1

السيــد جعفــر الشيــرازي

يجتمع المسلمون - من شرق الأرض وغربها - في أيام معلومات وفي بقعة من الأرض، كل عام، اجتماعاً لا تشهد البشرية نظيراً له، وقد ترتب عليه فوائد جمة كما يقول تعالى:( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)(الحج: 28).

ومن المعلوم أن المشرّع إنما يشرّع القوانين والأحكام الصالحة والمفيدة وينهى عما يوجب الضرر، لكن تحقق تلك المنافع يتوقف على آحاد الناس فقد يتمكنون من الاستفادة من القانون بالنحو الصالح، أو قد يحولون الفائدة إلى مضرة، فهذه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر قد يحولها المصلي إلى ويل عليه إذا خلطها بالرياء وحرّفها عن مسارها الصحيح، وهذا القرآن يكون هدى للمتقين وأما الظالمون فلا يزيدهم القرآن إلا خساراً، ذلك إن المشرع عليه أن يرشد إلى الصالح ويترك الناس وشأنهم فيما يخص التطبيق لينظر كيف يعملون.

والحج إنما شرع لما فيه من فوائد جمة دنيوية وأخروية، كما روي: (أن رجلاً سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أهي منافع الدنيا أم الآخرة، فقال: الكل)(1).

وتترتب عليه فوائد لا تترتب على سائر العبادات؛ ولذا فإن المستعمرين فكروا في إفراغ الحج من محتواه حتى يتحوّل إلى أمر من دون فائدة، بل إلى أمر يضر المسلمين أكثر مما ينفعهم.

ونحن نحاول تسليط الضوء على جوانب من منافع الحج وكيفية إنجازها:

1 ـ الأتحــاد

هل الاتحاد له قيمة ذاتية؟ أم أن قيمته باعتبار الشيء الذي يتم الاتحاد عليه، فإن كان خيراً فالاتحاد فيه قيمة وإلا فلا قيمة له.

إن بعض الأشياء لها قيمة ذاتية لا تتغير مهما كانت الظروف،كالعدل فإنه ذو قيمة في كل الأحوال، فليس ها هنا شقان: عدل حسن وعدل قبيح، بل هنا شق واحد، عدل حسن وفي جميع الأحوال، وهنالك قسم ثان من الأشياء له قيمة ذاتية، لكن يمكن تغير الشيء عن حقيقته فتزول تلك القيمة وقد تتحول إلى ضدها، كالصدق الذي له قيمة ذاتية أما إذا أضرّ بالغير فإنه يفقد قيمته، وقسم ثالث هو ما تتوقف قيمته على الموارد ويخضع للظروف.

الاتحاد من أي الأقسام الثلاثة؟ فهل له قيمة ذاتية لا تتغير، أم قيمة ذاتية لكنها قد تتغير، أو لا قيمة ذاتية له وإنما حسب الموارد؟.

الفعل يعطي الاتحاد قيمة إذا كان في الحق، أم إذا كان اتحاد في باطل فإنه يفقد كل قيمة له ويتحول إلى نقطة سلبية، إذ إن الاتحاد يسهل المهمة، فإن كان في باطل فإنه يسهل مهمة الباطل وتلك نقطة سلبية، والشرع أيضا يؤكد هذا الأمر حيث يقول الله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، فالحق وهو الاعتصام بحبل الله تعالى وهو الذي لا ينبغي التفرق عنه، كما إن الشرع يؤكد على أن التفرق عن الباطل هو مطلوب، وحياة وجهاد الأنبياء(عليهم السلام) شاهدٌ على ذلك، حيث اجتماع الأقوام على الباطل كعبادة الأصنام فبعث الله الأنبياء ليعلنوا رفضهم للجاهلية ولتجتمع حولهم مجموعة من المؤمنين وليحدث انشقاق في المجتمع لأن البعض يرفض دعوتهم، ومن ثم لتقوم حروب وتتأصل العداوة والبغضاء حتى في العائلة الواحدة.

ولا شك أن الانشقاق عن باطل متفق عليه خير من البقاء عليه بغية الاتحاد.

قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: 213).

فالأمة الواحدة على الباطل لا قيمة لها والقيمة كل القيمة في المجموعة التي التفت حول الكتاب المنزل وسببت التفرق عن الباطل.

ثم بين الله تعالى - في آية أخرى - أن المهم استباق الخيرات والوصول إلى الحق حتى وإن أدى ذلك إلى الاختلاف والانشقاق عن الباطل، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)(المائدة: 48).

والحج له منافع مختلفة دنيوية وأخروية، ومن منافعه إيجاد الاتحاد بين المسلمين حيث يجتمعون من أقاصي الأرض ومن مختلف اللغات والقوميات والألوان رجالاً ونساءً، كهولاً وشباناً، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في فوائد الحج: (فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا) (2).

ولكن إذا حصل في وقت غلبة الباطل، أن أراد جمع باطلاً في الحج، فهل نترك حقنا ونتمسك بالباطل حتى لا تحصل تفرقة؟ إن البعض يدعو إلى ترك كل جانب قد يثير ويوجب الحساسية!!

لكننا وبعد أن ذكرنا أن الاتحاد قيمته مرتبطة بالشيء الذي يتم الاتحاد عليه نقول إنه تجب ملاحظة الأهم والمهم. فإن اتحاد المسلمين أمام الكفار وتقوية بنيتهم الداخلية من أهم الأمور، لكنه إذا كان في الحج ترويج لباطل - وذلك مما يؤدي إلى ضعف المسلمين حقيقة - فإن الاجتماع عليه رغم الاتحاد - في الحقيقة - ضرب معول على أساس الإسلام وتضعيف المسلمين.

فالباطل يجب تركه على كل حال سواء في الحج أم في غيره.

والحق يجب فعله في الحج أو في غيره إلا لمن اضطر إلى خلافه فإن الشريعة سهلة سمحة جعلت المضطر في حلٍ. وهذا ما يفسر قول المعصومين (عليهم السلام): (الرشد في خلافهم) (3)، فإن كان الاتحاد على الباطل مطلوباً، فكان الرشد في المتابعة لا في الخلاف. ونهج أهل البيت (عليهم السلام) كان معرضاً عنه من قبل الخلفاء الحكام ومن عامة الناس، لكنهم أصروا على استمرار هذا النهج، مع أنه سبب ويسبب استمرار انشقاق الأمة، لكنه انشقاق عن باطل وهو عمل الأنبياء وهذا ما أراده الله عز وجل. نعم؛ إذا حصل اضطرار فإن الله تعالى قد جعل الناس في حل(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل/ 106)، (مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (غافر:28)، (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) (آل عمران: 28).

وفي ظرفنا الحالي لا يوجد اضطرار ولا مورد للتقية - إلا في بعض الصور النادرة - فينبغي علينا مراعاة الحالات فنحاول أن نوجد حالة الاتحاد على الحق بين المسلمين قدر المستطاع، وإن لاحظنا عدم إمكانه أو عدم تيسّره نتمسك بالحق ونترك العاذلين يلومون، وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي وخلّ عن الناس، يا عمار إن علياً لا يردك عن هدى ولا يردك إلى ردى) (4). إن الله فرض الحج على الناس ليشهدوا منافع لهم، ومن المنافع تركيز حالة الاتحاد على الحق، لكن البعض يحاول تبديل هذه النقطة إلى محل لتركيز حالة الشقاق بين المسلمين؛ فمن منعهم من ممارسة شعائرهم بحرية إلى تكفيرهم ونعتهم بالمشركين، وبذر حالة التفكك والتفرقة، من نشر مناشير التكفير والتضليل وإهانة الحجاج، فينبغي علينا - والحال هذه - المطالبة بحرية الحجاج في حركتهم وعبادتهم وزيارتهم ثم محاولة جمع المسلمين على كلمة الحق وتعريفهم بنهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).

2 ـ آثار الرســول ( صلى الله عيه و آله وسلم )

رؤية الشيء تشدّ إليه أكثر من سماعه، لأن الإنسان حينما يسمع عن شيء فإنه تنعكس صورة الشيء في ذهنه بمقدار سعة أفقه أو ضيقها، لكن الرؤية تنقل صورة الشيء حسب حقيقتها ويكون تأثيرها تأثيراً واقعياً لا خيالياً.

ومن هذا المنطلق اهتم العقلاء بحفظ الآثار والاهتمام برؤيتها، وكذلك القرآن يشير إلى هذا الأمر في آيات متعددة قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام: 11).

كما إن الله تعالى حفظ جسم فرعون ليكون آية لمن يأتي من الأجيال قال تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (يونس: 92)، وقال: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات: 137-138).

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (سر في ديارهم واعتبر آثارهم) (5).

ولأهمية الأمر جعل الله تعالى موضع قدم إبراهيم (عليه السلام) مكاناً للعبادة حيث يجب على الحجاج الصلاة خلفه. وهكذا آثار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمعت في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وموسم الحج أفضل وقت لتعرف المسلمين على تلكم الآثار، ليتذكروا جهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والصعاب التي تحمّلها في سبيل نشر الإسلام، فهذا غار حراء وذاك غار ثور وذلك محل الخندق، وهنا الربذة وهنالك الغدير، وخيبر، وجبل الرماة و.. كلها تذكر بالرسول وبآله وأصحابه، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في علل الحج: (ولتعرف آثار الرسول وتعرف أخباره ولا ينسى ذكره).

البعض يطالب بمحو تلك الآثار باعتبار أن البعض يتبرك بها وذلك من الشرك!!.

لنفرض - جدلاً - أن التبرك شرك، فهل نزيل الأثر لأن البعض يشرك بسببه، فهل نزيل مقام إبراهيم لذلك؟ وهل نمحو الحجر الأسود لذلك؟ لنفرض أن البعض عبد الكعبة فهل نهدمها لنمنعهم؟، وما هذا إلا منطق من طلب محو آثار قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن البعض يتبرك به!.

إن على الجميع المطالبة بإحياء تلك الآثار، لأنها إحياء لنهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وللإسلام وطريق للهداية وتركز حالة الاتحاد على الحق وإيجاد حالة الحوار الهادئ والهادف بين المسلمين حتى يكون النهج الذي يتبعه كل واحد منهم عن تعقل وتدبر لا تقليداً للآباء؛ قال تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (الزمر: 18).

3 ـ الجــانب السيــاسي

إن الجانب السياسي مهم في حياة الأمم أجمع حيث يرتبط به ثباتهم واستقرارهم، وكثير من أمورهم المصيرية، وكل أمة اهتمت بجانبها السياسي تطورت وازدهرت، ويكون ذلك عبر مشاركة الجميع في صنع القرار واستثمار جميع الفرص المتاحة.

وموسم الحج فرصة ذهبية للمسلمين لتطوير وضعهم السياسي ومواجهة التحديات والتنسيق فيما بينهم، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في فلسفة الحج وأنها يجب أن تكون للجميع: (ولو كان كل قوم إنما يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب وعميت الأخبار).

ولذا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بتبليغ البراءة من المشركين في موسم الحج: (وَأَذَانٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة: 3).

وموضوع تلك البراءة كان إبلاغ المشركين بانتهاء الاتفاقيات والمعاهدات بين المسلمين والمشركين، وهذا الموضوع وإن لم يكن له مورد في هذا العصر وكذلك في العصور السابقة، لكن روح الأمر مطلوب على كل حال أي طلب المنافع السياسية للحج طبعاً بعيداً عن الأساليب الخاطئة.

وكذلك نرى الإمام الباقر (عليه السلام) يوصي بأن تقام عليه المآتم في منى لمدة عشر سنوات(6) ، وما ذلك إلا لتبليغ ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) إلى جميع المسلمين وزعزعة صرح بني أمية.

إن الجانب السياسي في الحج يجب أن يكون بعيداً عن مصالح الدول بل يجب أن يصب في صلب مصالح المسلمين وتقوية أواصرهم وتوجيههم وتنبيههم إلى دعم إخوتهم المستضعفين في فلسطين وأفغانستان والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام، وكل محاولة لجرّ ذلك إلى مصالح دول معينة مع إغفال مصلحة الإسلام يضر بالمسلمين أكثر مما ينفعهم، وينقل عن أحد الغربيين قوله: الويل للمسلمين إن لم يدركوا معنى الحج والويل لأعدائهم إن أدرك المسلمون معناه.

4 ـ الجانــب المعــنوي

لا ريب في أن الجانب المعنوي هو جانب مهم في الحج ومن فوائده، وقد أمر ونهي في الحج عن أمور تقويةً لهذا الجانب، ولربط الناس بالقيم السامية.

بدءاً من الإحرام حتى لا يكون هنالك تفاضل بين غني وفقير، بين عالم وجاهل، بين أبيض وأسود، بين حاكم ومحكوم، فكل المميزات والامتيازات تلغى حينما يلبس الجميع قطعتي ثوب غير مخيط، حتى الحذاء لا يكون فارقاً لأنه يحرم ستر ظاهر القدم، ولا عطر حتى يميز أحدٌ نفسه بالعطور الفاخرة، ولا ستر للرأس حتى لا يمتاز أحد عن غيره بالعمامة، ولا تظليل حتى لا تستعمل المحامل أو السيارات الفاخرة..

كلها تعلم الإنسان التواضع والتساوي والاتحاد والاتفاق والجهاد.

وهنالك جوانب ومنافع أخرى في الحج كالفوائد الاقتصادية والثقافية وغيرها.. لم نتعرض لها خشية الإطالة والله المستعان.

الهـــوامـــش  :

(1) تفسير نور الثقلين: ج3 ص488.

(2) الوسائل: ج11 ص14.

(3) الوسائل: ج27 ص112.

(4) البحار: ج28 ص67.

(5) البحار: ج77 ص202.

(6) الوسائل: ج17 ص125.