اعلى

فلسطين قضية أمة

 

 

 

 

 

السيد مرتضى الشيرازي(*)

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:

 (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كل حزب بما لديهم فرحون)(1).

ينطلق المرء في بحثه عن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة من الظواهر بعدة طرق؛ منها ما هو صحيح ومجدي ومنها ما هو غير مجدي؛ فتارة ينطلق في البحث وهو معتكف في صومعته الفكرية، أي يفكر بطريقة تجريدية، وتارة يتلمّس سطح الظواهر والأحداث بطريقة طفولية.

وكلا الطريقين لا ينفع ولا يجدي والنتيجة عادةً هي الخسران المبين أو الصولة بيد جُذاد أي بيد مقطوعة.

وتارة ينطلق المرء عبر الآفاق والأنفس ومعرفة ما يدور خلف الكواليس، ويكون البحث بجدية عن بواطن الأمور وفي جهد دائب؛ وهذا الطريق كفيل بأن يستكشف الإنسان من خلاله العمق والجوهر لأية قضية يريد إحياءها.

وعلينا سلوك الطريق الثالث للوصول إلى قضايانا المركزية والأساسية ومنها قضية فلسطين المغتصبة

ملامح العمل الصهيوني

من خلال هذا البحث القصير نتطرق إلى أمرين مهمين:

الأول: ملامح العمل والتفكير للعدو الصهيوني.

الثاني: ملامح العمل والتفكير الإسلامي.

أما الأمر الأول فنشير إليه بإشارات عابرة جداً لضيق المجال لنرى فيه كيف يفكر العدو؟ وما هي العقلية التي تحرّكه؟ وبشكل نقاط:

(1) ماذا تعني كلمة (إسرائيل) التي أطلقوها على دولتهم المزعومة؟.

إسرائيل كلمة كنعانية مركبة من كلمتين: (إسر) وتعني الجندي و(ئيل) وتعني الله، ومن المركّب يصبح معناها (جندي الله)، ومن خلال التسمية نستنتج أن منطلقهم منطلق احتيال وعنف عبّأ فيه مفكروهم شعوبهم واستنهضوا بواسطته قواعدهم وقممهم.

فماذا تعني كلمة الصهيونية؟.

(صهيون) اسم حصن قديم شرق القدس ورد ذكره في التوراة.

يقول أحد كبار مفكري اليهود واسمه موسيسك لاسكي: (جميع اليهود في العالم يكوّنون أمة واحدة، ودولة إسرائيل هي الممثل الشرعي لذلك القطاع من الأمة المقيم في صهيون).

ومن خلال تسمية (إسرائيل) و(صهيون) ربطوا بين الماضي والحاضر؛ أي بين جذور ميتافيزيقية وظواهر مادية.. فهكذا انطلقوا كحركة وأمة واحدة لا كأحزاب وشيع متفرقة، وإن افترقت في خطوط بسيطة لكنها تلتقي في المبدأ.

(2) عقد هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية مؤتمره الأول عام 1897م في بازل بسويسرا، وضم النخبة من مفكريهم والحاخامات وكبار التجار والأحزاب والمنظمات، ووضعوا اللبنة الأولى لدويلة إسرائيل، ثم تكرر المؤتمر حتى عام 1986م، وخلال هذه الفترة الممتدة ما بين عامي 1798م و 1986م عقدوا ثلاثين مؤتمراً، أي بمعدل مؤتمر كل ثلاث سنوات، من أجل المحافظة على قرارهم، وفي المقابل عقد في القدس عام 1935م مؤتمر برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس، وهو أول مؤتمر لمواجهة إسرائيل وذلك بحضور 400 من كبار العلماء والقضاة والشخصيات الدينية، ثم عقد المؤتمر الثاني في العام اللاحق (1936م) وانقطع حبل المؤتمرات إلى ما قبل سنوات، فكان المؤتمر الأول لليهود عام 1897م والمؤتمر الأول للعرب عام 1935م، وخلال هذه المدة تحرّك اليهود بكل ثقلهم، وخططوا ليصلوا إلى نمط مؤثر من التحرك، ومن الطبيعي أن تكون النتيجة وفق نمط المؤثر وكيفية العلّة.

(3) قبل أيام نجحت منظمة يهودية في ألمانيا بعد جهد متواصل استمرّ لأكثر من عشر سنين في إحدى المدن الألمانية باسم (برادنبرغ)، فيها عشرون شجرة غرست في العام 1930م وقد رُتبت بشكل لو حلّقت طائرة فوقها لبدت للناظر من الجو على شكل صليب معقوف، فلم تسكت المنظمة اليهودية على ذلك بل عملت لأجل إجبار بلدية المدينة على تقليم تلك الأشجار؛ وفعلاً تم لها ما أرادت.

والذي نريد قوله أنه بالرغم من تفاهة هذه المسألة، لكنهم يتعاملون معها بجدية وبعد في النظر كأمة واحدة وقضية واحدة، فهل كان تفكيرنا بهذه الظاهرة يوازي تفكيرهم؟!.

(4) الظاهرة العامة التي تحرك سلوك اليهود هو العنف والدمار، وقد أقيمت دويلتهم على الهمجية والجنايات والجرائم، قبل استقرارهم في الأرض، وإلى أعوام قريبة رفعوا حالة الطوارئ العسكرية، وبالرغم من ذلك تعلن جمعية الأمم المتحدة في العام 1949م أن إسرائيل دولة محبة للسلام، رغم أن أبسط الأمور تشير إلى طبيعتها الهمجية والعدائية، فضلاً عن جرائمها ضد البشرية وعدوانها السافر على أصحاب الأرض، واحتلالها لمناطق عربية مجاورة. وبالرغم من ذلك كلّه تنال عضوية الأمم المتحدة!!.

وما تقدم كان إشارات مختصرة إلى طبيعة العمل الصهيوني على أرض الواقع.

ملامح التفكير الصهيوني

لو أردنا أن نستكشف عمق الظاهرة وما وراء الكواليس فلابدّ من أن نغوص في أعماق الفكر الصهيوني عبر تصريحات قادتهم وأسيادهم في مختلف الأزمنة ونذكر البعض منها هنا:

1- يقول مور بيرجر في كتابه (العالم العربي المعاصر):

(إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام، فيجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائما مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره، إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الإفريقية).

2- ويقول غاردنر: (إن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنها كانت لتدمير الإسلام).

3- ويقول الكاتب الصهيوني ايرل بوغر في كتابه (العهد والسيف) الذي صدر عام 1965م ما نصه بالحرف: (إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لابد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي، وهي عناصر رجعية تتمثل في رجال الدين والمشايخ!!.

4- وقال لويس التاسع ملك فرنسا الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة في وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس: (إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال الحرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة باتباع ما يلي:

أ) إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.

ب) عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية من أن يقوم فيها حكم صالح.

ج) إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة.

د) الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه، يضحي في سبيل مبادئه.

هـ) العمل على الحيلولة دون قيام وحدة في المنطقة.

و) العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً وأنطاكية شمالاً ثم تتجه شرقاً وتمتد حتى تصل إلى الغرب.

5- ويقول المبشر تاكلي:(يجب أن نستخدم القرآن - وهو أمضى سلاح في الإسلام - ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تماماً، ويجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً وأن الجديد فيه ليس صحيحاً)!!.

6- ويقول آرنولد توينبي في كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل): (إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ).

ومن خلال ما ينشر ويذاع من العديد بل المئات من التصريحات المماثلة لما نقلناه والتي لا يسع المجال لذكرها وتعكس فكر الصهيونية وأهدافها، يمكننا فهم المغزى الرئيسي لدوافعهم.

نمط التحرك الإسلامي

يتحرك اليهود من خلال فكر وعمل مبرمج، فكيف يكون شكل التحرك والمواجهة له، رغم أنه في أيدينا نمط واسع من التحرك أرساه لنا الدين الإسلامي كما في قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة)(2)، وقوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)(3).

ولغرض الوصول إلى التحرك بشكل دقيق نتأمل في الآية الأولى بعمق إذ نقول:

هناك قاعدة أصولية تقول: (تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية)، فعندما أقول (أكرِم العالم) كمثال مبسّط، يكون الحكم هو أكرِم، وهذا الحكم صُبّ على وصف وهو العالم؛ أي شخص من الأشخاص.

فتعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية، وكأن ذلك الوصف هو علة الحكم، أي علة حكمي بضرورة الإكرام للعالم، فكونه عالماً هو الباعث على إصدار الحكم.

نعود للآية الشريفة: (إنما المؤمنون أخوة)، فالمؤمن صفة من الصفات، والأخوة رتبت على هذه الصفة، والمبتدأ هو المؤمنون، والخبر هو الأخوة؛ فالوصف هو الإيمان.

والنتيجة التي تترتب على هذا الوصف هي الأخوة؛ إذاً هناك علاقة جوهرية بين كوننا مؤمنين وبين تكريس حالة الأخوة الإسلامية.

وفي الواقع هناك سنخية بين الإيمان والأخوة، فإذا وجدت شخصاً لا يحس بذلك الشعور الأخوي في أعماقه تجاه المسلم في فلسطين أو لبنان أو سوريا أو الصين.. فهذا الإيمان مشكوك فيه، لأن الأخوة بوتقة ينصهر فيها المؤمنون من خلال الآية الشريفة (إنما المؤمنون أخوة)، وإن لم ينصهروا في هذه البوتقة، تضعف حبال الارتباط بالإسلام، ويصبح أي تحرّك لمواجهة أبسط القضايا المعادية للإسلام غير مجدٍ، بل قد يكون وبالاً على المسلمين، لأنهم خالفوا قاعدة أساسية من قواعد الفكر والعمل والنجاح سواء في الدنيا أو في الآخرة.

فالتاجر - على سبيل المثال - الذي يتعامل مع تجارته بتفكير واسع وسفر مضنٍ، وأحياناً يسهر الليالي الطويلة من أجل إنجاح تجارته، عندما تحدث له أزمة - وإن كانت طفيفة - ينصرف كلياً إلى حلها وتجاوزها بنجاح، فقضيته الكلية والأولية هي التجارة، فلا يهدأ له بال إلا إذا انتهت الأزمة بسلام.

لكننا نتساءل: هل فلسطين وتحرير القدس قضيتنا الرئيسية؟ كم نبذل من الوقت في التفكير والعمل والتضحية من أجلها؟ هل تعاملنا مع الحدث من منطلق الأمة الواحدة أم التجزئة؟

فالآية الشريفة قالت (إنما المؤمنون أخوة) أي أن المسلم عليه أن يجد في ذاته عمق الإحساس بالأخوة، على جوارحه وتصرفاته اليومية، بحيث يجعل قضية فلسطين قضيته المركزية وتحوز جلّ اهتمامه، كما أنه ينبغي التعامل معها كقضية أمة واحدة لا متجزئة، فاليهود عملوا على أن قضيتهم واحدة لا تتجزأ، ونحن برغم دعوة الخالق تعالى لنا بالالتزام بالأمة الواحدة والأخوة، إلا أننا لم نكن كذلك.

كما إن بعض المفسرين أشار إلى أن في قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة) تشريع لأن الآية الشريفة تارة تكون إخباراً، وتارة تكون إنشاءً، فالإخبار يكون عن حدث، أما الإنشاء ففي حكم أو قضية، فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية ينشئ حكماً، فيوجد هذا الحكم الاعتباري التشريعي، بل أكثر من ذلك فإن أخوة الإيمان أسمى بكثير من أخوة النسب التي تربط الأخ بأخيه مادياً، لأنه ينتسب إلى أب أو أم أو كليهما، وكما هو معلوم فإن المعنى أسمى من المادة، والروح أرفع من الجسد.

إذن (إنما المؤمنون أخوة)هي في مقام التشريع، وهذا التشريع يستلزم لواحق، كما إن التشريع في الأخوة المادية (النسبية) يستدعي مجموعة من اللواحق كالإرث والولاية وجملة من الحقوق الأخرى كصلة الرحم مثلاً؛ فأخوة الإيمان تستدعي سلسلة من اللوازم نستعرض بعضها على ضوء الروايات الشريفة؛ فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:(المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه)(4).

وعن الصادق (ع) أيضاً أنه قال: (المسلم أخو المسلم وهو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يخدعه ولا يكذبه ولا يغتابه)(5).

وعنه (ع) أيضاً أنه قال: (المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضوٌ وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإن روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها)(6).

وكما أشرنا إلى أن هذا الاتصال رمزي ومعنوي وليس بمادي، لكنه أسمى من الاتصال المادي بحسب ما قررناه ودلّت عليه الروايات الشريفة أو الآيات القرآنية العديدة، بل ذهبت بعض الروايات إلى لزوم التضحية من أجل الأخوة؛ إذ جاء فيها: (ابذل لأخيك دمك ومالك).

وقوله (ابذل) فعل أمر، والأمر ظاهر في الوجوب، كما هو ثابت في الأصول، وبذلك يثبت شرعاً التضحية من أجل الأخوة والإنسانية.

ولنا أن نتساءل كمسلمين: هل نحن نبذل دماءنا وأموالنا من أجل إخواننا المسلمين في فلسطين أو كشمير أو الشيشان أو غيرها من البلاد الإسلامية المستعمرة أو المظلومة أو المضطهدة؟

والجواب يتضح من خلال المعاناة والأزمات التي تمر بها أمتنا الإسلامية وما يمر عليها من ويلات وآلام، بسبب تفرقها معنوياً وماديا؛ فالحل إذاً يكمن في رجوعنا إلى الجذور الإسلامية، إلى القرآن الحكيم.. إلى الأخوة الإسلامية.. والأمة الواحدة.. لكي نستعيد عزنا وحاضرنا ومستقبلنا.

الهـــوامـــش:

(*) من محاضرة ألقاها سماحة العلامة السيد مرتضى الشيرازي في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع) في مكتبة الرسول الأعظم(ص) بدولة الكويت، وبمناسبة مؤتمرها السنوي.

(1) المؤمنون: 52-53.

(2) الحجرات: 10.

(3) المؤمنون: 52.

(4) أصول الكافي: ج2 ص166، وبحار الأنوار: ج71 ص268 باب16 ح7.

(5) بحار الأنوار: ج71 ص270 باب16 ح9.

(6) المصدر نفسه: حديث 8.