من أعــلام الشيعـــة

326- 385هـ

فائق محمد حسين


صدق رسول الله(ص) حين قال: إن الله تعالى إذا أحب عبده حبب الناس إليه.. فلقد أحب الله عبده إسماعيل فأتته الفضائل من شتى النواحي واكتنفته المزايا الفاضلة من جهات متفرقة(1).

لقد حير الصاحب بن عبّاد المؤرخين ومتتبعي سيرته الحميدة. وتساءل العديد منهم كيف أتيح له تفرده بالوزارة على أحسن وجه طوال ثماني عشرة سنة، وتسييره لشؤون الدولة المترامية الأطراف، بدقة متناهية وضبط صارم وعدالة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء؟!

 كيف تمت له السيطرة المطلقة على مقاليد الأمور بحيث كان الهدوء والأمان يسودان أرجاء الدولة وكأن الغوغاء والسراق لم يولدوا في زمنه، الذي اكتفت به الأمهات بانجاب الأدباء والعلماء فقط! كما لم يدخر الصاحب جهداً في خدمة أميره وتوسيع رقعة مملكته. قال ياقوت الحموي: فتح الصاحب خمسين قلعة، سلمها إلى فخر الدولة. ولم يجتمع عشر منها لأبيه بن العميد أو لأخيه مؤيد الدولة!

كيف جمع الصاحب بين ذلك النشاط والجهد السياسي والعسكري، وبين انغماره إلى حد كبير وغريب في عالم الكتب والثقافة والتأليف بمجال الأدب والعلم؟! حتى كان عهده - باعتراف كل المحللين والنقاد وكتبة التاريخ - أخصب عهد شهدته العرب للعلم والأدب، بتقريبه رجالات الفضيلة وتشويقه إياهم وتنشيطهم لنشر بضائعهم الثمينة فنفق سوقها وراج أمرها وكثر طلابها ونبغ روادها..

لقد ناصر الصاحب بن عباد الأدباء والشعراء والعلماء مناصرة كبيرة وكان سخياً معهم، منصفاً، يجزل العطاء لهم ويزيد المكافأة الممنوحة حتى (امتاز بالجود الهامر والفضل الوافر..) فتوافدوا على ديوانه العامر على مر الوقت ومن مختلف الأصقاع.. واحتشد على بابه الشعراء الذين تنافسوا لمدحه على فضله، حتى بلغ عددهم خمسمائة شاعر (ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بغرر المدائح) (2). وقال الصاحب: (مدحت والعلم عند الله بمائة ألف بيت قصيدة شعراً، عربية وفارسية)(3).

وقد خلدت تلك القصائد على صفحة الدهر ذكراً لا يبلى، وعظمة لن تخترق..

قال منصور الثعالبي: حدثني عون بن الحسين، فقال: كنت يوماً في خزانة الخلع فرأيت في حسابات كاتبها -وكان صديقي - مبلغ عمائم الخزِّ التي صارت تلك الشتوة للعلويين والفقهاء والشعراء خاصة، غير الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين.. وكان ينفذ إلى بغداد وحدها في السنة خمسة آلاف تفرق على الفقهاء والأدباء..!!

  ولادتـــــة  :

الصاحب بن عباد: هو أبو القاسم اسماعيل بن أبي الحسن عباد بن عباس بن أحمد أدريس الطالقاني.. (والطالقاني نسبة إلى طالقان وهو اسم لمدينتين احداهما بخراسان والأخرى من أعمال قزوين، والصاحب من طالقان قزوين) (4).

(وبنو عباد سلالة تعود بنسبها إلى ملوك الحيرة اللخميين.. حكمت أشبيلية (ملوك الطوائف) من (414 -484هـ) (1023 -1091م) أسسها محمد بن عباد قاضي قرطبة، أشهر ملوكها عباد بن محمد المعتضد ومحمد المعتمد، ابن المعتقد.. قضى عليها المرابطون) (5).

ولد إسماعيل بن عباد في 16 ذي القعدة سنة 326هـ بطالقان وكان أبوه (عباد) وزير (ركن الدولة بن بويه) والد (فخر الدولة) و(مؤيد الدولة) و(عضد الدولة فنا خسرو ممدوح المتنبي).

   نشــــأتــــه  :

أظهر الصاحب منذ بواكير طفولته من الذكاء والفطنة ما دفع والده لأن يشرف شخصياً على تربيته وتعليمه وتثقيفه.. وقبل أن يشب برزت مواهبه العلمية وتفجرت طاقاته الإبداعية ومقدرته على الحفظ والإنشاد.. وازاء ذلك لم يجد الأب مناصاً من أن يهيء له أفضل الأساتذة من العلماء والأدباء (كأبي الفضل ابن العميد وأبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي وأبي سعيد السيرافي وأبي الفضل العباس بن محمد النحوي الملقب بعرام وأبي بكر بن مقسم، والقاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن شجرة وعبد الله بن جعفر بن فارس.. ويروي عن الأخيرين) (6).

ولم يكتف الصاحب بكل هذه النخبة من الأساتذة، فمع تعلقه بهم خاصة أبي الفضل بن العميد وأبي الحسين اللغوي صاحب كتاب (المجمل في اللغة) بل سعى لتوسيع دائرة معارفه الثقافية وتنويع مصادر معلوماته ومن أجل نهل أكبر قدر ممكن من العلوم والآداب من شتى المصادر المتاحة.. فدأب على حضور مجالس الأدب ومحاضرات ودروس الجوامع.. واختلط بكبار المحدثين على اختلاف لهجاتهم وجنسياتهم…

قال السمعاني: ان الصاحب بن عباد سمع الاحاديث من الاصبهانيين والبغداديين والرازيين.. وحدّث.. وكان يحث على طلب الحديث وكتابته.

وقال ابن مردويه: سمعت الصاحب يقول: من لم يكتب الحديث لم يجد حلاوة الإسلام..

   تـــولعـــه في الكتـــب  :

عشق الصاحب القراءة وتولع باقتناء الكتب وجمعها. بعد أن استهوته إلى حد عجيب.. (تنافس الملوك والأمراء على اقتناء نسخة من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني. وفي المقدمة منهم مفخرة زمانه الصاحب بن عباد الذي يقول عنه ما نصه: لقد كان لي في اسفاري عدة جمال تحمل معي ما التذ به، واحتاج اليه من اسفار ودواوين الشعر أرجع اليها، وانبش فيها حتى اذا كان لي كتاب الاغاني فقد كفيت منها كلها به وكفى) (7).

فأي قائد هذا الذي يأخذ معه في غزواته ورحلاته وأسفاره عدة جمال تحمل كتباً!

ودفعه حب الكتب والتعلق الغريب بها لأن يكوّن مكتبة عامرة لا مثيل لها في ذلك الزمان.. كان يقضي جل وقته بين رفوفها.. ولم يذكر التاريخ أن احداً اعتذر عن قبول منصب رفيع في الدولة بسبب الكتب والمكتبة، التي نوه بها، لما أرسل اليه صاحب خراسان نوح بن منصور الساماني احد ملوك بني سامان ورقة في السر يستدعيه بها الى حضرته، ليفوض اليه وزارته وتدبير امر مملكته ويرغبّه في خدمته وبذل البذول السنية.. فكان من جملة اعذاره قوله:

كيف لي بحمل اموالي مع كثرة اثقالي.. وعندي من كتب العلم خاصة ما يحتاج لنقله على اربعمائة جمل أو أكثر.. فما الظن بما يليق بها من التحمل؟(8).

وعلّق أبو الحسن البيهقي على ذلك بقوله: وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالري دليل على ذلك بعدما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين. فاني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشرة مجلدات.. فان السلطان محمود لما ورد الى الري قيل له:

إن هذه الكتب كتب الروافض واهل البدع.. فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام وامر بحرقه… (معجم الادباء).

ويظهر من كلام البيهقي هذا، أن عمدة الكتب التي أحرقت هي خزانة كتب الصاحب… وهكذا كانت تعبث يد الجور بآثار الشيعة وكتبهم ومآثرهم. (وكان خازن تلك المكتبة ومتوليها ابو بكر محمد بن ابراهيم علي المقري المتوفي(381هـ) وأبو محمد عبد الله الخازن بن الحسن الاصبهاني) (9).

    ميــــزاتــــه  :

هذه الكتب خلقت من الصاحب رجلاً وحيد عصره ومفخرة زمانه حقاً.. إذ شاع نبوغه في العلوم وتضلعه في فنون الأدب بصورة فريدة.. واصبح شخصية متميزة تستدعي الافاضة في التحليل من ناحية العلم تارة ومن ناحية الأدب تارة أخرى.. فهو فيلسوف متكلم، فقيه، محدث، مؤرخ، لغوي، نحوي، اديب، كاتب، شاعر نابغة جمع الشوارد، مؤلف من طراز نادر، ألّف اكثر من اثنين وثلاثين كتاباً في العلوم والآداب ومتفرقات المعرفة والثقافة.. واضافة الى ذلك كان يملي الحديث على خلق كثير.. واعترف بذلك الشاهد والغائب…

وصفه (ابن خلكان) بقوله: كان نادرة الدهر واعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه.

وقال (الاميني) في حقه: إنه أحد أفذاذ العلم الذين لم يعدهم أي مقام، منبع من الفنون، تجده في الذروة والسنام من الفضل الظاهر، فحق له هذا الصيت الطاير والذكر السائر في الفلك الدائر..

وقال عنه (ابو منصور الثعالبي) في كتابه (اليتيمة): ليست تحضرني عبارة أرضاها للافصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلال شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن أو جمعه أشتات المفاخر لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ ادنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه.. ثم شرع الثعالبي في شرح بعض محاسنه وطرف من احواله..

وفي (فقه اللغة) جعله الثعالبي: أحد أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في كتابه امثال الليث والخليل وخلف الأحمر وثعلب الأحمش وابن الكلبي وابن دريد…

وعدَّه (الشيخ بهاء الملة والدين) في (رسالة غسل الرجلين ومسحهما): من علماء الشيعة الكبار في عداد ثقة الاسلام الكليني والصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي والشيخ الشهيد ونظرائه..

ووصفه (العلامة المجلسي): الأول في حواشي نقد الرجال بكونه من أفقه فقهاء أصحاب المتقدمين والمتأخرين..

وعدَّه في مقام آخر: من رؤساء المحدثين والمتكلمين..

وفي مقدمة(البحار) رآه: علماً في اللغة والعروض والعربية..

وأطراه (الشيخ الحر العاملي) في(أمل الآمل): بأنه محقق متكلم عظيم الشأن جليل القدر في العلم…

وتحدث عنه(الانباري) طويلاً في كتابه (طبقات الأدباء النحاة) وعدّه من علماء اللغة، وأفرد له ترجمة خاصة في كتابه..

وفي (بغية الدعاة) جعله (السيوطي): في طبقات اللغويين والنحاة..

وقال(ابن الجوزي) عنه: كان يخالط العلماء والأدباء ويقول لهم: نحن بالنهار سلطان وبالليل أخوان وسمع الحديث وأملى..(10).

وروى أبو الحسن الطبري المعروف(بكيا): سمعت أبا الفضل زيد بن صالح الحنفي يقول: لما عزم الصاحب اسماعيل بن عباد على الاملاء.. وكان حينئذ في الوزارة خرج يوماً متطلساً متحنكاً بزي أهل العلم فقال: قد علمتم قدمي في العلم، فأقروا له بذلك.

فقال: وأنا متلبس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي.. ومع هذا فلا أخلو من تبعات... أشهد الله وأشهدكم أنني تائب الى الله من كل ذنب أذنبته..

واتخذ لنفسه بيتاً سمّاه بيت التوبة.. ولبث أسبوعاً على ذلك، ثم اخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته وخرج .. فقعد للاملاء وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف اليه ستة كلّ يبلغ صاحبه.. فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار(11).

   كتبــــوا عنــــه  :

كتب عن الصاحب بن عباد الكثير من الكتاب الفقهاء، الطيب والجميل، مثل القاضي عبد الجبار والشيخ عبد القاهر الجرجاني وابو بكر المقري والقاضي أبو الطيب الطبري.. وألف له غير واحد من الأعلام الافذاذ تآليف قيمة منهم:

1- الشيخ الصدوق (عيون أخبار الرضا).

2- الحسين بن بابويه (نفي التشبيه).

3- الشيخ الحسن بن محمد القمي (تاريخ قم).

4- أبو الحسن أحمد بن فارس الرازي اللغوي (الصاحبي).

5- القاضي الجرجاني (التهذيب).

6- أبو جعفر أحمد بن سليمان الطواف المالكي (الحجر).

(ألف المالكي للصاحب كتابه(الحجر) ووجهه اليه. فقال الصاحب:

(ردّوا الحجر من حيث جاء.. ثم قبله ووصله عليه)..(12)

   لقبـــــــة  :

يذكر (ابو بكر الخوارزمي): إن الصاحب نشأ في الوزارة في حجرها ودب ودرج من وكرها، ورضع افاديق درّها وورثها عن آبائه:

وأنشد الرستمي :

ورث الوزارة كابراً عن كابر موصولة الإسناد بالإسناد

يروى عن العباس عباد وزا رته وإسماعيل عن عباد

وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لانه كان يصحب استاذه (ابا الفضل بن العميد) فقيل له (صاحب ابن العميد) ثم أطلق عليه هذا اللقب لمّا تولى الوزارة وبقي علماً عليه.

وذكر أبو إسماعيل الصابي في (كتابه التاجي): إنما قيل له الصاحب لأنه صحب (أبو منصور مؤيد الدولة بن بويه) منذ الصبا وسمّاه (الصاحب) فاستمر عليه هذا اللقب واشتهر به ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده.

استكتبه مؤيد الدولة من سنة(347 الى 366هـ) وسافر معه الى بغداد ثم استوزره سنة(366هـ).. تولى الوزارة بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد وبقي فيها حتى توفي مؤيد الدولة بجرجان في شعبان(373هـ) وتولى مقاليد الدولة أخوه (فخر الدولة) أبو الحسن علي فأقرّ الصاحب على وزارته وسافر معه الى الري، عاصمة مملكته.. وكان مبجلاً عنده ومعظماً، نافذ الأمر طويل الباع…

   نـــوادره  :

ومع ذكائه المفرط امتاز الصاحب بن عبّاد بخفة الدم وسرعة البديهية وحسن الاجابة، وتروى عنه نوادر كثيرة منها:

1- رفع الضرابون من دار الضرب إليه رقعة في مظلمة مترحِّمة بهم.. فوقّع تحتها: (في حديد بارد.!

2- وكتب بعضهم إليه ورقة أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه فوقّع فيها: (هذه بضاعتنا ردت إلينا!).

3- حبس أحد عماله في مكان ضيق بجواره .. ثم صعد السطح يوماً فرآه المحبوس وناداه بأعلى صوته، فاطلع على أحواله ورآه في سواء الجحيم فقال الصاحب: (اخسئوا فيها ولا تكلمون!).

4- أنشده أبو القاسم الزعفراني يوماً أبياتاً نونية منها:

أيا من عطاياه تهدى الغنى إلى راحتي من نأى أو دنا

كسوت المقيمين والزائرين كسىً لم نخل مثلها ممكنا

وحاشية الدار يمشون في صنوف من الخزِّ إلا أنا

فقال له الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية. ثم قال: لو علمت أن سبحانه وتعالى خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه.. لذا فقد أمرنا لك يا أبا القاسم من الخزِّ بجبة، وقميص، وعمامة، ودراعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخزِّ لاعطيناكه، ثم أمر بإدخاله الخزانة.. وصبِّ تلك الخلع عليه..

5- كتب أبو منصور الجرجاني إليه:

قل للوزير المرتجى كافي الكفاة المرتجى

إني رزقت ولداً كالصبح إذ تبلّجا

لا زال في ظلك ظـ ـلّ المكرمات والحجى

فسمّه وكنّه مشرفاً متوَّجاً

فوقّع الصاحب تحتها بقوله:

هنّئه هنّئه شمس الضحى بدر الدجا

فسمّه محسناً وكنّه أبا الرجا

6- وكتب إليه علوي يخبره: بأنه رزق مولوداً ويسأله أن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته: أسعدك الله بالفارس الجديد والطالع السعيد فقد والله ملأ العين قرة، والنفس مسرة مستقرة، والاسم علي ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره، فإني أرجو له فضل جِدّه وسعادة جَدّه، وقد بعثت لتعويذه ديناراً من مائة مثقال، قصدت به مقصد الفأل، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الأبرز من نوب الأيام، والسلام..

7- كتب الصاحب إلى أبي هاشم العلوي وقد أهدى إليه في طبق فضة عطراً:

ألعبد زارك نازلاً برواقكا يستنبط الإشراق من إشراقكا

فاقبل من الطيب الذي أهديته ما يسرق العطار من أخلاقكا

والظرف يوجب أخذه مع ظرفه فأضف به طبقاً الى أطباقكا

   ثقــــافتــــه  :

أورد الثعالبي مئات الأمثال والحكم من غرر كلام الصاحب في (يتيمة الدهر) مما يدل على سعة اطلاعه وحكمته وفقهه وأدبه.. منها:

- الضمائر الصحاح أبلغ من الألسنة الفصاح.

- متن اللين لين ولكن حدّه خشن، ومتن الحية ألين ونابها خشن.

- بعض الحلم مذلّة، وبعض الاستقامة مزلّة.

- كتاب المرء عقله، بل عيار قدره، ولسان فضله، بل ميزان علمه.

- قد ينبح الكلب القمر، فيلقم النابح الحجر.

- بعض الوعد كنقع الشراب وبعضه كلمح السراب..

- قد يبلغ الكلام حيث تقصر السهام.

- لكل امرئ أمل، ولكل وقت عمل.

ومع هذه الغرر الجميلة فللصاحب رسائل بديعة ونظم جيد وله آثار خالدة في العلم والأدب.. تجاوزت الثلاثين كتاباً.

1- وقد صنف في اللغة كتاباً سماه(المحيط) وهو في عشرة مجلدات(13) رتّبه على حروف المعجم كثّر فيه الألفاظ وقلل الشواهد.

2- كتاب أسماء الله وصفاته.

 3 - نهج السبيل في الأصول. 

4 - الإمامة في تفضيل أمير المؤمنين. 

5 - الوقف والابتداء.

 6 - الزيدية. 

7 - كتاب الزيديين. 

8 - المعارف في التاريخ. 

9- الوزراء. 

10 - القضاء والقدر.

11 - الروزنامجة. 

12 - أخبار أبي العيناء. 

13 - تاريخ الملوك واختلاف الدول. 

14 - جوهر الجمهرة لابن دريد. 

15 - الاقناع في العروض.

 16 - نقض العروض. 

17 - ديوان رسائله (10اجزاء).

 18 - الكافي في الرسائل وفنون الكتابة. 

19 - الأعياد وفضائل النيروز.

 20 - ديوان شعر الصاحب بن عبّاد.

 21 - الشواهد. 

22 - التذكرة. 

23 - التعليل.

 24 - الأنوار. 

25 - الفصول المهذبة للعقول.

 26 - رسالة الابانة عن مذهب أهل العدل.

 27 - في الطب. 

28 - في الطب(أيضاً). 

29 - الكشف عن مساوئ شعر المتنبي. 

30 -رسالة في فضل سيدنا عبد العظيم الحسني(المدفون بالري). 

31 - كتاب السفينة. 

32 - كتاب مفرد في ترجمة الشافعي محمد أدريس إمام الشافعية(14).

وله ثلاثة كتب أخرى ذكرها الأميني في كتاب الغدير نسبة إلى الدكتور حسين محفوظ وهي:

1- الفصول الأدبية والمراسلات العبادية.

2- رسالة في الهدية والضلالة »مخطوط بالخط الكوفي عن نسخة المؤلف«

3- الأمثال السائرة من شعر أبي الطيب المتنبي..(15)

  مــــذهبــــه  :

فكم قد دعوني رافضياً لحبكم فلم يثنني عنكم طويل عوائهم

هكذا هتف الصاحب بن عباد أمام الملأ مصرحاً بمذهبه.

(كان الصاحب إمامي المذهب وأخطأ من زعم أنه كان معتزلياً) (16)

يا كفو بنت محمد لولاك ما زقّت إلى بشر مدى الأحقاب

يا أصل عترة أحمد لولاك لم يك أحمد المبعوث ذا أعقاب

كان النبيّ مدينة العلم التي حوت الكمال وكنت أفضل باب

رُدّت عليك الشمس وهي فضيلة بهرت فلم تستر بلفِّ نقاب

لم أحك إلا ما روته نواصب عادتك فهي مباحة الأسلاب

عوملت يا تلو النبيّ وصنوه بأوابد جاءت بكل عجاب

قد لقّبوك أبا تراب بعدما باعوا شريعتهم بكف تراب

لم تعلموا أن الوصي هو الذي أتى الزكاة وكان في المحراب

لم تعلموا أن الوصيّ هو الذي حكم الغدير له على الأصحاب

(شهد الشيخ المفيد بأن الكتاب الذي نسب إلى الصاحب في الاعتزال وضع على لسانه ونسب اليه وليس هو له) (17).

كان الصاحب إنساناً واعياً منصفاً لذلك أحب الجاحظ لأدبه كونه أحد العباقرة الذين لا يمكن نكران جهودهم.. وعندما شنت بعض الحملات المغرضة على الجاحظ انفرد الصاحب مدافعا عنه، لقد تعصب لأدبه لا لمذهبه (المعتزلة) تماما كما تعصب الشريف الرضي لأدب الصابي، الا أن ذلك لم يشفع له فشنث عليه هو الآخر حملات ظالمة كما حاول الكثيرون من مزيفي التاريخ الدس على الصاحب بن عباد والافتراء عليه وتشويه سمعته بأباطيل وأكاذيب عديدة تفيد بعضها بانه اعتنق مذهب الاعتزال تارة وتمذهب بالشافعية تارة أخرى وبالحنفية طوراً وبالزيدية مرة.. وهو ما لم يفعله أحد من المسلمين أبدا فكيف به؟! حتى إن الضغينة دفعت أبو حيان التوحيدي لتأليف كتاب ضده وضد أستاذه أبو الفضل ابن العميد بعنوان (مثالب الوزيرين)(18) وقد سلب منهما كل المآثر والفضائل وبالغ في التعصب عليهما (وجاء بأمر خداج، وأتى بمنكر من قول وزور وفاحشة مبينة، وما أنصف وما ابر بإجماع المؤرخين)(19).

في كتابه (رسالة الابانة من مذهب أهل العدل) نشر الصاحب بن عباد مقالة طويلة بحق أمير المؤمنين (ع) جاء فيها:

وبعد، فالفضيلة تستحق بالمسابقة، وهو أسبقهم إسلاماً. قد قال الله تعالى: (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ )، بالجهاد، وهو لم يغمد حساماً، ولم يقصر اقداماً، كشاف الكروب وفراج الخطوب، ومسعر الحروب، قاتل مرحب وقالع باب خيبر، وصارع عمرو بن عبد ودّ، ومن قال فيه النبيّ(ص): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، وقد قال الله تعالى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

وبالعلم، والنبي(ص) قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وأثر ذلك بيّن لأنه(ص) لم يسأل من الصحابة أحداً وقد سألوه، ولم يستفتهم وقد استفتوه، حتى إن عمر يقول: لولا علي لهلك عمر، ويقول لا أعاشني الله لمشكلة ليس لها أبو الحسن، وقد قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

وبالزهد والتقوى والبر والحسنى، فإذا كان أعلمهم فهو أتقاهم، وقال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، وبعد فهو الذي آثر المسكين واليتيم والأسير على نفسه مخرجاً قوته كل ليلة اليهم عند فطوره حتى أنزل الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فأخبر نبيه وعده عليه الجنة..

والحديث طويل وفضله كثير، وهو الذي تصدّق بخاتمه في ركوعه حتى أنزل الله فيه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُه...)..

وله في حب المذهب:

إن المحبة للوصي فريضة أعني أمير المؤمنين عليا

قد كلف الله البرية كلها واختاره للمؤمنين وليا

وله أيضاً:

بالنص فاعقد إن عقدت يمينا كلّ اعتقاد الاختيار رضينا

مكن لقول إلهنا تمكينا واختار موسى قومه سبعينا

   وفـــــاتــه  :

توفي الصاحب ليلة الجمعة في 14 صفر (385هـ) بالري، فعطلت المدينة وأسواقها واجتمع الناس على باب قصره.

قال البرقوقي: (رأيت في أخبار الصاحب أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب)، فإنه لما توفي أقفلت له مدينة الري وعطلت أسواقها واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته.. وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم.. فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة وقبلوا الأرض وخرقوا ثيابهم ولطموا وجوههم.. ومشى فخر الدولة ورجال الدولة في موكب التشييع مع الناس.. وأقام فخر الدولة في بيته العزاء أياماً..

وبعد الصلاة عليه من قبل أبو العباس الضبي علق نعشه بالسلاسل في بيت إلى أن تم نقله إلى أصفهان، فدفن هناك في قبة تعرف بباب درية(20).

رثاه الكثيرون ومنهم أبو سعيد الرستمي بقوله:

أبعد ابن عباد يهش إلى السّرى أخو أمل أو يستماح جواد

أبى الله إلا أن يموتا بموته فمالهما حتى المعاد معاد

وقال الشاعر أبو القاسم بن أبي العلاء: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: لِم لَم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك؟

فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه فلم أدر بما أبدأ منها؟ وقد خفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لهما..

فقال: أجز ما أقوله.

فقلت: قل.

فقال: ثوى الجود والكافي معي في حفيرة.

فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه.

فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا.

فقلت: ضجيعين في لحد بباب دريه.

فقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم.

فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه(21).

الهـــــــوامـــــــش  :

(1) الكواكب الدرية: 362.

(2) الغدير: 4/46.

(3) لسان الميزان لابن حجر: 1/413.

(4) الغدير: 4/62.

(5) يراجع الإمتاع والمؤانسة: 1/67.

(6) الغدير: 4/81.

(7) الغدير: 4/74.

(8) شرح ديوان المتبني للبرقوقي: 98.

(9) الغدير للأميني: 4/42.

(10) شرح ديوان المتنبي للبرقوقي: 98.

(11) الغدير: 4/49.

(12) البرقوقي: 98.

(13) المنجد في اللغة والأعلام: 445.

(14) الغدير: 4/43.

(15) الجمهرة للجواهري: 16.

(16) الغدير: 4/47.

(17) الغدير: 4/47.

(18) المنتظم لابن الجوزي: 7/180.

(19) الغدير: 4/44.

(20) الديباج المذهب لابن فرحون: 36.

(21) كذا في (معجم الأدباء). وفي (كشف الظنون) سبعة أجزاء.