عبــد الحكيــم الســلوم


إذا نظرنا إلى الناس في أقوالهم وأفعالهم رأينا أن كل شخص منهم فرد يختلف عن غيره من جهة، ويشترك معه في عدد من النواحي من جهة أخرى، وأن الاختلاف يبقى دائماً رغم وجود عدد من نواحي الاشتراك.

لذلك نستطيع القول بأن كل إنسان يشبه كل الناس من جهة، ويشبه بعض الناس من جهة أخرى، وهو متميز من جهة ثالثة حيث إنه ينتمي إلى نوع الإنسان ويحمل خصائصه الإنسانية العامة، ويشبه عدداً من الناس في بعض تصرفاتهم ومظاهر سلوكهم، ولكنه يبقى متميزاً متفرداً من حيث هو شخص.

ثم إننا كذلك نرى أن الفرد في تفاعل مستمر مع الشروط والظروف التي تحيط به: فهو يأخذ منها ويتحمل آثارها من جهة، وهو يحدث فيها نوعاً من الفعل من جهة ثانية. انه كثيراً ما يواجه ظروفه بنجاح ويتكيف معها تكيفاً مناسباً، وكثيراً ما يفشل في مواجهتها بما يلزم، وقد يطول فشله، وقد يصبح تكيفه معها غير مناسب وغير مرض.

معنى الشخصية وخصائصها

احتلت الشخصية مكانة هامة في الدراسات النفسية خلال السنوات الأربعين الأخيرة. ويصدق هذا القول في حال دراسة الشخصية السوية كما يصدق في حال دراسة الشخصية المضطربة. وقد ساعد على تأكيد هذه المكانة عدد من العوامل كان من بينها النظر إلى السلوك على انه يحصل لشخصية تعمل من حيث هي وحدة متكاملة وفيها كل ما تنطوي عليه من عناصر ومركبات ودوافع وقدرات إلا أن هذا الاهتمام العظيم بالشخصية لا يسلم من الاختلاف في المنحى الذي تأخذه الدراسات التي تجعلها موضوعاً وذلك على الرغم من وجود اتفاق حول اعتماد الطريقة العلمية في البحث.

ومن الممكن رؤية هذا الاختلاف في أول مسألة نعرض لها وهي تعريف الشخصية أو تحديدها.

تعريف الشخصية

يظهر الشخص نامياً متطوراً، من جهة، ويظهر من جهة أخرى، ثابتاً نوعاً من الثبات في مواقفه واتجاهاته. يبدو متفرّداً متميزاً عن غيره، من جهة، ومشابهاً غيره، من جهة أخرى. وهو كلٌ موحٌد، أو وحدة متكاملة، من طرف، ولكنه يُرى ويبحث في عدد من الجوانب والجهات المتمايزة من طرف آخر فكيف نعرّف هذا التركيب الذي يبدو من خلال هذه الزوايا المتعددة؟

تعريف الشخصية من حيث المعنى اللغوي للكلمة:

الشخص، في اللغة العربية، هو (سواد الإنسان وغيره يظهر من بعد)

وقد يُراد به الذات المخصوصة، وتشاخص القوم (اختلفوا وتفاوتوا) أما(الشخصية) فكلمة حديثه الاستعمال لا يجدها الباحث في أمهات معاجم اللغة العربية، فإذا وجدت في بعض الحديث منها فهي تعني (صفات تميز الشخص من غيره)، وكان استعمالها قائماً على معنى الشخص أي على معنى كل ما في الفرد مما يؤلف شخصه الظاهر الذي يرى من بعد، وعلى مفهوم التفاوت.

أما في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، فكلمة الشخصية(personality) (person alite) مشتقة من الأصل اللاتيني (persona) ، وتعني هذه الكلمة القناع الذي كان يلبسه الممثل في العصور القديمة حين كان يقوم بتمثيل دور، أو حين كان يريد الظهور بمظهر معين أمام الناس فيما يتعلق بما يريد أن يقوله أو يفعله.

وقد أصبحت الكلمة، على هذا الأساس، تدل على المظهر الذي يظهر فيه الشخص وبهذا المعنى تكون(الشخصية) ما يظهر عليه الشخص في الوظائف المختلفة التي يقوم بها على مسرح الحياة.

تعريف الشخصية من حيث هي مجموعة مكونات:

ينظر مورتن برنس (Mortonprince) إلى الشخصية من حيث هي اجتماع لعدد من العناصر أو لعدد من المكونات الأساسية. وهو يقول عنها في كتابه عن اللاشعور: (الشخصية هي كل الاستعدادات والنزعات والميول والغرائز والقوى البيولوجية الفطرية والموروثة، وهي كذلك كل الاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة (Prince, 1934).

وتعريف مثل هذا نجده عند عدد غير قليل من المشتغلين وبخاصة منهم من بحث الشخصية في الثلاثينات والأربعينات من عصرنا الحالي.

تعريف الشخصية من حيث التكيف مع المحيط حولها:

تأخذ التعريفات التي تنطلق في تحديد الشخصية من عمليات التكيف التي تمر بها ـ تأخذ هذه التعريفات اكثر من اتجاه فبينها ما يلح على عمليات التكيف وعلى مجموعة من العناصر يرى أن الشخصية تنطوي عليها. وبينها ما يلح على وجود نظام في الشخصية يعمل في توجيه التكيف. وفيها ما يجمع بين وجهتين من خلال تطور نظرية خاصة في الشخصية.

يرى باودن (Bowden) أن الشخصية (…. هي تلك الميول الثابتة عند الفرد التي تنظم عملية التكيف بينه وبين بيئته). (Bowden,1929) (ص22).

ويرى برت(Burt) أن الشخصية (… هي ذلك النظام الكامل من الميول والاستعدادات الجسمية والعقلية، الثابتة نسبياً، التي تعدّ مميزاً خاصاً للفرد، والتي يتحدد بمقتضاها أسلوبه الخاص في التكيف مع البيئة المادية والاجتماعية) (Burt,1937) (ص17) ويأخذ (ايسنك) (Eysenck) موقفاً يقترب من موقف برت بعض الشيء حين يقول عن الشخصية (…. أنها التنظيم الثابت المستمر نسبياً لخُلق الشخص ومزاجه وعقله وجسده، وهذا التنظيم هو الذي يحدد تكيفه الفريد مع محيطه) (Eysen,1950) (ص38).

أما البورت فيمر على بعض التطور في تعريفه الشخصية انه يقول في مطلع أبحاثه عن الشخصية أن (الشخصية هي التنظيم الديناميكي في نفس الفرد لتلك المنظومات الجسمية النفسية التي تحدد أشكال التكيف الخاصة لديه مع البيئة) (Allport,1937) (ص48).

ويقول في مناسبة لاحقة أن الشخصية (هي تلك الصيغة التي يتطور إليها الشخص ليضمن بقاءه وسيادته ضمن إطار وجوده). (Allport,1961) (ص82)

الثبات والتغير في الشخصية

تجتمع في الشخصية خاصيتان أساسيتان، تظهر الأولى على شكل ثبات في الشخصية، وتظهر الثانية في التغير والتطور اللذين ينالانها خلال تاريخ حياتها. فكيف نفهم هاتين الخاصيتين المتلازمتين، وما هي النتائج التي تترتب على وجودهما.

ثبات الشخصية: يتألف من:

1) الثبات في الأعمال: يظهر هذا النوع من الثبات في اتجاهاتنا المختلفة التي يعكسها سلوكنا في أشكاله المختلفة، وبخاصة ما كان منها متصلاً بطريقة تعاملنا مع الآخرين واحترامهم والتصرف بشؤونهم.

هنا نلاحظ كيف يظهر أحدنا متجهاً نحو اللف والدوران في التعامل مع الآخرين، كما يظهر الآخر معتمداً في أعماله قواعد من نوع احترام مصلحة الآخرين، وحقوقهم، والشعور تجاه الكلمة والحركة.

2) الثبات في الأسلوب: هنالك نوع آخر من الثبات في الشخصية يمكن أن يسمى الأسلوب أو التعبير، ونعني به ما يظهر عليه أي عمل مقصود نقوم به. فالطريقة التي تتبع في الإمساك بلفافة التبغ وتدخينها يمكن أن تكون مثالاً واضحاً لما هو مقصود هنا من الأسلوب أو التعبير، وكذلك الأمر في طريقة إمساكنا بالقلم حين الكتابة. وقد كان من بين الدراسات الواسعة لهذه الظاهرة تلك التي قام بها اولبورت وفرنون (Allport-vernon) (1932). وكان موضوع دراستهما الحركات التعبيرية وقد لاحظنا أن عدداً من الحركات التعبيرية يميل إلى البقاء مع بعضها وإلى الثبات لدى الفرد حين يمر بمناسبات مختلفة.

3) الثبات في البناء الداخلي: إن أقوى ما يظهر عليه الثبات هو الثبات في البناء الداخلي، ونعني بذلك الأسس العميقة التي تقوم عليها الشخصية ومن هنا نفهم تعريف(باودن (Bowden للشخصية حين يقول أنها تلك الميول الثابتة عند الفرد التي تنظم عملية التكيف بينه وبين بيئته.

4) الثبات في الشعور الداخلي: لقد نوقش الثبات من حيث شعور الفرد داخلياً باستمرار وحدة شخصيته. واخذ الثبات ضمن النقاش اكثر من اسم فقد أطلق عليه أحياناً اسم هوية الشخص، كما أطلق عليه أحياناً أخرى اسم وحدة الشخصية وهو إنما يظهر بالواقع في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.

تغير الشخصية: إن الثبات الذي كنا نتحدث عنه ليس في الواقع إلا ثباتاً نسبياً. وهو بهذا المعنى بعيد عن أن يكون سكوناً أو استمراراً أبدياً في وضع واحد إن صفات الحركة والنمو والتغير والانطلاق التي تعبر عن(ديناميكية الشخصية) صفات أساسية لها فالشخص يمر خلال طفولته بأشكال مختلفة من النمو في نواح متعددة من بنائه، وهو يتغير ويتطور خلال هذا النمو، أنه ينمو من حيث معارفه، ومن حيث قدراته ونوعيتها ومستواها، وينمو في أشكال خبرته ومواقفه من المؤثرات التي تحيط به انه يتفاعل بشكل مستمر مع ما يحيط به، ويترك هذا التفاعل آثاره في مكونات شخصه إن صفة التغير أساسية عنده. وحين يصل إلى مرحلة الرشد التي نستطيع أن نقول عنها أن مظهر الثبات قد اصبح الغالب فيها، فإن التطور في الشخص يبقى مع ذلك مستمراً وإلا لما أمكن فهم ما يصيب الفرد والمجتمع من تطور وتقدم، وما يصيب الشخصية الشاذة من تعديل بتأثير العلاج، إن هذا التغير في الشخصية ملاصق لثباتها النسبي وغير متعارض معه وكأننا في الواقع أمام طريق واسعة تكون العراقيل والخبرات فيها كثيرة ومتنوعة، وهي تؤثر في عابر السبيل ولكن السبيل في اتساع فيه نوع من الوحدة والديمومة.

النظريات في الشخصية

سوف نقف فيما يلي من الحديث عند أربع نظريات في الأنماط نأخذ أولاها من حضارة اليونان، ونأخذ الثانية والثالثة والرابعة من الدراسات الحديثة:

أ) الأنماط عند أبيقراط: كان ابيقراط (HIPPOCRATES) (400ق.م) يرى أن الأمزجة تعود إلى أربعة أنماط، وقد اعتمد في هذا التصنيف على العناصر التي يتكون منها الجسم الإنساني والإختلاطات التي تتكون ضمنه والأنماط الأربعة كما يراها هي:

1- المزاج الدموي(the samguine temperament): ويظهر معه الشخص نشطاً وسريعاً، وسهل الاستثارة من غير عمق أو طول مدة، وهو أميل إلى الضعف من ناحية المثابرة والدأب.

2- المزاج الصفراوي(the choleric temperament): ويغلب عليه التسرع، وقلة السرور، وشدة الانفعال.

3- المزاج السوداوي: (the melanholic temperament): ويغلب عليه الاكتئاب والحزن

4- المزاج البلغمي أو اللمفاوي (the ghlematic temperament): ويغلب عليه التبلد والبطء، وضعف الانفعال وعدم الاكتراث.

ترجع هذه الأنماط الأربعة إلى غلبة واحد من أخلاط الجسد الأربعة وهي:

الدم والصفراء، والسوداء، والبلغم إلا أن ابيقراط يضيف إلى ذلك قوله: إن الإنسان السوي السليم هو الذي تمتزج عنده هذه الأمزجة الأربعة بنسب متفاوتة.

وقد بقي هذا التصنيف مقبولاً في أوروبا خلال العصور الوسطى وترك آثاره في بعض الكتابات الأدبية.

ب) الأنماط عند يونغ: يعتبر التصنيف الثنائي للشخصية كما ظهر عند يونغ (Jung, 1922) من أوسع أشكال التصنيف الحديثة انتشاراً أو تأثيراً لدى العاملين في هذا الحقل أو المتتبعين له يرى يونغ أن هناك نمطين رئيسيين للشخصية: أحدهما المنطلق أو المنبسط (Exvovert) والثاني المنطوي أو المنكمش (Imterovert) ويكون الاتجاه الرئيسي للأول نحو العالم الخارجي بينما يكون التمركز الرئيسي للثاني حول ذات الشخص وداخله. يتميز المنطلق بحب الاختلاط، والمرح، وكثرة الحديث، وسهولة التعبير، وحب الظهور، بينما يتميز الثاني بالحساسية والعوز، والتأمل الذاتي، والانكماش، والميل إلى العزلة، وقلة الحديث إن الاختلافات الأساسية بين النمطين كما ذكرها يونغ تشير إلى عدد من الجوانب.

فالمنطلق يعمل بتأثير وقائع موضوعية بينما يتأثر المنطوي بعناصر أميل إلى أن تكون ذاتية تأملية. وسلوك الأول يوجهه الشعور بالضرورة والحاجة بينما يسير سلوك الثاني على قواعد ومبادئ عامة.

ويكون الأول أقوى على التكيف بيسر بينما يكون الثاني مقصراً من هذه الناحية. والعصاب الغالب في الأول هو الهستيريا، أما الغالب على الثاني فالقلق والوسواس المتسلط، على أن الحكم العام بالنسبة للنمطين يدعو إلى القول عن المنطلق انه رجل عمل وإجراء بينما يقال عن الثاني انه رجل تأمل ومناقشة.

لا يقف يونغ عند هذا الحدّ من التصنيف الثنائي، بل يفصّل الحديث في تعبير الإنسان ويجعله في أشكال: فهناك المنطلق العقلاني، وهناك المنطلق اللاعقلاني. وكذلك هناك المنطوي العقلاني والمنطوي اللاعقلاني فإذا عرفنا أننا نميز عند العقلاني بين من تغلب عليه صفات التفكير ومن تغلب عليه صفات المشاعر الانفعالية، فإننا نميز عندئذ بين منطلق عقلاني مفكر ومنطلق عقلاني مأخوذ بمشاعره الانفعالية. مثل هذا التمييز موجود كذلك فيما يتصل بالمنطوي.

ولكل من هذه الأشكال صفاته وكذلك للشكل اللاعقلاني يضاف إلى ذلك أن اللاعقلاني على أشكال في النمطين، ولكل صفاته. وفيما يلي بيان تفصيلي بهذه الأشكال:

1) المنطلق: متجه عام نحو العالم الخارجي.

أـ المنطلق اللاعقلاني:

1- التفكير: مهتم بالواقع والتصنيف المنطقي، والحقيقة العملية.

2- الشعور الانفعالي: نزوع نحو التناسق مع العالم، صلات حارة مع الآخرين.

ب ـ العقلاني:

3- الإحساس: متجه نحو المصادر الاجتماعية والمادية للذة والألم، ونحو طلبات الآخرين.

4- الحدس: يستجيب للتغير، يحكم على الآخرين بسرعة، مغامر، مقامر.

2) المنطوي: متجه عامة نحو الذات والأمور الخاصة.

أـ المنطوي العقلاني:

1- التفكير: نظري، تأملي يدور حول الأفكار، غير عملي.

2- الشعور الانفعالي: نزوع نحو التناسق الداخلي، مشغول بأحلامه الخاصة ومشاعره.

ب ـ المنطوي اللاعقلاني:

1- الإحساس: متجه نحو اكفاء الخبرة الحسية.

2- الحدس: متجه نحو التأمل الذاتي،(سويعاتي) ومأخوذ بالطقوس.

ج) الأنماط عند بافلوف: انطلق بافلوف (Pavlov) في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر الجراحين الروس يوم/ 6 كانون الأول 1927م من ثلاثة منطلقات أساسية عند شرح نظريته عن أنماط الشخصية.

يذهب في الأول إلى أن الجهاز العصبي هو مركز الفعاليات النفسية، وأن ما يسميه بعضهم بالارتباطات النفسية ليس إلا ارتباطات فزيولوجية وان مختلف الدراسات المخبرية التي قام بها لفترة طويلة من الزمن تعطي دليلاً كافياً على ذلك. ويذهب في الثاني إلى أن هناك ظاهرتين أساسيتين في التكوين النفسي للإنسان(والحيوان) هما عمليتا الإثارة والكف، وانهما مترابطتان، وان فعالية الإنسان(والحيوان) منطلق منهما باستمرار، وأن الأولى تمثل نشاط الإنسان وإنتاجه بينما تمثل الثانية، وهي الكف، النزوع الى الراحة واستعادة النشاط وحماية الخلايا من الإعياء والإفراط في صرف الطاقة أما المنطلق الثالث فالقول بأن الإنسان يحمل قدرة على التكيف، وأنه في ذلك يحمل الكثير من الأفعال المنعكسة الطبيعية التي تُرى ثابتة ومتناسبة مع مؤثرها الأصلي، والكثير من الأفعال المنعكسة الشرطية التي تكون مكتسبة وقابلة للتعديل والتحويل، من هذه المنطلقات يأتي بافلوف للحديث عن أنماط المزاج عند الإنسان عن طريق الحديث عن الأنماط التي يجدها عند الكلب على أساس أن التشابه في التكوين الفزيولوجي بين الاثنين يكفي لمثل هذا التعميم فهناك أولاً نمطان متطرفان يقابل أحدهما الإثارة وشدتها ويقابل الثاني الكف وهدوءه.

وهناك ثانياً حال متوسط معتدل عنده شيء من الطرفين ولذلك فهو متوازن. ولكن هذا الحال المتوسط يعود، هو نفسه، إلى نمطين تبعاً لغلبة الإثارة أو الكف؛ فتكون الإثارة هي الغالبة في أحدهما، ويكون الكف هو الغالب في الثاني. وهكذا نحصل على أنماط أربعة للأمزجة كما يقول بافلوف، وهي كما يلي:

1- المندفع الذي يتميز بشدة الاستثارة، والاندفاع، والطيش وكثرة التسلط، والعدوانية ويبدو ذلك واضحاً عند الحيوان الذي يميل إلى العدوان.

2- الخذول الذي يتميز بضعف النشاط، وتطرف الهدوء، والاكتئاب والسكينة، والخضوع، والتخاذل.

3- النشط المتزن الذي يتميز بالاعتدال مع ظهور النشاط وكثرة الحركة والملل السريع حين لا يوجد ما يشغله، وهو فعّال ومنتج.

4- الهادئ المتزن الذي يتميز بالقبول والمحافظة والرزانة، وهو عامل جيد ومنظم.

وينعطف بافلوف نحو الأنماط عند ابيقراط ليقارن بينها وبين ما قال به هو يقول بافلوف أن ابيقراط قد اقترب من الحقيقة كثيراً من حيث قوله بالأنماط الأربعة للمزاج، ولكنه ابتعد عما يقبله العلم الحديث في الأساس الذي اعتمده في ذلك التصنيف..

والمقارنة بين الأنماط في الطرفين تقود إلى ما يلي:

أ ـ يقابل مزاج المندفع الذي يقول به بافلوف المزاج الصفراوي الذي يقول به ابيقراط.

ب ـ يقابل مزاج الخذول عند بافلوف المزاج السوداوي الذي يقول به ابيقراط.

جـ ـ يقابل مزاج النشط المتزن عند بافلوف المزاج الدموي الذي يقول به ابيقراط.

د ـ أما مزاج الهادئ المتزن الذي يقول به بافلوف فيقابله عند ابيقراط المزاج البلغمي أو اللمفاوي.

ويُعرّج بافلوف على الاضطرابات النفسية ليقول بأن نسبة من يأتي إلى العيادة من النمطين الأولين المتطرفين، المندفع والخذول هي أعلى بكثير من نسبة من يأتي من النمطين المعتدلين أو المتزنين والظاهر أن تمكن الأخير من التكيف مع شروط الحياة ومواجهتها بما يجب دون تطرف هو أقوى من تمكن الأولين فإذا أخذنا ما يغلب من اضطراب في النمطين الأولين وجدنا الغلبة للوهن العصبي في حالة المندفع والهستيريا في حالة الخذول.

هـ) الأنماط عند شلدون: أوضح شلدون (sheldon,1942) في نظريته عن الشخصية أنها ترجع إلى ثلاثة أنماط مزاجية، وان كل نمط من أنماط الشخصية يقابل تركيباً جسمياً معيناً وهو في هذا التصنيف يعود إلى تركيب الجسم وما يغلب عليه من حيث الوزن، ونمو العضلات والطول، وما يتصل بها، ليقول في النهاية بوجود ثلاثة أشكال من التركيب، ويرى كذلك أن هذه الأشكال الثلاثة تتمايز بتأثير من عوامل التعلم واحتياجات الجسم وإشباعها وتطمينه ثم ينتهي من بحثه إلى القول بوجود أنماط للشخصية تقابل أشكال تركيب الجسم الثلاثة.

وحين تسمية هذه الأنماط نجده يشتق الأسماء من النزوع البادي فيها إلى حاجات الطعام في التركيب الأول والحركة والنشاط في الثاني، وعمل الدماغ في الثالث هذه الأنماط الثلاثة هي التالية:

1- النمط الحشوي: (viscerotonia): وهو نمط الشخصية الذي يقابل تركيب الجسم الموصوف عامة بصفة (الداخلي التركيب) (Endomorphy) ويغلب عليه الاسترسال في ممارسة ما يتصل بشؤون التغذية والشؤون العاطفية والاجتماعية وإننا هنا أمام شخص ينام بسهولة ولا يستفيق خلال الليل بسهولة انه يميل إلى الأكل ميلاً زائداً، وينزع نحو البعد عن الحساسية والقلق وعدم الاطمئنان وهو يتميز بسهولة التوافق الاجتماعي وبحسن الصداقة مع كل من يعرفه، أنه بدين غالباً، مستدير الجسم عند وسطه، وزنه العام أعظم من نسبة ما عنده من عضلات، وميله إلى الراحة والاسترخاء ظاهر.

2- النمط الجسمي (somatotonia): وهو نمط الشخصية الذي يقابل تركيب الجسم المسمى(المعتدل التركيب) يتميز هذا النمط بتحمل الألم برضى وإرادة، والنزوع إلى السيطرة والعمل، وهو حين يتحدث إلى آخر ينظر إليه وإلى عينيه مباشرة، عنده ميل صادق نحو التدرب الرياضي القاسي، يحب الحمام البارد والسباحة عارياً والاشتراك في مغامرات تتطلب جهداً جسدياً شديداً انه يمثل المزاج الرياضي ويتميز بالتناسق الجسدي والحركة.

3- النمط المخي(cerebrotonia): وهو نمط الشخصية الذي يقابل تركيب الجسم المسمى(الخارجي التركيب (Ectomorphy) انه شخص لا يتحمل الألم برضى وإرادة، ويميل إلى الحساسية وسرعة الانفعال، ولا يجد متعة في مجرد رفقة الآخرين ولا يعدّ هذه الرفقة عنصراً هاماً. انه يفضل عدداً قليلاً من الأصدقاء على العدد الكبير، ولا يبدي الصداقة بسهولة ثم انه لا يؤثر الاشتراك في مغامرات تتطلب جهداً جسمياً شديداً ولا يحب السباحة عارياً والغالب عنده أن يكون نحيلاً.

ما هي مكونات الشخصية؟

يرى بعض العلماء أن الشخصية في الأعماق بناء ثلاثي التكوين، وأن كل جانب في هذا التكوين يتمتع بصفات وميزات خاصة، وأن الجوانب الثلاثة تؤلف في النهاية وحدة متفاعلة ومتماسكة هي الشخصية، هذه الجهات أو الجوانب الثلاثة هي:

(الهو) ، و(الأنا) ، و(الأنا الأعلى).

أما(الهو)(the id) : فذلك القسم الأولي المبكر الذي يضم كل ما يحمله الطفل معه منذ الولادة من الأجيال السابقة وانه يحمل ما يسميه فرويد الغرائز ومن بينها غرائز اللذة والحياة والموت.

وهو يعمل تحت سيطرة ما يضمه منها. وما هو موجود فيه لا يخضع إذن لمبدأ الواقع أو مبادئ العلاقات المنطقية للأشياء بل يندفع بمبدأ اللذة الابتدائي، وكثيراً ما ينطوي على دوافع متضاربة.

انه لا شعوري وهو يمثل الطبيعة الابتدائية والحيوانية في الإنسان.

وأما(الأنا) (the ego): فينشأ ويتطور لأن الطفل لا يستطيع أن يشبع دوافع (الهو) بالطريقة الابتدائية التي تخصها، ويكون عليه أن يواجه العالم الخارجي وان يكتسب من بعض الصفات والمميزات وإذا كان (الهو) يعمل تبعاً لمبادئه الابتدائية الذاتية، فإن(الأنا) يستطيع أن يميز بين حقيقة داخلية وحقيقة واقعية خارجية.

فالأنا من هذه الناحية يخضع لمبدأ الواقع، ويفكر تفكيراً واقعياً موضوعياً ومعقولاً يسعى فيه إلى أن يكون متمشياً مع الأوضاع الاجتماعية المقبولة.

هكذا يقوم (الأنا) بعملين أساسين في نفس الوقت:

أحدهما أن يحمي الشخصية من الأخطار التي تهددها في العالم الخارجي، والثاني أن يوفر نشر التوتر الداخلي واستخدامه في سبيل إشباع الغرائز التي يحملها(الهو) وفي سبيل تحقيق الغرض الأول يكون على الأنا أن يسيطر على الغرائز ويضبطها لأن إشباعها بالطريقة الابتدائية المرتبطة معها يمكن أن يؤدي إلى خطر على الشخص.

فالاعتداء على الآخرين بتأثير التوتر الناشئ عن الغضب يمكن أن يؤدي إلى ردّ الآخرين رداً يمكن أن يكون خطراً على حياة المعتدي نفسه وهكذا يقرر الأنا (متى) و(أين) و(كيف) يمكن لدافع ما أن يحقق غرضه ـ أي أن على (الأنا) أن يحتفظ بالتوتر حتى يجد الموضوع المناسب لنشره. وهكذا يعمل الأنا طبقاً لمبدأ (الواقع) مخضعاً مبدأ اللذة لحكمه مؤقتاً.

ونأتي إلى الجانب الثالث وهو

(الأنا الأعلى (the super ego:

هنا نجد أنفسنا أمام حاضن للقيم والمثل الاجتماعية والدينية التي ربى الطفل عليها في بيته ومدرسته ومجتمعه. (فالأنا الأعلى) يمثل الضمير المحاسب، وهو يتجه نحو الكمال بدلاً من اللذة، ولهذا (الأنا الأعلى) مظهران، الضمير والأنا المثالي.

يمثل الأول الحاكم بينما يمثل الثاني القيم.

فإذا أردنا تلخيص هذا البناء الثلاثي الداخلي للشخصية كما يراه بعض العلماء قلنا ما يلي:

إن الأنا هو الذي يوجه وينظم عمليات تكيف الشخصية مع البيئة، كما ينظم ويضبط الدوافع التي تدفع بالشخص إلى العمل، ويسعى جاهداً إلى الوصول بالشخصية إلى الأهداف المرسومة التي يقبلها الواقع، والمبدأ في كل ذلك هو الواقع.

إلا أنه مقيد في هذه العمليات بما ينطوي عليه (الهو) من حاجات، وما يصدر عن (الأنا الأعلى) من أوامر ونواهي وتوجيهات فإذا عجز عن تأدية مهمته والتوفيق بين ما يتطلبه العالم الخارجي وما يتطلبه (الهو) وما يمليه (الأنا الأعلى) كان في حالة من الصراع يحدث أحياناً أن يقوده إلى الاضطرابات النفسية.

نظرية السمات في الشخصية:

يميل الاتجاه الموضوعي في بحث الشخصية وقياسها إلى النظر إليها على أنها تركيب يضم مجموعة من السمات (traits) يمكن كشفها ووضعها وإخضاعها للقياس في واحد أو اكثر من أشكاله المتعددة. ولنبحث أولاً مفهوم السمة.

كيف نفهم السمة: يمرّ الشخص بظروف متنوعة الشروط خلال حياته اليومية ويواجهها بأشكال من السلوك فإذا جعلنا هذا الشخص موضوع ملاحظة تبين لنا من سلوكه انه ينقل خبرات لديه من ميدان أو إطار سابق إلى آخر، وأن ثمة صفات يتكرر ظهورها في أشكال من سلوكه.

لنأخذ مثالاً من حياة إنسان، نلاحظه في مواقف تتطلب تحمل المسؤولية، نقف عند شاب في السنة الثالثة من دراسته الجامعية ونلاحظ سلوكه اليومي لعدد من الأيام. إن من جملة ما نراه عنده انه يتابع دراسته بانتظام، وانه يعد ما يطلب منه من مهمات بشكل مناسب فإذا دعي إلى إبداء الرأي أعرب عن رأيه ودافع عنه. وإذا كلف بإعداد رحلة يشارك فيها زملاؤه أعدها شاعراً بمسؤوليته عن كل جزء منها.

وحين يجتمع مع الآخرين يبدو عليه مصغياً لما يقال، بعيداً عن السرعة في الانفعال، حريصاً على أن يعطي كل إنسان حقه وأن يحمل كل إنسان مسؤولية عمله، فإذا وقع منه ما يمكن أن يلام عليه، وكان مخطئاً أو مقصراً، اعترف بمسؤوليته وأنكر على بعض الناس اتكالهم على غيرهم وتقلبهم وتحميل الآخرين مسؤوليات أخطائهم إننا هنا أمام عدد من ظروف الحياة وأشكال من سلوك هذا الشاب أن بين ظروفه التي نطالع أمرها شيئاً من الاشتراك بشرط أو اكثر وبين أشكال سلوكه التي لاحظناها عنصر مشترك ينساب فيها كلها وهو نزوعه الإيجابي نحو تحمل المسؤولية. إننا نعتبر هذا النزوع الإيجابي تعبيراً عن سمة من سمات الشخصية، أما تنظيمه الأمور، ودأبه، وإصغاؤه، وتصميمه، فأشكال من السلوك تنعكس فيها هذه السمة؛ والسمة إذاً هي اصل فيما يتميز به الشخص، وهي تبطن أشكال سلوكه الظاهر.

بناءاً على هذا نستطيع الوصول إلى ما يلي من النتائج التي تشكل الأساس في نظرية السمات:

1- إنّ كل سمة هي نزوع لدى الشخص للاستجابة بطريقة معينة نحو نوع من المؤثرات.

2- إنّ لدى كل شخص عدداً من السمات، ومجموعها هو الذي يميز الشخصية.

كيف يحدث تكون الشخصية؟

أ- الاستعدادات الأولية: يولد الإنسان مزوداً بعدد غير قليل من الاستعدادات السلوكية انه يقوم بعدد من الأفعال المنعكسة المتخصصة البسيطة، كما يقوم بعدد من الأفعال المعقدة الآتية عن نظام الأفعال المنعكسة البسيطة.

ب - عملية التعلم: هناك عدة مفاهيم تفسر عملية التعلم وتشرح ما يوجد في الأسس منها، وبين أهم هذه المفاهيم ما يلي: الدافع أو الحاجة المثيرة الاستجابة، الإشراط، التعزيز.

أما الدافع: فقوة محركة تدفع بالفرد إلى العمل من اجل إشباع غرض الدافع أو الحاجة قد يكون هذا الدافع حاجة أولية وهو عندئذ متصل بالتركيب البيلوجي للإنسان.

وأما المثير: (stimulus) فهو تلك الإشارة التي توجه الاستجابة لتصدر عن الإنسان.

والمقصود من الاستجابة: (Response) ذلك السلوك البسيط أو المعقد الذي يدفع إليه الدافع لمواجهة المثير وتلبية غرض الدافع نتيجة ذلك.

أما الارتباط بين المثير والاستجابة فيفسره الاشراط.

ويأتي بعد ذلك مصطلح التعزيز وما يرتبط به من إطفاء أو تثبيط ويكون التعزيز العملية التي تساعد في تقوية الارتباط بين المثير والاستجابة.

ج- تعلم الدوافع الثانوية: يتم تكوين الدوافع الثانوية أو الشخصية استناداً إلى عمليات التعلم، وتقوم هذه الدوافع بوظائف مهمة في حياة الإنسان سواء كانت باتجاه ما هو مناسب وسوي أم كانت باتجاه آخر.

الخـــلاصـــة

لكل فرد شخصيته المتميزة، ولكنه في الوقت نفسه مشترك مع الآخرين في الكثير من مظاهر تلك الشخصية إن في الشخصية نوعاً من الثبات يبدو في أساليبها واتجاهاتها وشعورها باستمرار هويتها، ولكن فيها كذلك نوعاً من التغير وإلا لما كان من الممكن فهم النمو والتربية ومن هنا يكون أمر إحاطة الشخصية بتعريف شامل أمراً صعباً قد يتجه التعريف نحو تميزها عن غيرها وقد يتجه نحو ائتلاف الصفات التي تكونها وتنطوي عليها، وقد يذهب إلى ما يبدو في سماتها أو إجراءاتها ومن هنا نصادف عدداً غير قليل من أشكال تعريف الشخصية.

المصـــــادر  :

(1) الإتجاهات الوالدية في تنشئة الطفل/ نجيب اسكندر إبراهيم/ دار المعرفة القاهرة(1959).

(2) الشخصية والعلاج النفسي/ حمد عماد الدين إسماعيل/ مكتبة النهضة المصرية، القاهرة (1959).

(3) التربية والصحة النفسية/ إبراهيم حافظ/ دار الهلال، القاهرة تأليف وإشراف: و. د. وول (W.D. wall).

(4) مشكلات الطفل اليومية/ اسعد رمزي/ دار المعارف بمصر، القاهرة (1953)، تأليف د. جلاس توم (DouglasA thom).

(5) الأمراض النفسية والعقلية/ أحمد عزت راجح/ دار المعارف بمصر، القاهرة(1965).

(6) التكيف النفسي/ مصطفى فهمي/ مكتبة مصر، القاهرة.

(7) أضواء الطب النفسي على الشخصية والسلوك/ محمد احمد غالي/(ترجمة) مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة 1966/ تأليف وليم منجز ومنروليف.

(8) الشخصية وقياسها/ لويس كامل/ مكتبة النهضة المصرية، القاهرة(1059).