1
 

الفقه.. السنن.. وحركة التاريخ

اقتباسات من فكر الإمام الشيرازي(*)

كما إن الأشجار بأجمعها لها واقع مشترك، وإن كانت مختلفة في الحجم والشكل واللون والثمر، وباصطلاح المنطقيين لها جنس واحد وفصول مختلفة، فإن لها أعراضاً مختلفة خاصة أو عامة، وكذلك بالنسبة إلى الأنواع الأخرى، وهكذا الحيوان وسائر المخلوقات سواء النباتية منها أو الحيوانية وحتى الإنسان والملائكة والجن والشياطين لها جامع واحد، كذلك الأمر بالنسبة إلى المجرات والكواكب وما أشبه ذلك.

وكذا الأمر بالنسبة إلى أحداث التاريخ فكلّ الحضارات والبداوات لها جامع مشترك من ناحية، وفي نطاق الحضارات هناك جامع مشترك لجميع الحضارات، وكذلك البداوات لها جامع مشترك وإنما الأشكال والصور والخصوصيات والمزايا تختلف اختلافاً نوعياً أو فصلياً أو نحو ذلك وحالها حال الأمواج التي تتقاذف في البحر، فلها واقع واحد وتكوين مشترك هو الماء.

ومفهومنا لفلسفة التاريخ والذي يدور حوله البحث هو القاسم المشترك الذي يجمع الأحداث التاريخية ويضعها أمام بصيرة الإنسان. وفائدة دراسة فلسفة التاريخ و التعمّق فيها هي المعرفة ، فإن العلم والمعرفة مطلوبان بذاتهما، لأنهما يسببان لذّة روحية والإنسان بطبعه ميال إلى اللذّة نفّارٌ من الألم جسمياً كان أو روحياً، والمراد بالروح هنا الأعم من النفس حيث عندنا جسمٌ ونفس وروح على ما ذكرنا تفصيله في بعض الكتب..

والفرق بينهما أن المعرفة تقال لما سبق العلم به، ولذا قال سبحانه وتعالى في قصة يوسف: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) (1) حيث كانت معرفته سابقة للعلم، وفي الحديث: (عرفت الله بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم) (2)، حيث سبق العلم المعرفة بالنسبة إلى موضوع الأخوة وبالنسبة إلى الله تعالى، بينما العلم لا يدل على ذلك، ولذا لا يصح أن يقال (فعلمهم) إلى غير ذلك من الشواهد التي لا مجال لذكرها هنا.

أضف إلى ذلك أن العلم بالجامع ينتج معرفة الإنسان بأسباب سقوط وقيام الحضارات والدول، فمثلاً سنتعرف على أسباب سقوط بني أمية وسقوط روسيا القيصرية ثم روسيا الشيوعية وهكذا بالنسبة إلى أسباب الانتصار والنجاح، فلماذا نجح ذو القرنين ونجح الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجح الأئمة الطاهرون (عليهم السلام).

ومثل هذه المعرفة تفيدنا في تجنّب الأسباب الداعية إلى السقوط والأخذ بأسباب النجاح، لذا نجد في القرآن الكريم وصفاً دقيقاً لذي القرنين (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)(3)، فالدنيا هي محيط الأسباب، والأسباب تنتهي إلى المسببات، ولذا قال تعالى: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) (4) وقال الإمام علي (عليه السلام): (وسر في ديارهم واعتبر آثارهم)(5) فإن من يسير في الأرض أو في الديار سيعرف لماذا سقطت هذه الأمة وكيف نجحت تلك الأمة، وسيعرف أسباب عزتها وأسباب ذلها، فالجامع الواحد يعطي أثراً واحداً حسناً في الجامع الحسن وأثراً سيئاً في الجامع السيئ حيث أن الواحد - في الطبيعيات - لا يصدر منه إلا الواحد كما لا يصدر إلا من الواحد على القاعدة الفلسفية المذكورة في الحكمة، وقد ذكرنا ذلك في الأصول بالتفصيل(6)، والمراد بالواحد؛ الواحد من جميع الجهات في الطبيعيات، أما الله فهو واحد في ذاته وصفاته الذاتية، أما إرادته فهي متعددة (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (7)، و(يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) (8)، ولذا تنوّع خلقه.

وإنما جعل الله سبحانه وتعالى الأمر كذلك ليستقيم العلم وإلا لزم على الإنسان أن يجرّب كل واحد من الأشياء، فإن الأشياء إذا لم يكن لها جامع فلا يمكننا أن نستدلّ على أن الماء من طبيعته البرودة وان النار من طبيعتها الحرارة؛ إذ لولا الجامع فكيف نستطيع أن نستخلص هذه القاعدة المشتركة؟.

علاقة الفقه بالتاريخ

الأحداث قبل أن تقع.. هي بانتظار اللحظة التي ستقع فيها، ولحظة وقوعها تدخل في مكونات الحاضر، وعندما يمر زمان على وقوعها تصبح شيئاً من الماضي، وهذا هو التاريخ.

تصدق هذه الحقيقة على كل شيء، باستثناء الله سبحانه وتعالى حيث لا يشتمل عليه الزمان، كما تقرر في علميّ الفلسفة والكلام، وكذلك المجردات على بعض الأقوال.

و لما كان الفقه شيئاً من الأشياء فارتباطه بالتاريخ ارتباط وثيق لا انقطاع فيه، فالفقه الإسلامي لم يكن ثم وجد ثم مرّ عليه الزمن لا بمعنى انعدامه كانعدام الإنسان والحيوان بل بمعنى مرور الزمان عليه.

مثلاً: فقه الإمام الصادق (عليه السلام) تكوّن عندما قال الإمام (عليه السلام) تلك الأقوال وبيّن تلك الأحكام فأصبح قوله وفعله وتقريره (عليه السلام) فقهاً(9)، وعندما رحل الإمام إلى الرفيق الأعلى ومرّ على هذا الفقه زمن طويل أصبح ذلك الفقه تاريخاً، و(تاريخاً) بالمعنى الفلسفي للكلمة لا بالمعنى العرفي لها، أي ليس بمعنى انقضاء العمل به بل يؤخذ به إلى قيام الساعة لأنه حقيقة يريدها الله سبحانه وتعالى للبشر حتى انقضاء أجلهم المكتوب لهم على هذه الأرض.

فعلاقة الفقه بالتاريخ أنه جزئي من جزئياته لكنه جزئي معنوي كسائر المعنويات وليس جزئياً مادياً كالمواليد الثلاثة(10) لوضوح أن التاريخ ومرور الزمان ينطبق على كليهما(11).

فتطور الفقه تطور تكاملي، فكل معصوم يأتي بما يكمل ما قدّم المعصوم الذي قبله وهكذا دواليك، فتطوّر الفقه هو إلى الأعلى وليس إلى الانحدار كما هو أثر الزمن على الأشياء.

وهناك علاقة أخرى بين الفقه والتاريخ غير تلك العلاقة التي ذكرناها وهذا هو مقصود حديثنا، ونحن نبين هذه العلاقة بضرب المثال التالي:

لقد مرّ تحريم الخمر بمراحل عديدة، كذلك مرت الصلاة بمراحل عديدة من حيث جواز التكلم أثناءها أو عدمه، وهذه الأدوار لم تقرّ من قبل الشارع جهلاً منه ثم تداركه لهذا الجهل بل رحمة للناس، فالناس لا يتحملون الأمور الصعبة مرة واحدة فلا بد من التمهيد لخلق الاستعداد الكافي لتلقي الواجب، فربما يكمل الفاعل وربما يكمل القابل كما ذكروا في مباحث الفلسفة.

فعلاقة التاريخ بالفقه تبدو على نحوين كما ذكرنا:

الأول: تطور الفقه على مرور الزمان وهذا هو علم من العلوم ونستطيع أن نسميه بتاريخ التشريع الإسلامي أو تاريخ الفقه الإسلامي حيث شرعت الأحكام وفق الظروف الموضوعية لحياة الناس في ذلك الزمن(12)، والعلم بالشيء خير من الجهل به.

الثاني: وقوع الفقه ضمن ظروف واقعية(13) حيث شرعت الأحكام وفق الظروف الموضوعية لحياة الناس في ذلك الزمن، فمعرفة هذه العلاقة بين التشريع والواقع أو الفقه والتاريخ تكشف لنا الظروف الطارئة والعوامل المؤثرة في مراحل التشريع في الحكم الواحد، الأمر الذي يجعلنا قادرين على الأخذ بها في المستقبل إذا كانت الظروف الحاضرة لا تتناسب مع الأخذ بها.

وقد ورد في كتاب النكاح أن كراهة رضاعة الطفل من لبن الزانية ترتفع إن رفع المالك للجارية يده عن حقه في زناها، وقد بيّنا تفصيل ذلك في كتاب النكاح، فالمستقبل مؤثر في الماضي عقلاً أحياناً على نحو الشرط المتأخر وشرعاً بالنص ونحوه.

وبالإضافة إلى المنافع التي ذكرناها، هناك منافع أخرى من أهمها: إننا عندما ندرس التاريخ الفقهي سنلاحظ منحني القوة والضعف في هذا التاريخ، سنجد هذا المنحنى يرتفع في بعض الأوقات ويهبط في أوقات أخرى، فالمعروف عند العلماء أن الفقه تكامل في خطوطه العامة عند نزول الآية الكريمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) (14)، أما في خطوطه الخاصة فهو لم يتكامل إلا خلال قرن من الزمن، وقد بدئ بكتابة الفقه الإسلامي منذ أيامه الأولى، فكتاب الجامعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) هو الكتاب الذي يتضمّن جميع الأحكام الشرعية حتى أرش الخدش، وقد ورث الأئمةi كتاب الجامعة من جدهم أمير المؤمنين(عليه السلام) وانتقل من إمام إلى إمام، علماً أن عمل العلماء والمجتهدين عبر التاريخ الإسلامي إنما يكون بالشرح والتوضيح والتبيين وما أشبه ذلك.

وقد ذكر المؤرخون أن القانون الروماني لم يدوّن إلا بعد مرور ألف سنة مع أخذ النظر بالفروقات المهمة بين القانونين الإسلامي والروماني، فالأثر يدل على المؤثر، فالنتيجة من حيث القوة والضعف دليل على قوة أو ضعف المستند، كما إن الانحراف والاستقامة دليل على البطلان أو الصحة، وقد ذكر لنا التاريخ كثيراً من قصص محاكم التفتيش في العهد الروماني عندما فرضت الكنيسة سيادتها على الحياة العامة فقامت بحرق المسيحيين المخالفين لها، كذلك فعلت الحكومات التي جاءت عقب الكنيسة فانتهجت الأساليب نفسها حتى أنهم كانوا ينتزعون الاعترافات من القساوسة بالآلات الجارحة، وهذا دليل على تدنّي القانون الروماني، لأن لكل فعل رد فعل.

وكيف كان فالأمران دليل على ما ذكرناه.

ونكتشف حين دراستنا لتاريخ التشريع الإسلامي، إصابة هذا الفقه بوابل من الضعف في زمن الخلفاء الذين ابتدعوا فقهاً في قبال فقه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهذا ليس بالأمر الغريب فقد ادعى التاريخ لهؤلاء ما كان للأئمة(عليهم السلام) من فضيلة، فادعوا الزهد حتى ليزيد بن معاوية وهارون العباسي في قبال زهد الإمام زين العابدين والإمام الكاظم وبقية الأئمة(عليهم السلام).

فالتاريخ يكشف لنا عن نقاط الضعف هذه ويسجلها بوضوح كي يستطيع من يريد الحقيقة الوصول إلى ذلك.

ومن عوامل تأثير التاريخ في الفقه هو ما ذكره الفقهاء عندما يطرأ عنوان ثانوي حيث يتغيّر الحكم حسب هذا العنوان الثانوي، أولاً كان فهو حكم أولي، وثانياً حكم ثانوي، وإذا انعكس الأمر بأن كان السابق حكماً ثانوياً ثم ذهب موضوعه، فكان الأمر ثانياً حكماً أولياً، وهذا من مصاديق التأثير المتبادل بين الفقه والتاريخ حيث يكون من نتائج هذا الترابط آثار الحكم الأول بعد طروء الحكم الثاني، مثل القضاء والكفارة وما أشبه.

السنن الإلهية هي الأسباب الجامعة

السنن الإلهية هي القضايا الجامعة التي جعلها الله تعالى مطلقة أو مقيّدة في أمور متشابهة، كما يقال إن السنة الإلهية في الطير أنه يبيض والبيض ينتج عنه الطير، وأن شجرة التفاح لابد أن تمنحنا ثمر التفّاح لا الموز، وأن الإنسان الذكي يستوعب ما لا يستطيع أن يستوعبه الإنسان الغبي، وأن الغرور نهايته السقوط، وان العجب يبعث الإنسان على العزلة في الحياة حيث لا يستطيع العيش مع الآخرين كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا وحشة أوحش من العجب) (15) وهكذا بالنسبة إلى الصفات الحسنة، مثل أن التواضع سبب لرفعة الإنسان ورقيّه كما ورد في الدعاء: (في جميع الأحوال متواضعا) (16) أي في حال الصحة والمرض والغنى والفقر والعلم والجهل والحكومة وعدمها؛ إذ من طبيعة بعض البشر إذا كانوا فقراء كانوا متواضعين وإذا أصبحوا أغنياء تكبروا.

وتذكر السنن الإلهية أن من أراد أن يكون عالماً أصبح متواضعاً، أما إذا كان جاهلاً فقرينه في الجهل هو التكبّر والعكس صحيح - بنحو المقتضي -.

أما عن تسمية هذه القواعد التي نستنبطها من حركة الأحداث بالسنن الإلهية فلأنها تعبّر عن إرادة الله في خلقه وطريقته في تصريف الأمور في هذه الدنيا. أما كيف ستصبح هذه السنن في الآخرة وماذا سيكون مصيرها بعد الحياة أو في سائر العوالم هل ستستمر أو ستتوقف؟، لا علم لنا بذلك، إذ من المتوقع أن نرى شجرة التفاح وهي تمنحنا تفاحاً تارة، وتارة برتقالاً، وقد لا تكون قامة الإنسان بهذه الحدود التي نعرفها، فالآخرة تخضع لمقاييس خاصة تختلف اختلافاً كبيراً عن مقاييس الدنيا. ولا يمكننا معرفة ما سيجري هناك إلا بعد أن نذهب إلى هناك بإذن الله تعالى. وقد ورد في الحديث الشريف في صدد ما يراه الإنسان في الجنة: (ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) (17).

وإنما لم يخطر على قلب بشر لأنه من نوع آخر حال ذلك حال من رأى الجامد طول حياته فإنه لا يستطيع أن يتصور شكل السائل، ومن شاهد طيلة حياته نوعاً من الأسماك يصعب عليه تصوّر الأنواع الأخرى.

سنن الله تعالى من منظور قرآني

والقرآن الكريم تارة ينسب السنة إلى الله سبحانه وتعالى وطوراً ينسبها إلى الإنسان، وقد ورد ذكر السنة في القرآن بألفاظ متعددة، فتارة يقول تعالى (سُنَّةَ اللهِ) (18) وطوراً (سُنَّتِنَا) (19) ومرة يأتي الخطاب بصيغة (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ) (20) ومرة أخرى يأتي الخطاب على صيغة (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (21) للدلالة على أن الله تعالى لا كيفية خاصة له في الاجتماعات، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) (22)، ومعنى الكلمتين: إن سنة الله في النار هي الحرارة فلا تتبدل إلى البرودة، كما وإن الحرارة لا تتحول من النار إلى الماء، وهكذا..

هذا بالنسبة إلى جانب الفاعل وكذلك بالنسبة إلى جانب القابل، لأن السنة لابد أن تكون بين فاعل وقابل، سواء كان القابل إنساناً أو نباتاً أو حيواناً أو جماداً أو نحو ذلك..

ويمكن أن تكون السنة سنة أولية أو تكون ثانوية، أي إنما تكون معطياتها حسب تعامل الإنسان معها، كما نشاهد أن سنة الله تعالى هي الانتصار بالنسبة إلى من أعدّ بمختلف الأسباب.

فالنصر هو حليف الإنسان في نهاية المطاف، كما وأن الإنسان قد ينهزم في نهاية سلسلة من الأحداث، سواء كان هذا الانتصار أو الانهزام مادياً أو معنوياً، ولا فرق بينهما سواء كان المنتصر أو المنهزم من أصحاب الحق أو أصحاب الباطل. وقد قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (23) فمن المحتمل أن يكون أهل الحق أذلّة لعدم توفّر الأسباب إما لأنهم لم يهيئوا الأسباب بالشكل المطلوب أو أنهم أخذوا بالأسباب لكنهم لم يكونوا ممن تحدث عنهم القرآن الكريم (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) )(24).

والظاهر أن سنن الله تعالى على ثلاثة أقسام بغض النظر عن الفاعل والقابل، فهناك سنن في الدنيا، وسنن في الآخرة، وهناك سنن مشتركة في الدنيا والآخرة.

فالسنن الأخروية هي الثواب والعقاب لقاء ما يقوله الإنسان من الأقوال وما يرتكبه من الأعمال وما ينتجه من الأفكار، لأن الأفكار أيضاً في معرض الحلال والحرام بالثواب والعقاب، وليس المراد من العقاب جهنم بل انحطاط للدرجات كما قال جل وعلا: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (25)، فلا يقال لا حساب على النيّة كما في الروايات، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الأصول.

السنن الدنيوية

السنن الدنيوية وهي ما نشاهدها بكثرة في كل خطوة من حياتنا، ولعلّ هناك المليارات من هذه السنن المحيطة بنا أو بغيرنا ونحن لا نشعر بها، فإن الاكتشاف والاختراع وما أشبه ذلك من هذه الألفاظ إنما هي اكتشاف لسنة من سنن الله تعالى في بُعد من أبعاد الحياة.

وتنقسم السنن الدنيوية إلى سنن في الاقتصاد والاجتماع والتربية والعزة والذلة.

ولو عددنا معطيات الحياة على كثرتها لوجدنا وراء كل واحدة منها سنة، وقد تكون هذه السنة مرتبطة بالفرد وقد تكون مرتبطة بالاجتماع وقد تكون مرتبطة بكليهما، وعلى أساس ارتباط هذه السنن نستطيع أن نقسمها إلى قسمين اثنين؛ قسم يرتبط بالمجتمع، وقسم يرتبط بالفرد، فالقسم المرتبط بالفرد لا يدخل في موضوعنا.

أما القسم الثالث وهو السنن الدنيوية والأخروية، فقد ورد ذكرها في الكتاب والسنة، مثلما ما ورد من أن (الراحمين في الدنيا هم المرحومون في القيامة)، وإن (المؤمن تحت ظل صدقته يوم القيامة)، مثل هذه السنن كثير.

أقسام السنن الاجتماعية

أما السنن المرتبطة بالمجتمع فهي على أقسام:

1- سنن تتعلق بالله تعالى.

2- سنن تتعلق بالعرف والعادة مثل قولهم أن عادة أهل الهند كذا وعادة الغربيين كذا وعادة أهل الصين كذا، فقد تكون هذه العادة التي هي سنة حسنة عند أولئك الأقوام، عادة سيئة عند قوم آخرين، وذلك بحسب الأزمنة والأمكنة والخصوصيات.

والكثير من التصرفات القائمة على العادة ليست سنناً إلهية لأنها قد تكون مخالفة للعقل والشرع، فوأد البنات كان سنة رائجة في الجاهلية، حيث النساء كن يئدن البنات حتى الأمهات منهن كما كان يفعل الرجال من وأد البنات، وعندما جاء الإسلام قلب هذه السنة إلى سنة احترام المرأة، فلو كانت السنن الاجتماعية القائمة على العادة من الله لكانت سنة وأد البنات من الله أيضاً.

ومن نافلة القول، الإشارة هنا إلى الفرق بين العادة والعرف، فالعادة ما كانت مستمرة، بينما العرف لا يشترط فيه الاستمرار فلربما كان ابتدائياً مثل عرفية الوقوف عند الإشارة الحمراء والسير عند الإشارة الخضراء حيث يعتبر ذلك عرفاً، وليس بعادة، ولو استمر ذلك لأصبح عادة أيضاً على ما ذكرنا تفصيله في كتاب القانون وغيره.

الهـــوامـــش :

(*) من كتاب لم ينشر بعد بعنوان (الفقه فلسفة التاريخ)، تحقيق مؤسسة الوعي الإسلامي، بيروت -لبنان.

(1) سورة يوسف: الآية 58.

(2) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج19 ص84 ب247.

(3) سورة الكهف: الآيتان 89، 92.

(4) سورة آل عمران: الآية 137.

(5) بحار الأنوار: ج77 ص202 ح1 ب8.

(6) انظر كتاب الأصول مباحث الألفاظ للإمام المؤلف (دام ظله).

(7) سورة يس: الآية 82.

(8) سورة الرعد: الآية 39.

(9) هذا في مرحلة الإثبات كما لا يخفى، وإن كان في مرحلة الثبوت: إن كل تشريع من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فهو مستقى عبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوحي.

(10) الحيوان والنبات والجماد.

(11) المعنوي والمادي.

(12) وبعبارة أخرى التاريخ الفقهي بمعنى الفاعل.

(13) وبعبارة أخرى كشف الظروف عبر القابل.

(14) سورة المائدة: الآية3.

(15) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص372 ب2 ح5762.

(16) مصباح الكفعمي: ص555، مصباح المتهجد: ص845، البلد الأمين: ص188.

(17) الأمالي للصدوق: ص432، فضائل الأشهر الثلاثة: ص37.

(18) سورة الأحزاب: الآية 38، سورة الفتح: الآية 23.

(19) سورة الإسراء: الآية 77.

(20) سورة الإسراء: الآية 77.

(21)سورة النساء: الآية 26.

(22) سورة فاطر: الآية 43.

(23) سورة آل عمران: الآية 123.

(24) سورة البقرة: الآية 249.

(25) سورة البقرة: الآية 284.