1

 التـــربية الشبــابيــة وأنمــاط التنشئــــة

محــمـــد خــالــد

من أجل أن نرتقي إلى صياغة واعية لأسس التعامل مع المنطق الجديد الخاضع لخصائص وشروط التنشئة الحضارية وبغية الوصول إلى قيم التفعيل الجاد والتكامل المتماشيين مع مصلحة الأمة، لابّد من مواجهة حالات التحدي المتشعب الذي خلفته المتغيرات الجديدة للغزو العولمي الساعي لاحتواء العقل العربي والإسلامي في كافة مجالات الحياة، ونظراً لما يمثله الشباب كونهم الطليعة الأكثر جدارة في تحمل أعباء المجتمع، ذهب التربويون والمتخصصون في علم الاجتماع لمناقشة جملة من الافتراضات والمسلمات التي لابّد من الإشارة إليها وفق طبيعة ما تقتضيه المؤثرات العالمية الجديدة، لإرساء معالم الأسس والقواعد الثقافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية المنسجمة أساساً مع تركيبتنا الإنسانية الأصيلة عبر تحصين الناشئين من أخطار التسطح وقولبة السلوك من خلال توسيع قاعدة الانتشار الثقافي والتربوي للتكيف مع حالات المنافسة الشاملة وبالاعتماد على مناهج وبرامج معرفية متنوعة لتجاوز مخاطر وتحديات الهيمنة العلمية لمنابر الثقافة والأدب والأخلاق والمعرفة التي تسعى لطمس معالم ثروتنا الإبداعية وتسطيحها وفق تقنية عالية لاستعراض نفوذها والتغلغل بين أوساط هذه الشريحة على وجه التحديد. .

لهذا اصبح من الضروري غرس قيمة الزمن والإنتاج وتقدير الذات لإمكانياتها، مع دراسة نتائج الضرر الحاصل للطاقة المعطلة - كل في مجاله - بما ينسجم مع ظروف وتكوين الشخصية الشبابية؛ للارتقاء بهذه الفئة الواعية لمصاف الجهاد الأكبر؛ من اجل أن تبقى الهوية العربية والإسلامية محافظة على استقلاليتها وشروط نموها؛ وعلى هذا تصبح المواجهة أمراً شاقاً وعسيراً يتطلبُ روحاً إيمانيه تكرس جلْ اهتماماتها للحفاظ على منبرها الأصيل وقدرتها المتماسكة، وهذا برمته يتطلب فرداً وعائلةً ومجتمعاً ومؤسسة لغرض استيعاب الاختراقات الشاملة؛ لهذا فنحن مسؤولون عن رسالتنا التي حملها الذين من قبلنا، مسؤولون عن هذه الأمانة مسؤولية تاريخية وحضارية شاملة تحتاج إلى دراسات مستديمة تستلهم عناصر القوة والقيم في تأريخنا وتراثنا وهويتنا العربية والإسلامية؛ ولهذا فأن مفهوم التربية الحديث يسعى إلى جملة من القضايا والمرتكزات التي من أهمها:

1- توسيع دائرة الانتشار الحضاري والمعرفي للمؤسسات الإنمائية والتطويرية على اختلاف أنواعها.

2- تطوير الشخصية المسلمة، من خلال تحليل مقوماتها وقدراتها الإنتاجية.

3- توزيع البرامج على أساس التوعية الثقافية والروحية (النفسية) والبدنية (الصحية)، لامتلاك منهجية قادرة على التحليل والتصور وفهم جوهر العلاقات والتحولات، وخلق لغة التفكير النقدي الشامل والعميق، ناهيك عما ذهب إليه البعض في دراسة إمكانيات تغيير بعض المناهج الدراسية، أو إضافة مناهج أخرى لما تقتضيه ضرورة التفعيل في مجال البنى الارتكازية للمجتمع بشكل عام؛ وبهذا تصبح القدرة الفاعلة نمطاً أساسياً من أنماط التنشئة الثقافية والاجتماعية للبناء الإنساني بما يرسي قاعدة جديدة للمكون الحضاري الفاعل بكل مجالاته؛ فيما يتعلق بمستويات الاعداد الذهني الذي يطلق عليه تربية العقل بالإضافة إلى الاعداد الروحي والنفسي بما يؤهل هذه الشريحة المهمة لمواجهة الضغوطات الحياتية بنتيجة ما تخلقه مؤثرات الوضع الحالي.

أسس التربية ومقــوماتها

نظراً إلى المتغيرات الواقعية التي برزت في ملفات البنية الثقافية والاجتماعية للشخصية الشبابية بناءً على المؤشرات الاحصائية المتعلقة بالتعليم؛ كونه الوجه الأنصع من وجوه المعرفة، وكونه أحد أهم الوسائل الفعالة في التربية، فيتضح عندئذِ معنى التعريف الذي قال به (جولد سيمون) بأن التربية هي التي تكون أداة إلى النمو العقلي وازدهار النفس بالأخلاق الفاضلة، وكذلك ما قاله (جون ستيوان) بأن كلمة التربية إنما تطلق على الثقافة التي يسلمها كل جيل لما يتلوه من أجيال لتزويد الناشئيين بما يقومهم ويرفعهم إلى المستوى الذي وصل إليه آباؤهم ـ أما مصطلح التربية لغوياً فمأخوذ من ربّ ولده والصبي، يربّه رباة؛ أي أحسن القيام عليه حتى أدرك وفي الحديث (لك نعمة تربّها) أي تحفظها وترعاها.. ترى ما هي أهداف التربية والتعليم وما هي الطرق المتبعة في تقدير مستوياتها؟.

التربية والتعليم على مستوى الأهداف

لقد قررت الفلسفات المتخصصة في حقول الفلسفة والاجتماع جملة من الأهداف التي تؤدي إلى خلق مجتمع منظم وواعٍ، حيث يرى أفلاطون أنه من أغراض التربية أن نطلق سراح الجهلة، ونحرّرهم من أغلالهم، ونخرجهم من عالم الظلمات إلى عالم النور.

وقد انشطرت الآراء حول مفهوم غايتنا من التعليم والتربية إلى ثلاثة محاور وهي:

1- الأهداف الروحية: كونها؛ أي التربية تسعى لتطهير الذات الإنسانية وتهذيب الأخلاق تهذيباً معرفياً يسعى إلى الفضيلة

2- الأهداف المادية: لأن هنالك أهدافاً مادية لاكتساب العيش والاطمئنان إلى الثروة وهذا يتأتى من خلال التعلم والمعرفة.

3- الأهداف الاجتماعية: على أساس تحقيق الازدهار التام لشخصية الإنسان ودعم حسن الاحترام لحقوق الغير ـ باعتبار أن الهدف الاجتماعي للتربية يعبر عن توجيه التعليم بشكل ينتج عنه ارتقاء الصناعة وتقدمها بحيث تزداد سعادة المواطنين.

وغاية هذه الاتجاهات تصبُ في أن التربية والتعليم منبع فاعل في السلوك الحضاري المنفتح والخلاق لما فيه مصلحة المجتمع والأمة.

العقل والهيمنة الثقافية

لما كانت الثقافة لا تحلق ولا تنتشر إلا بالتعليم فقد أكدت القوى المهاجمة منذ بدايتها على التوجه إلى مراكز التربية والتعليم والثقافة لاغراض السيطرة عليها.

ونرى اليوم خطة أخرى جديدة من مظاهر هذه القوى وهو مايشاهده العالم من خلال آلاف المحطات وعبر ساعات من البث التلفزيوني العالمي المتواصل بواسطة توجيه وسائل السيطرة السمعية والبصرية بما يدعونا للاحاطة بهذه البرامج ومعرفة السبل الكفيلة لتحليل أبعادها الحاضرة والمستقبلية وتمييز الصالح منها عن الطالح وتوعية أسرنا وشبابنا بذلك، ونحن لا يغيب عنا ما تدعيه بعض وسائل الأعلام المضادة، لقلب وتشويه الحقائق، كأن تسمي الثوار بالإرهابيين، أو استظهار الطابع المزيف لواقع العلاقات الاسرية الأمريكية بصورة تظهر للمتلقي بأنها علاقات متحضرة وانسانية، أو العمل باتجاه تضليل واقع علاقاتنا الإنسانية أو وعينا الثقافي، واشغال العالم بصور بعيدة عن الواقع الفعلي للحياة بطرق فاتنة وبجاذبية أنيقة ومتقنة.

المنهاج التربوي للشخصية الشبابية

أ) الجانب النظري: ويتجلى بهذه الصور:

1- الإعداد الذهني والمعرفي للعقل بطريقة تنظيم المعلومات الشاملة المتصلة مع المنهج الدراسي الجديد

2- الإعداد الروحي؛ الذي يتمثل بتنظيم الغرائز والحاجات التي يبحثها علم النفس والتربية الإسلامية الخاضعة للإدراك الوجداني والحسي النابع من الضمير الإنساني الخلاق.

3- الإعداد البدني؛ لخلق وضع نفسي ملائم للشباب بعيداً عن محطات التميع والسقوط في مهاوي الرذيلة والانحطاط والتفسخ؛ فالجسد الرياضي هو الجسد البعيد عن محطات الإدمان والمخدرات وعوامل التسيب والخمول.

ب) الجانب العملي (التطبيقي): وأهم النقاط في هذا الجانب متعلقة بما يلي:

1- توسيع دائرة الانتشار الثقافي والمعرفي المتصل مع طبيعة المناهج الدراسية الجديدة كالمسرح والسينما والنوادي الثقافية..الخ.

2- تكثيف البرامج التربوية الشاملة.

3- تنشيط حركة النوادي والمراكز الرياضية واستحداث نواد أخرى جديدة.

4- توسيع عمل المنظمات واللجان الثقافية وضمان انتشارها في الريف والمدينة.

5- إعداد نخبة اللجان المشرفة على عمل هذه المنظمات، ومتابعتها بطرق تحقق وسيلة الاتصال المستمر مع الشباب والسيطرة على ميولهم واتجاهاتهم من خلال معرفة الأدوات التي يتعاملون معها والهوايات التي تنسجم مع المصلحة الفردية والجماعية، وتنسجم مع طرق تهيئة المناخ الاستثماري للعقل المبدع.

المنهج الإسلامي و التربية الحديثة

لا يخفى أن هنالك ترابطاً جدلياً بين العقل الإسلامي والعقل الحضاري على أساس المكون الثقافي الذي تناوله النهج القرآني في هذا الموضوع وفق أسس تتناسب مع مقومات التفاعل الفكري الجديد الذي من أهم شروطه لغة التفاعل والتصدي وفق ثوابت لا يمكن تلافيها، ومن خلال قواعد الالتزام الديني والاخلاقي في الممارسة الواعية؛ كون الإسلام منهجاً لكل العصور، في أفق المحافظة على لغة الإعداد المعرفي الذي يتطلب إيجاد صيغة تفعيلية بين سمات العقل المكون والثقافة الاكاديمية بطريق التواصل، فالحضارة الإسلامية حضارة عقل لا حضارة خيال؛ كون لغتها العربية مصدراً للمرادفات اللغوية المختلفة التي استعان بها الفلاسفة في الغرب والشرق، في نعوتهم الواردة في النصوص الفلسفية اليونانية، وغيرها؛ كالعقل المنفعل، والقوة والعقل المادي، والملكة والعقل القدسي.

إذن العقل العربي هو أصل الحضارة العالمية ولغتها الأصيلة، وقد اتخذ الخيال عند الفلاسفة العرب عدة أبعاد ومستويات تجعل فعله يشمل معظم الأنشطة البشرية الانفعالية والفعلية، البيولوجية والمعرفية، الحركية والإدراكية، وما يهمنا في هذا البحث أننا نسوّق حضارتنا الأصيلة، بينما تُسوّق لنا ثمار الفساد والخيبة في انعكاسها النفسية، وليس المقصود هنا الحالة التقنية.

إذن مهمتنا تنطلق من صبغتنا الأصيلة، ونحن بصدد الإحاطة بالأوضاع القائمة، بصدد التوجه إلى أزمتنا الحالية، هل هي أزمة عقل، أم هي أزمة عصر، كما يقول حنفي في كتابه (دائرة العقل)؟.

والجواب على هذا السؤال متروك إلى القارئ؛ لأن القارئ وحدة إنتاجية قابلة ومتفاعلة في الأثر والتأثير. ولكن هنالك مسألة لابدّ من الإشارة إليها في هذا الباب، وهي ما ذهب إليه المتخصصون في هذا المجال بشأن التخطيط على أساس الإحاطة الإجمالية بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية؛ لغرض تهيئة الأجواء المناسبة للإعداد التربوي للطاقة العاملة والمثمرة وفي كل المجالات، ولسنا هنا بصدد تسليط الأضواء على هذه التفاصيل لأن ما يهمنا الآن هو الإشارة بإيجاز إلى أهم معالم النهضة الحضارية العربية والإسلامية على ضوء استحداث المنهج الجديد للتربية الشبابية؛ للتسلح بالفكر الإسلامي الذي من أهم دواعيه بناء إنسان قوي مسلح بالصبر والإيمان ومعرفة شروط العولمة التي لا يمكن تبنيها إلا من خلال التسلح بلغة القرآن ومدرسة الرسالة السامية؛ في الوفاء والمحبة والالتزام وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين - على قاعدة لا ضرر ولا ضرار - وتنمية لغة الوجدان (المسلك الصحيح للنجاة من المخاطر) وتنظيم مسعانا لخير الأمة.

استراتيجية البحث

لا شك أن هنالك وحدة مشتركة لكل عمل ولكل مخطط يسعى لاستخدام الإمكانيات على المستوى النظري والتطبيقي؛ لذا فأن من أهم العوامل المؤثرة في هذه الأمة، هي الأسرة والفرد والآخرون، والمقصود بالآخرين المجتمع والمدرسة والمؤسسة.

ونظراً لما تشكله الأسرة باعتبارها وحدة ومنظومة اجتماعية متكاملة لها جسور مختلفة وارتباطات متعددة بين الفرد والآخرين؛ فلا بدّ من الإشارة إليها وفق ما ينظر إليه منهجنا الإسلامي.

الإسلام والأسرة

تعتبر الأبوة هي الوسيلة الوحيدة لتحديد البنوّة، ومن هنا فأن الشرع الإسلامي يدعم مفهوماً موحداً للأسرة تتميز بطابعها الأبوي، وبغية استكشاف الطرق التي تتفاعل فيها القواعد الفقهية مع الممارسات الاجتماعية لابدّ من توجيهها وتوعيتها بلغة التزاماتها الشرعية والاخلاقية، على ضوء المنهج السليم الذي يرتقي إلى أسباب التماسك والعطاء؛ كونها وحدة اتصالية من نسيج متفاعل مع مصلحة الأمة في أخلاقها والتزاماتها الدينية والثقافية، فالأسرة المتحابة تخلق شخصية واعية وفاعلة في المجتمع.

نظرية البحث والخلاصة

لاشك أن هنالك جملة من الشروط في أخلاق المجتمعات؛ فالمجتمع في الريف يختلف عن المجتمع في المدينة، والمجتمع الزراعي يختلف عن المجتمع الصناعي، إذن هنالك تكوينات مختلفة لها مردود في نمط التكوين البنيوي لمنظومة العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، وما نريد أن نقوله أن الفرد يخضع للمجتمع بشكل أو بآخر لتتحقق الضرورة الاجتماعية التي تعد أهم مفردة من مفردات التكامل الإنساني المشرق. ونحن في نظريتنا هذه نسوق البحث للانطلاق من الأسرة أولاً؛ كونها تمثل حصيلة التكامل والارتباط الاجتماعي، ناهيك عمّا تقتضيه مصلحة الفرد الإنسانية من خلال ارتباطه الاسري بالارتباط مع الآخرين؛ لذا فإن أساس بناء أي مجتمع من المجتمعات يتطلب أسرة صالحة تسعى لمتابعة أبنائها وتوجيههم بالطريقة التي فيها خير هذه الأمة، والدليل على ذلك ما نراه في المجتمعات الغربية التي تعرضت إلى التفكك والانكسار بسبب انحلال الروابط الأسرية بينها.

إذن واجبنا الإسلامي يتطلب مراعاة شروط الأحكام التي جاءت بها الشريعة ومعرفة القواعد العامة والخطوط الزمنية لهذه الأحكام.

فالأسرة السليمة هي المؤسسة المكملة لنسيج البناء التحتي لأي مجتمع من المجتمعات، والتركيز على ذلك يأتي من خلال الاهتمام بأهم قطبين من أقطاب العلاقة فيها (المرأة - الرجل - الأبناء) فلا يمكن متابعة الابن بأم تركت بيتها لأغراض العمل، ولا يمكن متابعة الابن بأب انشغل فقط بعمله وترك زوجته.. إذن المجال الأسري كالذرة التي تتعرض للانشطار عندما ينفصل الإلكترون عن البروتون، وينفصل النيترون وهو الشحنة المتعادلة فيها، إلى طريق يؤدي بالنتيجة إلى نسف هذه الذرة التي ستبحث عن طريق آخر للتفاعل معه؛ لإعادة كيانها المنشطر. إذن لابدّ من مراعاة مصلحة هذه الوحدة المتماسكة وفق قيود من الأحكام الدقيقة التي أكدّ عليها منهجنا الإسلامي؛ لبناء شباب واع يدرك مصلحة هذه الأمة.

مصــادر البحـــث :

(1) السياسات التعليمية موسى الهادي، دار البيان العربي بيروت - لبنان الطبعة الثانية 1985م، ص92، ص99، ص121، ص23، ص35، ص48، ص50، ص52.

(2) دراسات في التربية وعلم النفس: تأليف الدكتور فاخر عاقل، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1987م، ص146، ص134، ص57، ص196، ص195، ص251، ص154، ص222.

(3) الشباب بين العقل والعاطفة: تأليف الشيخ محمد تقي فلسفي، تعريب السيد نور الدين مير زادة، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، طبعة أولى 1994م، المجلد الأول والثاني، ص12، ص14، ص29، والصفحات 46 - 54- 60 - 162 - 191 - 192 - 208 - 219، ص101 الجزء الثاني 244.