1
 

فرهــاد الهيــان  

ترجمة عباس كاظم

استعرضنا سابقاً ضمن سلسلة بحوث (الدين والديمقراطية) جملة من خصائص ومميزات النظم الاستبدادية، وكيف أنها تعمد إلى تخريب المجتمعات من خلال تجهيلها وإشاعة أنواع المفاسد فيها؛ من قبيل التستر بالدين أو استغلال علماء السوء لتبرير ظلم الحكام الطغاة وممارساتهم المنحرفة، بل وإضفاء هالة زائفة من القدسية على السلطان وخلع ألقاب عليه من قبيل (ظل الله) و(ولي النعم) وما شابه ذلك من صفات وألقاب لا يُنعت بها البشر العادي.. ومن الخصائص الأخرى للنظم الاستبدادية تغذية وتصعيد الفوارق الطبقية في المجتمعات؛ إمعاناً منها في الظلم والسيطرة، ثم لا يغفل الحاكم المستبد من السيطرة على القوات المسلحة بجميع صنوفها القتالية، وتذليلها جيداً لقمع الأحرار والمعارضين للسلطة الديكتاتورية، وهكذا فأي شخص أو مجموعة تنزو على السلطة بالقوة، تلجأ لأجل إدامة حياتها وبقائها إلى أقذر الأساليب غير عابئة بأية قيم أو مبادئ، وذلك عبر انتهاج أساليب الإرهاب والاغتيال، لإشاعة جوٍ من الخوف والرعب في أوساط الناس، حتى يغلب طابع العنف والقوة على المجتمع، بحيث يصبح سلوكاً يومياً عادياً.. ثم جرى التطرق في القسم السابق من سلسلة البحث تحت عنوان (الدين والديمقراطية) إلى معالم ومفاهيم النظام الدستوري، مشفوعاً بآراء ونظرات العلامة النائيني في هذا الباب؛ ومن ذلك أنه (قد.س) كان يرى أن النظام الديمقراطي يتطابق في كثير من جوانبه وتفصيلاته مع نظرية الشورى في الإسلام، وذلك رغم أنه كان يدرك تماماً أن مفاهيم ومبادئ الحركة الدستورية وحكومة الشعب، والتي كانت رائجة ومنتشرة في عصره، إنما وفدت إلى بلاده من الغرب، فهو واعتماداً على استقلالية تفكيره كان لا يرى مانعاً من اقتباسها وتطبيقها في إيران - بعد تهذيب وتعديل مبادئ النظام الدستوري الغربي في بعض الجوانب - لكي تتحول إلى مبادئ دستورية وطنية إيرانية تتماشى مع مبادئ الإسلام الحنيف، ولا تتعارض مع أصول وقواعد المذهب الحق.

وإلى ذلك فقد توقفنا في القسم السابق على وجهة نظر العلامة النائيني بشأن نبذ الحرية التي تضمنها دستور الحركة الدستورية، وذلك بقوله: (..فإن لبّ القضية في التعبير هو حصول الأمة على تلك الحرية المفقودة التي وهبها لهم الله سبحانه وسلبها منهم الحكام المستبدون، وما الحركة الدستورية في أصولها ومغزاها إلا انتزاع لهذه الحرية من الغاصبين وإعادتها إلى الأمة) (1).

 المســـــــاواة    

من أهم الأصول التي يعتمدها النظام الدستوري (المقيد بالدستور) وكذلك المجتمعات الحرة والمتقدمة هو أصل المساواة أمام القانون بلا تمييز بين جميع أفراد المجتمع.

ورد هذا الأصل في المادة الثامنة من متمم القانون الأساسي (الدستور) للحركة الدستورية بالشكل التالي: (يتساوى جميع أبناء إيران في الحقوق وأمام القوانين التي تسنّها الدولة)، ولكن المدافعين عن المشروعة (استبداد الحكم) احتجّوا على هذه المادة أيضاً واعتبروها من المبادئ التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ذلك لأنهم كانوا يرون في أصل المساواة مخالفة صريحة وأساسية لجذور المبادئ الدينية انطلاقاً من الرأي القائل بأن هذه المساواة ستؤدي إلى التساوي بين أبناء الطائفة الشيعية والمسلمين من جهة وبين أتباع سائر الأديان والمذاهب الأخرى.

ولما خاف تأثير مثل هذه المغالطات التي يثيرها المستبدون والمدافعون عنهم على الجمهور، شعر بالمسؤولية الدينية والتكليف الشرعي للرد على مثل هذه البدع وتنزيه الأحكام الشرعية وتبرئة ساحة الدين الإسلامي من مثل هذه الاتهامات والأباطيل وتحميل مبادئه بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان ليؤكد بأن الإسلام والتعاليم الدينية تدعو بل وتطبق مبدأ المساواة أمام القانون على جميع أفراد المجتمع حكاماً ومحكومين، فيقول: (يمكننا أن نفهم ونستنتج بأن مبدأ المساواة أمام القانون إنما يشمل جميع أفراد الأمة بلا فرق بين الحاكم والمحكوم وذلك من سيرة الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأكيده المستمر على هذا الأصل باعتباره أساس العدل وسعادة الأمة) (2).

ويتطرّق العلامة النائيني بعد ذلك إلى ذكر ثلاثة شواهد من السيرة النبوية الشريفة التي تؤكد على تطبيق أصل المساواة أمام القانون على نفسه الشريفة بلا فرق مع الآخرين ويخرج بهذه النتيجة: (لم تكن كل تلك الفتن والحروب لتثور وتشتعل في زمن الإمام علي (عليه السلام) إلا لأنه أراد أن يطبق هذا المبدأ وإحياء سنن الأنبياء في المساواة بالعطاءات وعدم تفضيل بعضهم على بعض وأراد أن يسترد جميع القطائع والاستئثارات التي منحها الخليفة السابق بغير وجه حق) (3).

وعلى هذا الطريق وتأسياً بهذه السيرة الطاهرة للأنبياء والأولياء عليهم أفضل الصلاة والسلام قام فقهاء الشيعة ورؤساء المذهب الجعفري لاسترداد الحقوق المغصوبة للمسلمين وإنقاذهم من ظلمات حكام الجور والظلم وتحرير رقابهم من نير العبودية والذلة فبذلوا مهجهم وضحوا بأرواحهم من أجل ذلك وفي سبيل إنقاذ بيضة الإسلام ولا زالوا يقدمون القرابين على هذا الطريق) (4).

وعندما يستعرض العلامة النائيني مغالطات الشيخ فضل الله النوري في تحريف معنى المساواة يقول: (إنه يصور حق المساواة النوعي في الحقوق وأمام القانون على أنه مساواة بين المسلمين وأهل الذمة من سائر الديانات الأخرى في أبواب وأحكام النكاح والقصاص والديات وغيرها وذهب إلى أبعد من ذلك فاعتبرها مساواة بين أصناف المكلفين من المسلمين كالمجنون والعاقل، البالغ وغير البالغ، السليم والمريض، المختار والمضطر، الموسر والمعسر، القادر والعاجز فخلط بينها خلطاً عجيباً يفتقر إلى المنطق والى توخي الدقة).

ولذلك يسترسل العلامة النائيني ويقول: (كما أن أساس الحكومة الدستورية يقوم على أصل مبدأ بسط الحريات المبارك، فكذلك عدالة الحكم الدستوري ومسؤوليته في حفظ النظام الاجتماعي والحيلولة دون الاضطرابات والقضاء على الفوضى فإنما يقوم على أساس هذا الأصل الثاني الذي نعبر عنه بالمساواة ونعني به تساوي جميع أفراد الأمة بلا فرق ولا تمييز بين الحاكم والمحكوم والوالي والرعية أمام القانون، وأما فيما يتعلق باختلاف أصناف المكلفين بالنسبة إلى أنواع التكاليف الدينية فإنه لا يختص بالدين الإسلامي فقط وإنما يسري في جميع الشرائع والأديان السابقة وحتى الملاحدة والمنكرين لهذه الأديان والشرائع السماوية فإنهم وطبقاً لأحكام العقل التي تميز الإنسان العاقل عن الحيوان يقولون ويقرّون بالاختلاف بين أصناف البشر من عاقل ومجنون وسليم ومريض وعاجز وقادر و... الخ).

ومن وجهة نظر العلامة النائيني:

(عندما تقوم الحكومة الدستورية على أساس من الحرية باعتبارها أصلاً من أصول شرعيتها فسيكون تطبيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد الأمة من أبسط شخص فيها إلى شخص الحاكم أو الوالي في الحقوق النوعية هو الأصل الثاني الذي سيتكفل بحفظ الدولة وصيانتها من الانهيار والسقوط، وأما اختلاف التكاليف الدينية بين أصناف الناس فإنه لا يختص بالدين الإسلامي فقط وإنما يشمل جميع الشرائع والأديان السماوية والأرضية فحتى الذين ينكرون الشرائع السماوية والملاحدة يتقيدون بمنطق العقل والوجدان الذي قامت عليه المجتمعات البشرية منذ نشأتها الأولى وحتى هذا اليوم، وهو ما ميّزها عن العالم الحيواني البهيمي باعتبار أن العقل يقرّ بالاختلاف والتفاوت بين العاجز والقادر، وبين الاختيار والاضطرار، الغني والفقير، العاقل والمجنون، وما إلى ذلك من الأمور العقلية البحتة.

وأكثر من ذلك فحتى الأطفال يمكنهم فهم استحالة المساواة بين تلك الأصناف وسوقهم بعصا واحدة من دون النظر إلى ما يميزهم عن غيرهم وأنه ضرب من الجنون لا يوافق العقل والمنطق ولا تقول به جميع الأديان والشرائع السماوية، وإن العمل بها سيؤدي إلى فشل القوانين السياسية في جميع الأمم وإلى انهيار النظام العام، وعليه فليس لها وجود ولا تطبيق في الخارج سواء كانت في المجتمعات المتحضرة والمدنية أم غيرها، ولذلك فإن تحميل معنى المساواة التي تطالب بها الحركة الدستورية على مثل هذه المصاديق هو من المغالطات المقصودة والسفسطة التي لا طائل منها) (5).

المشـــاركـــة العـــامــــة    

تتحقق الحريات العامة والمتمثلة في حرية الرأي والفكر والمعتقد وكذلك المساواة بين الناس في الحقوق وأمام القانون عن طريق إشراك الأمة في إدارة شؤون الدولة، وتعتمد الحكومة الدستورية على هذا الأصل المهم في حياة الناس ويعني إعطاءهم فرصة المشاركة بصورة حقيقية في صنع القرار السياسي وإدارة البلاد وتقرير المصير، يتساوى في هذا الحق جميع أفراد الأمة بما فيهم الحاكم والوالي وعليه ستكون المسؤولية والمسائلة أحد الفروع التي تتفرع من هذا الأصل أو المبدأ المهم) (6).

وحسب رأي العلامة النائيني (في ظل الحكومة الدستورية يكون جميع أفراد الشعب وحكامه وولاة أموره شركاء في كل شيء ويتساوون في المسؤولية العامة باعتبارهم أمناء وولاة على الأموال العامة فلا تحكمهم علاقة الخادم بالمخدوم أو المالك بالمملوك بل سيكون أبناء الأمة كأعضاء البدن الواحد يتحملون مسؤولياتهم ويقومون بواجباتهم التي يفرضها المجتمع عليهم وسيحاسبهم على أي خلل أو تماهل واستئثار عند تحمل هذه المسؤولية ولذلك سيكون كل فرد في الأمة وبلا فرق بين أحد منهم تحت ظل النظام الدستوري قادراً على المساءلة والاعتراض بكل حرية وبدون خوف من ملاحقة السلطة وأجهزة الدولة أو عسف الحاكم وإرادته الخاصة وذلك من ضروريات المشاركة العامة والمساواة التي سيتمتع بها الجميع) (7).

وفي مقولة المشاركة العامة كما يقول العلامة النائيني (فإن الميزان الذي توزن به الأمور وفي تقلد المناصب والمسؤوليات هي الكفاءة والدراية (الاختصاص)، فليس أحداً أفضل من غيره إلا بها، فلا قرابة لأحد مع الله ولا هو شريك له عز وعلا، فإن تقلد أحدهم منصباً بلا كفاءة أو دراية (اختصاص) بالأمور بل لمجرد تملقه وتزلفه للحاكم وانتهازيته فعلى الأمة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقيلوه ويعزلوه عن منصبه باعتباره غاصباً لهذا المنصب) (8).

(وذلك لأن المحاسبة والمساءلة والمراقبة من حق الأمة ومسؤوليتها وهي من فروع الحرية والمشاركة العامة ويعتبر ليس فقط من ضروريات الدين الإسلامي بل من ضروريات جميع الأديان والشرائع الأخرى أيضاً) (9).

تحكيـــم مبـــدأ الشـــورى والألتـــزام برأي الأكثـــرية    

إن من أهم ضروريات المشاركة العامة في الشؤون المتعلقة بقضايا الدولة هي مشاركة جميع أفراد الأمة في صنع القرار السياسي واتخاذه، وتحقق مثل هذا الأمر مستحيل عقلاً فلا يمكن تطبيقه على أرض الواقع فكيف يمكن استفتاء ومشاورة جميع أبناء الأمة وفي جميع القضايا التفصيلية والكلية. قام النظام الدستوري لحل هذا الإشكال بتأسيس مجلس يضم ممثلين منتخبين من الأمة تقع على عاتقه مناقشة قضايا الدولة والأمة ورسم سياسة الدولة واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها. ولكن المدافعين عن الاستبداد (المشروعة) اعترضوا على تأسيس هذا المجلس بحجة (إن إدارة الشؤون العامة ولائية بحتة ليس للانتخابات دور فيها وبهذا فإنها من مسؤولية الفقهاء والمجتهدين فقط ولا يحق لأي شخص كائن من كان التدخل فيها، وإن الأخذ بآراء الأكثرية يتناقض وأساسيات المذهب الإمامي) (10).

فإنهم كانوا يعتقدون بأن: (ليس من حق ممثلي الأمة ومنتخبيهم الذين يجتمعون في مركز العاصمة لدراسة ومناقشة أوضاع الأمة ومصالحها العامة واستصدار القوانين الخاصة بذلك وفق متطلبات العصر وطبقاً لرأي الأكثرية، لأن هذا الحق يختص به الأمام المعصوم ونوابه العامّون وليس للآخرين أياً كانوا أن يتطاولوا عليه ويمدوا أنوفهم فيه.. فما للملاحدة واليهود أن يتصدوا لتصريف أمور المسلمين العامة؟! فلا يجوز لهم أن يتدخلوا حتى في شؤون الكفار القاطنين في ديار الإسلام، فكيف تتصدى هذه الفئات الضالة لمثل هذا الأمر الخطير) (11).

ولكن المطالبين بالدستورية وخاصة العلامة النائيني فإنه كان ينظر إلى هذه القضية من زاوية أخرى، وبذلك كتب يقول (إن التصدي للحكم والسلطة يعتبر في جميع الأديان وعند جميع العقلاء نوعاً من الأمانة في رقبة الحاكم، غاصباً كان لها أو قد تسنمها بصورة شرعية، لذلك فإن مسؤولياته أن يؤدي هذه الأمانة إلى أصحابها وأداء حقها إلى ذويها) (12).

ولهذا فليس هناك فرق بين البقال والبزاز والفقيه والمجتهد والملحد والشيعي فالكل متساوون في هذا الحق ويجب أن تؤخذ نظراتهم وآراؤهم في الأمور السياسية وشؤون الدولة الأخرى، ومن هذا المنطلق كان العلامة النائيني يرفض المجالس التي يشكلها الملك أو الحاكم من الأعيان والأشراف أو الأمراء والخاصين ولا يرى فيها القدرة على الدفاع عن حقوق الأمة لأنه كان يعتقد:

(إن أساس الحكومة الدستورية يقوم على مشاركة الشعب وجميع أفراد الأمة ولا يتحقق هذا إلا بتأسيس مجلس عام للشورى يضم فضلاء وعقلاء الأمة وممثليهم المنتخبين) (13).

وبعد أن يوضح ويشرح جوانب من السيرة النبوية الشريفة وسيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) التي تحث على إسداء النصح والمشورة وتأكيدهم على الأصحاب والأتباع في ذلك وتشجيعهم على التصريح بآرائهم وإن كانت معارضة لرأي المعصوم، يؤكد على ضرورة الإبقاء على الحالة الشورائية في الحكم، وفي ذلك يقول: (وا أسفي وحسرتي علينا نحن الظالمين والمستبدين الدينيين في هذا العصر، فبدلاً من الترحيب والتشجيع على تأسيس مجالس الشورى باعتبارها (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) رفعنا عقيرتنا وشعاراتنا ضدها وصورناها على أنها نقيض تعاليم الإسلام) (14).

ويعالج العلامة النائيني قضية الأخذ برأي الأكثرية واعتمادها من عدة جوانب فيقول: (أولاً: إذا تأرجحت القضية بين شيئين فلابد أن نرجح أحدهما على الآخر ونعتمده، فالتمسك برأي الأكثرية يعتبر من أقوى المرجحات المطروحة فهو مثل ترجيح حكم العقل على ما سواه من الأحكام الشاذة.

وثانياً: يستفاد من عموم تعليل مقولة عمر بن حنظلة أنه عند الابتلاء بالمشاكل والاختلافات يجب الرجوع إلى المرجحات العقلية والدينية وأحد هذه المرجحات العقلية هو اعتماد رأي الأكثرية.

ثالثاً: في حالة ثبوت مشروعية الطرفين بحيث يتساوى الأخذ بأي منهما من الناحية الشرعية ولا يمكن الترجيح بينهما شرعاً يبقى من باب حفظ النظام الاجتماعي اعتماد رأي الأكثرية مقدماً على الآخر لشموله بأدلة حفظ كيان المجتمع والنظام العام وبذلك يصبح واجباً الأخذ به ويكون التقيد به من القضايا الملزمة شرعاً.

رابعاً: وافق الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك الإمام علي (عليه السلام) في المسائل والمواضيع السياسية والاجتماعية على رأي الأكثرية والتزموا بها عملياً كما هو معروف في السيرة).

الدستـــور العـــام وتشكيــل هيئــة الرقـابـــة    

لقد كان تدوين الدستور الدائم للبلاد من أهم الانجازات التي قامت بها الحركة الدستورية وفي نفس الوقت من أهم القضايا التي شنع بها المدافعون عن الاستبداد (المشروعة) على المطالبين بالنظام الدستوري، فلقد كان من آرائهم (مع العلم بأن حفظ النظام في كل العالم لا يكون إلا بسنّ القوانين الضابطة إلا أن جميع المسلمين المتدينين يعلمون جيداً بأن أفضل القوانين لذلك هي القوانين الإلهية، وعليه فنحن لسنا بحاجة إلى وضع قوانين جديدة أبداً) (15).

وقد أفتى الشيخ فضل الله النوري قائلاً: (إن قوانين الدستور الدائم تخالف مبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ولا يمكن للدولة الإسلامية أن ترضخ لها إلا إذا انسلخت من دينها ومبادئها) (16).

وفي معرض إجابته على المنتقدين والمشنعين استطرد العلامة النائيني إلى فلسفة تشكيل الحكومات وبعد أن أثبت ضرورة وجودها أشار إلى وظيفتين من وظائفها كما يأتي:

1- حفظ النظام في داخل الدولة وتوجيه الأمة، وإعطاء كل ذي حق حقه والوقوف أمام تجاوز أفراد المجتمع على حقوق بعضهم البعض وما إلى ذلك من الشؤون العامة.

2- اتخاذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون تدخل الأجانب والاعتداء على الوطن بما فيها بناء القوة العسكرية الرادعة وحفظ الاستعداد الدائم تحسباً لكافة أنواع الطوارئ.

لقد استفاد العلامة النائيني من مقولة (حفظ بيضة الإسلام) الرائجة عند المسلمين ومقولة (الدفاع عن الوطن) عند سائر القوميات والمذاهب الأخرى ووظفها لهذا المعنى وجعلها مصداقاً للقسم الثاني من الحكمة العملية وتعني سياسة المدن، ففي رأي العلامة (منذ أن جعل الحكم ووضع الخراج لتنظيم سائر القوة النوعية بواسطة الأنبياء والحكماء، لم توضع إلا من أجل إقامة هذه الوظائف وتسيير هذه الأمور) (17). والقيام بهذه المسؤولية في الوقت الحاضر حيث نفتقد إلى الإمام المعصوم وليس بمقدورنا أن نجد إنساناً قد استكملت فيه جميع المواهب الإنسانية حتى يقوموا بأنفسهم بوضع لجان وتأسيس هيئات رقابية على سلوكهم وتصرفاتهم تحاسبهم فيجب حينئذٍ أن نقوم بما يلي:

(أولاً: يجب وضع دستور تحدد فيه صلاحيات السلطة (الحاكم) ويميز المصالح النوعية العامة التي يجب أن تراعى بصورة شاملة كاملة وواعية ويعيّن الكيفية التي من خلالها يمكن الحفاظ على هذه المسؤوليات ويتضمن حدود صلاحيات الحاكم وحرية الشعب ويضمن جميع الحقوق لكافة طبقات الشعب وفئاته بما تمليه مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، بحيث يعتبر تجاوز مسؤولية حراسة مصالح الأمة والأمانة إفراطاً وتفريطاً، نوعاً من الخيانة تستوجب قانونياً العزل عن المسؤولية أو الإحالة على التقاعد وتستحق العقوبة المنصوص عليها في باب عقوبات الخيانة.

وبما أن هذا الدستور سينظم الحياة السياسية والنظم النوعية فسيكون بمثابة الرسائل العملية للفقهاء والتي تتناول العبادات والمعاملات وما شابه، ولذلك ستنتظم شؤون المجتمع فيما لو طبق هذا الدستور ولم يتجاوزه أحد ولهذا أطلق عليه اسم (رسالة النظام) أو القانون الأساسي.

ثانياً: تشكيل نظام مؤسساتي يقوم بمهام المراقبة والمحاسبة والمساءلة الدائمة وإيكال هذه المسؤولية الهامة إلى هيئة رقابية عالية مؤلفة من العقلاء والفضلاء وعلماء الدولة والخيرين من أبناء الشعب ممن لهم دراية واسعة بالحقوق المشتركة الدولية وإطلاع واسع بمقتضيات العصر والسياسة. تقع على عاتقها مسؤولية الرقابة الدائمة في تطبيق القانون الأساسي أو الدستور والوقوف أمام شتى أنواع التجاوز والتطاول على مبادئ الدستور أو الإسراف والإهمال في المصالح العامة، وهم في مجموعهم من ممثلي الشعب والأخصائيين من رجال الدولة الذين يشكلون مجلس الشورى الوطني الذي يعتبر الصيغة الرسمية التي تؤطر نشاطهم، ولا يمكن لهذه المؤسسة الرسمية أن تقوم بواجبها بصورة مثالية في الرقابة والمحاسبة والحؤول دون تحول الدولة (السلطة) من ولائية إلى ملكية سلطوية إلا إذا كانت كافة المؤسسات والأجهزة التنفيذية خاضعة لإشرافها ومسؤولة أمام ممثلي الأمة الذين سيكونون بدورهم مسؤولين أمام جميع أفراد الشعب) (18).

إن تدوين الدستور الدائم وتأسيس المؤسسات الرقابية على جميع أجهزة ومرافق الحكومة أصبحت في تنظيرات العلامة النائيني تتمتع بأهمية خاصة فهو القائل: (إن الفتور والتهاون في أية واحدة من هاتين المسؤوليتين سيؤدي إلى الفشل في تحديد صلاحيات السلطة وعندها سيتبدل نظام الحكم من حكومة ولائية إلى نظام استبدادي تعسفي يصبح فيه الحكام والمتصدون للسلطة مستبدين، هذا في حالة انتفاء المسؤولية الأولى وأما إذا اضمحلّت المسؤولية الثانية فإن النواب وممثلي الشعب سيتحولون إلى مستبدين وجبابرة) (19).

وهذا يعني أن الشعب سيقوم بدور الرقابة والمساءلة للمسؤولين التنفيذيين بصورة غير مباشرة وعبر ممثليهم ونوابهم الذين سيخضعون بدورهم للمساءلة المباشرة من قبل الشعب كل في دائرته الانتخابية وبغيرها سيفقد النظام الدستوري مصداقيته وسيتحول لا محالة إلى نظام سلطوي استبدادي.

الهـــوامـــش :

(1) تنبيه الأمة/ ص79.

(2) النائيني/ تنبيه الأمة/ ص28.

(3) النائيني/ تنبيه الأمة/ ص32.

(4) النائيني/ تنبيه الأمة/ص36.

(5) تنبيه الأمة/ص68.

(6) تنبيه الأمة/ ص18.

(7) تنبيه الأمة/ ص12.

(8) تنبيه الأمة/ ص44.

(9) تنبيه الأمة/ ص44.

(10) غلام حسين زركري نزاد/ رسائل المشروطة/ ص154.

(11) تنبيه الأمة/ ص43.

(12) غلام حسين زركي نزاد/ رسائل المشروطة/ ص154.

(13) تنبيه الأمة/ ص53.

(14) تنبيه الأمة/ ص54.

(15) غلام حسين زركري نزاد/ رسائل المشروطة/ ص174.

(16) غلام حسين زركري نزاد/ رسائل المشروطة/ ص167.

(17) تنبيه الأمة/ ص7.

(18) تنبيه الأمة/ ص14.

(19) تنبيه الأمة/ ص15.