شرط في القضايا الإسلامية، فكذلك الخبروية والتخصص، حتى إن البعض أجاز الاعتماد على الخبير الأمين، وإن لم يكن عادلاً.

يقول الفقيه الهمداني (قدس سره) في بحث خاص له عن عامل الزكاة في عصر الغيبة:

لو وجد الفقيه طفلاً أو فاسقاً ذا بصيرة في جريان الأمور، ومطلعاً على المسائل السياسية في إدارة الدولة، ويقطع أن هذا الشخص أمين، يريد الخير، فلا مانع أن يقوم هذا الشخص بجمع الصدقات والزكاة وضبطها وكتابتها، ويصح استخدامه لهذا الغرض، إذا كان مثل هذا الموضوع يحرز فيه مصلحة المجتمع الإسلامي.

وهذا الكلام يدلل على أهمية الخبروية والاختصاص في مختلف المجالات.

وأما أبناء العامة فقالوا: كان النبي (ص) يؤمر على القوم وفيهم من هو خير منه، لأنه أيقظ عيناً وأبصر بالحرب(1).

سياسة التمركز في الحكومة الإسلامية..

عندما وفد قيس بن عاصم ممثلاً قومه على النبي (ص) طرح النبي (ص) عباءته وافترشها له ليجلس عليها احتراماً وتكريماً له، وقال (ص): هذا سيد الوبر.

وعلى ضوء ذلك يمكننا القول بأن كل منطقة كان لها نوع من الاستقلالية في إدارة موقعها، وفي نفس الوقت كانت تحت سلطة ونفوذ وتصرف الدولة المركزية، فلم تكن هناك الحدود الجغرافية، مثلما نراه اليوم من تقسيم البلاد الإسلامية، وفصلها بالحدود الجغرافية المصطنعة، فهو من الاستعمار ولا يعترف به الإسلام.

ففي السنة التاسعة للهجرة كانت القبائل العربية تأتي وتفد على النبي (ص) جماعات جماعات، لتعلن عن إسلامها، حتى سمي ذلك العام بـ(عام الوفود). فبعد إعلان إسلامهم عين لهم النبي (ص) شيخ القبيلة، ليكون حاكماً عليهم، بشرط العمل بالإسلام، وإعطاء الصدقات وغيرها من الوجوه الشرعية، فقد أقر النبي (ص) باذان (ملك اليمن) على عمله بعد إسلامه.

وفي ذيل رسالة النبي (ص) إلى سلطان البحرين، المتضمنة إبقائه على وظيفته، جاء فيها:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد (ص) رسول الله إلى المنذر بن مساوي: سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي، ويتبع أمرهم، فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد آتوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح، فلن نعزلك عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية).

وأيضاً جاء في وصية النبي (ص) لمعاذ بن جبل بأن يعين ما يريد من المسلمين، ويبعثهم إلى أطراف اليمن، لتعليم القرآن والمعارف الإسلامية..

وهكذا فإن الولاية ومنصب القضاء في زمان النبي الأكرم (ص) لم يكن منفصلاً عن بقية الوظائف والولايات الأخرى بأي نحو كان، والنبي (ص) لم يسند مسؤولية القضاء لشخص بشكل كلي وعام، نعم في بعض الموارد كان يأمر بالرجوع إلى الإمام علي (ع) ، حيث قال (ص): (أقضاكم علي) (2)؛ وذلك لأن القضاء جزء من الولاية والمسؤولية الملقاة على الحاكم أو الوالي، وكانت أكثر القضايا والاختلافات تحل بسهولة، ويفصل فيها، لمجرد السؤال عن نوع المسألة، وطرح الموضوع أمام النبي (ص) ، ومن ثم يرفع الاختلاف الناشئ عنها.

نصوص الشريعة في الرأي العام..

ويظهر من المطالعات الإسلامية، اهتمام الإسلام بالرأي العام، فقد كان الرسول (ص) يقول: (أيها الناس أشيروا علي) (3) ويستطلعهم حول الحرب، وكذلك شاور (ص) في قصة إعطاء التمر لليهود، وأخذ برأي من أشار عليه بالمنع، وفي القرآن الحكيم: (وأمرهم شورى) (الشورى: 38)، و(شاورهم في الأمر) (آل عمران: 159)، وورد أيضاً: (إن علياً (ع) إذا بعث والياً قال له: اقرأ كتابي عليهم فإذا رضوا بك كن والياً عليهم)، وقصة استشارته (ع) في صفين، والمرأة التي جاءت شاكية إليه، فعزل الوالي لشكايتها، وغيرهما معروفة..(4)

وقال الإمام علي (ع) للأمة: (فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل) (5). وقال أيضاً: (من استبد برأيه هلك) (6)، وقال(ع): (لا ظهير كالمشاورة) (7).

ومن هذا الباب حجية الرأي العام في معاني الألفاظ، والذي يستدل له بقوله سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه) (إبراهيم: 4)، بل الإسلام يحبذ استطلاع الآراء حتى في الأمور الشخصية أمثال (الزواج)، كما استشار الإمام علي(ع) في زواجه من فاطمة (أم البنين).

وقال عبد الله بن عباس: (دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار، وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال: والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) (8).

وقال (ع): (فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم، والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خاصاً لله سبحانه، دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً وتوسعاً بما هو أهله) (9).

فلما رأى الناس احترام الإنسان تحت لواء الإسلام، بينما لم تكن توفر لهم هذا الاحترام سائر الأديان والأنظمة الموجودة في ذلك الوقت، ورأوا صحة العقيدة والشريعة الإسلامية بالاستدلال والمنطق، أخذوا يتهافتون على الإسلام. ولم يقف دون الناس في دخولهم في الإسلام، كل المناقشات العقائدية التي صاغها علماء سائر الأديان والمذاهب ضد الإسلام، لأنها كانت مناقشات واهية لا يتمكن من الالتزام بها حتى أصحابها، وكذلك لم تنفع كل الاتهامات السياسية التي صاغها سياسيوا الدول الكافرة، لإيقاف مدّ الإسلام؛ أمثال الاتهام بأنه دين السيف، أو أنه دين الإجبار والقهر(!!) ونحو ذلك، ويُردّ على ذلك بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256)، كما إن النبي (ص) لم يجبر لا أسارى بدر ولا أهل مكة ولا أهل الطائف ولا غيرهم من الذين وقعوا تحت سلطته على أن يسلموا.

من هو الحاكم الإسلامي؟

الحاكم الإسلامي هو الذي يجمع بين شرطين:

الأول: كونه مرضياً لله سبحانه وتعالى.

الثاني: كونه منتخباً من قبل أكثرية الأمة.

أما الشرط الأول فإن الولاية لله سبحانه، عقلاً وشرعاً، فلا يحق لأحد تولي الأمر بدون رضاه سبحانه؛ أما عقلاً فلأن الله سبحانه خالق الخلق، ومالك الملك، وكما لا يجوز - عقلاً - أن يتصرف أحد في ملك أحد إلاّ برضاه، كذلك لا يجوز التصرف في ملك الله إلاّ برضاه، وأما شرعاً فلورود الآيات والروايات بلزوم أن يكون من يلي الأمور مرضياً له سبحانه، مثل آية (إنما وليكم..) (المائدة: 55)، وآية (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59).

وأما الشرط الثاني فلقوله سبحانه: (أمرهم شورى) (الشورى: 37)، وقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) (آل عمران: 154)، فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لا يصح الحكم، إلاّ فيما خرج، مثل حكم الرسول (ص) وحكم الإمام (ع) ، وحكم من عيّناه نصاً، مثل تعيين الرسول (ص) أسيداً على مكة، وتعيين الإمام علي (ع) مالكاً على مصر؛ فإنه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات، كما لا مجال للشورى مع النص في الأحكام.

وحيث أنه لا حكم إلاّ ورد به كتاب أو سنة - كما وردت بذلك النصوص - يبقى مجال الشورى في الموضوعات، فما دلّ على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، نقول بعدم وجوب الشورى فيه، وإلا فظاهر الآية الوجوب؛ ولذا نقول بوجوب الشورى في الحكم.. وعلى هذا يكون هناك انتخابان للناس:

الانتخاب الأول: انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، حتى يكون هو الذي يتولى عامة الأمور، وهذا ما يسمى بـ (ولاية الفقيه)، فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم، ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام؛ حيث أن الإسلام استشاري، كما أنه أقرب إلى الإتقان؛ وقد قال (ص): (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه) (10)، وهؤلاء الفقهاء هم الذين يقررون السياسة العليا للدولة، بالاستشارة فيما بينهم؛ إما بأن يجعلوا أحدهم رئيساً، والبقية مشاورين، وإما بأن تنفذ الأمور بالهيئة الجماعية.

الانتخاب الثاني: انتخابهم لنواب الأمة، الذين يكونون بدورهم تحت إشراف الفقهاء، أي تكون (ولاية الفقيه) المشرفة العليا على النواب وعلى غيرهم، وبعد ذلك إن شاءت الأمة انتخبت رئيس الجمهورية، وبالتشاور بين الثلاثة يكون انتخاب الوزراء (السلطة التنفيذية) و(الهيئة العليا للقضاء) وإن شاءت الأمة جعلت انتخاب رئيس الجمهورية على عاتق السلطة التشريعية، والسلطة الفقهائية، ولعل انتخاب الأمة لرئيس الجمهورية أقرب إلى روح التشاور وإن كان يجعل الأمر أصعب..

حكم التعارض بين المرجع وشورى الفقهاء..

ولا يخفى أنه بانتخاب الفقهاء لا يسقط الفقيه عن منصبه التقليدي المخول إليه شرعاً، فهو مرجع إذا قلّده الناس كان في الحكم أولا، وإذا لم يكن في الحكم ودار الأمر عند المقلد بين طاعته أو طاعة شورى الفقهاء - في مورد اختلاف نظرهما - فالظاهر لزوم اتباع المقلد لشورى الفقهاء؛ فهو من قبيل تردد المقلد بين رأي مجتهده ورأي القاضي، حيث ذكروا لزوم أخذ رأي القاضي.

وإنما نرجح اتباع المقلد لشورى الفقهاء على اتباعه لمرجعه، لسببين:

أولاً: للمناط في مسألة القاضي.

ثانياً: لظهور بعض الروايات في ذلك، مثل ما في نهج البلاغة حيث قال (ع): (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين) (11)، واختصاص الأمر بالمهاجرين والأنصار، دون كل المسلمين راجع إلى ما يلي:

1- لأن كل المسلمين في ذلك اليوم، كانوا راضين بما يفعله المهاجرون والأنصار.

2- ولأن الإسلام كان في بدو أمره؛ حيث كان إيكال الأمر إلى كل المسلمين خطراً على الدولة من جهة تربص الفرس والروم بالأمة، أما حمل كلامه (ع) على أنه من باب إلزام الخصم بما التزم به - لأن الكتاب موجه إلى معاوية - فهو خلاف الظاهر؛ إذ اللازم حمل الكلام على البرهان، إلاّ إذا لم يكن مساق له إلاّ الجدل.

بل يمكن أن يستفاد ترجيح رأي شورى الفقهاء على رأي مرجع تقليده - في مورد الاختلاف، مما يرتبط بشؤون الدولة - في قوله (ع): (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فإن المجمع عليه لا ريب فيه) (12) إذ المراد بالمجمع عليه الشهرة بقرينة الصدر، والعلية في المقام، فهو من قبيل منصوص العلة.

وفي المقام روايات أخر يمكن أن يستفاد منها ذلك:

مثل ما رواه أبو إمامة - كما عن الخصال - قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: أيها الناس أطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم(13).

وعن الصدوق - رحمه الله - أنه روي عن الصادق (ع) أنه قال: المحمدية السمحة، إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت والطاعة للإمام وأداء حقوق المؤمن) (14).

وروى أبو حمزة عن الباقر (ع) أنه سئل عن حق الإمام؟ فقال (ع): (حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قلت: فما حقهم عليه؟ قال: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية) (15).

وبعدما تقدم من اشتراط أن يكون الوالي مجتهداً عادلاً، لا حاجة إلى ذكر أنه لابد أن يعمل بقوانين الله سبحانه، إذ إن أي انحراف يسقط عدالته، وإذا سقطت لزم على المسلمين إسقاطه، وسحب الثقة عنه وتبديله بالرجل الصالح، وأنه لا طاعة له على المسلمين، أما عدم وجوب طاعته في المعصية، فأوضح من أن يخفى، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وعن الخصال روى سليم بن قيس عن الإمام علي (ع) قال: (احذروا على دينكم ثلاثة - إلى أن قال: ورجلاً آتاه الله سلطاناً، فزعم أن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله وكذب، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - إلى أن قال: لا طاعة لمن عصى الله، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر) (16).

ولا يخفى أن (شورى فقهاء حفظة مجلس الأمة) غير شورى الفقهاء المراجع؛ حيث أن المرجع الأعلى للدولة، بل شورى الفقهاء والمراجع هم الذين يعينون (شورى الحفظة) إما مستقلاً، أو بالتعاون مع سائر وكلاء الأمة.

مناقشة نظرية (البيعة)

قد ظهر أن الدولة الإسلامية رئيسها الأعلى هو الفقيه الجامع للشرائط، سواء أكان بصورة فردية أم بصورة جماعية - حسب اختيار الأمة لأحد الأمرين - وقد ذكر بعض الكتاب الإسلاميين إمكانية تعيين الرئيس بـ(البيعة) أو بواسطة (أهل الحل والعقد).

واستدلوا لذلك بأن المسلمين بايعوا الرسول (ص) ، وبأن أهل الحل والعقد عينوا الخليفة الثالث، بل مما تقدم من كلام الإمام علي (ع)، من كفاية اختيار المهاجرين والأنصار.. لكن كلا الأمرين محل نظر؛ إذ البيعة إنما تكون - بعد الانتخاب - ومظهرة له، لا أنها تعين رئيس الحكومة، فالمسلمون بعد أن صدّقوا رسالة الرسول (ص) بايعوه، ولو لم تكن البيعة كانوا مصدقين له أيضاً، فالبيعة كانت نوعاً من التأكيد، فالبائع يبيع نفسه وأهله وماله لله تعالى، في قبال أن يعطيه الله الجنة كما قال سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) (التوبة:11).

هذا بالإضافة إلى أنه لم تكن البيعة انتخاباً للرسول (ص) لأنه رسول الله (ص) ، بايعوه أم لا، بل كانت إظهاراً وتأكيداً، ولذا بايعوه (ص) تحت الشجرة في صلح الحديبية، مع أنهم كانوا قد بايعوه قبل ذلك، وكانت علة هذه البيعة التأكيد، وإرهاب الكفار؛ فالبيعة لا شأن لها إلا التأكيد، ولذا إذا انتخبوا بدون البيعة، كان لازماً، وإذا بايعوا بدون المؤهلات كانت البيعة باطلة.

نعم من بايع كان الأمر عليه آكد (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (الفتح: 10)، كما إن حجة الوالي عليه تكون أقوى، حيث أن الوالي يستدل ببيعته على أنه قبل وانتخب، فلا حق للمبايع في النقض، ولذا استدل الإمام(ع) على الناكثين بأنهم بايعوه؛ ولذا كان خلفاء الجور يجبرون الناس على البيعة بالسيف، حتى يستدلوا بعد ذلك لجهلة الناس بأنهم بويع لهم بالخلافة.

وقال خطيب مرتزق في مجلس معاوية بحضور يزيد: أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية) فإن مات فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فهذا (وأشار إلى السيف)، فقال له معاوية مستبشراً: اجلس فأنت أخطب الخطباء.. حال ذلك حال تزييف الانتخابات في الزمن الحاضر، حيث أن الدول الديكتاتورية تجبر الناس على الإدلاء بأصواتهم لنفع الديكتاتورية، وكيف كان فالبيعة لا شأن أساسي لها في تشكيل الحكومة.

مناقشة نظرية (أهل الحل والعقد)..

أما انتخاب أهل الحل والعقد فدليله وهو الشورى التي أتت بالخليفة الثالث، غير تام، فإن الشورى الواردة في الكتاب والسنة، معناها شورى الجميع لا شورى جماعة، فبأي حق تسقط آراء الآخرين؟

وقد تقدم الجواب عن الاستدلال بكلام أمير المؤمنين (ع) وإنه كان فيما قبلت الأمة بما يفعله أهل الحل والعقد، بالإضافة إلى تعسر الانتخابات من قبل جميع الأمة في ذلك الزمان، كما أشار اليه الإمام علي (ع) في كلمة له - كما في نهج البلاغة : (ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك من سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار) (17) - هذا مع الإشكالات الأخر التي ذكروها في (قصة الشورى) - وقد أشار إليها الإمام علي (ع) في قوله: (فيا لله وللشورى) (18).

نعم ربما أورد على انتخاب الأكثرية، دون أهل الحل والعقد فقط، بأن الأكثرية غالباً جاهلون بالسياسة،ولذا تشترى أصواتهم، وكثيراً ما ينتخبون غير الصالح، بخلاف ما إذا كانت زمام الانتخاب بيد أهل الحل والعقد، فإنهم لدرايتهم السياسية لا يخدعون، فلا يأتي غير الصالح إلى الحكم، لكن هذا الإيراد غير تام - مع غض النظر عن أدلة الشورى الظاهرة في العموم، وعن أنه لماذا يسقط حق الجماهير في اختيار من يتولى أمرهم - إذ لا نسلّم بجهل الأكثرية، وهم حيث تتجمع آرائهم لهم رؤية حسنة؛ ولذا يقال (محكمة الاجتماع)، وهم المرجع في أن أي الأطباء والمهندسين و.. خير من غيره، واشتراء الصوت أحياناً لا يخدش حسن رأي الأكثرية، ولا نسلّم بأنهم ينتخبون غير الصالح، فإن انتخابهم لغير الصالح نادر.

ثم يبقى المجال للنقض برأي أهل الحل والعقد، فهل هم لا يقعون تحت تأثير الدعايات؟ ولا يراعون مصالح أنفسهم؟ ولا يبيعون أصواتهم؟ وقد ذكر التاريخ أخطاء آراء أهل الحل والعقد، بما لم يذكر مثله في آراء العامة.

وقد تقدم إطلاق دليل الشورى، وفي القرآن الحكيم: (.. ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى) (النساء: 115).

الحاكم الإسلامي والاستشارة..

كما إن اللازم على الحاكم الإسلامي كثرة الاستشارة، وفي القرآن الحكيم آيات حول الاستشارة، تقدمت جملة منها، كما تقدمت بعض الروايات حول ذلك.

وقد استشار الرسول (ص) حول أمور متعددة في حروبه، كما استشار الإمام علي (ع) في قضايا متعددة، وعن مجمع البيان في ذيل آية: (والذين اجتنبوا الطاغوت) (طه: 131)، أنه روي عن رسول الله (ص) قوله: (ما من أحد يشاور أحداً إلا هدي إلى الرشد) (19).

وقال الإمام علي (ع) - كما في نهج البلاغة -: (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل) (20).

وعن شرح نهج البلاغة أن الإمام علي (ع) قال لطلحة والزبير: (ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه، ولا في السنّة برهانه لشاورتكما) (21).

لكن اللازم أن تكون المشورة بموازينها؛ إذ ليس كل أحد يستشار، كما ليس في الأحكام الشرعية استشارة، بل الاستشارة في أمرين:

1- في الإطارات، بعد أن يكون المحتوى الأدلة الأربعة.

2- في التطبيقات، في مجلس الشورى والهيئة التنفيذية والقوة القضائية، ولا حق لهم في أن يستشيروا في حكم شرعي؛ هل يجعلوه كما قاله الشارع المقدس أم لا؟ ولا في تطبيق الحكم على الموضوع المتبين أنه موضوع لذلك الحكم؛ فإن حلال محمد (ص) وحرامه لا يتغيران إلى الأبد.

وقد وردت في هذا الصدد روايات؛ فقد قال أمير المؤمنين (ع): (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله) (22).

ذلك لأن البخيل يسيء الظن بالله، متوهماً أنه تعالى لا يكفيه إذا احتاج والحريص يسيء الظن بالله أيضاً، بأنه لا ينزل عليه رزقه، والجبان يظن بأن الله سبحانه لا ينصره إذا أقدم في الحق.

وروى معاوية بن وهب، عن الصادق (ع) أنه قال: (استشر في أمرك الذين يخشون ربهم) (23)، وروى سليمان بن خالد عنه (ع) أنه قال: (استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلا بالخير.. ) (24).

وروى الحلبي عنه (ع) أنه قال: (إن المشورة لا تكون إلا بحدودها، فمن عرفها بحدودها، وإلا كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها له.

فأولها: أن يكون الذي تشاوره عاقلاً.

الثانية: أن يكون حراً متديناً.

الثالثة: أن يكون صديقاً مؤاخياً.

والرابعة: أن تطلعه على سرك، فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يستر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته، وإذا كان حراً متديناً أجهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقا مؤاخياً سرك إذا أطلعته على سرك، وإذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك، تمت المشورة، كملت النصيحة) (25).

السلطة الشرعية..

السلطة التي هي من أهم الأمور لابد وأن تكون بإذن الله تعالى، وطريق الإذن الإمام المأذون من الرسول المأذون من الله تعالى، أما أن يستولي أحد بدون مؤهلات على الناس، سواء كان بإذنهم - كما في الحكومات الديمقراطية - أم بغير إذنهم - كما في الحكومات الأرستقراطية والبيروقراطية - فإن ذلك مما لم يؤذن به؛ فيكون ذلك خلاف الشريعة.

أما أسلوب الشريعة الإسلامية في الحكم فهو أن:

1- يكون القانون هو قانون الله سبحانه.

2- يكون التطبيق في ضمن وصاية الناس.

أما الأول؛ فيدلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قال سبحانه وتعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44).

وقال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة: 47).

وقال سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة: 45).

فالحكم بغير ما أنزل الله، كالسيارة تخرج عن الجادة فتقع في المعاطب، (فسق) ثم (ظلم) ثم (كفر).

وفي السنة:

(انظروا إلى رجل منكم قد أدى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فاجعلوه حكماً، فإني قد جعلته عليكم حكماً) (26).

والإجماع:

قطعي بأنه لا يجوز حكم غير الله سبحانه، بل هو من ضروريات الدين.

والعقل:

دلّ على أنه لا يجوز التصرف في ملك المولى (الله) إلا بإذنه.

هذا بالنسبة إلى لزوم كون (الحكم لله).

وأما بالنسبة إلى لزوم رضى الناس؛ فقد قال سبحانه: (وأمرهم شورى) و(شاورهم في الأمر..) وفي الشعر المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنين(ع):

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غيب؟

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب(27)

حيث يحصر الإمام (ع) الحكم في أمرين:

1- في قرابة النبي (ص) ؛ أي الإمام المعين من قبله (ص).

2- في الشورى، واختيار الأكثرية.

فكما إن للإنسان أن يصلي خلف أي عادل، ويقلد أي مجتهد، ويراجع أي قاض، كل ذلك في الإطار الإسلامي المعين من قبل الله سبحانه، كذلك للإنسان أن يختار أي مجتهد جامع للشرائط في الحكم.

وهكذا، فليس للحاكم حق الدكتاتورية إطلاقاً، وكل حاكم يستبد يعزل عن منصبه في نظر الإسلام تلقائياً، لأن من شرط الحاكم العدالة، والاستبداد (الذي معناه التصرف خارج النطاق الإسلامي، أو خارج نطاق رضى الأمة في تصرف الحاكم في شؤونها الشخصية) ظلم مسقط له عن العدالة.

المصـــادر:

1- الفقه - السياسة: ج105 - 106 آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

2- أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

3- إلى حكم الإسلام: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

4- الصياغة الجديدة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

الهــوامــش:

(*) اقتباسات من فكر آية الله العظمى الإمام الشيرازي (دام ظله)

(1) راجع (تاريخ الخلفاء) لجلال الدين السيوطي.

(2) كشف الغمة: ج1 ص263.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3 ص329 وص361.

(4) انظر (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المنقري: طبعة مصر.

(5) نهج البلاغة: الخطبة 316، ص335.

(6) نهج البلاغة: الخطبة 161، ص500.

(7) نهج البلاغة: الحكم 54، ص478.

(8) نهج البلاغة: الخطبة33.

(9) نهج البلاغة: الخطبة 34.

(10) الوسائل: ج2 ص883 الباب60 من الدفن ح1.

(11) نهج البلاغة: الكتاب 6 (إلى معاوية).

(12) المستدرك: ج3 ص189 الباب9 من صفات القاضي ح2.

(13) الخصال: ج1 ص321 باب السنة ح6.

(14) الوسائل: ج14 ص74 الباب48 من مقومات النكاح ح1.

(15) الكافي: ج1 ص405 في ما يجب من حق الإمام على الرعية ح1.

(16) المحجة البيضاء: ج1 ص128 الباب السادس.

(17) نهج البلاغة: الكتاب 6.

(18) نهج البلاغة: الخطبة 3.

(19) ميزان الحكمة: ج5 ص211، ومجمع البيان: ج5 ح13 ص146.

(20) نهج البلاغة: خطبة 216.

(21) شرح نهج البلاغة: المجلد الثاني، الجزء السابع ص173 س10.

(22) نهج البلاغة: رسالة 53.

(23) المحاسن: ص601 الباب 3 من كتاب المنافع ح17.

(24) المحاسن: ص602 الباب 3 من كتاب المنافع ح24.

(25) المحاسن: ص602 الباب 3 من كتاب المنافع ح28.

(26) بحار الأنوار: ج3 ص90.

(27) ديوان الإمام علي(ع): ط بيروت ص9.