ارهاصات الغزو الثقافي وضرورة تأصيل الذات

 

 

 

أحمــد البغــدادي

    تمهيـــد :

لا بد أن نؤكد بداءةً بأن مراقبة التغيرات الكبرى التي تتوالى على ممر الزمن الراهن الذي لا شأن له سوى التبدّل والتحوّل الشامل من ماهية إلى أخرى أحياناً، ولا نجزف إذا قلنا بأن قصارى هذا التبدل والتحول هو الخلط الكثير في الأنساق الفكرية والقيمية التي كانت قائمة ومتماسكة فيما مضى؛ ذلك أن موجات ثورة المعلومات والاتصالات التي باتت - من حيث سعتها وسرعتها - تحمل في طياتها معانٍ أبعد بكثير من المعنى المحدّد لكلمتي (معلومات) و(اتصالات)، خاصة إذا علمنا بعد الإمعان والتدقيق في جملة مراحل تلك الموجات - مكانياً وزمانياً - أنها مخططة جيداً، ومدروسة منذ زمن سابق على زمانها وتوقيتها، فهي صارت لا تضمن أية حدود حمراء أو خضراء لأي عرف مجتمعي أو نسق معرفي وثقافي، بل ربما راحت بعيداً في اختراق الحدود، وخلط الأنساق خلطاً مدروساً أيضاً، وفق قولبة أو عولمة - أو لعلها أمركة - يُعلم من فجائيتها وسرعتها، التي صرعت شخصية بعض الأقوام و(القبائل الحديثة)، أنها من تخطيط مخطط واعٍ تماماً لما يصنع، وتعضده أعتى وأدهى المؤسسات الاستراتيجية في الغرب - لا ريب أن مراقبة هذه التغيرات الكبرى التي تجري في زمننا الراهن، وإدراكها بشكل جيد يساعد في اجتناب الكثير من الأخطاء في ميدان الثقافة، وفي الجوانب المعرفية التي تتفاعل وتتطور - بما تقتضيه سنة التغيير - لتتناول ماهية الإنسان - على صعيد الأفراد والمجتمعات - على أي حال، فإن جملة القول هو ضرورة النظر بشفافية إلى جملة الدواعي التي حملتها (الثورة الجديدة) في العالم - وإن كان الطبع أميل إلى تسميتها بالانقلاب الجديد - وفحص مدى صدقها وموائمتها مع ما تبقى من منظومات وأنساق فكرية وقيمية للمجتمعات، على أن يشتد تذكر جميع المهتمين بشؤون مجتمعاتهم، ونواحي الصحة والاعتلال في أنساقها القيمية، إلى جذور هذه (الثورة) التي قد تؤدي - في الحال أو المآل - إلى أزمة جديدة، أو وباء خطير، أخطر ما فيه أن المريض لن يشعر بمرضه بفعل عوامل التخدير الكثيرة المتمثلة في رونق حضارة الآلة الصناعية الغربية، و(المعجزة التقنية) أو ربما (المعجزة الاقتصادية)، أو موجة اتصالاتية أعلى وأعتى، تفتح حدوداً جديدة كانت منيعة بالأمس!!.

فإذا ما اعتقدنا بأن الأمم التي بذلت جهداً ودماً في سبيل بناء حضارتها، وتشخيص وجهاتها، التي قوامها القيم والمعارف والمفاهيم، التي تميزها.. إذا اعتقدنا بأن جميع ذلك يفرض مسؤوليات ثقيلة وملزمة على أبنائها الأحرار، فإن عليهم أن يجهدوا أنفسهم في الدفاع عن قيمها، وأن يذبّوا عن وجهها كل شين أو شائبة، وان يحافظوا على شخصيتها، وما ذاك إلا من خلال تدعيم وتقوية البناء المؤسساتي لأية أمة، في قبال الهجوم أو الغزو الثقافي الشرس الذي يستهدف قواعد بناء المجتمعات، والذي يملك منظومات وقواعد مؤسساتية ضخمة، وشبكة أعلامية ومواصلاتية أخطبوطية معقدة، متواصلة الحلقات بحيث صارت غير قابلة للتفكيك والتحليل، فبإزاء ذلك لابد للأمم التي همها النهوض والوقوف على أرجلها أن تبادر لإحكام بناء وتوسيع شبكاتها المؤسساتية ومدّها لتبلغ أقصى مواطن الهجمة الثقافية، وأبعد أماكن الحملات المعلوماتية والاتصالاتية؛ لأن خير وقاء لها هو العناية بنظم وتنسيق مؤسساتها، حتى لا يغلبها على أمرها ضعف هذا الجانب، وفي ذلك فقط، أي ردّ الهجمة بهجمة من جنسها، حفظ قوامها، واعتبارها في هذا العالم..

إذن من الطبيعي أن تتحرك الأمم بكل طاقتها، حركة واعية مدروسة، وأن تركز تفكيرها للأخذ من كل مطرح ما يفيدها ويدعم بناءها المادي والمعنوي، وإلا فالسكون يعني الاندحار بل الموت البطيء، فلا بد لها من تجدد وتطور، بأن تأخذ بجميع أسباب النهوض والتقدم، بحيث تضيف كل يوم شيئاً جديداً نافعاً إلى حياتها المعنوية والمادية، لأن التغيير سنة طبيعية.

   سنن التغيير والتحول:

إن الكون برمته مشمول ومستوعب بسنة التبدل والتغير، أو كما يقول بعض الفلاسفة: (كل هوية مادية متغيرة لا بقاء لها آنين ولا شأن لها إلا التبدل والزوال)، فهي - كلياً - سنة طبيعية تعمل في جميع الأشياء، وشأنها الاستمرار والدوام، فأي خروج أو توقف عنها يورث العطب والفساد لا محالة..

وهكذا فإن روح التغيير موجودة في أعماق التشكل البشري، وإنه سنة اجتماعية لا يمكن إلغاؤها.. وإن حقيقة قيام الأمم وقدرتها على النهوض يعتمد على مدى قدرتها في إيجاد التغييرات اللازمة لتطوير حركتها التصاعدية، وعلى نوعية استجابتها للتغيرات الخارجية التي تهب عليها من جهات أخرى، لذلك فإن الأمم التي لا تستجيب للتغيير تحكم على نفسها بالموت، فانحطاط أغلب الحضارات وانقراضها يبدأ عندما تعجز عن فهم أنه يجب أن تغير من واقعها استجابة للمستجدات التي واكبت الحركة البشرية المتصاعدة(1).

فعلى أية أمة تحترم مقوماتها، وتطلب الخير لأبنائها، وتدعي أنها صاحبة حضارة وقيم مثلى، أن تبذل كثيراً من الجهد في سبيل ترسيخ الوعي وتنميته لدى أفرادها وشعوبها، في إطار من التنظيم الكامل والناضج الذي غايته حفظ التوازن بين الجدة والأصالة، وصيانة أساسيات الأمة من التآكل في جميع الظروف، بما يحفظ للأمة ميزاتها وقواعدها الأصلية التي عُرفت بها على مر الأزمان، إذ هي تستدعي الاحترام بين الأمم الأخرى، طالما احترمت جذورها وهويتها الحضارية الخاصة بها، دون أن يعني ذلك الانغلاق والاختناق في الموروث والقديم، بل أن يترافق خط مشيها المتوازن والمتماسك مع استيعاب حركة التغيير الواسعة في كافة الأبعاد والاتجاهات وفق مقتضيات ودواعي الحاجة للتطوير، التي تتطلبها بنيتها المادية والمعنوية على أن يكون ذلك ضمن أطرٍ وحدود بعيدة عن حالات الانغماس والذوبان التي تضيع فيها مشخصات الأمة ورموزها وعناوينها الأصلية الثابتة، أو بعبارة أخرى على الأمة أن تمارس حق الانفتاح الإيجابي بعد أخذ الجرعات الكافية لتحصين ذاتها، بما يحول دون انصهارها المطلق وإضاعة ماهيتها عبر التلبس بماهيات أخرى، أو التلون بألوان حضارية جديدة إلى حد الجزف بالجوهر والأصول والأساسيات.. إذ لا يمكن للانفتاح السلبي إلا أن يؤدي إلى ذوبان وانصهار مطلق في آلة المعلومات الغربية، كما إن القطيعة الكاملة لا تعني إلا تجاوزاً لكثير من المقتضيات والدواعي التعليمية والنفسية والاجتماعية، وقد يكون أفضل الحلول هو المواجهة الإيجابية التي ترتكز على الانفتاح المبني على التحصين الذاتي والاستعداد الذاتي والمناعة الداخلية، وهي عملية صعبة تحتاج إلى كثير من الوعي والتنظيم والعمل الجاد.

وليس الخطر فقط في وجود الأعاصير التي تعصف بقوة في أساسياتنا محاولة قلعنا من جذورنا، بل الخطر الأكبر هو في كيفية استجابتنا لهذه التحديات، ووعينا لحقيقة ما يمر علينا، إذ إن التاريخ هو مجموعة من التحديات والصراعات والتطورات تنتهي ببقاء الأصلح والأقدر على التغلب على المصاعب الطبيعية والتاريخية(2).

   العقل المسلم والتحديات الخطيرة:

لا غرو أن الطفرات التي يشهدها العالم، وبخاصة العالم الصناعي، على كافة الأصعدة، وما نعهده من تيار التغيير الجارف، الذي يكاد يأتي على كل شيء، إنما يمثل تحدياً خطيراً، لابد من مواجهته بما يناسبه من حيث القوة والحسم، ولكن ليس من رأس وعلى الفور، بل يلزم تهيئة جميع مستلزمات المواجهة والتحدي، من قبيل المؤسسات والبرامج التربوية والتقنية الحديثة التي يمكن أن تعطي الجرعات اللازمة لتحصين مجتمعاتنا ضد ألوان الغزو الأجنبي - الثقافي والاقتصادي والتقني و...- أو لا أقل السعي الجاد لتهيئة المناخات الضرورية التي يتم التعامل فيها مع الطاقات الإبداعية، والمواهب الإنسانية، والاتجاهات الفكرية، عن سعة، وروح منفتحة، ولا يتحقق ذلك دون المراجعة السريعة لواقعنا الراهن، وأوضاعنا المربكة. وبداية الطريق هي إيجاد الأرضية اللازمة التي يستطيع أن يقف عليها المثقف المسلم بشموخ وثقة، لكي يأخذ حيزه الطبيعي، ويعبر بشجاعة عن مكنونات نفسه ويتعاطى مع عالمه المعرفي بدون حجب أو قيود، ويقول كلمته في كل شيء بحرية تامة ومشروعية وسعة أقرتها شريعتنا السمحاء المقدسة، وهكذا إلى أن يتطور الحال بحيث نكفّ يد الاستبداد والديكتاتورية المسؤولة عن أكثر الاختناقات التي تشهدها بلادنا - طولاً وعرضاً - إذ إن عامل الاستبداد والسلطوية المتزمتة سببت حالة من تكدير المزاج الشعبي العام، وسد جميع منافذ الانعتاق والتحرر من القيود والمكبلات التي غالباً ما يوجدها المستبد حفاظاً على ذاته، واعتقاداً منه أنه يدوم سلطانه، ويطول عهده بالاستبداد، إذا ما مارس عملية تكميم الأفواه وكتم الأصوات، وجميع ما يمكن أن يساعد مواطنه على امتلاك الموقف المستقل، وبالطبع فإنه يخدمه في ذلك كثيراً الشخصية الخاملة الساكنة المتميعة التي لا تحسن سوى الانبطاح والاستسلام أمام التيارات الوافدة لتمارس عليه مزيداً من التسطيح والانسلاخ عن الهوية وكل ما يمت لها بصلة.

وبناءً على ما تقدم، ينبغي بدايةً التخلص من جميع الإشكاليات التي تقف في طريق المواجهة الحاسمة للتحديات الخطيرة التي تلمّ بواقعنا المتردي من كل صوب، ذلك لأن المواجهة إذا لم تكن بمستوى التحدي وأسبابه فسيكون حليفها الفشل القاتل لا محالة، وعندها سيتسع الخرق على الراقع، وستتسمّر الأعين على الوافد من الخارج، بل ربما تحصل القطيعة بين الفرع والأصل ليضحى الفرع بلا روح، وبلا أدنى استعداد للتلقي والاستقبال من ذلك الأصل..

فغاية ما هناك أن تكون هنالك مساع حثيثة لقراءة إشكاليات المواجهة، قراءة دقيقة تشخص جميع عوامل وهن واقعنا الحالي، ثم إبقاء القلوب واعية لترسم الخطوات الآتية لإبطال الأثر المخرب لهذه العوامل، عبر طريق متدرج في تربية وإعداد الأجيال وفق القواعد والمبادئ الحقة، باتجاه خلق مناخات طبيعية للعقل المسلم، ولعل أخطر عوامل الوهن تلك ما يأتي:

1- سيطرة حالة الاستبداد والدكتاتورية على مجمل النشاطات وخاصة النشاط المعرفي والإعلامي في بلادنا، حتى أصبح ذلك من سمات الأنظمة سياسيا واقتصادياً وثقافياً.

2- عدم وجود المؤسسات البنيوية التي تمثل القاعدة الأساسية التي تحتوي أفراد المجتمع في إطار فكري وثقافي منسجم وواع ومدرك للأحداث.

3- تغييب الآخر هو أحد الإشكالات التي برزت كواقع أخلاقي وسلوكي وفكري أدى إلى تضييع روح المنافسة والتطور وبالتالي إلى القضاء على الآخر بشتى الوسائل الإرهابية.

4- ضعف الخطاب الثقافي والإعلامي وعدم مجاراته للخطاب المبثوث في العالم.

5- التشتت والتفكك له دور كبير في تمزيق النسيج الثقافي الإسلامي المشترك.

6- انصراف النخب عن الاهتمام المركز بالتحديات الحقيقية وانشغالها بالجدل اللفظي، والحوار العقيم، وبالتالي عدم أداء دورها في توعية الناس بالأخطار الحقيقية(3).

   السعي أولاً نحو التكامل المعرفي

لا جرم أن المعرفة والنماء المعرفي؛ هي خير دواء لشر داء الذي هو الجهل، فقد ورد في المأثور من الأحاديث الشريفة أن (الجهل رأس كل شر)، ولذا فمن يرد خير البلاد وأهلها، عليه أن يسعى أولاً في التربية والتعليم، ومن ثم يأتيه كل ما يطلب بسهولة ويسر. فيا حبذا لو افترض المثقف المسلم - طالما أن الأمر لا يخلو من أخطار جسيمة - أن المستهدف أولاً وأخيراً بالغزو الثقافي الأجنبي هو الإنسان المسلم تحديداً وبالذات، ذلك أن الثقافة هي خطاب العقول، وعليه فإن الهجوم الثقافي الواسع يحمل خطاباً متعدد الأوجه والأبعاد، ومتلبس بمائة خطاب، وهو موجه إلى العقل المسلم بغية تذليله وتحويله إلى مجرد جهاز مستقبل مكدود ومحدود.. وبالطبع فإن الفكر الاستعماري الغربي يدرك جيداً مدى رسوخ العقيدة الإسلامية، وتمكنها في نفوس المسلمين، وحدود ثبات طقوس ورسوم الدين وسعة برامجه، وكثرة حيويته. وبهذا فالإسلام دين خالد، تنتهي الدنيا ولا ينتهي، فما على الغازي الثقافي إلا أن يستهدف المسلم، حيث أن الأكثر قد أضاع الدين أو قد عبد الله على حرف، وطبعاً لا يتأتى له ذلك إلا من خلال عمليات دعائية دقيقة في شكلها ومضمونها، ومعجبة في فنها، تظهر رونق الحضارة المادية الغربية، ولا سيما ذلك الجانب المثير الذي يخاطب الغرائز الحيوانية لدى الإنسان، عبر ظاهرة الكشف الجسدي ذات السحر والخلابة الخاصة، غير غافلين عن الاستعانة بالمساعدات الكيماوية!! التي تنشّط الغرائز وتزيدها اضطراماً، وهكذا تستمر المؤثرات التي تسوقها وسائل الدعاية تلك حتى تُردي الإنسان بسهام شهواته، أو قل حتى تتساقط العقول وتقع فريسة لجماح الشهوات، ولقد صدق الرسول الأكرم (ص) حيث قال: (الشهوات تجور على العقول والأبدان..).

وليس هناك دين سماوي شدد على طلب العلم ونبذ الجهل مثل الإسلام، حيث أن أول آية كريمة نزلت على رسول الله (ص) في غار حراء نزلت بهذا المنطوق: (إقرأ باسم ربك الذي خلق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم)، وآية(إنما يخشى الله من عباده العلماء) واضحة الدلالة على منزلة العلم وإكرامه في الإسلام، ثم حض الرسول (ص) على طلب العلم وبلوغ غاية مداه، ولو كلف الأمر عبور المفاوز، وترك الأوطان بقوله الشريف: (طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة)، ذلك أن العلم قد يكون سبباً للإيمان عبر التأمل والنظر إلى آيات الله في السماء والأرض، وكشف بعض جوانب الأسرار المبثوثة في الطبيعة، إلى غير ذلك مما يرشد الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق والإيجاد المدهش، كما قد أوضح الدين الحنيف من خلال آدابه وسننه عدم وجود حد كفاية في طلب العلم، بما يوجب التوقف وعدم النماء في هذا المجال الحيوي، وذلك بمقتضى دلالة الحديث النبوي الشريف (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد) مما يعني الاستمرار في التدرج بمدارج العلم وطلب أعلى منازله ودرجاته..

ولقد اعتبر الإسلام أن الخطر عليه وعلى الحضارة وعلى نمو الإنسان في هذا المجال يأتي من الشعور بالاكتفاء المعرفي، وعدم الحاجة إلى النمو والاكتشاف، وعدم الحاجة إلى المزيد من المعرفة، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم حكاية عن الموقف الجاهلي، بقوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، وهذا موقف خطر كالجهل، فكما إن الجهل يعطل النمو، فإن الشعور بالاكتفاء من العلم مصدر خطر أيضاً، وقد حذر الإسلام كذلك من المعرفة الناقصة، إذ إن المعرفة الناقصة تزوّر الحقيقة أو تجتزؤها، وحصيلة هذا هو الجهل.

إن الرؤية الإسلامية للمعرفة ووظيفتها في تطوير الحياة وترقي الإنسان، أصّلت مبدءاً إسلامياً في مجال العلوم والمعارف الإنسانية، ذلك المبدأ هو إنسانية العلم وعالميته. لقد جعل الإسلام الاستفادة من نتائج البحث العلمي حقاً لجميع البشر، ولم يحتكر الاكتشافات العلمية للمسلمين فقط، بل أشرك غير المسلمين في ثمرات العلوم وكشوف المعرفة، وهذه ميزة للإسلام ناشئة من أن الفكر الإسلامي وجد تعبيره الحضاري الأمثل في الكتاب وإطلالته على العوالم والحضارات الأخرى.

وهذا على خلاف ما نلاحظه في العالم الغربي من احتكار للمعرفة وثمرات البحث العلمي، بهدف الاستيلاء عليه وإخضاعه، وذلك في مقابل عالمية الإسلام وانفتاحه على الآخر بهدف مشاركته والاتحاد معه، وهذا سر الفرق بين أن الإسلام خرج من القبيلة إلى العالمية والإنسانية، وإن الغرب رجع من العالمية إلى العصبية القومية العرقية والعنصرية، وهذا سر الفرق أيضاً بين كون قوميات العالم الإسلامي والأمة الإسلامية إنسانية منفتحة، وبين كون قوميات الحضارة الغربية عنصرية منغلقة(4).

    الحضارة الإسلامية مركز القيم والإبداع المعرفي:

إذا نظرنا بموضوعية لأوضاع المسلمين في الوقت الراهن، وتتبعنا بصورة متسلسلة، متصلة الحلقات، متحدة الموضوع، بقدر يسير من التعمّق، لتبدّى لنا بوضوح أن عوامل الأزمة التي تعصف ببلاد الإسلام، إنما هي موجودة في الغالب تحت جنح المسلمين أنفسهم، حيث أن (الجسد الإسلامي) يعتريه الكثير من الاعتلال، أو قل صار مقطع الأوصال، بحيث صار - لاعتلاله - يتقبل الجرعات الكيماوية التي صارت تزرق فيه حتى ضعفت مقاومته الداخلية الأصلية، وآل أمره إلى وصفات أجنبية توهمه أنه صحيح، وتبعده عن الشعور بالمرض الحقيقي، وهو أخطر داء، حيث أن الصحة تقوم على شعور كاذب مخدّر ليس إلاّ. وهكذا بات كل شيء - تقريباً - يحيط بنا مصطنعاً غريباً، أو هو مصنوع يتبع مصنوعاً!.

إذن؛ مناط الأزمة الاجتماعية - المعرفية - الثقافية، ليس هو الإسلام ومبانيه الفكرية والعقيدية المتينة، إنما المناط في ذلك هو حال المسلمين وتفرقهم أيادً وطرائق قدداً، حتى حول الأصل الواحد الثابت، بل حول كل ما يمت للدين القويم اليسير بصلة..

وهكذا (فالمسلمون بعدوا عن الإسلام - ثقافة وعملاً - ولذا فقد تسلم القيادة منهم الغربيون.. وما دام المسلمون على جهالتهم بدينهم وتاريخهم، فهم باقون على الخلاف حول العمل الذي طلبه منهم الإسلام، لا يُرجى لهم التقدم والازدهار، لكن المظنون أن نوم المسلمين أوشك على التمام، وبوادر النهضة تلوح في الأفق، من بعد، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) (5).

ونحن عندما نؤكد الدعوة إلى تأصيل الذات، واحترام الأصول، والعودة إلى المظان الأصيلة للفكر، وتشذيب البناء المعرفي للأمة، وتكريس مبدأ احترام الذات.. لا نعني بهذه الدعوة قطع الصلة بالحاضر، والتوقف عن مجاراة المسيرة التطورية في شتى حقول العلم والمعرفة، وإنما نعني - بالتحديد - وقف الانبهار بحضارة هي في واقعها مدينة بالشيء الكثير للحضارات الأخرى؛ وهو أمرٌ يلازمه - كما يشهد الواقع - قبول وتسليم بكل ما يصدر عن الآخر - غثاً كان أم سميناً - ظناً بأنه هو الترياق الشافي من كل الأمراض والأوصاب! في حين الصواب أن يكون هناك انفتاح ذكي وواع على الأغيار، لا يتعدى حدود الفائدة والمصلحة المشروعة، انفتاح لا تضيع معه الذات في قالب غريب عنها، الأمر الذي يخشى منه أن يحدث ارتجاجاً يشمل حتى أسمى القيم وأنبل المعاني التي تزخر بها حضارتنا القويمة التي كانت في مرحلة تاريخية معينة تضم تحت جنحها العالم بجميع أقطابه العظمى وغير العظمى، يوم أطلت عليه بأرفع القيم وأسمى المفاهيم الحضارية، عندما كانت بحق مركزاً مبدعاً لهذه القيم والمفاهيم، وعندما كان المسلمون يحملون الإسلام، وليس العكس.

يقول الفيلسوف والمفكر الإسلامي روجيه غارودي في كتابه (ماركسية القرن العشرين): (ولئن كانت شعوب آسيا وإفريقيا لم تبدع علماً تقنياً في مثل جدوى ما أبدعنا، فلن يكون أقل قتلاً لروح الإنسانية في عصرنا من منعها على أن تستقصي وتحترم القيم التي أبدعتها شعوب أوقفها الاستعمار عن متابعة نموها وسلبها تاريخها).

ولذلك يؤكد غارودي - بعد إسلامه - أن (وعي الغرب بكونه مديناً للحضارات الأخرى هو الشرط الوحيد لإنقاذه من الانقراض)، ثم يقول في الرد على القاموس الشيوعي البائد الذي لا يرى في الدين إلا أفيوناً: (إن الإسلام هو الحل الوحيد لإنقاذ البشرية التي تقف الآن على المنحني الخطر في مواجهة المشكلة الجوهرية التي تفرض نفسها على كل فردٍ منا في نهاية القرن العشرين، ويتوقف على حلها احتضار العالم أو بعثه من جديد.. ) (6).

ثم إنه أمر ليس بمعجز أن يبحث المرء عن الدليل الصادق والبرهان الساطع، إذا ما أوقف عناد نفسه وكبح جماحها عن طلب الحقيقة ورؤية الحق، حتى تشف روحه ويستقر فكره، على أن يجمع أمره على السعي لبلوغ ركن الإيمان الركين..

يقول لورد هيدلي: (فكرت وابتهلت أربعين عاماً لكي أصل إلى حل صحيح، ولابد أن اعترف أن زيارتي إلى الشرق ملأتني احتراماً للدين المحمدي السلس، الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة طوال مدة الحياة، لا في أيام الآحاد فقط، وإني اشكر الله أن هداني للإسلام الذي أصبح حقيقة راسخة في فؤادي، فقد التقيت بسعادة وطمأنينة لم أعرفها من قبل.. أصبحت كرجل فرّ من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار، وأخذ يستنشق هواء البحر النقي الخالص).

ويشيد لورد هيدلي بالإسلام فيقول: (لا يوجد في الإسلام غير إله واحد نعبده، إنه أمام الجميع وفوق الجميع، وليس هناك قدوس آخر نشركه معه.. وإن المدهش حقاً أن تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة، فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية أن تحجب عن نظرهم رؤية السماء.. رؤية ربهم القاهر المتصل دوماً بكل مخلوقاته سواء أكانوا عاديين أم أولياء مقدسين..

إن تعاليم القرآن الكريم قد نفذت ومورست في حياة محمد (ص) الذي - سواء في أيام تحمله الألم والاضطهاد أم في زمن انتصاره ونجاحه - أظهر أشرف الصفات الخلقية التي لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها، فكل صفات الصبر والثبات في عصره كانت تُرى أثناء الثلاث عشرة سنة التي عاناها بمكة في البداية دون أن تتزعزع ثقته بالله أو يتراجع عن تأدية واجبه بشمم وحمية، كان (ص) مثابراً حامدا لا يخشى أعداءه.. وبما أننا نحتاج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطوات الحياة، فحياة النبي المقدس (ص) تسد تلك الحاجة، فهي كمرآة تعكس علينا التعقل الراقي والسخاء والكرم والشجاعة والإقدام والصبر والحلم والوداعة والعفو وباقي الأخلاق الجوهرية التي تكوّن الإنسانية، ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة) )(7).

فأين تذهب المذاهب بمثقفنا المسلم، وهو مطلبه قريب منه جداً؛ من حيث أنه ينتمي إلى أمة عريقة أسست حضارة إنسانية وفق نسيج قيمي دقيق، ونظام راقٍ في أدق شؤون الحياة، فجعلها على نسق تام، وهي بالجملة حضارة قوامها تربية وإعداد إنسان ينشر السلام والرحمة والفضيلة، ويسعى لعمارة الأرض، وخدمة المنفعة العامة، وتقديمها على المنفعة الخاصة، وتعلم العلوم، واكتساب المعارف، وجميع الأشياء التي تبتسم للحضارة، وتساهم في رقيها وتقدمها؛ وهكذا فالإسلام دين وحضارة عالمية لا تعرف الحدود أو الألوان أو الأعراق..

يذكر روجيه غارودي أن العالم في يومنا يعيش مأساة مروعة تتخذ لنفسها وجهين؛ الأول مادي وهو ما تعاني منه دول العالم الثالث، والآخر روحي وهو ما يعاني منه الغرب، الذي رفض روحانيات الإسلام، وهو أحوج ما يكون إليها، ورفض عقيدة التوحيد وهي العقيدة الصحيحة، فانتهى به الأمر إلى خواء روحي وتمزق وضياع بين أيديولوجيات وخرافات وأوهام لا تغني عنه شيئا.

لقد عادى الغرب الإسلام فأضر بذلك نفسه، وأساء إليها، وحال بينها وبين السعادات، بل كتب الشقاء عليها.

ويقول غارودي: (الإسلام ليس كفراً كما صوره المغرضون القدامى في الحروب الصليبية، وليس إرهاباً، كما صوره المغرضون الجدد أثناء حرب تحرير الجزائر، والإسلام ليس أثراً فنياً يشاهده المستشرق، ثم يصدر عليه أحكاماً مسبقة وظالمة. إنه الدين العالمي العملي الذي يقدم للإنسان نظاماً كاملاً شاملا لحياة إنسانية كريمة بكل مقوماتها واحتياجاتها، وليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن دنيا الناس).

ويضيف: (وليس أدل على عالمية الإسلام من نزوله على نبيه محمد بن عبد الله - (ص) - في مكة التي ثبت علمياً أنها سرة الأرض ومركز التقاء الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب وعلى السرعة التي انتشر وينتشر بها فقد وصل إلى الصين والهند، وغطى ما بينهما من بلاد، ثم اندفع حتى أفريقيا وأوربا، ومنهما اتجه إلى أقصى بقاع الأرض في هدوء وسلم وسلام، ولم يستعمل سلاحاً ولم يرفع سيفاً كما فعل الأوربيون الذين غزوا الأمريكتين، بأسلحة الدمار والهلاك، وفرضوا مبادئهم على أهلها بالعنف)(8).

   خاتمة:

وغاية الأمر أن العالم الإسلامي تتهدده جملة أخطار، عبر طرق شتى، وأهم خطر محدق به، هو الغزو الثقافي الذي يستهدف أول ما يستهدف غزو العقول المسلمة، عبر الخلط عليها والتشويش لحرفها عن وجهتها الطبيعية، علها تتناغم معه وتتجاوب مع أغراضه، وهذا أهم عامل مساعد لخلق أرضية خصبة تستنبت فيها الجبهة الثقافية المقابلة ما تريد لخدمة أهدافها التي في مقدمتها تمييع شخصية الإنسان المسلم، وجعله مستعداً لأن ينزع إسلامه كنزع القميص، وهو ما يتطلب مراجعة ومتابعة جادة لأسس البناء المعرفي العام، وتدعيمها بأشكال الدعم الفكري، وفق قراءات ناضجة تستفيد من التجارب المعرفية الحديثة، لكيما يرجى منها أن توفر أسباب الحصانة الذاتية للفرد المسلم، ومن ثم العمل على تشكيل المؤسسات البنيوية، وتنظيم هيكيلية محكمة تنظم أنشطة الأفراد، وتستوعب الطاقات والمواهب، وتصبها في قنواتها ومسالكها الصحيحة التي تخدم - مباشرة - اتجاهات الأمة، كما ينبغي عدم الغفلة عن نقطة هامة، وهي أن جميع ذلك يتعذر تحقيقه دون توفير المناخات والأجواء الصحية التي تنحسر فيها يد الاستبداد والتسلط التي تسد الطريق أمام تفجر الطاقات والخلاقيات، وتحد من نشاط الفرد، وتوجهاته المستقلة، طمعاً في إبقاء كل شيء في خدمة بقاء السلطة ودوامها، وبالطبع لا يتأتى ذلك إلا في إلفات أنظار الأمة، بصفة مستمرة، إلى حقيقة بسيطة مفادها أن صلابة العود تأتي من جذر ثابت، وأن ما يبنى على الفاسد، فاسد مثله، مما يستدعي حفظ وصيانة خصائصها، بما يبقيها أمة وسطاً شاهدة على الناس، وما التوفيق إلا بالله العلي القدير..

الهـــوامـــش :

(1) مرتضى معاش/ المعلوماتية استباحة الفكر وتدمير الذات/ مجلة النبأ، العدد51.

(2) المصدر السابق: ص16.

(3) مرتضى معاش/ المعلوماتية وآليات الاستيعاب، مجلة النبأ العدد52 ص24.

(4) محمد مهدي شمس الدين، مجلة الكلمة، العدد10 ص12.

(5) الإمام الشيرازي/ من التمدن الإسلامي ص5.

(6) أمينة الصاوي، د. عبد العزيز شرف/ روجيه غارودي وحضارة الإسلام/ ص9.

(7) المصدر السابق: ص8.

(8) المصدر السابق: ص32.