1

الثالوث المجتمع في الإنسان

السلوك في طريق العلم

الســلوك البشـــري

يقول الحكماء وأهل المعقول: إن حركات الإنسان وسكناته تنطلق من اللذة والألم، فبواسطة اللذة يكتسب ما ينفعه، وبالألم يدفع ما يضرّه.

كما إنهم قسمّوا اللذات والآلام إلى ثلاثة أقسام هي:

1- اللذة الجسمية والألم الجسمي، مثل لذة الطعام والشراب ونحوها.

2- اللذة الوهمية والألم الوهمي، مثل حب السلطة و المنصب والجاه، ونحوه.

3- اللذة العقلية والألم العقلي، مثل العلم والفضيلة والجمال ونحوها.

فالناس بصورة عامة يختلفون من حيث اندفاعهم نحو الأعمال والمواقف، فبعضهم تحركه اللذة الجسمية، والبعض الآخر تحركه اللذة الوهمية، وآخرون تحركهم اللذة العقلية وبحسب هذه الدوافع والمنطلقات أيضاً يتفاوتون من حيث السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة.

فالذي ينطلق من اللذة والألم الجسميين يكون مقامه المعنوي عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس أقل من ذلك الذي ينطلق من اللذة والألم العقليين، كما إن الصحة والسلامة والرضا والشعور بالسعادة وراحة الضمير في هذه الدنيا يشعر بها أولئك الذين ينطلقون من اللذة والألم العقليين.

أما غيرهم من أصحاب اللذات الجسمية والوهمية فشعورهم بذلك يكون أقل وأحياناً ينعدم تماماً، ولذا يقدم بعضهم على الانتحار، أو يعتدي على الآخرين، ويفضل حياة الشقاء والتعاسة على الهدوء والاطمئنان..

فهذا الاختلاف بطبيعة الحال ناشئ من تفاوت نفس اللذة والألم في الرتبة والمنزلة، فإن اللذة العقلية أرفع من اللذة الجسمية، وأرقى في مراتب الكمال، وهذا واضح لان اللذة العقلية باقية غير فانية؛ إذ إن عالم العقول أرقى العوالم الوجودية، لأنه يختص بعالم المجردات، أما اللذة الجسمية فهي مرتبطة بعالم المادة الفانية الزائلة، لذا وردعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

(من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء، وألزم قلبه أربع خصال: هماً لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا ينفرج منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً)(1) وهذا واضح لأنه تعلق بأمر لا قرار له ولا ثبوت، بل هو زائل فانٍ، فلذا يبقى صاحبه في حسرة، وألم وشقاء دائم.

ومن هذا الفرق بين اللذة العقلية و الجسمية يظهر النقص بوضوح في اللذة الوهمية، لأنه ليس إلا الجهل المركب، والانحراف الكامل عن أدراك الواقع وحقائقه الثابتة..

وهذا الكلام ذكره علماء الأخلاق وأهل المعقول في محلّه بالتفصيل في كتبهم الأخلاقية والفلسفية.

الســلوك البشـــري

بناءً على ما تقدم أن سلوك البشر يحكمه ويحدده تصرفاتهم في الحياة الدنيا سواء مع الخالق سبحانه أو مع المخلوق كفرد، أو مع النفس، وبالتالي يظهر أثره من خلال المجتمع الذي يعيش في وسطه..

فبعض الناس تتحكم في سلوكهم ومصيرهم معاً اللذة الجسمية، وهو أمر قبيح شرعاً وعقلاً وقد عبّر عن ذلك القرآن الحكيم في قوله تعالى:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(2).

والأنعام لا تفكر في العواقب أو حتى في المقدمات، لأنها فاقدة لنعمة العقل والشعور، والمراد هنا من العقل الذي يتم بواسطته معرفة القواعد العامة وإدراك الكليات، كما يعبر عنها المناطقة، مثل (النقيضان لا يجتمعان) و( الواحد نصف الاثنين) ونحو ذلك، لا ما يدرك به الجزئيات، لأن هذا ما يشترك فيه الإنسان والحيوان معاً، فإذا ما فقد الإنسان ذلك الشعور والعقل ولم يستخدمه في سبيل سعادته وكماله، فهو أضّل من الحيوان قال تعالى:

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )(3).

لذلك فإن سلوك المؤمن يتعارض مع البناء على السير والوقوع في أمر هذه الشهوة والغريزة فقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (العاقل يطلب الكمال والجاهل يطلب المال )(4).

ومن باب أولى فإن أن أصحاب اللذات الوهمية أسوء من سابقتها، وهي أيضاً قبيحة شرعاً وعقلاً بل منهيُ عنها بالكامل، لأنها خيالات وسراب تضرّ بصاحبها وبمجتمعه أشد الضرر، وهو ليس بسلوك بشري، وإنما هو سلوك شرير قد يفوقه سلوك بعض الحيوانات التي ينتفع بها الناس والمجتمع..

فلم يبق للسلوك البشري إلا أن يتخذ من العقل أو بتعبير أدق السير وفق اللذة العقلية؛ فلا يحصر اهتمامه بالطعام والشراب، أو المسكن والجاه، وما شابه من المظاهر الزائلة، بل يتركز جلّ همهم في المقامات الرفيعة وكسب الفضائل والارتفاع في درجات الكمال، وهي أعظم لذة عرفها الإنسان لأنها من الروح، وما تدركه الروح أقوى دركاً من الجسم أو الخيال..

السلوك في طريق العلم

وردت في كتاب آداب المتعلمين- في ذكر العلم والصبر على تحصيله، وما يجده طالب العلم من لذة عظيمة لا تضاهيها لذّة أخرى - هذه العبارة (فمن صبر على ذلك - أي طلب العلم - فقد وجد لذة تفوق سائر لذات الدنيا ) لهذا كان الشيخ الطوسي(ره) إذا سهر الليالي وحلّت به المشاكل يقول: (أين أبناء الملوك من هذه اللذّة ) (5).

ومن الأمثلة المهمة على ذلك المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني (ره) الذي اصبح المرجع العام للشيعة في زمانه، إذ كان من تلاميذ الأخوند الخراساني مؤسس ثورة المشروطة المعروفة في إيران، وقد درس السيد في مدينة النجف الأشرف، إذ كان يعيش الفقر والحرمان من شدة التعفف والاحتياط في الحقوق الشرعية، فينقل في ترجمته أنه حينما اشتد به الفقر جاء بعائلته إلى مسجد الكوفة فأودعهم في إحدى حجراته، وكان يستيقظ صباحاً للدرس فيذهب ماشياً على قدميه من الكوفة إلى النجف الأشرف ومن ثم يعود إلى أهله ليلاً وهو ماشٍ لأنه لا يمتلك المال من أجل شراء دابة أو استئجارها أو استئجار بيت في النجف الأشرف، وقد استمر المرحوم على هذا المنهج مدة طويلة وكان طعامه قطعة من الخبز مع الماء، وقيل انه حصل ذات يوم على قدح من لبن في غدائه وقد حان موعد الصلاة ففكر في نفسه هل يأكل طعامه أم يصلّي؟ فقال في نفسه إني عندما كنت آكل الخبز مع الماء لم أقدم الأكل على الصلاة، لذا وضع الإناء الذي فيه اللبن على النافذة في حجرته للوقاية من هجوم القطط عليه، فوقف للصلاة وفي تلك الأثناء جاءت القطة والتهمت ما في الإناء وعندها يقول المرحوم السيد فكرت في أثناء الصلاة أن أقطعها لأنقذ الإناء من هجوم القطة، ولكن مع إنه كان من حقي الشرعي ذلك، لكني تركتها تأكله فعاد إلى زاده المتعارف يومياً ولم يتهاون في الدراسة والسعي من أجل الوصول إلى الكمال اللائق بفضل تسليم زمام أموره الدنيوية إلى العقل.

ومن جملة ما قام به المرحوم انه كان يتوسل عند زيارته حضرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف لكي يرفع عنه الضيق والشّدة، الذي لاقاه من جراء الفقر، ويتمكن من الوصول إلى كمال المعرفة بتسهيل بعض المصاعب، والمعلوم أن الإنسان عند الضيق والشدّة يتقرب إلى الله بفنون الدعوات من قلب مكسور، وهي إحدى عوامل استجابة الدعاء، وعلى عادته عاد المرحوم إلى حجرته عند أهله في مسجد الكوفة فرأى في المنام أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يعطيه مفتاح النجف الأشرف، فاستيقظ مستغرباً من ذلك المنام، وقد وصل نبأ ذلك المنام إلى الميرزا علي آقا القاضي وهو من العلماء الكبار آنذاك المقيمين في النجف الأشرف، فقال الميرزا علي أن السيد أبو الحسن الأصفهاني سوف يصبح من أكبر مراجع التقليد في النجف الأشرف، وفعلاً تحقق ذلك للسيد المرحوم بحيث ينقل أنه في أحد الأيام جاء تاجر كبير إلى زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولديه أموال كثيرة بعملة بلده فأراد تحويلها إلى العملة العراقية فذهب إلى الصرافين فلم يجد أحدهم يمتلك ما يقابل من تلك العملة بهذا القدر، وأخيراً أرشدوه بالذهاب إلى السيد أبو الحسن ليصرفها له بأي عملة شاء، ولا نريد من نقل الحادثة كثرة أمواله، ولكن الأمر يدلك على مرجعيته الواسعة واطمئنان الناس بنزاهته وعلميته إذ كانت ترده هذه المبالغ الطائلة ليصرفها في مواردها الشرعية، ولم يتخلف عن ذلك وهو الذي عاش مرحلة شديدة من الفقر وبفضل سلوكه الصحيح وصل إلى هذا المقام بواسطة الطريق الصحيح المؤدّي إلى الله سبحانه.

الثالوث المجتمع في الإنسان

المرحوم العلامة بن فهد الحلي له كتاب في تعقيبات الصلاة ولهذا الكتاب مقدمة قصيرة ولكنها غنية بمضمونها وذات معان كبيرة فقد وردت فيها هذه القصة التي مضمونها:

لو فرضنا أن الإنسان كان راكباً على فرس ومعه كلب فلو أعطى الإنسان والفرس زمامهما إلى الكلب سيسير الكلب بهم نحو الأماكن القذرة حيث الرائحة النتنة المتصاعدة من القاذورات والأوساخ.. ولو أعطى الإنسان والكلب زمامهما إلى الفرس فسيسير بهم إلى العلف والحشيش أو نحو المزرعة لإشباع بطنه..

ولكن لو سلم الفرس والكلب زمامهما بيد الإنسان فهو بفضل نعمة العقل التي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليه سوف يشبع نفسه والفرس والكلب لحاجته إليهما.

يستنتج العلامة بن فهد من هذه القصة أن هذا الثالوث مجتمع في الإنسان فهو بمثابة العقل، والكلب بمثابة الغضب، والفرس بمثابة الشهوات.. وكما نقلنا في البداية عن أهل المعقول فالثالوث عبارة عن لذة عقلية ولذة جسمية ولذة وهمية.

أما ابن فهد الحلي فلم يخرج عن ذلك الإطار، وإنما عبّر بتعبير يختلف في الألفاظ بحسب ما جاء في القصة المفروضة إذ يقول: إذا سلم الإنسان نفسه إلى الغضب فسيكون مصيره إلى جهنم، إذ لو فرضنا أن أحدهم غضب على والدته فذبحها، فهذا الإنسان حتى لو لم يعاقب في الدنيا لا يرتاح ضميره ووجدانه من فعله، وهو أثر الغضب وكما ورد في الحديث الشريف

(الغضب مفتاح كل شر) فلو سلّم الإنسان زمامه إلى الكلب وغضب فهذا مصيره لا غير.

وأما لو سلّم زمامه إلى الشهوات فليس بأفضل من الأول.. إذ ينقل أن هناك شاباً فقيراً جداً لا يحصل على شيء، وفي يوم من الأيام حصل على كمية كبيرة من الحلوى، فأكلها دفعة واحدة فمات على أثر شهوة البطن.

وينقل عن أحد الطلبة انه تزوج بامرأة في أيام دراسته فلم يعد يذهب إلى الدرس ولا يخرج من بيته لأيام عديدة متوالية..، رغم دعوة زملائه له بالخروج، أو الالتفات إلى الدرس وعدم الإفراط في الجنس، لكن ذلك كان دون جدوى فبعد أشهر عديدة تمرّض هو وزوجته وأدخلا المستشفى للعلاج وبعد ذلك أيضاً لم ينقطع عن ممارساته الجنسية بإفراط حتى مات على أثر ذلك. وهذا الإنسان مثله كمثل الفرس الذي سبق ذكره لا يعرف غير الشهوة.

فلم يبق أمام الإنسان إلا التمسك بالعقل، والعقل يريد من الإنسان أن يسير في الطريق الصحيح، إذ لا إفراط ولا تفريط فهناك حالة وسطى، وهو مركز الفضائل كما يشير إلى ذلك علماء الأخلاق، وقد أشرنا إلى هكذا موضوع في محاضرة سابقة لذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة الزهد:

(ليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما الزهد أن لا يملكك شيء) .

فالذي يترك الأمور الهامة، مما يحتاجه الجسد لاستمرار حياته، والوصول إلى الكمال، بحجة انه لا يريد الإفراط أو اتباع شهوته كالفرس دون استشارة العقل في ذلك، فهو أيضاً في خطر، إذ هناك من يقع في الإفراط دون قصد منه ودون أن يفكر بعقله ملياً؛ إذ تكون حالة الإفراط متمثلة بالجبن والخجل غير اللائق وفقدان الحواس المهمة.

وعلى سبيل المثال هناك من يشتري بيتاً فخماً وثميناً نتيجةً لتعبه وعمله الجاد ويضع فيه الأثاث اللازم ثم يقفل الباب ولا يسكن فيه ولا يسمح للآخرين بالسكن فيه.

لذلك إذا فكّر الإنسان بعقله، وحكّمه في جميع أموره، فانه يصير إلى لذّة كمالية ناجحة، ولعله لو كان طالباً للعلم سيصبح مثل السيد أبي الحسن الأصفهاني؛ وعلى العكس من ذلك فهو إلى العكس أيضاً.

ينقل في كتب التاريخ أن الربيع بن خيثم كان من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولكنه فارق الأمام وذهب إلى إيران، وبقي هناك حتى فارق الحياة.. والبعض يقول أن الإمام (عليه السلام) هو الذي أرسله إلى إيران سراً لمراقبة الأوضاع هناك.. والبعض الآخر يعتقد عكس ذلك والمهم أنه كان من مشاهير الزهاد، فينقل إبن مسعود في كتابه أن الخواجة ربيع، بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ما تكلم حتى بكلمة واحدة، وقد ظن أنه صار أبكماً، وهكذا استمر حتى (20) عاماً فقطع هذا الشرط عن حياته حتى استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) ، فهناك تفّوه بعدة كلمات وندم على ما فعل.

ويضيف ابن مسعود أنه كان يسير مع الربيع في سوق الصفارين، فوقعت عيناه على جهاز لنفخ النار في الحديد، فقال الربيع: اللهم إني أعوذ بك من نفخة جهنم، وأغمي عليه ومن ثم مات..

لذا علينا أن نسلّم زمام أمورنا إلى عقولنا وننظر بأهمية بالغة إلى أعمالنا بإطار من الفضيلة والوسطية، دون إفراط أو تفريط، وأن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى في طلب الكمال.

الهـــوامـــش :

(1) تنبيه الخواطر ص105.

(2) محمد: الآية12.

(3) الفرقان: الآية44.

(4) تصنيف غرر الحكم: ص54 ط1.

(5) جامع المقدمات: ص194.