من المحاضرات الأخلاقية لسماحة الفقيه المحقق آية الله السيد صادق الشيرازي

قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة:122).

منذ أن نشأت الخليقة والإنسان في حالة لفهم حقائق خافية عليه، وقد ساهمت التجارب العلمية في معرفة كنه هذه الحقائق ويدخل هذا النوع من الفهم في العلوم المادية المرتبطة بالكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء وما أشبه.

ولكن هناك أموراً علمية أخرى تدخل تحت المفهوم المعنوي والمادي إذ تدخل فيه الروحيات وعلم الأخلاق وهي أشرف العلوم إذ كان الدور الرئيسي في بثها بين الناس حينذاك للأنبياء (ص) وبواسطة التعاليم الإلهية التي توحى لهم أو تنزل على شكل كتب سماوية فأثارت في الناس معالم حضارية رائعة نتيجة لتحمل الأنبياء والأوصياء أعباء الرسالة وانتشارهم بين الناس لغرض تجسيد المفاهيم الأخلاقية السامية على الواقع وفتح آفاق جديدة أمام الإنسان.

حتى أن بعض الأنبياء تحمل عبء الرسالة وهداية قومه سنين طويلة وهو صابر على الآلام التي يسببها له قومه بل إن البعض واجه أعتى الملوك والفراعنة لإخراج قومه من الظلمات إلى نور الإيمان والتمسك بالخالق سبحانه والبعض ساح في الأرض لإيصال الكلمة الإلهية إلى جميع الناس وهو يصوغ لهم خلال ترحاله مبادئ أخلاقية رفيعة ويفتح لهم آفاقاً علمية واسعة بعد أن درسها على يد الوحي الإلهي.

وخاتم الأنبياء (ص) بعث في وسط عبثت فيه الجاهلية الدامسة فأنشأ مدارس علمية كبيرة أشرف عليها بإتقان وأخذت منه سنين عديدة تحمل أعباءها وتعلم منه الكثير لينتشروا في البلاد القريبة منه والنائية ويقوموا بواجباتهم في نشر الدين الإسلامي وتعليم الناس وبث المبادئ الأخلاقية السامية بينهم وهدايتهم ورعايتهم.

العـلمــــــاء ورثـــة الأ نبيـــــاء

العلم طريق لنجاة الإنسان وكماله، لأنه كالنور الذي يكشف له المسير، ويعرّفه لوازم كل طريق.

وقد كان الأنبياء (ع) يجاهدون من أجل تنوير طريق الإنسان وهدايته، ويتحملون العذاب في سبيل تكامل الأفراد، وذلك بالعمل الواسع من أجل رفع الجهل من واقع الحياة وتنشئة أجيال واعية.. واستمرّ هذا الخط الرسالي متمثّلاً في الأوصياء والأئمة (ع) ثم امتدهذا الدور القيادي الخطير إلى العلماء باعتبارهم ورثة ذلك الخط القويم المقدس فاقتضت بعض الضروريات إنشاء المدارس لإعداد العلماء والمبلغين وأطلقت على بعض تلك المدارس تسمية الحوزات العلمية أو الدينية وهي مستوحاة من عمل الرسول (ص) في المسجد حينما كان يقوم بالتربية والتعليم.

فالحوزة عطر من تلك الرياحين وهم الأنبياء والأئمة(ع) وصدى لصوت الحق.

إن مسألة نشر الإسلام وإيصاله إلى كل مكان مسألة ذات قدسية خاصة لا يدرك كنهها إلا الله عز وجل.

ومن أهداف الدراسة والتعليم أن يخرج الطالب بعلمه إلى الناس والعيش معهم لأجل فائدتهم وكذلك لنشر تعاليم الإسلام وهداية المخالف..

فلو لاحظنا القرآن الحكيم فهو من عند الله سبحانه والمأمور هو الرسول الأكرم (ص) ولكن الله تعالى عندما يخاطب رسوله (ص) لا يقول له عليك أن تأمر من هو حولك فقط أو من يجاورك ومن سمعك يأمر من حوله حتى يصل الأمر إلى الناس جميعاً، وإنما الأمر الإلهي للنبي (ص) كان بمثابة التعميم إذ كان يخاطبه بقوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) (1)، وفي آية أخرى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (2)، وفي آية أخرى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (3).

والواضح من الأمر أن على الرسول (ص) - وهو أشرف المخلوقات - أن يصل إلى الناس وإلى الشارع لأهمية التبليغ وقداسته ولا ينحصر تبليغه بما حوله وإنما مهمة التبليغ المقدسة تستوجب النزول إلى كل الفئات من الناس علماء وأميين.

صفــــــــات المبلّــــــغ الناجــــــح

التبليغ واجب كفائي على الطلبة والمؤمنين فكلما عمل المبلّغ بتكليفه، خفف الواجب على القسم الذي لا يذهب إلى التبليغ.

ويعتبر في المبلغ الناجح جملة شروط مهمة منها:

1- أن يكون مؤمناً بالله ورسوله.

2- أن يكون مؤمناً بالفكر الذي يدعو إليه إيماناً كاملاً.

3- أن يكون على قدر واف من العلم لأن أغلب الناس مشغولون بأعمالهم الخاصة ومسؤولياتهم اليومية، ولذا فهم يعتمدون على الخطباء والمبلغين في مواسم التبليغ في أخذ العلوم والمعارف والتوجيهات.

4- أن يمتلك المبلّغ أسلوباً جيداً في المناقشة والإقناع وفطنة عالية.

5- أن يمتلك الصبر وسعة الصدر والحنان وفي الدعاء: (اللهم إنك عليم حليم ذو أناة).

فالعلم بلا حلم لا ينفع وربما يكون وبالاً وينبغي احترام الجميع والسماع منهم حتى الأطفال أو من يسأل بسؤال تافه مع ذلك ينبغي استقباله بالبشر وعلى قدر ما يفهمه يكون الجواب وفي الحديث أن أحد الأشخاص سأل الإمام أمير المؤمنين (ع): لماذا لا نرى الله تعالى؟

وبطبيعة الحال فإن السؤال رغم بساطته عميق في محتواه وله العديد من الأجوبة الدقيقة والفلسفية أو الاستدلالية لكن الإمام أجابه بجواب يتضح من خلاله أن السائل كان على قدر من الفهم لا يمكن إجابته بأجوبة استدلالية أو فقهية وإنما قال له الإمام (ع):

إذا رأيت الله سبحانه فستذهب هيبته وإذا لم تره فهيبته تكون أكثر. واقتنع السائل بالجواب.

من ذلك نفهم أن السائل كان على مستوى بسيط من الفهم فأجابه الإمام بما يناسب عقله وفهمه مع حلم وسعة صدر واسعة.

والمنقول عن الرسول الأعظم (ص) وسعة صدره في كتب الحديث ومكارم الأخلاق كثير لابد من الاطلاع عليه.

وهناك من المبلغين والعلماء من تعرض إلى أسئلة غريبة جدّاً، في محتواها تفتقر إلى الدقة ولكن الحلم والأسلوب الناجح عامل مساعد على حل مثل هذه الأمور.

كما ينقل أن أحد الأشخاص جاء إلى النبي (ص) وقال له إني أريد أن أتبادل زوجتي مع زوجك والمسؤول هو رسول البشرية وخاتم الأنبياء والقمة في الغيرة على أهله لكنه لم ينزعج من السؤال ولم يتصرف بعنف وإنما كان لسعة الصدر والحنان أثره في رسالة النبي (ص).

وهذا هو ديدن الأنبياء (ع) وأهل البيت (ع)، كما نقرأ في الصلوات المروية عن السجاد (ع) من أيام شعبان:

(اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي اللهم صل على محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق) (4).

6- التطرّق إلى الموضوع المناسب في الزمان والمكان المناسبين.

7- أن لا تكون أفعاله مخالفة لأقواله لقوله تعالى: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) فمن يدعو إلى محاسن الأخلاق تقع عليه مسؤولية كبيرة في تصرفاته وأفعاله كما قال الصادق (ع): (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم).

التبليــــــغ على مختـــــلف المسـتويــات

الدراسة في الحوزة أو التعلّم على أيدي العلماء مقدمة للمتعلم في أخذ دوره العلمي في هذه الحياة فهو إما أن يقوم بالتدريس أو التبليغ أو الكتابة كما يمكن الجمع بينهم، فالتبليغ أمر مهم وهو الهدف والنتيجة لما بذله من جهد في أثناء الدراسة مثله مثل الطالب الأكاديمي يدرس لكي يتخرج ويخدم في مجال الطب أو الهندسة أو التدريس أو ما شابه ولكن العمل الديني له أهمية مضاعفة لخطورته الواضحة في المجتمع..

ومن خلال العمل أيضا يصطدم المبلّغ بمستويات متنوعة ومختلفة من الناس فعليه اتباع الأسلوب الناجح مع كل فئة ونوعية بمستوى ثقافتها ومعرفتها..

أيضا على المبلّغ أن يقدم الأهم على المهم فمما يلاحظ من سيرة رسول الله (ص) أنه كان يلتذ بالعبادة حتى ورد في القرآن (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى ) إذ كان يقوم الليل بالعبادة ونهاره في التبليغ والهداية، ولكن لو تعارض الأمران بين العبادة والتبليغ كان يقدم العمل التبليغي على العبادة مع أن عبادة رسول الله (ص) كانت تعادل المليارات من العبادات التي يعمل بها الناس فالواجب عنده مقدم على المستحب من العبادات رغم صعوبة الأمر التبليغي آنذاك إذ كان يأتيه الأمي أو البدوي فينبطح على وجهه ويرفع رجليه أمام النبي (ص) ويقول له علمني يا رسول الله.

نعم في هذه الأحوال ولد عمار وأبو ذر والمقداد وسلمان وغيرهم (رضوان الله تعالى عليهم).

وفي نفس الوقت كان يفرّغ وقته لابنته فاطمة (ع) وأمير المؤمنين(ع) والحسن والحسين (ع) ولزوجاته..

فالتبليغ لا يشمل المستويات الراقية فقط وإنما هو في خدمة المجتمع فلا يعلم الإنسان أية كلمة تكون بدرت منه وأثّرت في الناس فلعلّ الذي يرى في أن بعض الناس لا ينتفعون من التبليغ والهداية قد يظهر أنهم أناس يحملون العلم وينشرون المبادئ الحقة ويكونون الأثر البالغ في حمل راية الإسلام.

وينقل في أحوال الإمام الرضا (ع) أنه كان جالساً مع مجموعة من الأشخاص يرشدهم ويتناظر معهم فيقول الراوي إن أذان المغرب قد أذّن والإمام لم يقطع حديثه وتبليغه حتى انتهى وقت فضيلة المغرب ثم بعد أن انتهى من عمله التبليغي وقبل انتصاف الليل قام لأداء الصلاة لأهمية التبليغ.

فليالي الجمعة ورجب وشعبان ورمضان وعرفة وغيرها من الأيام والليالي التي تشرفت بأعمال وعبادات لو خيّر المبلغ بين أعماله العبادية والتبليغ فإن عليه أن يقدّم التبليغ لأن الواجب مقدم على المستحب والفضيلة عند التخيير.

فلا يترك الأفضل ويختار المفضول لأن الأفضل كان عمل الأنبياء والأئمة (ع).

أثـــــــــر التبليــــــغ

العراق وإيران بلدان مواليان لأهل البيت (ع) بأكثرية ساحقة هذا اليوم وهذا الولاء نتاج التبليغ وأثره، فأما العراق فكان للأئمة (ع) الدور الرائد في نشوء المذهب وترعرعه فيه حتى فاضت دماؤهم الزكية على أرض هذا البلد.. كما كان للعلماء الأفذاذ الدور الرائد أيضاً في المحافظة على الولاء، ومن بينهم العلامة السيد محمد مهدي القزويني الذي كان من علماء الحلة وتوفي عام 1300 للهجرة، ويعتبر عدلاً للشيخ الأنصاري وكلاهما تتلمذ على يد أستاذ واحد وقد صرف السنين الأخيرة من حياته في التبليغ إذ ينقل السيد حسين النوري في كتاب (خاتمة المستدرك) عن السيد القزويني حكايات ثلاث لم تتفق لأحد من قبل وواحدة منها في أثر التبليغ:

(أنه بعدما هاجر إلى الحلة واستقرّ فيها، وشرع في هداية الناس وإيضاح الحق وإبطال الباطل، صار ببركة دعوته من داخل الحلة وأطرافها من طوائف العرب قريباً من مائة ألف نفس شيعياً إمامياً مخلصاً، موالياً لأولياء الله ومعادياً لأعداء الله، بل حدثني - طاب ثراه - أنه لما ورد الحلة لم يكن في الذين يدّعون التشيع من علائم الإمامية وشعارهم إلا حمل موتاهم إلى النجف الأشرف، ولا يعرفون من حكامهم شيئاً حتى البراءة من أعداء الله، وصاروا بهدايته صلحاء أبراراً أتقياء علماء، وهذه منقبة اختصّ بها من بين من تقدم عليه أو تأخر)(5).

أما إيران فالتاريخ ينقل بأن هذا البلد قد أنجب أكبر علماء السنة وأكثريته من غير الموالين لمذهب أهل البيت (ع) لكن الأمر قد تغير كلياً اليوم بفعل التبليغ والدراسة والمطالعة، ومما ينقل في أحوال هذا البلد بأن الخليفة عمر بن عبد العزيز لما تولى السلطة منع من سبّ علي (ع) ومن جملة البلاد التابعة للخلافة إيران فجاء أهالي إيران إلى الوالي بطلب وكانوا من أكابر تجارهم فقالوا للوالي:

ندفع الضرائب سلفا وبكميات هائلة بشرط أن تسمح لنا الدولة أو الحكومة بسبّ علي لمدة ستة أشهر أخرى.

فنفس هذه البلدة التي تدفع الملايين من أجل سب علي صارت الآن مسقط رأس العديد من علماء الشيعة والمبلغين والأكثرية موالية لأهل البيت وتحتضن مدارس وحوزات علمية من أجل تنشئة أجيال علمية وكوادر تبليغية في خدمة مذهب أهل البيت وكل ذلك كان من أثر التبليغ وعمل العلماء الأفذاذ كالعلامة الحلي والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين الطوسي وغيرهم من العلماء الأفذاذ..

الهـــــوامــــــش  :

(1) الأحزاب: 59.

(2) آل عمران: 12.

(3) الأعراف: 158.

(4) مفاتيح الجنان: ص211 أعمال شهر شعبان/ دار الأضواء.

(5) خاتمة مستدرك الوسائل: ج2 ص128 مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.