1
 

محمد محسن العيد

آلية عمل القلب

لكي نحيط بهذه المعاني لابد لنا أولاً من أن نعرف ماهية تكوين الإنسان، وما في كيانه من قوى موجهة لفعله، وماله من حاجات تتطلب الاستجابة ثم بعدها نحدد هذه المصطلحات وفقاً لما جاء به القرآن العظيم.

إن تحديد الأسماء لمعانيها، هو أساس كل معرفة وعلم، وإلا فلا علم، بل خلط وتشويش في معلومات الناس، لأنه يأتي من عدم الدقة في تثبيت المعاني لأسمائها، التيه الفكري الذي هو بداية لكل علم.

فمثلاً؛ القلب عند الناس والشائع بينهم، أنه عضو ضخ الدم في جهاز الدوران في جسد الإنسان الحي، حتى في المدارس الأكاديمية، يدرس القلب على هذا المعنى، وأنه يتكون من أذينين وبطينين... أما الشعراء والعاشقون، فالقلب عندهم بمعانٍ لا حصر لها.

والحقيقة إن القلب لغة، هو لبّ كل شيء وجوهره، ونجد القرآن العظيم بما هو بيان للناس، قد أورد لفظاً لمضخة الدم في الجسد.. ولفظاً لجوهر النفس الإنسانية لبيان الاختلاف في المعنيين في آية واحدة، قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: 10).

فلفظ الفؤاد لمضخة الدم، ولفظ القلب لجوهر النفس، معانٍ حددها القرآن الكريم، ونجد الخلط كثيراً في معاني الروح والنفس والقلب والعقل، ولو ردّوها إلى القرآن لوجدوها واضحة متمايزة.

فالعقيدة لفظة لم ترد في القرآن الكريم مطلقاً، إلا أن المعنى الشائع لها مرادف للدين، لكن الحقيقة هي أن الدين لله فقط، ولا ينطبق هذا المعنى إلا في عقيدة الإسلام، بل وحتى في الإسلام، لا يكون الإسلام ديناً خالصاً لله تعالى إذا لم يكن الأداء في الآدمي ومنه، فعلاً وقولاً يأتي بقصد القربى لله تعالى وخالصاً لوجهه دون نفاق أو نفعية.

فعقيدة الإسلام هي استجابة النفس الإنسانية وخضوعها لمضامين الحسن الرباني في الكون ومضاء لمعانيه، ولذا فإن كل ما يصدر عن النفس إذا لم يكن متوجهاً بمعاني الإحسان من مصدرها وإليه سبحانه خالصاً دون ضميمة فإنه يخرج معاني الحسن في مضمونها الرباني، بما هي معانٍ متصلة بوجه الله وسرمدية سننه، فلا حسن خارج مشيئته سبحانه.. ولو داخل فعل الآدمي وقوله توجه من سريرته لغير وجه المحسن سبحانه، فإنه خواء وإن بدى حسناً ضمن إطار السنن الحسنة ومعانيها.. ذلك لأنه في هذه الحالة عمل مبتور مقطوع من نفس الآدمي، فهو إنما مأجور لهواه، بمعنى إن قصده من ذلك العمل نفسه لا يتعداها، فهو يدين لها ولا يدين لله.. يقول تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) (الطارق: 9-10).

وتلك هي داهية الدواهي، التي نبتلي بها في الغالب، لأن عدم صلاح السرائر بقصد القربى لله تعالى، الذي يبطن الأعمال الحسنة، خصوصاً ممن يعتبرهم الناس أهلاً للإحسان في المجتمع، يصير مصدر الفتن والضياع والخسران، ثم يصير ذلك كله شاهداً يوم القيامة على الآدمي.. وعندها فمن أين له يومئذٍ القوة التي سعى بها في تلك الفتن، وتسبب في ضياع الأمة وضلال الناس؟!، ومن أين له يومئذٍ الناصر الذي ينصره من الله تعالى الذي نسيه في سريرته وقصد غيره في هذا الفعل الذي خدع فيه نفس، وضر غيره.

وهكذا فالإسلام عقيدة الدين الذي لا بديل للآدمي عنه.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).

بل وحتى الذي يدين بالإسلام لا بديل له أن يكون قصد القربى إلى الله تعالى وحده هو الموجه لقوله وفعله في الدين.. فلا بديل له من مراقبة نفسه من أن يتوجه في سريرته لغير وجه المحسن سبحانه.

هذا معنى العقيدة في كونها ديناً.. أما معاني النفس والعقل والقلب والعصمة وغيرها، فتحتاج معها لمعرفة تكوين الإنسان في أجزائه التكوينية، ولقد مرّ معنا في الباب الأول التدقيق في معاني تلك الأجزاء، ونعود الآن إليها من أجل التكامل مع معاني العقيدة لتناول مضامين تلك المعاني مستعينين بالقرآن لتحديدها.

فمن أجل الدقة في استعمال الألفاظ لمعانيها، كنت قد ارتجلت الدّاب لمعنى الجسد الحي في الإنسان، متصلاً بجهاز سيطرته وتوجيهه (الدماغ)، وكان عليّ أن أميز بين مكونات الذات الحية في الجسد بثلاث ذوات متمايزة لمعرفة مصادر الغرائز الإنسانية في ثلاث ذوات متمايزة هي الكيماوية والغريزية والشحنية.

واستعرت اسم (النهى) من القرآن لمعناه في رقابة وتقويم الإرادة، وكان لابد من تثبيت أنماط التعلم، وأصناف المعارف، وأهداف الروح السامية في الحسن الرباني، بما هي أمر الله تعالى التي نفخها في خلقه الآدمي.

فقد قلنا إن الإنسان كيان حي عاقل: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص:71-72).

وأمر الله تعالى محض حسن، فهو في تكوين الإنسان إرادة حسن محض، تبدو لنا ضمن سنن تكوين الإنسان.. وعلى هذا الأساس فإن الكيان الإنساني يقع في جزئين هما:

أ) الدّاب: وهو الجزء الحيواني من كيان الإنسان، ويتشكل من الذات الحية والدماغ.. والذات الحية تتشكل من المادة وتفاعلاتها الكيماوية في الذات الكيماوية، ومن الطاقة وتفاعلاتها في الذات الشحنية، ومن تلابس الذاتين في الذات الغريزية.

الذات الكيماوية: هي مادة الجسد وتفاعلاتها الكيماوية، ومن جل إدامة التلقائية في الجسد الحي ونموه فإن حاجات هذه الذات هي الغذاء، والشرب، والراحة، والنوم، والاستقرار.

الذات الشحنية: هي طاقة الشحن الحراري والكهربائي ومجالاتهما المرافقة للبناء المادي في الذات الكيماوية وتأثير تفاعلاتهما بهما.. ومن أجل دوام مميزات الحياة في الجسد، فهذه الذات تحتاج إلى انتظام الحرارة (الدفء والبرودة)، والحركة، واللعب، والخوف، واللذة (توازن طاقة الشحن).

الذات الغريزية: هي محصلة اندماج الذاتين الكيمياوية والشحنية، لتلابسهما ضمن التصميم الرباني للجسد في كيان الدّاب؛ حيث تتحول فيه الصفات المادية إلى غرائز، فصفة الكتلة في المادة تولد حب التملك وحب الملك. وصفة الاستمرارية في المادة تولد حب البقاء والخلود.. وصفة اللاانتظام في المادة (الأنتروبي)، تولد الميل للعبث.

ب) الروح: هي قوة موجهة من أمر الله تعالى وإليه، تعرفها في تكوين الإنسان مجسدة في إرادته للخير والحسن بكل معانيه الكونية، وندركها من خلال قدرة الإنسان على إدراك مضامين الحسن ومعانيه في الكون، دون غيره من المخلوقات وإن هذه الميزة في إدراك معاني الحسن الكوني في الإنسان، إنما تأتي من امتداد معاني الحسن في صفات خالق الكون، وكل صفاته حسنة، منعكسة في سنخها في تكوين الآدمي وهو (النهي) من الروح التي من أمر الله تعالى، والذي يدرك ذاته بما هو رقيب الروح على إرادتها للحسن، حيث يبرز في طلب أو حاجة الروح لتقوية الإرادة عند ملاحظة ضعفها في الذات (النفس).

إرادة التعلم: وتبرز في كل نفس إنسانية بأنماط ثابتة، يسعى الإنسان من خلالها للحصول على العلم، وهي كما مرّ معنا في الباب الأول: التسليم، والتعليل، والتصديق، والمفاضلة، والتجريب، والإيمان، والتعميم، والتكامل.

إرادة العلم: وتبرز في كل نفس إنسانية بمعارف ثابتة، هي معرفة الأسماء، ومعرفة الأسباب والعلل، ومعرفة الحقائق، ومعرفة المعايير والمقاييس، ومعرفة القوانين وتطبيقاتها، ومعرفة الغيب، ومعرفة السنن، ومعرفة المعرفة ذاتها.

إرادة الاستقرار في معاني الحسن الكوني: هي قوة ربانية في كل نفس تبرز من وجود الروح فيها، موجهة نحو السنن الحسنة في الكون، وفي طلبه للحق والعدل، وفي إرادته للإمامة والسيادة، وفي قدرته على الصبر على البلاء، وفي إرادته للتوحد والتوحيد وفي استعداده لما بعد الموت، وفي سعيه للأحسن والأفضل دوماً.

العقل والقلب والنفس واللب

النفس: هي الجوهر المتحقق من تلابس ما نمى من الجزئين في كيان الإنسان الداب والروح.. أما العقل؛ فإنما سمي عقل لأنه يعقل (يربط) في النفس حاجات الداب الحيوانية وغرائزه بقوة الإرادة الروحية، ويعقل (يربط) حاجات الروح للتعلم والعلم والحسن، بقوة النشاط الحيوي للداب، فالعقل هو ما يبدو لنا من كل نفس إنسانية كانعكاس لواقع ميزان النمو لكل من جزئيها.. لأن كل جزء من أجزاء النفس يتمتع بثقل حاجاته على الكيان الموحد.. وكذلك فإن كل من الجزئين يتمتع بثقل قواه الموجهة للنفس ككيان موحد لهما. ومن أجل الدقة في البيان فقد أسمينا الثقل الأول في ميزان العقل بقوتي الحاجة، كما أسمينا الثقل الثاني بقوتي السوق.

أما قوتا الحاجة فتتنازعان النفس باتجاهين متعاكسين، لأن كل منهما يطلب الاستجابة لذاته، وكذلك قوتا السوق فتتنازعان النفس باتجاهين متعاكسين أيضاً، لأن كل منهما يسوق النفس للاستجابة لذاته.

وهنا يبرز من النفس ميزانها؛ وهو العقل، وإنما سمي عقل لأن النفس تعقل كل تيارين يتنازعانها في المحصلة الواحدة، وهي حاصل جمع القوتين إذا كانا في اتجاه واحد وحاصل الفرق بينهما إذا كانا في اتجاهين متعاكسين. ليخرج مقابل كل محصلة حكم عقلي من النفس، نلاحظه من خلال تعبيراتها اللغوية أو السلوكية.

ومن ملاحظتنا لمجموعة أحكام عقلية تصدر عن نفس ما، نستطيع أن نحكم على مقدار النقص أو الكمال في عقلها، فنقول أنها عاقلة أو غير عاقلة، أو أنها حيوانية أو لوامة، أو روحانية.

فمثلاً؛ نقول عن شخص أنه حيواني، إذا لاحظنا أن سلوكه وأقواله هي تعبير عن قوة غرائزه ولصرف طاقته الجسدية فقط، فهو كالحيوان لا إرادة للحسن عنده، فهو لا يستطيع عقل (ربط) غرائزه وتهذيبها بمضامين الحسن ومعانيه.

ونقول عن شخص أنه روحاني، إذا كانت كل أحكامه العقلية معبرة عن إرادته للحسن بكل معانيه الربانية الكونية، لأن قوى الروح وقوى حاجاته الروحية هي المسيطرة في نفسه وهي التي توجه غرائزه ونشاطه الحيوي. فتقع كلها في الحسن.

ونقول عن شخص أنه سوي، لأن قوى الداب وحاجاته وقوى الروح وحاجاته في نفسه متقاربة في مقدار قوة توجيه النفس في ميزانها العقلي، لذا فإن أحكامه العقلية مرة تكون لصالح غرائزه ومرة تكون لصالح إرادة الحسن فيه.

وعلى وجه العموم، فإن هناك أربعة احتمالات لالتقاء تيار قوة واحد من الداب مع آخر من الإرادة في كل نفس إنسانية، وفي كل قضية تحتاج فيها النفس إلى العقل كي يصدر حكماً في تلك القضية وعلى الشكل التالي:

1) تيار قوة يطلب حاجة للداب مقابل تيار قوة سوق روحية (حاجة × سوق).

وهذا يعني أن التيارين يظهران في النفس باتجاه واحد، فتكون محصلة التوازن العقلي مساوية لمجموع تلك القوتين وباتجاه الاستجابة لحاجة الداب وفق مقدار النمو الروحي للنفس، ويصدر حكم عقلي بذلك.

2) تيار قوة حاجة روحية مقابل تيار قوة حاجة للداب، (حاجة × حاجة).

وهذا يعني أن التيارين يظهران على النفس باتجاهين متعاكسين، فتكون محصلة التوازن في العقل مساوية لحاصل الفرق بينهما وباتجاه الحاجة الأشد قوة، فيصدر الحكم العقلي بذلك.

3) تيار قوة سوق روحية مقابل تيار قوة سوق للداب ( سوق × سوق).

وهذا يعني أن التيارين يظهران في النفس يسوقانها باتجاهين متعاكسين، فتكون محصلة قوتيهما بالعقل (الربط) مساوية لحاصل الفرق بين شدتيهما ولصالح القوة السوقية الأشد وباتجاهها، ويصدر الحكم العقلي بذلك.

4) تيار قوة سوق للداب مقابل تيار قوة حاجة للروح (سوق × حاجة).

وهذا يعني أن التيارين يظهران في النفس باتجاه واحد، فتكون محصلة التوازن بالعقل (الربط بينهما)، مساوية لمجموعهما، وباتجاه الاستجابة للحاجة الروحية ويصدر الحكم العقلي بذلك.

وباعتبار أن النفس هي الجوهر المتحقق من اندماج ما ينمو من الداب مع ما ينمو من الروح في كيان الإنسان، فعلى أساس التفاوت في القوة والنمو لكل من الجزئين، قسمت النفس إلى ثلاثة أقسام هي كما في كتاب الله:

1) النفس الأمارة بالسوء:

هي التي لا نمو لقوة الإرادة الروحية فيها، فهي لا تشكل في ميزان العقل في تلك النفس ثقلاً مانعاً مقابل ثقل قوة الداب، لذا فإن الميزان بالعقل راجح دوماً لقوة الداب الحيوانية، وبالتالي فإن أحكام العقل في هذه النفس دوماً لصالح الاستجابة للغرائز ولصرف الطاقة الحيوانية، فيتصرف الإنسان صاحب هذا النوع من الأنفس وكأنه حيوان. وهو ما يسيء إلى صفته الإنسانية والى رسالته التي كلّف الله تعالى بها على هذا الكوكب، فنقول أن نفسه أمارة بالسوء.

2) النفس اللوّامة:

وهي التي تنمو في كل من جزئيها قوة الإرادة الروحية وقوة الداب بشكل متوازن ومتوازي، فهي في حالة صراع، بين ما يطلبه الداب ويسوق وبين ما تتطلبه إرادة الحسن فيها وما تسوقه.. ولذا يبقى ميزان النفس بالعقل متأرجحاً، فمرة تغلب إرادة الحسن، ويصدر الحكم العقلي لصالح الروح، ومرة تغلب الغرائز، فيصدر الحكم العقلي لصالح الداب، فتحصل حالة لوم في النفس لعدم نفاذ إرادة الروح مع قوتها، فتسمى هذه النفس لوامة.

3) النفس المطمئنة:

هي النفس التي تنمو فيها قوة الروح وإرادتها للحسن إلى الحد الذي تتفوق على قوة الداب وغرائزه، فميزان العقل فيها لصالح الروح (وهي من أمر الله تعالى) وكل الأحكام العقلية التي تصدر عن تلك النفس تقع في معاني الحسن، حيث أنها تصير مطمئنة بالمطابقة الكلية مع مضامين الحسن الكوني، مثل نفوس المعصومين من أنبياء وأئمة (عليهم السلام).

القلب: هو مكنون النفس من الذاكرة واللب والعادات والتقاليد والعقيدة والمعرفة واللاوعي. ولذا فهو جوهر كل نفس التي هي مصداق لكل إنسان ولذا قال المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): (المرء بأصغريه قلبه ولسانه).

وقد ثبتنا المعاني القرآنية لمكونات القلب هذه في الباب الأول، والذي يهم هنا هو تكامل هذه المعاني مع معاني الحسن الرباني في العقيدة، فالذاكرة في حسن العقيدة تقترن باللب.

إن الحيوانات تحفظ للأشياء التي تقابلها في حافظة الدماغ استجاباتها الحسية من صور وأصوات وعطور وطعام وأشكال.. ولا تعني عندها الذاكرة، بما هي هذه الاستجابات، أكثر من معين لتحقيق استجابات لغرائزها.

أما الإنسان فإن الذاكرة عنده ليست فقط الاستجابات الحسية المسجلة في الدماغ للأشياء التي تقابله، بل المعاني التي تقترن بتلك الاستجابات.. فالذاكرة عند الإنسان وهي حافظة الدماغ، تقترن متلبسة بحافظة النهى من الروح وهي اللب، بما يعنيه النهى من رقابة وتقويم للمعاني كلها باتجاه مضامين الحسن الكوني.

والعادات في حسن العقيدة، تقترن بمكارم الأخلاق التي تشيعها العقيدة وقيمها الفاضلة الحسنة؛ ذلك بما أن العادات هي تكرر أفعال ونشاطات الجزء الداب من التكوين الإنساني، التي يفرضها المحيط والبيئة عليه، فهي استجابات مشروطة بواقعها من الزمان والمكان والعوامل البيئية والاجتماعي.. أي إذا اقترنت تلك الاستجابات في النفس وصارت مشروطة لما تقرره عقيدتها من مكارم خلقية وفضائل القيم؛ تكاملت عقيدة تلك النفس وحسن أدائها.

أما التقاليد في معناها الحسن في العقيدة، فإنها تقترن بتشريعات تلك العقيدة ومعرفة الآدمي وعلمه، ذلك بما أن التقاليد هي ما يتلبس الداب في النفس من قيم ومعاني بالتوارث عن أسلافه، يكون ملزماً باتباعها والسير وفق ما تقرره.. إذاً فلو اقترن هذا المعنى للتقاليد بتشريعات العقيدة الصحيحة الحسنة، لحسن من المرء الأداء فيها وإن لم يكن يعلم.. ومن هذا الباب أقر الإمامية التقليد على من لم يعلم وجعلوه واجباً ليحسن منه الأداء في العقيدة.

أما اللاوعي فهو مكنون النفس من العقل وأحكامه التي لا تبيح الظروف من الواقع بروزها متجسدة بقول أو فعل، لذا فهي تدفن في أعماق النفس، ولكن لابد من أن يظهرها كلياً أو جزئياً في أحكام عقلية تالية، ولم نجد لذلك تبويباً في عقيدة الإسلام إلا بمعنى التقية عند الإمامية، حيث يمنع الشارع المقدس على النفس الإبطان في اللاوعي إلا في حالتين هما:

حالة إكراه النفس على المعصية مع اطمئنانها بالإيمان، فاللاوعي هنا هو الإيمان في أعماق النفس، فهو مباح وإن تظاهر أو أظهر الكفر مكرهاً. قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).

والحالة الثانية هي حالة اتقاء الضرر المحتمل على بيضة الإسلام من الكافرين، مع عمق اللاوعي في بعضهم، قال تعالى: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28).

من خلال هاتين الآيتين المباركتين، فإن بقاء النفس في إبطانها للإيمان في عمقها واطمئنانها به و اللاوعي الذي تبيحه العقيدة إزاء الظروف حتى تتجلي تلك الظروف، إنما هو (تكتيك) واجب للفرد، و(استراتيجية) للمجتمع مما لا يطمع معهما كافر أو طاغية في ولاء المؤمنين وإن استضعفهم، وهذا التاريخ يشهد بوقائعه على حسن هذا المضمون (التقية) في العقيدة. فلولاها لمحي الإسلام تماماً، فالإمامية في عقيدتهم المناهضة للظلم والطغيان أشهر من أن يذكروا، فتاريخهم كله صراع مع المبطلين، وكله دماء وتضحيات وإلى الآن.

والغريب هو أن الذين يؤاخذون الإمامية على التقية نسوا أن الذين وقفوا بالأمس واليوم وإلى ما شاء الله تعالى بوجه الكفرة والطواغيت وأعتى الظلمة هم الإمامية، والشاهد الشاخص اليوم نجده في العراق وفي لبنان.

إن مكنونات النفس هذه من كل جزء من جزئيها تقترن بمقابلها من الجزء الثاني من بناء الإنسان وتكوينه.. فالذاكرة من الدماغ يتلبسها اللب من النهى رقيباً ومقوّماً فيكون بذلك الذكر والتذكر، فكل مفردات الذاكرة من دماغ الداب عليها من النهى – وهو جزء الروح من الإرادة الحسنة المختص بالرقابة والتقويم والتوجيه للأحسن – لب القلب الموجه إلى الحسن بمعانيه الربانية.. ولذا سمي القرن بالذكر، لأنه وحي، والوحي روح من أمر الله تعالى وأمر الله تعالى محض الحسن، فاللب مع القرآن موجه للذاكرة باتجاهاته الحسنة، وتأتي أقواله تعالى في الذكر والذكرى والتذكير لتؤكد هذا المعنى:

قال تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه: 2).

(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (المدثر: 49).

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية: 21).

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) (الأعلى: 9).

هذه الآيات وغيرها مما ترد فيها معاني التذكر والذكر، تؤكد ارتباط الذاكرة في النفس بإرادة الحسن فيها.. وفيما يلي من الآيات تأكيد أيضاً على ارتباط الذاكرة بالقلب وكونها من مكنونات النفس الجوهرية:

قال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. )الكهف: 28).

(أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

(فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 28).

(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) (الزمر: 22)

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ) (الزمر: 23).

وكذلك العادات والتقاليد من الذات الحية في الداب الإنساني تتلبس المعرفة والعقيدة من الإرادة للحسن في الروح الإنسانية.. ولذا فإن كل الأنماط الحياتية التي تتكرر بالاعتياد أو بالتقليد ترتبط عند المؤمن (ذي الدين في العقيدة) بإرادة الحسن في نفسه أو بالحاجة المستجابة بالحسن.

فمثلاً: إذا تكرر فعل الآدمي موجهاً بالإرادة للحسن في نفسه وبشكل نمط، صار عادة حسنة منه، وإذا تكرر من نفسه الفعل بلا توجيه من إرادة الحسن فيه صار عادة سيئة لنفسه.

وكذلك، إذا تكرر طلب الحاجة من نفسه موجهاً بالمعرفة بشكل نمط، صار تقليداً حسناً، ولذا نسمي مطابقة العمل لفتوى المجتهد تقليداً، أما إذا تكرر طلب الحاجة من نفس الآدمي بأنماط مجهولة صار تقليداً سيئاً.

وهكذا فإن مكارم الأخلاق يمكن أن تكون عادات حسنة، أما التقليد للمعصومين (عليهم السلام) والعلماء والمجتهدين الحكماء الحافظين لعهد الله المخالفين للهوى كقادة، فإنه صار تقليداً مطلوباً شرعاً وعقلاً.

وقد أكد القرآن العظيم في كل آياته المباركة أن الدين والعلم هما من مكنونات القلب، فقد قال تعالى:

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 194).

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا.. ) (الأعراف: 179).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج: 46).

(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).

آليــة عمــل القلــب

بما أن القلب هو مكنونات النفس من الذاكرة واللب والعادات والتقاليد والمعرفة والعقيدة واللاوعي.. وإن كل هذه المكنونات تلابسه بنسب ما هي عليه النفس من نمو جزئيها، وإن العقل هو جزؤها الفاعل في مواجهتها لذاتها أو بمواجهتها للبيئة، لذا فإن القلب مؤثر فعال في تقليب اتجاهات الحكم العقلي.. ولذلك صارت آلية القلب تبدأ بالتفكير سبقاً لكل حكم عقلي.. فالتفكير هو تقليب الأمور من مكنوناته إزاء أية مشكلة أو اهتمام أو مثير تتعرض له النفس وعلى الشكل التالي:

1) المشكلة أو الاهتمام أو المثير: لا يبدأ التفكير في القلب إلا عندما تواجه الإنسان مشكلة.. والمشكلة هذه قد تكون ذاتية مثل بروز حاجة في نفس الإنسان كالجوع والعطش أو غيرهما مثلاً.. أو أية حاجة غريزية أخرى، أو قد تكون حاجة للمعرفة والتعلم، أو إرادة حسنة لفعل خير مثلاً..

والمشكلة قد تكون خارجة على النفس من البيئة التي يعيش فيها الآدمي مثلاً، كأن يظهر في تلك البيئة خطر، أو أن هناك في محيطه ما يزعجه أو يقلقه، أو ما يسره ويبهجه.. أو كل ما يحتاج منه لمعالجة تستقر معها النفس في بيئتها.

والمشكلة؛ قد تبدو في اهتمام الإنسان بعقيدته، أو هواية يمارسها أو أي اهتمام آخر ترى فيه النفس أنه يحتاج لمعالجة، كي تستقر.

2) التراجع والتقليب: ويأتي بعد بروز المشكلة؛ فهو بدء القلب التفكير وتحريك مكنونات القلب باتجاه تلك المشكلة، فتنشط الذاكرة يتلبسها اللب، والعادات تتلبسها المعرفة، والتقاليد تتلبسها العقيدة، وقد يتنفس اللاوعي في موضوعه، إذا كان من ذات موضوع المشكلة.. أي تحصل محاكمة ذاتية بين ما هو واقع وبين مكنونات القلب المتراجحة إزاء تلك المواقع بموضوعه واتجاهه وشدته في تلك المشكلة، أو ذلك المثير المهم بالنسبة للنفس. ومن خلال استحضار النفس لجوهرها تتبلور المحصلة.

3) العقل والحسم: في المحصلة يأتي دور العقل من النفس أي الربط بين مكنوناتها من القلب وعلى ضوء المشكلة يكون الحسم بحكم عقلي تبرزه النفس بشكل تعبير سلوكي أو لغوي لحل تلك المشكلة.. وقد فصلنا في موضوع العقل وكيفية حصول الربط (العقل) بين قوى النفس من جزئيها الداب والروح وحاجاتهما بارزة في الحكم العقلي.

وهنا ملاحظة جديرة بالإشارة وهي أن الكثير من الناس، يتصورون أن القلب هو الفؤاد، وهذا تصور مجانب للحقيقة كثيراً، فقد ورد في آية واحدة هذان اللفظان بمعنيين مختلفين ثابتين، لك منهما.. قال تعالى:

(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: 10).

فالفؤاد؛ هو مضخة الدم في الجسم وفارغاً من شدة الخوف لزيادة ضرباته عند الانفعال. والربط على القلب بالروحي الذي هو روح من أمر الله تعالى. آمنت معه من الخوف.. فقد قال تعالى:

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 7).

(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ.. ) (طه: 38).

ولو عدنا إلى ما قدمنا من آلية صدور الحكم العقلي في الإنسان، لوجدنا أن خمس عشرة غريزة للداب الإنساني موجهة ومسنودة بطاقة فاعلة وقوية، ناتجة عن النشاط المستمر لحيوية الذات الحية في جسد الإنسان، تشكل حاجزاً في النفس وثقلاً معتبراً في ميزانها العقل، مقابل ما تسعى إليه الروح في إرادتها للتعلم في ثمانية أنماط وثماني معارف وثماني غايات حسنة.

ومثلما تنمو قوى الداب الإنساني في النفس والتي تسوقها لصرف تلك القوة.. وتشتد الغرائز في طلب الاستجابة على النفس.. كذلك تنمو الروح والإرادة الموجهة لكل ما هو حسن في مضامين خلق الكون في النفس، من خلال تغذيها بالمعرفة وتطبيقاتها، والتزام النفس بالدين لله تعالى فيما تقصد، كالطاعة الخالصة لله تعالى وتوحيده دون شريك والدعاء له، والصبر على بلائه، والرحمة والإيثار وتحري الحق وتجسيده بالعدل، والاستعداد للحياة الأخرى الأبدية، ومحبة المعصومين والتزام طاعتهم، والسعي للأحسن فيما بين ما أقره الكتاب المنزل وما ترجمه المعصومون (عليهم السلام) في أقوالهم وأفعالهم، هي الأغذية التي تنمّي الروح وإرادتها في النفس وتقويها.

فإذا قويت الروح وإرادتها، طوعت قوة السوق في الداب، الناتجة من نشاط ذاته الحية والممتدة من التغذي وحرق الغذاء في الجسد الحي بالتأكسد المستمر بالتنفس، ووجهت هذه الطاقة وهذا النشاط الحيوي باتجاهاتها بأمر الله – إذ الروح من أمر الله -، وهذبت الغرائز ووجهتها وجهة الحسن الرباني وأشبعتها بما شرعه الدين بالعدل والإحسان.