مــرتضــى معــاش   

 [email protected]

مع ازدياد المعلوماتية وتنامي الاحتكاك الثقافي في العالم، تبــرز جدلية مثيرة للتساؤلات والاشكالات، تقود إلى إبراز آراء متضادة في خصوص التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة في أشكالها والقديمة في وجودها الإنساني. فتسارع نمو طرق المعلومات السريعة أدى إلى وفورة الاحتكاك البشري والتلاقي الثقافي مما افرز وقائع جديدة في جوهرها، تؤدي إلى اندماج مكثف في كثير من القيم والاخلاقيات والسلوكيات، وهذا استدعى استنفار البعض من أجل إغلاق كل الأبواب أمام ذلك التلاطم الحضاري الفوضوي، إذ إن الانفتاح في ظل هذه الثورة الجامحة لا يعني عند البعض إلا الانجراف في هاوية الانسلاخ عن الهوية والانفلات من القيم وبالتالي الاضمحلال في ثقافات المد الغازية.

في إشكالية الانفتاح والانغلاق يبرز رأيان أساسيان يسيران في اتجاهين متعاكسين، رأي يؤكد على أولوية الانفتاح والانخراط في المسيرة العالمية والتطبع بمفاهيمها الثقافية الحديثة، من أجل البقاء في الركب العالمي، وتحديث الماكنة الاجتماعية لايجاد ديناميكية متفاعلة مع عالم ينشد التقدم باستمرار، ولو كان ذلك على حساب ضياع الكثير من الأسس والثوابت التي قامت عليها مجتمعاتنا. ومن خلال تتبعنا الحقيقة هذا الرأي فان هذا الاتجاه يعتمد أساساً على الحركة العملية التي تسير قهراً في طريق التحديث العالمي، دون وجود دراسات فكرية معمقة تتناول الأبعاد المختلفة والنتائج المتمخضة عن سلوك هذا الطريق ودون الاعتماد على فلسفة واعية تجسد المضامين الإدراكية الشعورية في السلوك الاجتماعي والفردي، وبعبارة أخرى فهي تنخرط في المجتمع الحداثوي دون وجود رؤية مسبقة ومتفهمة لهذا الانزلاق الخطير، ويظهر ذلك من خلال التحديث المقلد لمظاهر الحضارة الغربية، والتركيز على الأشكال الاستهلاكية دون محاولة لفهم جوهر التحديث.

وفي الاتجاه الآخر فان الرأي المقابل يواجه إشكالية أكثر تعقيداً وتناقضاً، عندما يرتد بشكل عنيف اتجاه نفسه ومجتمعه، ويغلق الأبواب على ثقافته، ويرفض تحقيق الانفتاح والتحديث بشكل مطلق، باعتبار أن الانفتاح ليس إلا أسلوباً جديدا تستخدمه القوى الكبرى لفرض سيطرتها الاستعمارية وتكريس مبادئ الاستغلال والتبعية. ولكن هذا الاتجاه يقع في مأزق خطير وهو عدم قدرته على استبعاد الثورة الحداثوية من حياته، فهي تحاصره من جميع الاتجاهات، لذلك تفرض نفسها عليه في مختلف جوانب حياته، فيضطر إلى استخدام أدواتها، فيقع أيضاً في مطباتها، مع بقاء التشدد في دائرة الشعور والرفض، لذلك يقود هذا التناقض الى وجود ثغرات كبيرة في الادراك والوعي والقدرة على استيعاب النتائج المتمخضة، وبالتالي يقود الى حدوث صدمات نفسية وفكرية تعجل بحصول ردات فعل عنيفة تنعكس بشكل مظاهر تشدد عنيف وتعصب ومواقف سلوكية غير صائبة.

إن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه الأمة، أدى في كثير من الأحيان إلى اختناق معظم المحافل الفكرية، وغياب المثقفين الواعين عن الساحة، وهذا بدوره انتج حلقات مفرغة ونفى التوازن الذي تحتاجه الامة والفرد لتجنب الانزلاق من جهة، ولايجاد القدرة على التكيف المناسب مع التطور والتغير الذي يهب على العالم، واستيعاب الصدمات النفسية التي يمكن أن يخلفها من جهة ثانية؛ لذلك فان افتقاد القدرة على التفكير المتوازن وعدم وجود منابع فكرية تزود الأمة بالأفكار السليمة، أدى إلى فراغ كبير انعكس على شكل انفتاح منفلت وانزلاقي وانغلاق متشدد عنيف.

فمع الانفلات تخسر الأمة ثوابتها وأصالتها، ومع التشدد والانغلاق تتحجر الحركة التطورية وتتخلف عن التكيف العالمي والاتصال الإنساني الضروري لجوهر الإنسان، لذلك لابد من توجه المثقفين والمفكرين لدراسة مفهوم الانفتاح من أجل رسم رؤى واضحة للأمة تستطيع من خلالها ان تتعامل بوعي وفهم مع حركة التغيير والتثقيف المتبادل.

الانفتاح ضرورة وحتمية

لا يمكن تصور أن يعيش الإنسان في كهف منعزل عن العالم، ولا يمكن تحقيق وجود انساني سليم دون أن ندرك الوجود الاجتماعي بكل صوره، فالإنسان خلق تكوينا ليعكس صورة الآخرين في أفكاره وسلوكياته وتنشئته، وكذلك وجد لكي يؤثر في الآخرين من خلال تجسد نفسه وروحه مع الآخر فكراً وأخلاقاً؛ فلا يمكن تصور البعد الإنساني إلا من خلال تماثله الاجتماعي وانعكاس الآخر فيه، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(ع): الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

إن القول بأن الإنسان حيوان اجتماعي لايعني وصف طبيعته بأنها عارضة طارئة بل هي جوهرية تميز كنه ما هو بشري، فنحن لا نستطيع أن نكتفي بالحياة مجرد الحياة، ولا نستطيع أن نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية، وفي هذا يقول مورييس جودليير: إن البشر نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى حياتهم ليست مجرد حياة في مجتمع وانما هم ينتجون المجتمع ليعيشوا فيه(1). ولهذا لا يمكن للفرد أن يرى تحقق نفسه وفكره الا من خلال مرآة الآخرين؛ إذ إن الكثير من الأفكار هي قواسم مشتركة تبرز عبر الإدراك الجمعي التفاعلي، فالفرد يستطيع أن يكتشف علاقاته في الحياة من تواصله المشترك مع الآخرين، ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا إذا عرفنا أنفسنا في علاقاتنا بالآخرين(2).

وروي عن الامام محمد بن علي الباقر (ع): (صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر).

فكيف يمكن للفرد أن يحقق وجوده الاجتماعي ما لم يكن منفتحا على الآخرين ومتواصلا معهم من مجتمعه الصغير إلى المجتمع العالمي الكبير خصوصا عندما تترابط المصالح والافكار بشكل معقد؟.

ويحصل الاحتياج إلى الآخر في الإنسان بشكل واضح من خلال نمو الإنسان المعرفي وحاجاته الفكرية والعلمية، فالفرد منذ بدايات تكوينه الجنيني تتحرك فيه دوافعه لتلقي المعرفة من الآخرين وينشأ تدريجياً على ذلك، فالآخر هو اندماج حتمي مع الذات وتوكيد لوجوده الخارجي والإنساني، وفي ذلك تؤكد كاترين لوجوثيتي بأن الطفل حديث الولادة يمكنه أن يحاكي تعبيرات الأشخاص، وأن يتبادل معهم المشاعر، إذ إن الذكاء الثقافي البشري مؤسس على مستوى ترابط العقول أو الذاتية المشتركة على نحو لا نجده لدى الأنواع الأخرى، ويكشف ذلك عن قوى وحاجات عامة وشاملة للعاطفة والتواصل والتي تعد ضرورة لازمة للتنشئة الاجتماعية السوية وللنمو المعرفي السوي(3).

ويفيد نمو مخ الطفل من الانفعالات المتولدة عن مثل هذا التواصل، إن الطفل لديه في عقله تنظيم ثنائي من(الذات+ الآخر) وإن هذا التنظيم مهيأ للتواصل مع المشاعر التي يعبر عنها طرف آخر حقيقي(4). لذلك فان معارف الانسان والمجتمعات والحضارات لا تنمو ولا تتطور إلا من خلال انفتاحها على الآخرين، وتواصلها مع الثقافات الأخرى، لأن الانفتاح يعطي قدرة متشكّلة من جانبين لقراءة أفكار الآخرين؛ والاستفادة منها، وقراءة أفكار الذات من خلال ما يفرزه الاحتكاك الإيجابي من انعكاس متبادل على الفكر. فالعلم لا ينمو بالانقطاع والانغلاق بل العلم يحيى ويتكامل من خلال اتصاله وانفتاحه؛ إذ بالتفاعل يتحقق الإبداع، ويتحرك التنافس الإيجابي، وتنفتح آفاق جديدة للفرد مجتمعا وحضارة، وهناك روايات كثيرة تؤكد هذا المعنى العميق لمفهوم العلم والمعرفة، فعن الإمام علي بن أبي طالب(ع): (كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فانه يتسع به). وعن رسول الله(ص) قال: (كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها). وقال الإمام الحسن بن علي (ع): (علّم الناس وتعلّم علم غيرك فتكون قد اتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم).

ويعتمد مقدار تقدم المجتمعات على مستوى تواصلها الواعي مع الحضارات الأخرى، فكلما كان تواصلها مستمراً على الاستفادة من إيجابيات الآخرين، كلما كانت اكثر قدرة على تحقيق النمو الحضاري المطرد، ولهذا فإن الرصيد الإنساني الحضاري ما هو إلا محصلة عطاء روافد الحضارات المتعددة بل المفروض أن حضارة أي مجتمع إنما تثري نفسها بالاحتكاك والتفاعل مع الخصوصيات الحضارية للمجتمعات الأخرى(5). يقول تعالى في كتابه الحكيم: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)(المائدة48).

فالحياة تكوين قائم على الانفتاح الإنساني لتحقيق التواصل الاجتماعي والتعايش البشري المراد لبناء مجتمع إنساني يحقق الغايات الإنسانية في الاهتداء والتكامل؛ ذلك أن التكامل هو عملية تفاعل متبادل تتحقق بعد ذلك التقارب والتفاهم، للتوصل إلى غايات مشتركة تقود نحو التعايش السلمي، وضمان الحقوق والمصالح المشتركة، بعيداً عن الصدام والنزاع والحرب. يقول الرسول (ص): (رأس العقل بعد الإيمان بالله التحبب إلى الناس).

فالانفتاح هو ضرورة حيوية يفرضها الواقع الحتمي لاجتماعية الإنسان من أجل تحقيق الاتفاق المشترك من أعلى مستوياته وصولاً إلى الاتفاق العالمي المشترك، لان الانغلاق سوف يبدد القواسم المشتركة ويجعل الحياة على الكرة الأرضية مجرد جزر منعزلة عن بعضها، تعيش في اكثر أحيانها الحرب والقتال، كما إن هذا الأمر ينطبق على الإنسان نفسه عندما يتعامل بانغلاقية مع الآخرين، وقطيعة تؤدي إلى فقدان الاتفاق المرجو لتحقيق الوجود الاجتماعي السليم.

الإسلام وجوهرية الانفتاح

إذا كان الانفتاح الإنساني ضرورة معرفية وحتمية اجتماعية، فان الانفتاح الذي يهدف الى التواصل من أجل العطاء المعرفي والأخلاقي هو جوهر حركة الإسلام في هداية الناس الى القيم الإلهية والأخلاقية، من أجل بناء الحياة في اتجاه مستقيم بعيداً عن الانحراف والسقوط. فالإسلام دين قام أساسا على التوسع المعرفي تجاه الآخرين، عبر مفاهيم الاهتداء والحوار والاحتجاج؛ لذلك فإن أغلب آيات القرآن هي صور حوارية بين مجتمعات تختلف في اتجاهاتها وتلتقي في حاجاتها للوصول إلى الحقيقة، فمن جهة نجد أن هناك دعوة قرآنية للانفتاح في الأرض عبر الحركة الجغرافية المتمثلة بالهجرة، وعبر الحركة التاريخية والمعرفية التي تمثلت بالدعوة نحو السير ودراسة الأمم واكتساب العبر والتأمل في آيات الله، حيث يقول تعال: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (الحج46).

الانفتاح كظاهرة سلبية

إذا كان الانفتاح حقيقة اجتماعية محتومة تفرضها الحركة التغييرية المنبعثة من جوهر الحياة الإنسانية، فان ذلك لا يعني أن الانفتاح يمثل حالة مطلقة في ايجابيتها؛ إذ هي كمفهوم مجرد تمثل حالة محمودة في قيام المجتمع البشري، ولكن عندما تدخل ميدان العمل التطبيقي، فإنها قد تتدثر ببعض الصور السلبية التي تعكسها الممارسة السيئة، فتنتج ظواهر سلبية بحيث لا تتحقق الغاية الأساسية من عملية الانفتاح؛ خصوصاً عندما يستخدم البعض الانفتاح كوسيلة للانسلاخ من الأصول والثوابت التي قامت عليها حضارتنا، إذ إن الارتداد العنيف الذي حصل بسبب الاحباطات والهزائم جعل البعض يحمّل التراث الأصيل جميع تبعات التخلف والانتكاسة، وهذه الهزيمة الحضارية في معترك الفكر والحضارة هي أسوأ الهزائم، لأنها هزيمة نفسية وحضارية تجعل الفرد أو الجماعة تنسلخ من واقعها لتذوب في حضارة الأمم الغالبة. وتشكل الانتكاسات عنصراً أساسياً في الانفتاح المنفلت الذي لا يقوم على شروط موضوعية؛ فيفقد الانفتاح خصائصه الجوهرية البناءة وغايته الإنسانية، ليتحول إلى عبء يثقل كاهل المجتمع باختراقات وانشقاقات؛ إذ إن الانفتاح في صور الانفلات، وفي حضور الهزيمة، يتحول إلى حالة تبعية عمياء لاشعورية، تقود للقبول المطلق بكل تراث القوى الغالبة، دون وجود حالة تمحيص أو نقد أو وعي، لذلك فإن التبعية لا تتفق مع الانفتاح لأنها لا تحقق التفاعل المتبادل. يمكن اكتشاف الانفلات التبعي من خلال ذلك الانفتاح الاستهلاكي الذي تحول إلى حالة محمومة يعيشها العالم بشكل عام وبلادنا بشكل خاص، إذ لم يكن الانفتاح الاستهلاكي سوى انفتاح سلبي يكرس التبعية، ويستورد القيم الإباحية والمنفلتة، ويربي الفرد والمجتمع على الحالة النهمية في عادات السلوك والطعام والشراب، عبر دعايات إعلانية مكثفة تغسل أفكار الناس لتسويق سلعها بأية صورة كانت؛ فالانفتاح الاستهلاكي بالإضافة إلى تكريسه لقيم الاستهلاك الأعمى، يكرس قيماً أخلاقية ترتكز على الكسل والرخاء والترف وعدم الفاعلية؛ وهذا كله ينفي الغاية من الانفتاح البنّاء، لأن الهدف الأساسي منه هو تحقيق التواصل من أجل الإثارة المعرفية، والتنافس الحركي، والاستفادة الإيجابية من عناصر التقدم التاريخي، وكل هذا لا يتحقق في الانفتاح الاستهلاكي، إن هذا النوع من الانفتاح يقود إلى الانحطاط والتفسخ.

الانغلاق والانكفاء عن العالم

ما الذي يجعل بعض الأفراد أو المجتمعات أو الحكومات تحارب الانفتاح وتغلق الأبواب على نفسها في حصون منيعة، وتقطع كل أنواع التواصل البشري والاجتماعي مع العالم..؟

إنها لحظة خوف اعتصرتها الهزيمة فتحولت إلى هاجس وسْواسي، ونوبات شعور شديد بالضعف والمرض، وعجز متراكم عن فهم العالم والتكيف مع تطوراته المتتالية، لينتج كل ذلك صدمة نفسية ارتدت بشكل عنيف إلى انغلاق متشدد يرفض الانفتاح في حياة تأبى على الإنسان أن يعيش دون أخيه الإنسان.

إن الحضارات والمجتمعات التي تنمو في ظرف الانغلاق، تصبح ضعيفة غير قادرة على دخول معتركات الحياة، وغير مؤهلة لحياة بشرية اعتيادية، لذلك يشتد انغلاقها، وعندما تستنفذ انغلاقها، وتتغير أجيالها، وتفقد عناصر وجودها، تنفلت بقوة لترتمي في أحضان الآخرين، تابعة ذليلة ومقلدة عمياء، ومخمورة بقيم الغالبين، مولهة بانتصاراتها عاشقة منبهرة بأمجادها، وهذا قدر المنغلقين، إما إفراط متشدد أو تفريط منفلت؛ وخير مثال على ذلك الدولة العثمانية التي عاشت قرونا طويلة من الانغلاق الفكري والتشدد الديني المتزمت، تحولت فيها البلاد إلى مرتع للجهل والاستبداد والظلم والفساد - لتقع بعد أن سقطت أسوارها الوهمية - في أحضان الحضارة الغربية، لتصبح مجرد ربيب يتغذى بقيمها ويعيش على تبعيتها.

إن الهروب من الحاضر، والعيش الإرادي في جيتو منغلق، يؤدي إلى انحسار الثقافة وتحوصلها وتحجرها أو ربماتموت، وقد كان هذا التقوقع في العصور السابقة ممكناً، ولكن في عصر المعلومات تعجز الحصون عن صد هذه الهجمات، وبعد انهيار الحصون ينفرط العقد وتسقط القيم وتتحول العزلة إلى عزلة نفسية هي اقرب منها إلى المرض أو الموت(6).

فالانغلاق يجعل الفرد أو المجتمع ضعيفاً وغير محصن أمام الهجمات الغازية، بينما الانفتاح المتوازن يعطي الفرد الحصانة الكافية، ويحفظ توازنه أمام معطيات التبادل المعرفي والتعايش المشترك.

وفي معظم الأحيان فإن الانغلاق هو وليد مجموعة من العوامل، أهمها وأساسها هو الجهل، وهذا يعني أن المنغلق يعتمد على مجموعة قواعد فكرية هشة لا يستطيع أن يواجه بها الآخرين، فنرى أن مشركي قريش يرفضون الحوار مع الرسول الكريم (ص)، لأنهم لا يمتلكون القوة لذلك؛ فيتهمونه بأنه ساحر أو مجنون، فالمجتمعات التي ركبها الوهن والعجز الثقافي تحارب الآخر لأنه يشعرها دائما بالضعف، فتخاف أن تتواصل معه خشية أن يغزو أفكارها ويحصد أفرادها، فتسور كيانها ضد كل أنواع الاتصال حتى لا تتعرض للاختراق الفكري والثقافي، وتحول دون اندساس أفكار ورؤى تعتبرها مضرة(7).

إن الآثار التاريخية للانغلاق تبدو تأثيراتها بشكل واضح على ذلك الضعف العلمي والحضاري وتوقف الإبداع الفكري، إذ تحولت المدارس الفكرية إلى مجرد عناصر مقلدة تجتر إرث الماضي بعد أن فقدت احتكاكها الإيجابي مع الحضارات الأخرى، فالانغلاق يقود نحو التحجر والجمود وعدم الإنتاج، ومن ثم يصبح الفرد عبئاً ثقيلاً على المجتمع عندما يفقد المجتمع بذلك عناصره الإنتاجية المتدفقة؛ فالعزلة ستقود حتماً إلى فناء الفرد واضمحلال المجتمع، واكثر المنعزلين قد واجهوا هذا المصير، لان روح الإبداع والخلق والإنتاج قد ماتت فيهم؛ ففي رفض الآخر رفضا مطلقا دعوة إلى مخاصمة كل الثقافات المعاصرة، والاستهانة بها، والاستدبار عن التعرف العلمي والموضوعي على الحضارات الحية(8).

ويغلف معظم المجتمعات أو الجماعات المنغلقة سوء ظن أو ضعف تقدير تجاه الآخرين؛، لذلك لا يستطيع المجتمع المنغلق أن يفهم الآخر فهماً سليماً، وهذا يقوده باستمرار إلى خلق صراعات وصدامات تؤثر سلبا عليه وعلى الآخرين، كما قد تجعله عاجزا عن إدراك حركة الحياة، وغير واع لعناصره، لذلك يسيء فهمها ولا يصل إلى إدراك الحقائق والوقائع في معظم الأحوال. وفي أي حال عندما يخرج الفرد من دائرة انغلاقه الطويلة ويشعر بأنه أساء التقدير للكثير من الأفراد ولم يفهم بشكل سليم الكثير من الحقائق، يصاب بصدمة نفسية فيفقد توازنه الادراكي الذي يجعله غير مصيب عندما يسيء الظن بكل ما كان يعيش في إطاره، ويحسن الظن والتقدير بشكل مطلق بكل ما كان يعاديه.

معطيات الانفتاح المتوازن

لاشك أن الانفتاح بحد ذاته قادر على منح الإنسان الكثير كي يستطيع أن يتعلّم ويثري نفسه عبر تلقيه ما يقوده نحو بناء نفسه، وإحداث التقدم في حياته، إذ إن التواصل مع الآخرين يجعل الفرد والمجتمع في ناصية الاحتكاك المباشر الذي يثير روح الحركة والحيوية؛ لذلك فإن أغلب الحضارات المتقدمة هي التي كانت على طول الخط في دائرة الاحتكاك المباشر مع الآخرين، وهي التي تستطيع أن تسترجع باستمرار عناصر النمو والتقدم والفاعلية؛ ومن هنا فإن الانفتاح يمكن أن يثمر مجموعة من المعطيات الإيجابية.

1- القدرة على فهم الآخر والتجاوب الفعال معه، فالإنسان هو أخو الإنسان، ليس من ناحيته البشرية والخلقية فقط وإنما من ناحية الانعكاسات المتبادلة والتأثيرات المشتركة، فالحضارة الإنسانية هي مجموعة تفاعلات مشتركة تعتمد على التفاهم والتعايش البشري، تقود إلى غايات إنسانية تتفق عليها الفطرة الإنسانية ويسير نحوها العقل لبلوغ الكمال والتكامل. ومع انقطاع خطوط التواصل الإيجابي، تنقطع الغايات الإنسانية، وتنشأ حالات من سوء الفهم وعدم القدرة على فهم الآخر بصورة سليمة، مما ينعكس على شكل عداء مبطن بسوء الظن وظاهر بأشكال عدائية عنيفة مختلفة. وإذا أردت أن تكتشف اغلب الصدامات والنزاعات تظهر لك صورة واضحة عن عدم وجود انفتاح مسبق يستمد إيجابيته من حوار متبادل يسعى لفهم الآخر وأهدافه ومصالحه.

إن فهم الآخر عبر الانفتاح عليه، يزيل الكثير من التشوهات التي خلّفها الزمن المنقطع فحولها إلى جبال متراكمة من الحقد والعداء، وكذلك فان الانفتاح على الحضارات الأخرى يعطينا الأسباب المعرفية للوقوف على روح التقدم الذي تعيشه، ويثرينا بتجارب ايجابية بناءة كما انه يفتح علينا أبواب السلام والتعايش معها؛ وبالتالي يمكن تجاوز الكثير من الصراعات التاريخية القديمة عبر الانفتاح عليها وإيصال وجهات نظرنا الصحيحة والتي ينقلها البعض بصورة مشوهة ومغلوطة. يقول الإمام الرضا (ع): (رحم الله عبدا أحيا امرنا، فقلت (الهروي) له: فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا).

2- الانفتاح قوة؛ إذ كيف تستطيع الأمة أن تدخل معترك الصراع الحضاري، وهي لا تمتلك تجارب غنية تساعدها على التعامل باستقلالية مع الآخرين؟، وهي في ذلك إما أن ترتمي في أحضان الأقوياء وإما أن ترجع إلى داخلها متحصنة منغلقة وفي كلتا الحالتين تزداد ضعفاً وهشاشة، لكن الانفتاح المتوازن يعطيها القدرة والتجربة على التعامل النّدي وتساهم في تقوية البنية الفكرية والاجتماعية العامة.

3- الانفتاح يقود إلى آفاق جديدة، تتحقق عبر الهجرة الجغرافية والنفسية والفكرية إلى عوالم أخرى يمكن أن تمد الفرد والأمة بالكثير، وكذلك يمد الفرد المؤمن الآخرين بالكثير من المعطيات الإيمانية التي يمتلكها عبر تجسيد الرسالة التي يحملها سلوكياً وفكرياً، فالغرب اليوم متمثلاً بشعوبه؛ يمتلك أسباب القوة التقنية والمدنية، ولكن يحمل عداءً كبيراً للمسلمين نتيجة لعدم وجود قنوات التواصل الثقافي والحواري؛ مما يخلّف تراكمات سلبية تنعكس بأشكال عدائية. لكن الانفتاح يخلق آفاقا جديدة نكتشف فيها أبعاداً جديدة من الحيوية والتطور، وفي نفس الوقت يحرك عملية التبادل الثقافي التي تتحقق عبر فهمه للإسلام كدين حضاري يحمل الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية التي يفتقدها. لذلك نرى أن الإسلام قد انتشر بشكل كبير في الغرب نتيجة لهجرة المسلمين وتعرف الناس على حقيقة الإسلام، وان كان الانتشار ضعيفا على مستوى الطموح الكبير لعدم تنظيم المسلمين أنفسهم بشكل اكثر تكاملية وجدوائية، ولكن المستقبل قد يحدثنا عما قريب عن انتشار الإسلام في الغرب بشكل واسع، خصوصا عندما يستثمر المسلمون عنصر الانفتاح الايجابي والتواصل الحواري.

4- الانفتاح يثير الإبداع ويحقق الجديد، فكيف يمكن توقع الإبداع من الفرد دون وجود عوامل تستثير الإنسان وتحركه نحو العطاء الخلاق؟، فالانغلاق يميت الروح الإبداعية ويوقفها عن النشاط الحيوي بعد أن تفقد مستثيراتها؛ لذلك نرى أن أغلب الحضارات أبدعت وأعطت عندما واجهت تحديات وإبداعات الآخرين، فالتواصل الفكري يغني بالأفكار الجديدة، وعندما تواجه إبداعات الغير مواجهة استنكارية، فهذا يقود إلى قتل الإبداع في داخلي لأنه بنكران إبداع الآخرين اقتل روح التنافس في فكري وروحي(9). وكذلك فإن الحاجة الإنسانية المستمرة لإيجاد التكيف السليم والصحي في الحياة تستدعي من الأمة والفرد البحث عن الجديد لتنشيط كيان الأمة، فليس كل جديد هو أمر مرفوض - كما يرى البعض ذلك - بل لابد من متابعة الجديد ووضعه في دائرة النقد والتمحيص من أجل استخراج العناصر النافعة منه. وقد وردت روايات كثيرة من التراث الإسلامي الشريف تحث الإنسان على طلب الحكمة من الآخرين والتزود من علومهم ومعارفهم؛ منها ما ورد عن رسول الله (ص)قوله: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها). وعن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال: ( الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها). وكذلك عنه (ع): (خذ الحكمة ممن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال). وعن المسيح (ع): (خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقاد الكلام).

شـــــروط الانفتـــاح

قد يتحول الانفتاح إلى سلاح ذي حدين عندما يكون هذا الانفتاح متجسداً باستيراد القيم الفاسدة والاخلاقيات المريضة والاستهلاكية النهمة والتبعية الاقتصادية والسياسية، وعندما لا تتوفر فيه الشروط الموضوعية التي تحقق التوازن الواعي في عملية التبادل الثقافي، لذلك لابد من تحقيق تلك الشروط في كل فرد ومن ثم في الأمة للاستفادة من هذه الحالة بشكل إيجابي؛ ومن هذه الشروط:

1- الثقة والإيمان الوثيق؛ فمع الروح الانهزامية، وفقدان الثقة بالنفس، التي هي نتيجة أساسية لعدم الثقة بالله والثقة بحضارتنا وتراثنا، يتحول الفرد إلى مجرد تابع مطلق للآخرين، لكن إيمان الإنسان بالله وبنفسه وقدرته، بعد أن يتسلح بالعلم والمعرفة الواعية يجعله قادرا على فهم عملية الانفتاح بشكل متوازن دون إفراط أو تفريط، فعن الإمام الصادق (ع): (ثق بالله تكن عارفا).

2- التوازن في الانفتاح؛ إذ إن عملية الانفتاح هي عملية تبادلية تعتمد على الأخذ والعطاء، فلا يمكن القبول بكل ما يفرزه الآخرون من نتاجات دون وجود انعكاس مباشر، ودون عملية تمحيص ونقد، وبنقدنا للآخرين نقداً موضوعياً نستطيع أن نفهمهم بشكل واضح، وان نتعامل معهم على ضوء هذا الأفق النقدي التبادلي؛ لذلك نرى أن الغزو الاستعماري لم يكن مجرد عملية اتصال استعماري، أو عملية تبادل تأثير قيمي حُر، أو تفاعل متكافئ بين مجتمعين يقفان على مستوى متماثل أو متقارب من حيث السيادة وحرية القرار واستقلالية المواقف، بل إنه انعكاس دقيق لعملية غزو حضاري في محاولة لفرض قيمها على هذه المجتمعات(10).

إن ما نراه اليوم في الكثير من المناطق في عالمنا الإسلامي، هو انفتاح سلبي غير متوازن يعتمد على التلقي فقط من الآخرين دون وجود استجابة انعكاسية تعتمد على النقد والحوار، وهذا النوع من الانفتاح خطير يؤدي إلى مسخ هوية الأمة حضارياً ويقضي على روحها الإبداعية، ويوقف نشاطها الحيوي المتبادل.

3- المؤسسات كبنية للانفتاح، يمكن أن تؤدي دوراً كبيراً في عملية الانفتاح المدروس، حيث يحصن الفرد بشكل جيد على النقد الواعي في عملية التبادل؛ فالفرد عندما ينمو في مؤسسات تربوية ناضجة ينمو وهو يمتلك الأسس والثوابت التي تجعله قوياً في معترك الاتصال، واللقاء مع الآخرين، وهذه المؤسسات التي يجب أن تكون ديمقراطية في سلوكها وتوجهها، وتعتمد على التنوع الإبداعي الفعال تستطيع أن تربي الفرد على قيم متنوعة ومختلفة ومناهج معرفية شاملة بحيث يمتلك الفرد ثقافة نوعية أساسية تكون في جوهرها ثقافة انفتاحية على الآخرين وفي أسلوبها هي مواجهة ندية وموضوعية.

لا يمكن لنا أن نبقى نجتر التخلف، ونسكن خلف الكواليس، فالانغلاق لا يزيدنا إلا بؤسا وجهلا وتبعية، والانفتاح يفتح أمامنا آفاقا جديدة يمكن أن تتمخض في المستقبل التاريخي المنظور عن ولادة نهضوية متوازنة تتمسك بالأسس والثوابت وتتطور وتتقدم بالجديد والحديث.

الهـــوامـــش :

(1) مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟، ص 19، عالم المعرفة 229.

(2) المصدر السابق، ص20.

(3) المصدر السابق، ص90.

(4) المصدر السابق، ص92.

(5) حسين معلوم، مجلة الفكر العربي ص183 العدد 93.

(6) مجلة النبأ، العدد 47، ص 14.

(7) المصدر السابق.

(8) المصدر السابق، ص 16.

(9) مجلة النبأ، ص15، مصدر سابق.

(10) مجلة الفكر العربي، ص185، مصدر سابق.