1

محمــد آدم

يعتمد الإنتاج بالدرجة الأولى على القطاع الخاص، وفق بعض النظم الاقتصادية، ولذلك نناقش أولاً الأهداف والحوافز التي تدفع المنتجين إلى القيام بالنشاطات الإنتاجية المختلفة، ثم نتطرق بعد ذلك إلى المفاهيم الاقتصادية التي تحكم عمليات الإنتاج والتي جرى العرف على تسميتها بنظرية الإنتاج.

العمل المنتج في الفكر الاقتصادي الإسلامي

حوافز الأنتاج في المجتمع الإسلامي

لقد عالجت النظرية الكلاسيكية في الفكر الاقتصادي الغربي الأسس التي بناءً عليها تتخذ المؤسسات الإنتاجية (عناصر الإنتاج) والأسعار التي تبيع بها منتجاتها على أساس أنها تعمل من اجل تحقيق أقصى ربح ممكن وفقاً لمعلوماتها الكاملة والمؤكدة عن التكاليف الخاصة بعناصر الإنتاج وعن الطلب المتوقع على منتجاتها.

لذلك تبدو النظرية تجديداً فكرياً معزولاً عن الواقع العملي، الذي يتعرض لتقلبات وتغيرات مستمدة فالرشد الاقتصادي للمؤسسات الإنتاجية الذي يركزه علماء الفكر الكلاسيكي في العمل على تحقيق أقصى ربح ممكن، يبدو عند مقارنته بالواقع مجرد مقتضيات نظرية تتجاهل كل المشاكل الإدارية والتسويقية والصعوبات الخاصة بإمكانيات توفر المعلومات الدقيقة، التي يمكن أن تنبني عليها القرارات الرشيدة، التي يجب أن تتخذ بالنسبة لتوظيف المستخدمات الإنتاجية وتحديد حجم الإنتاج وأسعار المنتجات كذلك تبدو المنحنيات المنمقة الخاصة بالتكاليف والإيرادات والتي يستخدمها علماء الفكر الكلاسيكي مجرد رياضة ذهنية تستهوي الدارسين لتنمية أوقات فراغهم.

لذلك حاول بعض العلماء، منذ الخمسينات من القرن الحالي، الاقتراب من الواقع بعض الشيء، حيث لاحظوا انفصال إدارة المؤسسات وارتباط هذه الإدارات بعوامل سياسية على نطاق دولي كما هو الحال بالنسبة للشركات المتعددة الجنسية، لذلك حاول هذا البعض وضع نظريات جديدة تفسر سلوك هذه المؤسسات ودوافع رشدها الاقتصادي، فهنالك النظرية التي تقول بأنه طالما أن المؤسسة تحقق ربحاً معقولاً للمساهمين، يكون هدف الإدارة تحقيق سيطرتها على سوق السلع التي تنتجها بالعمل على زيادة مبيعاتها، ولذلك يزيد الإنفاق على الدعاية والإعلان؛ بالمقارنة مع ما يمكن أن يحدث إذا كان الهدف هو تحقيق أقصى أرباح ممكنة.

وهناك النظرية التي تقول بأن هدف المؤسسة - في الغالب - التوفيق بين القرارات المختلفة التي تواجهها مثل قرارات نقابات العمال والقيود المفروضة على بعض الأسواق وقرارات الحكومة بشأن الإنتاج والأسعار إذا وجدت مثل هذه القرارات، وذلك حتى تستطيع أن تستمر في عملها وتحقق النمو الذي تنشده لنشاطاتها المختلفة وهو النمو الذي يتمثل في حجم المبيعات وحجم الأرباح التي تترتب على ذلك كما إن المؤسسة تكون في الغالب من فئات مختلفة وكل فئة منها لها مطالبها، ولذلك تواجه الإدارة مطالب المساهمين ومطالب العمال والموظفين ومطالب المشترين لمنتجاتها والقيود المختلفة التي قد تفرضها الحكومة ومنافسة المؤسسات التي تقوم بنشاطات مشابهة ولذلك لا تستطيع المؤسسة أن تتخذ موقفاً جامداً إزاء ما يجب أن تحققه من أرباح، إذ لا بد أن تكون اكثر مرونة في قراراتها حتى تستطيع التنسيق والتوفيق بين هذه المطالب المختلفة لتحدد السلوك الأفضل الذي يجب أن تتبعه وقد لا يتفق هذا السلوك مع تحقيق أقصى أرباح ممكنة في الأجل القصير، ولكنه في الأجل الطويل لا بد أن يتحقق النمو الذي تنشده.

إن الصفة الأساسية لكل هذه النظريات هي أنها جميعاً تبحث عن أهداف للمؤسسة وتتركز حول تحقيق النهاية العظمى لشيء ما خاص بها، قد يكون الأرباح، وقد يكون المبيعات، وقد يكون السيطرة على الأسواق، وقد يكون السيطرة السياسية في مختلف أنحاء العالم لترسيخ دعائمها وبالتالي تعظيم النشاطات التي تقوم بها، وهي جميعاً أهداف مادية بحتة لا يدخل في اعتبارها أي اهتمام بالصالح الاجتماعي العام أو أي احترام للقيم الأخلاقية المثلى التي توصي بها جميع الأديان. ولعل ذلك يشكل أحد أسباب تفسخ المجتمعات وانهيارها ونزوعها إلى العنف والتدمير، الأمر الذي يقودهم في النهاية إلى عيادات الأمراض العقلية والعصبية ومصحات المعاقين. فالفكر الاقتصادي الغربي فكر مادي بحت، ولذلك يعتبر الثروة ممثلة في الأرباح أو المبيعات دون أي اهتمام بما يمكن أن يصيب أفراد المجتمع جميعاً في رفاهية هي نتيجة تعظيم هذه العناصر المادية التي تسعى المؤسسات إلى تحقيقها لذلك يؤيد علماء الاقتصاد الغربي كل ما يؤدي إلى زيادة قدرة المؤسسات على الإنتاج وعلى تحقيق الأرباح دون أن يأخذوا في اعتبارهم ما يمكن أن يترتب على ذلك من اتساع في التفاوت بين دخول الفئات المختلفة التي يتكون منها المجتمع وغير ذلك من الأضرار المعنوية والصحية التي لا بد أن تصيب البشر جميعاً والأمثلة على ذلك كثيرة فمنها إنتاج السكائر والمسكرات والمخدرات وأدوات الخلاعة والمواد الغذائية الكيمائية الضارة والإعلانات البذيئة التي تروج لهذه المنتجات.. ولا يجب أن نعجب لهذا الموقف الذي يتخذه علماء الاقتصاد الغربي من دوافع الإنتاج وحوافزه ذلك لأن الحضارة الغربية تطورت في اتجاهات مادية بحتة حتى أصبحت النقود في مجتمعاتنا الحاضرة مقياساً لعلاقات البشر وعواطفهم، كما اصبح تجميعها والإكثار من حيازتها دافعاً إلى الاحترام.

حوافز الأنتاج في المجتمع الإسلامي

نفهم من التعاليم الإسلامية أن الثروة وجميع العناصر المادية الأخرى ليست هدفاً في حد ذاتها، ويجب أن لا تعتبر كذلك بالنسبة لأي فرد في المجتمع، وإنما هي وسيلة لتحقيق الرفاهية الاجتماعية العامة إذا أحسنت الدولة توزيعها بحيث لا يتنعم البعض بها بينما يحرم منها آخرون وإذا احسن الأفراد استخدامها بحيث لا يترتب عليها إشباع حاجات ضارة، لذلك تدعو التعاليم الإسلامية إلى البحث عن كنوز الطبيعة وخيراتها وإلى استخدام هذه الكنوز والخيرات في إنتاج حاجات البشر، وإلى تنمية هذا الانتاج لإسعادهم وتضييق التفاوت بين مستويات معيشتهم حتى تتحقق بذلك رفاهية اجتماعية عامة.

ولذلك يبدو أن الثروة في يد الإنسان يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدين، فإذا تكالب عليها الإنسان واعتبرها غاية لحياته فلابد أن يضيع في سبيلها كرامته وحب الناس له وجميع القيم الأخلاقية التي نصت عليها الأديان المختلفة. من هنا لا يشعر المواطن الغربي بالاشمئزاز والتقزز عندما يشاهد المسلسل التلفزيوني (دالاس) وغيره من المسلسلات الأمريكية حيث يؤدي الصراع في سبيل الثروة والأرباح وزيادة المبيعات والتوسع في السيطرة على الأسواق إلى التضحية بالعلاقات العائلية وإلى اقتراف أقبح الجرائم وأكثرها هولاً، كذلك تصبح الثروة في يد الدولة سلاحاً يقطر دماً عندما تستخدمها لإنتاج أدوات القتل والدمار لفرض سيطرتها على الدول الصغيرة لسرقة خيراتها وسلب مواردها وإبقاء شعوبها في فقر وحرمان يهددها بالجوع والفناء، كذلك يؤدي تكالب البعض على الثروة إلى أن ترتفع في بعض أحياء المدن المباني الشاهقة وتتسع القصور الفاخرة والحدائق الغناء وتكثر السيارات الأنيقة، بينما يزداد في أطراف المدن الفقر والجهل والمرض، وكلها سراديب مظلمة تؤدي إلى انتشار جراثيم البؤس والفاقة وبمعنى آخر تتحول المجتمعات التي تمجد الثروة وماديات الحياة إلى بؤر فساد وانحلال ، وبذلك تتخذ حضارتها طريقها نحو الزوال، بينما تكون الثروة في يد الإنسان المؤمن بربه والذي يعيش ويعمل وفقاً لتعاليم دينه تكون الثروة في يد هذا الإنسان أداة خير وبركة اجتماعية، إذ انه لا بد أن يعمل على التعاون مع غيره من المؤمنين لنشر العلم والمعرفة وتشجيع البحث العلمي للانتصار على المرض وفهم أسرار الكون والكشف عن موارد الطبيعة وكنوزها لاستخدامها الاستخدام الأمثل لصالح المجتمع في مجموعة، كما انه لا بد أن يتعاون معهم في إنشاء بيوت الضيافة لاستقبال المسنين والعجزة والمقعدين وجميع الذين لا يجدون مكاناً يرحب بهم وهؤلاء جميعاً يجدون في هذه البيوت الاستقبال الحار وإمكانيات العيش الهادئ ووسائل الترفيه عن شقائهم وأحزانهم، كذلك لا بد أن يتعاون المؤمنون جميعاً في البحث عن كل معذب في الأرض يمسحون دموعه ويضعون الابتسامة على فمه ويفتحون له أبواب الرجاء والأمل ويوفرون له سبل العيش الكريم.

وبذلك تكون الثروة عند المسلم عوناً في دنياه على آخرته، ووسيلة يسمو بها على نزواته وغرائزه، وأداة يستخدمها في تنمية طاقات الطبيعة التي لا تحصى وطاقات البشر التي لا حد لها ، وذلك من اجل تحقيق المجتمع الفاضل الذي يعيش أفراده في رفاهية دون أي قلق على مستقبلهم.

لذلك نلاحظ أن التعاليم الإسلامية تربط ربطا وثيقاً بين أهداف الإنتاج وتنميته وبين عدالة توزيع الناتج القومي حيث أن العمليتين تتمان سوياً ضمن إطار عام من القيم والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية المثلى ويكون الملاك الاخوة الصادقة بين البشر التي تجعلهم لا يهملون محروماً أو محتاجاً أو مقعداً أو عاطلاً أو مريضاً أو راغباً في العلم ولا يجده، وهكذا يتضح الفرق الشاسع بين التعاليم الإسلامية وبين الفكر الاقتصادي الغربي الذي يفصل بين الإنتاج وتنميته وبين توزيع الناتج القومي الذي يترتب على مختلف النشاطات الإنتاجية ويقيم علماء الاقتصاد الغربي نظرياتهم على أساس فرضيتهم بان علم الاقتصاد ليس علماً أخلاقياً ولذلك لا يجب تقييم هذه النظريات من أي جانب أخلاقي، وهي فرضية مردودة حيث أن جميع المسائل الاقتصادية تمس البشر في حياتهم وعلاقاتهم، وبذلك لا يمكن معالجة أي مسألة منها دون أن يؤخذ في الاعتبار تفاعلاتها مع القيم والمفاهيم التي يرتكز عليها الإطار العام للمجتمع والتي تكون سوياً مرتكزات حضارة هذا المجتمع وتطلعاته لمستقبل أفراده لذلك تبدو فرضية علماء الاقتصاد الغربي وتعبيراً صادقاً عن حضارة المجتمع الغربي التي لم يعد للإنسان فيها أي اعتبار، كما لم يعد للقيم والمفاهيم الأخلاقية فيها أي وجود ولذلك أصبحت حضارة تقديس الآلات وعبادتها والتطلع نحو عصر يصبح فيه الإنسان الآلي قائماً بالعمل الإنتاجي ومحققاً لرجال الأعمال ما يتطلعون إليه من إنخفاض في التكاليف وتوسع المبيعات وبالتالي ارتفاع في الأرباح ومما لا شك فيه أن المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يوافق على مثل هذه التنمية الإنتاجية قبل أن يجد الحلول المناسبة للمشاكل المختلفة التي سوف تواجه البشر نتيجة هذا التطور ويعني ذلك أن الحضارة الإسلامية لا تقف حائلاً ضد التطور العلمي والتكنولوجي مهما كان نوعه ومهما كان نطاق استخدامه طالما انه يحقق الخير للبشر بل إنها في الواقع تحث على مثل هذا التطور وتشجعه ولكنها من ناحية أخرى لا يمكن أن تسمح بتوظيف أي تطور علمي يكون مجرد غاية وهدف في حد ذاته، خاصة عندما تترتب على توظيفه صعوبات ومشاكل حياتية، وبمعنى آخر لا يمكن أن تسمح بأي تطور يخلق البؤس والشقاء لأفراد المجتمع في سبيل منفعة فئة ضئيلة من البشر لذلك يجب أن تلتزم مؤسسات الإنتاج في المجتمع الإسلامي بتحديد أهدافها على أساس المفهوم الإسلامي للعدالة الاجتماعية وفي إطار الصالح العام ورفاهية الآخرين.

ويعني ذلك أن تقييم المؤسسات لمبيعاتها وتكاليف إنتاجها وأرباحها يجب أن لا يخالف أو يتعارض مع المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي فالمؤسسات يجب أن لا تعمل على تعظيم أرباحها عندما يدرك القائمون على إدارتها أن تخفيض هامش الأرباح يمكن أن يكون في صالح المجتمع عامة.

حيث قد يساعد هذا التخفيض على إشباع حاجات فئات من المجتمع لم تكن تستطيع إشباعها من قبل، ومهما كانت الظروف لا يصح أن يعمل أي منتج على زيادة إرباحه على حساب ضرر يصيب المستهلكين لمنتجاته أو المنتجين المنافسين له.

وبشكل عام يجب أن يقنع المنتجون بالأرباح المعتدلة المعقولة التي تقع بين حدين، الحد الأعلى الذي يسمح به سوق السلعة أو الخدمة موضوع الإنتاج والذي يتفق مع الاتجاه العام للنشاط الاقتصادي في فترات الرواج أو في فترات الكساد، ودون أن يتعارض ذلك مع العدالة والمفاهيم الإسلامية للاخوة بين البشر، والحد الأدنى الذي يحقق للمنتجين المستوى اللائق للمعيشة بالإضافة إلى ما يمكن أن يعوضهم عن مواجهة الخسارة المحتملة بسبب تقلبات السوق وأن يساعدهم على تطوير مؤسساتهم ومواجهة التزاماتهم تجاه الدولة.

وهو الحد الذي يعبر عنه بالربح العادي في التحليل الاقتصادي إلا أن هذه المفاهيم عن أرباح المؤسسات تبدو فضفاضة غير محددة تماماً، كما أنها تعتمد إلى حد كبير على التقييم الشخصي للمنتجين فيما يتعلق بالعناصر المختلفة التي على أساسها يحددون أرباحهم ضمن هذين الحدين.

لذلك يحسن استخدام مفهوم تعظيم الأرباح كهدف عام يتطلع إليه المنتجون ويعملون بكل الوسائل الفنية الخاصة بإدارة الإنتاج وتنظيمه لأجل تحقيقه بشرط أن يكون ذلك خاضعاً للقيود التي تترتب على ضرورة خفض التكاليف إلى أدنى حد ممكن حتى يتجسد ذلك في انخفاض الأسعار التي يدفعها المستهلكون، وكذلك القيود الخاصة بالقيم الأخلاقية التي يجب مراعاتها من حيث نوعية السلع والخدمات التي تقوم المؤسسات بإنتاجها وصلاحية كل منها للاستهلاك وذلك بالإضافة إلى مختلف التشريعات التي تضعها الدولة للإنتاج لضمان عدم تعارضه مع الصالح الاجتماعي العام. وحتى يمكن تطبيق هذه المبادئ يحسن أن تدعو الحكومة إلى تكوين لجان تضم خبراء التكاليف ومندوبين عن المنتجين وآخرين عن الوزارات المعنية تكون وظيفتها تحديد هامش الربح لكل صناعة ولكل نشاط إنتاجي يتعلق بالخدمات، على أن تجتمع هذه اللجان من وقت إلى آخر لمراجعة هذه الهوامش تبعاً لتطور جميع العوامل المرتبطة بالصناعات والأعمال المختلفة وتلك المتعلقة بالنشاط الاقتصادي العام.

ولعل افضل علاج للمشكلة الإنتاجية يرتكز على تشجيع تعاونيات الإنتاج وتعديل قانون الشركات المساهمة وأنظمتها حتى تصبح شكلاً آخر من أشكال التعاونيات، خاصة عندما لا يعطي المساهم إلا صوتاً واحداً فقط عند اتخاذ القرارات في اجتماعات الجمعيات العمومية لهذه الشركات.

ومهما كان العلاج الذي يتقرر الأخذ به لا بد أن يعمل الجميع ضمن الإطار الإسلامي العام - حيث أن مواجهة أي مشكلة من المشاكل الاقتصادية لا يمكن أن تؤدي إلى النتائج المرجوة إلا إذا تحلى الجميع بالقيم والمبادئ الدينية ومارسوا أعمالهم بهديها بحيث تكون المفاهيم الأخلاقية المثلى والمبادئ التي تقوم عليها الاخوة الصادقة هي الأسس العامة التي تنتظم وفقاً لها جميع النشاطات الاقتصادية في جميع القطاعات الإنتاجية.

العمل المنتج في الفكر الاقتصادي الإسلامي

العمل المنتج في الفكر الاقتصادي الإسلامي هو الذي يهدف إلى إنتاج سلع وخدمات تشبع حاجات الإنسان، بمعنى أنه لا بد أن يكون هناك طلب على ناتج العمل متفقاً مع المبادئ والتعاليم الإسلامية حتى يمكن أن تعتبر الحاجات التي يشبعها هذا الناتج تستحق الإشباع وفق القيم الأخلاقية الإسلامية.

وأؤكد هذه الملاحظة لنتذكر أن كثيراً من السلع والخدمات التي يوظف العمال في إنتاجها والقيام بها تشبع حاجات لا تتفق أبداً مع القيم الأخلاقية الإسلامية ولذا يعتبر ما بذل في إنتاجها من عمل وموارد ضياعاً اجتماعياً يجب أن تكافحه الدولة الإسلامية.

وحتى تتعرف الدولة على مثل هذه الأعمال الضارة يجب أن يكون لها حق الرقابة والإشراف المستمر على المؤسسات المختلفة التي تعمل في مختلف القطاعات.

يعتبر الفكر الاقتصادي الإسلامي العمل المباشر وغير المباشر هما الدعامة الأساسية للإنتاج حيث يقوم العمال، بمساعدة عمل سابق يتجسد في الأدوات والآلات المختلفة، بإنتاج السلع والخدمات التي توفر للمجتمع حاجاته من الغذاء والكساء والمسكن وغير ذلك من البنود التي لا يستطيع الإنسان أن يحيا حياة كريمة بدونها والتي تؤمن له العلم والمعرفة وبعض الترفيه الحلال الذي يعيد إليه نشاطه وحيويته لذلك فرض الله على الإنسان السعي المتواصل لإشباع حاجاته ولفهم أسرار الكون والكشف عن موارد الطبيعة واستغلالها الاستغلال الأمثل الذي يحقق الخير والرفاهية للمجتمع في مجموعه، بذلك يكون العمل واجباً على الإنسان طالما انه قادر عليه، وبالتالي يكون الاعتماد على صدقات الناس أمراً مشيناً مخجلاً يكاد الإسلام أن يحرمه فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأحاديث الكثيرة التي تعتبر (أن يحتطب الإنسان خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه) لهذا يستمد الإنسان قيمته الاجتماعية من قيامه بالعمل الذي يستطيع القيام به. وتبعاً لذلك يصبح واجباً على الدولة الإسلامية أن توفر العمل لكل من يرغب به، فالحرية المسؤولة كما سبق أن ذكرنا هي الدعامة الأساسية للمعاملات في الدولة الإسلامية، وإنما يعني أن يقوم الإنسان بالعمل الذي يكلف به إذا كان قادراً عليه دون حرج أو عسر.

وقيام الإنسان بالعمل الذي يكلف به بأمانة وإتقان يجعله صاحب حق في الأجر العادل الذي يوفر للعامل حد الكفاية أولاً على أن يضاف إلى ذلك مما يحقق التفاوت بين العمال تبعاً لطبيعة أعمالهم ومدى احتياج المجتمع إليها ولا يعني حد الكفاية مستوى الكفاف وإنما يعني مستوى المعيشة الكريمة والمستقرة.

ويقوم الفكر الاقتصادي الإسلامي على أساس أن الدولة يجب أن توفر هذا الحد لكل فرد في المجتمع، وتحقق ذلك يقتضي التوزيع العادل للدخل القومي وأن تكون الدخول الإضافية تفاضلية تبعاً لطبيعة الأعمال وأهميتها بالنسبة للمجتمع في مجموعه (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (سورة الزخرف 43 آية 32).

ولا شك أن هذا التفاوت هو تعبير عن العدالة الواقعية في التوزيع، كما انه يعتبر حافزاً للعمل، وبالتالي عاملاً منشطاً للنمو الاقتصادي.

وبذلك يؤدي هذا التفاوت دوراً هاماً في دفع وتسريع التنمية الاقتصادية التي يرى فيها الإسلام تعبيراً عملياً عن عبادة الإنسان لخالقه وإيمانه بكل الأوامر والوصايا التي جاءت في كتابه.

ذلك لان الإنسان بقيامه بالأعمال المختلفة التي تتطلبها التنمية الاقتصادية إنما يطيع أوامر ربه بالسعي المتواصل والبحث المستمر حتى يستطيع فهم أسرار الكون واستغلال موارد الطبيعة الاستغلال الأفضل الذي يحقق الرفاهية للمجتمع في مجموعه وبذلك يكون قيام الإنسان بهذه الأعمال تعبيراً عن امتنانه وشكره لربه الذي جعله خليفة له في الأرض وميزه بصفات كثيره عن باقي المخلوقات (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (سورة الإسراء: 17 آية 70).

ونظراً إلى أن العمل يعتبر في الفكر الاقتصادي الإسلامي الدعامة الأساسية للإنتاج لذلك يكون واجب الدولة الإسلامية تنمية الموارد البشرية التي تتوفر في المجتمع الذي تقوم بولاية أمره وترعاه.

وتكون هذه التنمية برفع الظلم عن الفئات الكادحة وتعيين الأجور العادلة لها. وكذلك بتحقيق تكافؤ الفرص أمام القوة العاملة في المجتمع حتى يزداد علمها ويحسن تدريبها وتتوفر لها الحوافز الاجتماعية والاقتصادية حتى يتعمق نشاطها العقلي واليدوي، ويتدعم وعيها لمسؤولياتها إزاء مجتمعها في جميع المجالات الخاصة بالبحث العلمي والثقافي والإنتاجي، ويقوى إدراكها لما يجب أن تكون عليه مشاركتها في الندوات والمنظمات الدولية لإعلاء شأن الفكر الإسلامي حتى تستطيع بذلك أن تأخذ بيد البشرية الغارقة في الضياع لتصل بها إلى شاطئ الخلاص من التيارات الفكرية التي تقاذفتها طويلاً والتي أساءت إليها كثيراً.

كذلك تحقق تنمية الموارد البشرية بالعناية الصحية الشاملة المتكاملة لجميع فئات المجتمع وخاصة أثناء القيام بالأعمال المختلفة في المصانع والإدارات المختلفة التي اصبح العمل فيها آلياً روتينياً رتيباً يبعث على الملل ويقلل من الرغبة في العمل لذلك يحتاج المشتغلون إلى الترفيه عنهم بمختلف الوسائل لاستعادة حيويتهم ولحفزهم على العمل بنشاط دائم.

كما إن استخدام طرق الإنتاج وأدواته التي تتناسب مع التطور الصناعي في المجتمع وفي كل مرحلة من مراحل هذا التطور يعتبر عاملاً هاماً وأساسياً في تنمية الطاقات الإنتاجية للموارد البشرية المتاحة للمجتمع.

وحتى يمكن استغلال الموارد البشرية في المجتمع استغلالاً فاعلاً وشاملاً يجب أن تساهم المرأة في الأعمال المختلفة تبعاً لقدراتها على أن تؤخذ في الاعتبار خصائصها الفسيولوجية وحاجة أولادها إليها(فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) سورة آل عمران الآية 195

(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (سورة النساء: الآية 32).

فالواقع أن الإسلام أعطى المرأة كثيراً من الحقوق المدنية والتجارية مثل حق التصرف الكامل في أحوالها وحق التملك والهبة والوصية وإمضاء العقود، وذلك لجعلها عضواً عاملاً وفعالاً في مجتمعها.

وإذا كانت هناك بعض التفرقة بين الرجل والمرأة تبعاً لبعض المبادئ والنصوص الإسلامية فذلك لان الخالق حملها مسؤولية الأمومة، وهي مسؤولية وعمل قائم بذاته له الأهمية البالغة في خلق أجيال مؤمنة تستطيع أن تتحمل الأعباء التي يتطلبها بناء المجتمعات على دعائم أخلاقية واجتماعية سليمة. ولا شك أن مثل هذا العمل يعتبر حجر الأساس في التنمية البشرية وبالتالي في التنمية الاقتصادية على انه يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن قيام المرأة بمسؤولياتها الصحيحة نحو الأمومة يتوقف على مدى تثقيفها وإدراكها للمبادئ والتعاليم الإسلامية وما تفرضه هذه التعاليم من واجبات اجتماعية واقتصادية على أفراد المجتمع بفئاتهم المختلفة حتى تتحقق العلاقات المثلى فيما بينهم وحتى يسود المجتمع الشعور العميق بالاخوة والتعاون الصادق.

ونلاحظ أخيراً أن التطور الاقتصادي وخاصة في الدول الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك تجارب الدول النامية فيما يتعلق بمشروعات التنمية التي أخذت بها بناء على توصيات الخبراء الدوليين إن هذا التطور وهذه التجارب يظهران بوضوح أهمية العمل كدعامة أساسية للإنتاج وبالتالي تتبين أسباب تركيز الفكر الاقتصادي الإسلامي على العامل والدعوة إلى إعطائه حقاً كاملاً من الناتج القومي وإلى الاهتمام بكل النواحي التي توفر للمشتغلين أسباب الراحة أثناء تأديتهم لأعمالهم، وكذلك النواحي التي يكون من شأنها أن توفر لكل مشتغل الاطمئنان إلى مستقبله ومستقبل أبنائه من بعده.

لقد أظهرت هذه التجارب أن ثروة المجتمع ليست في موارده المدفونة في باطن الأرض وفي قاع المحيطات وإنما هي في موارده البشرية ومدى ما وصلت إليه من تقدم علمي ومن وعي وإدراك لمسؤولياتها فقد توالت مشروعات التنمية في الدول النامية وهي تركز على الموارد المادية والمالية ولذلك لم تحقق في النهاية الآمال العريضة التي كانت هذه الدول تبتغيها من ورائها، بل أستطيع أن أجزم بأن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في هذه الدول قد تدهورت وازدادت سوءاً بالمقارنة مع الأحوال التي كانت سائدة فيها قبل الأخذ بهذه المشروعات التي أهملت البشر كدعامة أساسية لتحقيق التنمية.

ونظراً لأهمية العمل كعنصر إنتاجي فلا بدّ أن يكون للدولة الإسلامية سلطتها في تحديد الأجر الأساسي الذي يمثل حد الكفاية الذي يتفق مع مستوى ونمط المعيشة السائد، على أن يضاف إلى ذلك الأجر التفاضلي الذي تحدده قوى عرض المهن والأعمال المختلفة ومن المهم هنا أن لا تكون سوق العمل خاضعة لأي عوامل احتكارية وسلطة الدولة بالنسبة للعلاقات الصناعية لا تقتصر على تحديد الأجر الأساسي فقط بل تمتد كذلك لتشمل القضاء على مختلف العوامل الاحتكارية التي يمكن أن توجه سوق العمل توجيهاً لا يتفق مع العدالة، كما تشمل تحديد ساعات العمل والمزايا العينية المختلفة التي يجب أن يحصل عليها المشتغلون سواء على المستوى الفردي الخاص، كل منهم على حدة، أم على المستوى الجماعي أثناء قيامهم بالأعمال، وغير ذلك من البنود التي يجب أن تتضمنها عقود العمل الجماعية.

وقد أشرت سابقاً إلى العناصر المختلفة التي يمكن أن تشملها المزايا العينية والتي يمكن أن تعتبر بمثابة تعويض عن كل ما يصيب العامل من إرهاق وملل ومرض وفقدان القدرة على العمل عند الشيخوخة.

وتعتبر المخاطرة نوعاً من العمل، حيث يترتب عليها تقدم طرق الإنتاج وتحديث المنتجات وتحسين تسويقها، ولذا يكون لها أهمية كبيرة بالنسبة لنمو وتطور الاقتصاد القومي هذا الواقع هو الذي يعطي عنصر التنظيم الذي يتمثل في المخاطرة وعدم التأكد من خسائر تصيب الأموال المستثمرة وأننا نرى أنه يجب أن تعمل المصارف في الدولة الإسلامية على تحويل المدخرين لديها إلى شركاء في المشروعات المختلفة باستثمار مدخراتهم فيها وذلك مقابل ما يمكن أن يوزع عليهم من أرباح أو ما يمكن أن يصيبهم من خسائر.

كذلك يؤدي استغلال الأرض سواء في الزراعة أم في البناء إلى تحقيق ريع تفاضلي نتيجة اختلاف الخصوبة والموقع، حيث يترتب على هذه الاختلافات فرق بين التكلفة المتوسطة وبالتالي التكلفة الحدية من قطعة ارض إلى أخرى.

هذا الفرق يؤدي إلى أن يحصل أصحاب الأرض التي تنخفض تكلفة الإنتاج فيها على فائض نسميه ريعاً وليس هناك إجماع إسلامي على من له الحق في الحصول على الريع، حيث أن من يستغل الأرض لم يؤدِ أي عمل حتى يحصل عليه. واعتقد أن مواجهة هذه المشكلة تتوقف على الأسلوب الذي تقدره الدولة الإسلامية بالنسبة لملكية الأرض وطرق استغلالها، حيث لا بد أن تمضي فترة انتقالية حتى يمكن تطبيق النصوص الإسلامية تطبيقاً شاملاً متكاملاً. على انه مهما اختلفت القرارات التي تتخذها الدولة في هذا الصدد، لا بد أن يؤخذ في الاعتبار ربط ملكية الأرض بالعمل فيها وبذلك يتحدد الحد الأعلى للمكلية تبعاً لطرق الزراعة السائدة في الدولة، وبذلك لا تؤجر الأرض ولا يحصل مالكها على ريعها إلا إذا تعذر أن يقوم هو نفسه أو أفراد أسرته بالعمل فيها لاستغلالها حتى تحقق إنتاجاً يفيد منه المجتمع كما يجب أن يؤخذ في الاعتبار تحريم حبس الأرض عن الاستغلال المناسب لها حيث يترتب على ذلك مشاكل كثيرة تسيء إلى المجتمع، ولعلنا نشير في هذا الصدد إلى أزمة الإسكان التي تعانيها الدول الإسلامية بالرغم من وجود أراضٍ واسعة وسط المدن لا يستغلها أصحابها طمعاً في ارتفاع أسعارها في المستقبل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كانت له ارض فليزرعها أو يمنحها فإن أبى فليمسك أرضه)، أي إما أن يزرعها بنفسه أو يتيح لغيره زراعتها دون مقابل، أو يعطي أرضه لمن يزرعها ويتحمل معه جزءاً من نفقات الإنتاج التي تحتاجها الزراعة مقابل نصيب في الناتج وهي الطريقة التي تتبع في زراعة الأرض في بعض الدول العربية والتي تسمى بالمزارعة.

وإذا كان الفكر الاقتصادي الإسلامي يعترف بالملكية الخاصة، إلا أنه كما رأينا يضع لها شروطاً وقيوداً تتركز جميعها حول ضرورة استغلالها بما يتفق والصالح الاجتماعي العام، ذلك لأن ملكية أي نوع من الأموال هي لله تعالى، وان ملكية الإنسان لها هي في الواقع ملكية مؤقتة حيث أنها ترتبط بقدرته على استغلالها بما يحقق الخير العام. كما أن احتفاظ المالك بريع ما يمتلك يتوقف على ضمان حد الكفاية لجميع المواطنين، بمعنى أن الدولة الإسلامية يجب أن تؤمن لكل فرد في المجتمع حد الكفاية أولاً حتى يمكن الاعتراف بحق الملكية وحق الحصول على الريع، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد).

كما يقول تعالى لآدم:( إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (سورة طه 20: 118-119).

والخلاصة أن التعاليم الإسلامية لا تسمح بالغنى إلا بعد توفر حد الكفاية، أي إلا بعد القضاء على الفقر والعوز، وذلك حتى لا تنشأ دولة من الأغنياء تستأثر بخيرات المجتمع بينما يتضور الناس جوعاً وعرياً، وهو الأمر الشائع في كثير من الدول النامية بالرغم من تطور الوعي الاجتماعي في جميع أنحاء العالم.

وبذلك نستنتج أن عدالة توزيع الدخل القومي لا تتحقق وفقاً للفكر الاقتصادي الإسلامي إلا بعد أن يشعر كل فرد في المجتمع انه قد حصل على حقه بالكامل جزاء عمله وانه يجد من الدولة الرعاية الكاملة التي يحتاجها عندما يصيبه ما يجعله غير قادر على العمل المنتج.

بهذا الشعور بالعدالة الحقة يطمئن كل فرد إلى يومه وغده فيقبل على عمله بهمة ونشاط، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة الطاقة الإنتاجية للقوة العاملة، وبالتالي إلى تسارع نمو الناتج القومي فتزداد بذلك قدرة الدولة على تحقيق الرفاهية الاجتماعية لذلك يعتبر الفكر الإسلامي عدالة توزيع الدخل القومي حافزاً على العمل المنتج لصالح المجتمع، ودافعاً إلى زيادة اهتمام الدولة بالمعوزين وتدعيم رعايتها لهم وتحقيق التكافل الاجتماعي الذي يعتبر الدعامة الأولى للدولة الإسلامية.

لذلك تلعب الزكاة والخمس دوراً هاما في تحقيق التكافل الاجتماعي خاصة وأنها ترتبط بالعبادات الإسلامية باعتبارها ركناً من أركانها، وهي لذلك تختلف عن الضريبة التي تجبى جبراً من الأفراد طبيعيين أو معنويين دون مقابل خاص يعود على أي منهم باستثناء ما يعود على المجتمع في مجموعه من نفع نتيجة الوظائف المختلفة التي تقوم بها الدولة.

واعتبار الزكاة والخمس ركناً من أركان العبادة يشير إلى أن الإسلام جاء لتنظيم الجوانب المادية بالإضافة إلى الجوانب الروحية في حياة البشر.

وقد ركز الفكر الإسلامي على مشكلة الفقر لارتباطها بالتوزيع العادل لصالح المجتمع، وكذلك لان الفقر يؤدي إلى الانتقاص من حرية الإنسان والى إذلاله، بل إلى الكفر عندما يشتد وقعه ويزداد عبئه، وهي أمور لا يرضاها الإسلام للإنسان الذي كرمه الله وجعله خليفة في الأرض.

وتوجه أموال الزكاة والخمس لتحقيق التوازن الاجتماعي بتضييق التفاوت بين دخول فئات المجتمع الواحد، فالتفاوت وان كان مرغوباً فيه كحافز على العمل والإنتاج، إلا أنه لا يجب أن يتسع كثيراً بحيث يتضمن المجتمع الواحد أغنياء مترفين وفقراء يتضورون جوعاً. ذلك لأن الغنى الزائد يؤدي إلى الذلة والكفر (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (سورة الإسراء: آية 16).

لهذا يكون ضمان حد الكفاية لكل فقير أو مسكين وإنفاق الزكاة والخمس في مصارفها الشرعية هو من مهام الدولة حيث لا يمكن الاعتماد على الجهود الفردية لمواجهة مشكلة عامة ودائمة وملحة فالأفراد يدفعون الزكاة والخمس لإدارة خاصة من إدارات الدولة، وتقوم هذه الإدارة بإنفاق حصيلتها في المصارف المختلفة التي تحددها الشريعة الإسلامية.

وقيام الدولة بإدارة شؤون الزكاة لا يسلبها حقها في فرض الضرائب للانفاق على وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغير ذلك من الوظائف التي ازدادت كثيراً في العصر الحديث بناء على تطور المفاهيم الخاصة بواجبات الدولة. أما أموال الزكاة فيقتصر إنفاقها على تأمين حد الكفاية لكل فرد في المجتمع تبعاً لمستوى المعيشة السائد وفي إطار التعاليم والمبادئ الإسلامية.

لذلك يتضمن حق الكفاية التغذية الحسنة والسكن الصحي والقدرة على العلاج وإعانات الزواج والتعليم والمساعدة في تربية اليتامى والذرية التي لا مال لها… الخ

وواضح انه كلما اصبح أي من هذه البنود وظيفة إلزامية تقوم بها الدولة فإنه يستبعد من مصارف الزكاة والخمس أو التي لا تكون بنداً من بنود الضمان الاجتماعي.

بذلك يتضح أن الزكاة والخمس ونظام الضمان الاجتماعي يتساندان سوياً ويدعم أحدهما الآخر في سبيل تحقيق التكافل الاجتماعي الإسلامي حتى يتحقق بذلك التوزيع العادل للدخل القومي فيكون بذلك حافزاً قوياً على العمل المنتج وعاملاً من عوامل الرفاهية الاجتماعية.