منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني

صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟

صراع الحضارات؛ المقصود منه أن الصراع بين المعسكرات وبين الايديولوجيات والنظم السياسية، الاشتراكية والرأسمالية، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، المركز والمحيط، الاستعمار الجديد وحركات التحرر الجديدة قد انتهى لصالح طرف واحد هو الطرف الأول، فقد كان الطرف الأقوى، وعلى الطرف الثاني أن يعترف بالهزيمة.

موضوع صراع الحضارات، موضوع في ظاهره الثقافة، وفي باطنه السياسة.. الشكل ثقافي لدى الشعوب التقليدية التاريخية التي ما زالت مرتبطة بماضيها.. والمضمون سياسي لدى الشعوب التي انفصلت عن ماضيها باسم الحداثة لالهاء شعوب آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية عن اوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وشغلها بما تحب وتعشق هو جزء من كل، وهو أحد أبعاد الصراع الدائم والمستمر بين المركز والمحيط في العصور الحديثة في الغرب.

صراع الحضارات، نموذج الغرب الحديث

مر الغرب بثلاث مراحل، القديمة والوسطى والحديثة؛ اليونانية - الرومانية، اليهودية - المسيحية، ثم أوربا ذاتها مسترجعة تاريخها الوثني الاسطوري القديم.. وهي نفس المكونات البنيوية ومصادر تكوين الوعي الاوربي، المصدر اليوناني - الروماني، والمصدر اليهودي - المسيحي، والبيئة الاوربية ذاتها بأساطيرها القديمة وثقافاتها الشعبية.

في المرحلة اليونانية - الرومانية كانت هناك عقدة التفوق اليوناني والتقابل بين اليوناني والبربري.. كان حلم الاسكندر، إقامة امبراطورية تجمع بين الغرب والشرق من اليونان الحديث حتى الشرق القديم.

كان هناك تناقض ثانوي بين اثينا واسبرطة، بين العقل والساعد، بين الثقافة والحرب، بين القلم والسيف.. كان تناقضاً فرعياً تجاوزه الاسكندر بتوحيد بلاد اليونان في مواجهة البرابرة. واستأنف الرومان ما بدأه اليونان. وكان التوسع اكثر نحو الغرب في حوض البحر الأبيض المتوسط شمالاً وجنوباً. كانت اللغة اللاتينية لغة المحتلين.. وظلت الثقافات الوطنية في الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط باقية.. وورثت المسيحية الرومانية المسيحية اليونانية ونشرتها في شمال أوربا مع اللغة اللاتينية بعد أن تحولت روما من عاصمة للامبراطورية الرومانية إلى عاصمة للإمبراطورية المسيحية بعد تحول قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، ولما انتشر الإسلام على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأسس حضارة جديدة ورثت الحضارة اليونانية واليهودية المسيحية، ودخلت المستعمرات الرومانية في آسيا وافريقيا في الإسلام، وساهمت في تكوين حضارته.. بدأ عداء الغرب في العصر الوسيط للعالم الإسلامي بالحملات الصليبية المتتالية التي لم تحقق اهدافها النهائية، بل حدثت للصليبيين، اجداد الغربيين المحدثين، صدمة حضارية من مدى تقدم المسلمين، ثقافة وعلماً وفناً وصناعة وعمراناً وحرباً..

ولبناء (العالم الجديد) توجه الغرب نحو أفريقيا بالالتفاف نحو البحار جنوباً وصولاً إلى الهند شرقاً عن طريق (رأس الرجاء الصالح) وهو ما مثل بداية الاستعمار للافريقي الأسود.

وما تم غرباً من توسع والغرب الحديث عبر القارتين في نصف الكرة الغربي، وما تم جنوباً من التفاف الرجل الأبيض حول القارة السمراء، تم أيضا شرقاً بالالتفاف حول آسيا عبر الهند وجزر الهند الشرقية حتى اواسط آسيا والصين..

وبدأت عملية احلال الثقافة الغربية ليبرالية اولاً وماركسية ثانياً محل الثقافات التقليدية الإسلامية والبوذية والهندوكية والكونفوشيوسية.

وكان من آثار هذا النموذج الغربي الحديث (صراع الحضارات) محاولة القضاء على الثقافات الوطنية، واللغات المحلية باسم التثاقف والمثاقفة Acculaturation. وتعني في الظاهر التحديث والتمدن والتفاعل الثقافي، والحوار المتبادل والاخذ والعطاء.. وهي في الحقيقة تعني التغريب، وانتشار ثقافة المركز على حساب ثقافة الأطراف ابتداء من اللغة حتى انقسمت أفريقيا وآسيا إلى انكلوفونية وفرانكفونية. ولم يستطع الأفارقة التحادث فيما بينهم إلا عبر لغات الرجل الأبيض ولا الاتصال جغرافياً فيما بين مناطقهم إلا عبر عواصم (المتروبول).. وباسم اسطورة (الثقافة الكونية) يتم الترويج للحضارة الغربية وكأنها آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدم، وإن قيمها هي قيم لكل البشر بما في ذلك الفردية والشك والنسبية واللا أدرية، وان مراحل تاريخها هي مراحل تاريخ كل الشعوب، القديم والوسيط والحديث، وإن لغاتها هي اللغات الدولية.. كل ذلك في الحقيقة تعبير عن لحظة واحدة في التاريخ هو الغرب الحديث..

وقد أدى هذا النموذج الغربي لصراع الحضارات في العصور الحديثة إلى خلق عقدة عظمة لدى الغرب، فهو حضارة العقل والعلم والحرية والعدالة والتقدم والعمران.. التاريخ تاريخه، والعلم علمه، والقيم قيمه، والثورة ثورته، والحاضر حاضره، والمستقبل مستقبله، واللغات لغته، والثقافة ثقافته، وخلق عقدة نقص لدى الشعوب غير الأوربية إذ إنها ناقلة ومقلدة وتابعة ومتعلمة وهامش على المركز وفي محيطه.. الغرب يبدع وهي تستهلك. الغرب يفكر وهي تنقل!!

وكلما زاد النقل من حضارة المركز إلى حضارات المحيط زاد التغريب.. وكلما زاد التغريب يبدأ رد الفعل في الظهور، والدفاع عن الهوية ضد التغريب، والتمسك بثقافة الأنا ضد ثقافة الآخر.. وتنشأ الحركات الاصولية ضد تيارات الحداثة.. وربما يشق الصف الوطني بين جناحين متقابلين وقوتين اجتماعيتين، العلمانية والسلفية، انصار الجديد وانصار القديم، الصفوة والجماهير، النخبة والشعب.. وقد يصل الفصام إلى خصام واقتتال بين الاخوة الأعداء كما هو حاصل في الجزائر.

في مقابل نموذج (صراع الحضارات) الذي تبناه الغرب هناك نموذج (حوار الثقافات) الذي تبناه الشرق القديم حتى ظهور الحضارة العربية الإسلامية.

إن التحول من (صراع الحضارات) القديم إلى (حوار الثقافات) الجديد ليس فقط على مستوى النظر والعلوم والفنون والآداب لكن أيضا على مستوى العمل في صياغة برامج عمل مشتركة تسترد فيها الإنسانية وحدتها، وتتكامل امكانيتها، بحيث تتساوى كل أطراف الحوار وتتجه نحو هدف مشترك يحقق مصالح الجميع بداية بالمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ونهاية بشعوب العالم، اطفالاً ونساء وشيوخاً، المهمشين في الأرض، ولو على مستوى الصراخ والأنين.

ربما يعني حوار الحضارات الآن، لا غالب ولا مغلوب..

مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 114-115

جورج جرداق: الإمام علي (ع) سبق مفكري العالم في حقوق الإنسان!

لأنه شعاع للقيم ونبراس للحضارة، تجد أن العظماء يتخلون عن رداء عظمتهم أمامه! فلا يملكون إلا أن يطأطئوا الرؤوس وينحنوا إجلالاً وإكباراً له صلوات الله عليه!، وأياً كانت عقيدة أولئك العظماء، أو ثقافتهم، أو أيديولوجيتهم، فإنهم - عندما يتعلق الأمر بابن أبي طالب - يستصغرون أنفسهم قدامه، ولا يرون مندوحة من تعظيمه..

وأحد هؤلاء هو المفكر والأديب المسيحي الشهير جورج جرداق.

(المنبر) كعادتها؛ ارتأت أن تجري لقاء مع هذا الأديب الكبير للاقتراب من شخصيته أكثر فأكثر، فعرفناها شخصية محبة للحق والخير، ذلك الحب الذي دفعها لمثل هذا الإنجاز الكبير الذي يعتبره صاحبه ألصق أعماله ومؤلفاته بأعماقه.

كيف تعرفتم على شخصية الإمام علي (ع)؟ متى وأين؟.

بدأ تعرفي مبدئياً، على هذه الشخصية العظيمة منذ طفولتي يوم جاءني شقيقي فؤاد بنهج البلاغة وقال لي: أدرس هذا الكتاب واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه.

وهكذا رسخت صورة الإمام علي في مخيلتي منذ الصغر، كما ترسخ في مخيلة الولد الأقوال والأعمال والصور التي تؤثر فيه.

ودارت الأيام، وتخرجت من الكلية البطريركية في بيروت، وأخذت أدرس الأدب العربي والفلسفة العربية في بعض معاهد بيروت، ونتاج الإمام علي الأدبي والفكري مطلوب في هاتين المادتين - الأدب العربي والفلسفة العربية - وفق البرنامج المقرر. فارتأيت أن أعود إلى نهج البلاغة فأقرأه من جديد قراءة واعية تكون أوفى بالمراد من قراءتي له في السن المبكرة، فقرأته من جديد، فتبين لي أن الإمام أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الباحثين من قدامى ومحدثين، وأن إنسانية الإمام بكل عناصرها ودعائمها، تنبثق من فكر صاف وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي، وأن ما دعا إليه، بمبادئه وسيرته، يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان وكل مكان، فعلام يحصرون هذه الشخصية العظيمة النادرة بموضوع الولاية.. وسائر الموضوعات المحلية التي تدور عليها أبحاث معظم المؤلفين الذين قلت إنني قرأتهم.

وهكذا ارتأيت، بدافع من حبي للحقيقة، أن أضع كتاباً موسوعياً يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة، وبعض الإنصاف لها، واستدراك ما أهمله المؤلفون، فكان المجلد الأول بعنوان (علي وحقوق الإنسان) الذي أثبت فيه بالدلائل الساطعة أن علياً سبق مفكري أوربا والعالم إلى إدراك هذه الحقوق بمفهومها الثابت، وإلى إعلانها، بقرون عديدة. وكان المجلد الثاني بعنوان (بين علي والثورة الفرنسية) وفيه تأكيد على السبق الذي حققه الإمام على فلاسفة الثورة الكبرى العظام، وكان المجلد الثالث بعنوان (علي وسقراط) والمعروف أن سقراط هو أبو الفلاسفة الإنسانيين الكبار، وقد كشفت عن أن سقراط والإمام علي يلتقيان على كل صعيد، إلى آخر السلسلة التي تتألف من ستة مجلدات يحمل آخرها عنوان (روائع النهج).

 ما نظرتك الشخصية للإمام علي (ع)؟.

إن علياً هو الصيغة الكونية المثلى للفكر الإنساني المستمد من نواميس ثابتة لا يبدّل المكان من جوهرها كثيراً أو قليلاً، ولا الزمان! كما أنه الصيغة الكونية للضمير العملاق والشعور العميق بوحدة الكائنات المتكافئة المتفاعلة المتكاملة!.

 ما هي آثار ظهور الكتاب؟ وكيف كانت ردود الفعل في العالمين المسيحي والإسلامي بشقيه الشيعي والسني؟.

كيف استقبله العالم المسيحي، فينبئك بالأمر ما فعله أحد الآباء بلبنان:

في أثناء تأليف الكتاب، جاءني رئيس تحرير مجلة (الرسالة) اللبنانية، وهو صديق كريم، وطلب إلي أن أعطيه فصلين اثنين على الأقل من الفصول التي انتهيت من كتابتها، فلبيت رغبته فنشر الفصلين في عددين من المجلة.

واتفق للراهب العالم الأب نجم رئيس مدرسة الرهبان الكرمليين في مدينة جونيه، أن قرأ هذين الفصلين في المجلة المذكورة، فطاب له الموضوع، كما طاب له الأسلوب الذي عولج به، فاتصل برئيس تحرير (الرسالة) ليخبره بأنه يريد أن يطبع هذا الكتاب بأجزائه كلها عندما أنتهي أنا من تأليفه كاملاً، على نفقة الرهبانية. وهكذا كان؛ فقد طبعه الأب نجم على نفقته كما أراد وأصرّ على إجراء ما أراده. وكان له ما نصح به.

ثم عليك أن تقرأ ما قاله أديب الشرق الأكبر ميخائيل نعيمة في هذا الكتاب عند صدوره، وما كتبه الأدباء المسيحيون العرب فيه، وكل ذلك مثبت في الجزء الخامس، لتعلم كيف استقبله العالم المسيحي.

أما في العالم الإٍسلامي، فما عليك إلا أن تقرأ كذلك فصل (قالوا في هذا الكتاب) بالجزء الخامس منه، لتعلم كيف استقبله العلماء والمفكرون والأدباء من المسلمين العرب والأعاجم، ومن الشيعة بصورة خاصة، وفي طليعتهم كبار الأئمة في ديار العرب وإيران وبعض بلدان الشرق الأقصى. وفي كل ما قالوه، إجماع على أنه الكتاب الوحيد الذي يكشف النقاب عن حقيقة الإمام علي، وعن عبقريته النادرة، ولا يقاس به كتاب آخر قديم أو جديد، لا من قريب ولا من بعيد.

هل حققت ذاتك عبر هذا الكتاب؟ وماذا عن الأهداف، هل تراها تحققت على أرض الواقع؟.

الكاتب عندما يكون صادقاً مع نفسه وفي التعبير عما يجول في أعماقه من خواطر ومشاعر، يحقق ذاته بكل ما يكتب، وبين كتبي الكثيرة المنشورة والمعدة للنشر، ليس هنالك كتاب ألصق بأعماقي من هذا الكتاب.

أما سؤالك عما إذا كانت الأهداف من هذا الكتاب قد تحققت على أرض الواقع، فأجيب عنه قائلا: ليس في إمكانية الكاتب أو صاحب الرأي، أياً كان وحيث كان، أكثر من أن يكون صادقاً فيما يرى ويكتب، وجريئاً حتى أقصى حدود الجرأة في عرض ما يراه، أما تحقيق ما يصبوا إليه على أرض الواقع، فأمر يتعلق بأنظمة المجتمعات، وسلطاتها، وأحوالها العامة التي توجهها، وعلى هذا، أسألك: هل قرأت رسالة الإمام علي إلى الأشتر النخعي عامله على مصر؟ بعد ذلك اسأل نفسك: من ألف وأربعمائة سنة مضت على صدور هذه الرسالة الدستور الذي لا تجد أرقى منه في دساتير الأمم جميعاً، حتى يومنا هذا، ما الذي طبق منها على أرض الواقع في ديار هذا الشرق؟!.

ما موقع الإمام علي (ع) في الفكر المسيحي؟.

إذا ما اطلعنا على بعض الآداب الأوربية في العصور الوسطى، لا سيما الأدب الإيطالي المعبر أكثر من سواه عن الأفكار والمعتقدات في العالم المسيحي يومذاك، نعلم أن الفكرة التي كانت لدى الكثيرين من الناس عن الإمام علي أنه قديس مسيحي، لما في أقواله ومنهجه من شبه بتعاليم المسيح.

ومما يجدر ذكره في هذا الباب أن للإمام علي صورة في إحدى الكنائس القديمة بإيطاليا. وهنا في بيروت، في صدر صالة الاستقبال الكبرى بمدرسة (زهرة الإحسان) التابعة لمطرانية الروم الأرثوذكس، تجد صورة واسعة المساحة للإمام علي.

وإذا نحن قرأنا ما كتبه المؤرخ والباحث الفرنسي البارون كاراديفو عن الإمام علي في القرن الأسبق، نعلم أن مكانة رفيعة يحتلها في نفسه وفي نفوس عارفي الإمام من بني قومه.

أما الأدباء والمفكرون المسيحيون العرب، فلا شك أنك تعلم ما هي منزلة الإمام علي لديهم. ولهذه الغاية يكفيك أن تقرأ جرجي زيدان في رواياته التاريخية المعروفة، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وبولس سلامة وفؤاد جرداق وعبد المسيح محفوظ وكثيرين غيرهم، في آثارهم النثرية والشعرية.

إن الإنسان عندما يبلغ درجة عالية من الإدراك، يصبح موضوعياً، أياً كان المعتقد الفلسفي أو الاجتماعي أو الديني الذي نشأ عليه، وعلى هذا، ليس في أصحاب المعرفة من لا يوالي القيم الحقيقية حيث كانت ومن حيث أتت.

النتاج الحضاري الذي قدمه الإمام علي للإنسانية هل ترونه يمثل فكراً محضاً أم منهجاً مرتبطاً بالسماء؟.

في الأساس؛ ليس هنالك شيء اسمه (فكر محض) فالفكر ينبع من معادلات واقعية كثيرة، ومن ملاحظة النواميس الثابتة في الطبيعة والحياة وفق قدرة المفكر على الملاحظة، وينهج نهجاً مرتبطا بالناس ومصائرهم وغايتهم من الحياة أو غاية الحياة منهم، وعلى هذا، ترى أن النهج العلوي ينبعث من الملاحظة الدقيقة والعميقة للنواميس الثابتة، ثم من نظرته إلى المجتمع الإنساني وهي نظرة منسجمة مع ما لاحظه من نواميس كونية ثابتة، ويهدف إلى إسعاد الناس إسعاداً يقوم على بناء الفرد والمجتمع بناءً سليماً يستند إلى ما تقرره إرادة الحياة ومبادئ الاجتماع التي تستوجب العدل والتكافؤ والتكامل مشفوعة بإرادة السماء التي تقضي بالمحبة والرحمة واستصفاء الضمائر.

أين تكمن موقعية نهج البلاغة في الفكر الإنساني؟.

موقعية نهج البلاغة في الفكر الإنساني هي في القمة، فجميع القيم الرفيعة والمبادئ السامية التي سعى المفكرون وعلماء الاجتماع إلى إدراكها وإشاعة مفهومها لدى الآدميين عبر عشرات القرون، تراها كلها في نهج البلاغة.

ما معنى التشيع في مفهومكم الذي توصلتم إليه؟.

معناه إنكار كل ما يؤذي الإنسان فرداً أو جماعة من أنظمة وقوانين اجتماعية وسياسية، ورفض استغلال إنسان لإنسان أو فئة لفئة، والثورة على كل منكر من أعمال السلطات مهما بلغت هذه السلطات من القوة والشدة في المحافظة على مصالحها ووجودها على ما هي عليه. وأحداث التاريخ في الشرق كلها تدل على هذا المفهوم وهذا الواقع.

وما ثورة التشيع والمتشيعين على مظالم الحكام في التاريخ إلا الوجه الآخر للرحمة والمحبة والميل إلى العدالة بين الناس، وللعطف على المستضعفين ومقاومة الظلم وإزالة أسبابه ونتائجه. والعواطف الكريمة لا تساير ولا تداور بل تمشي في طريقها ولو محفوفة بالمخاطر.

هل ترون أن هذا العالم سليم الصياغة؟ وهل تدعون إلى إعادة صياغته وفق منهج الإمام علي(ع)؟.

من سوء حظ الإنسان أن صياغة العالم في معظم مراحل التاريخ ومعظم أقاليم الأرض، جعلت وفق مصالح المنتفعين بآفتين غائلتين هما السياسة والتجارة: السياسة كما فُهمت ومورست في معظم أصقاع الأرض حتى الآن، والتجارة التي هي آفة الآفات في تاريخ الأمم وفي حاضرها، وسبب الأسباب في ويلات الشعوب. ولن يصلح العالم إلا بأن يتولى إدارته وأموره جميعاً اثنان لا ثالث لهما: عالم وأديب! عالم هو الفكر النير والنهج والمقياس، وأديب هو الفكر النير والقلب الخير والضمير والرحمة والإحساس بالوجود وقدسية الحياة.

والإمام علي، في سيرته ونهجه، هو هذا العالم وهذا الأديب مجتمعين في شخصية واحدة!.

حاوره: عصام الموسوي/ مجلة المنبر، العدد (6)

القول الفصل في العلاقة بين الإسلام والمسيحية

في إيطاليا بعض رجال الكنيسة دعوا الحكومة الإيطالية إلى تضييق باب اللجوء على المسلمين بحجة المحافظة على نقاء الجنس الإيطالي الكاثوليكي، كما في دعوة رئيس الكنيسة في مدينة نابولي الكاردينال جيوكومي بيفي الذي نادى بحماية الجنس الإيطالي، والمطالبة بالمثل (كنيسة مقابل مسجد).

تصريحات كاردينال نابولي أثارت ردود فعل كثيرة في الأوساط الإسلامية داخل إيطاليا وخارجها، وفي لندن بعث المجلس العالمي لشؤون الإمامية برسالة إلى قداسة الباب يوحنا بولس الثاني يعترض في على تصريحات الكاردينال بيفي، وجاء في الرسالة: (كما هو معلوم لديكم أن هناك تقارباً بين معتنقي الديانات السماوية كان قد بدأ منذ زمن، وقد دعت الكثير من الفصائل الإسلامية وبعض الدول المسلمة إلى حوار الحضارات، كما أن لجوء عدد غير يسير من المسلمين إلى الدول الأوربية كان له بالغ الأثر في تضييق الهوة بين المسلمين والمسيحيين، لكن التصريحات التي أدلى بها الكاردينال جياكومو بيفي، والتي يطالب فيها الحكومة الإيطالية بإعاقة هجرة المسلمين إلى إيطاليا حرصاً على هوية الشعب الإيطالي وعقيدته الكاثوليكية، كان لها أثر سيئ لدى المسلمين والشعوب المتحضرة).

ودعا المجلس قداسة البابا إلى: (ضرورة وقوفكم بحزم أمام مثل هذه التصريحات اللامسؤولة وعدم السماح لإشعال فتيل الفتنة الطائفية بين معتنقي الديانات السماوية، مما يخلق نزاعات مذهبية بين أتباع الديانات السماوية بل بين أبناء الدين الواحد أيضا).

وكان الفاتيكان قد بعث برسالة جوابية يوضح فيها ما جاء في تصريحات الكاردينال بيفي، فعاد المجلس وبعث برسالة أخرى إلى الفاتيكان عبر رئيس لجنة شؤون الأديان في الفاتيكان المطران ميخائيل فيجيرالد، جاء فيها: (يسعدنا نحن في المجلس العالمي لشؤون الإمامية أن نجد هذا الاهتمام من قبلكم لتوضيح بعض النقاط المثيرة للجدل التي وردت في خطابات سعادة الكاردينال جيوكومو بيفي حول هجرة المسلمين إلى إيطاليا. وقد استلمنا رسالتكم الكريمة المؤرخة في 30/10/2000 بالنيابة عن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، بكل تقدير واحترام، رداً على رسالتنا المؤرخة في 29/9/2000 والموجهة إلى قداسته، ونود قبل التعليق على بعض بنود نص سعادة الكاردينال بيفي، الإشارة إلى النقاط التالية، التي تساعدنا جميعاً كمسلمين ومسيحيين على التقارب، في عصر باتت فيه مسألة الإيمان بالله تعالى مهددة:

1) إن القرآن الكريم أشار إلى العلاقة الإسلامية - المسيحية، حين خاطب المسلمين وعبّر عنها بالمودة، بقوله: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).

2) إن القرآن الكريم نزّه ساحة السيدة مريم (ع) في موارد عدة، منها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).

3) إن القرآن الكريم كرّم النبي عيسى (ع) في موارد عدة، منها قوله تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

4) إن الإسلام أعطى للإنسان حرية اختيار العقيدة، حيث قال الله تعالى: ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).

5) إن الاعتراف بالإسلام هو اعتراف بنبوّة الأنبياء جميعاً وبالأخص النبي موسى والنبي عيسى (ع) دون العكس.

6) إن الإسلام يدعو إلى الحوار البناء حيث يقول الله جل وعلا: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ومن هذا المنطلق نود القول بأن هناك قواسم مشتركة بين المسيحية والإسلام لابد من استغلالها وجعلها نقطة الانطلاق لبث الفضيلة بين الناس والدعوة إلى الإيمان والوحدانية والمحبة وغيرها التي تعتبر من القواسم المشتركة بيننا وبينكم.

ومن هنا تأتي الغرابة في كلام الكاردينال بيفي تحت عنوان التوقعات من الدولة والسلطات المدنية، في عدة نقاط أهمها ما يلي: (المسلمون بحاجة إلى انتباه خاص).

ويفسره بعد ذلك بقوله: (إن قضية المسلمين يجب أن تعالج بشكل منفصل، ومن المؤمل أن يكون المسؤولون عن الشؤون العامة غير خائفين من مواجهتها بعيون مفتوحة وبدون أية أوهام). (المسلمون حلوا بيننا عازمين على البقاء، فهم لديهم تحريمات غذائية مختلفة ويوم مختلف للراحة. وقانون عائلي لا يتناسب وقانوننا، وفكرة عن المرأة تختلف جداً عن فكرتنا، وفوق كل ذلك لديهم نظرة شمولية دقيقة للحياة العامة، لذلك فليس رجال الكنيسة هم الوحيدون الذين يجب أن يأخذوا هذا في حسبانهم بل يتعلق الأمر بالدول الغربية المتمدنة عموماً).

وأخيراً ذكر بـ(أنه ينبغي منح المسلمين في إيطاليا حسب القوانين المرعية فقط بمقدار ما يمنح بفاعلية للآخرين في البلدان الإسلامية).

ومن ناحية أخرى، فإن الكاردينال بيفي يرى أن الإنجيل والمسيحية لابد وأن يشمل جميع الشعوب دون استثناء حيث يقول: (إن دور الكنيسة يتمثل بأن تعلن أن الإنجيل للكل بدون استثناء بمن فيهم المسلمون) ، ولكن عندما يصل الدور إلى الإسلام يحذر من ذلك قائلاً:

(وفق كل ذلك لديهم نظرة شمولية دقيقة للحياة العامة).

فالإسلام يقول: (حب لأخيك ما تحب لنفسك) فإذا كان الكاردينال بيفي يرى أن المسيحية عالمية فلماذا ينفي هذا الأمر للإسلام، والذي أعلن يوم بزغ نوره أنه دين عالمي يريد إسعاد البشرية جميعاً، لكن دونما إكراه، بل بالقناعة والدليل، وهذا ما ندعوه بـ(حوار الحضارات)، فلنأخذ بما هو أمثل ضمن الأسس التشريعية عند كل الديانات ذات الجذور الإلهية.

إن المرفوض أن تقوم ديانة على حساب ديانة أخرى بالإكراه أو بالتطميع المادي أو بوسائل غير إنسانية أو غير أخلاقية التي هي ليست من صميم الدين الإلهي، وما دامت الديانات الثلاث ذات المنبع الواحد لها أسسها المتينة فلماذا يتخوف بعضها من البعض الآخر إذا ما التزم كل جانب بالشروط الدينية والإنسانية وعدم الإغواء والتطميع والإكراه أو استخدام القوة بكل أشكالها.

فمتى ما اقتنعت الكنيسة عند الكاثوليك في حل مسألة الفصل بين الزوجين كحل انسب للحياة بقناعات شخصية فهذا الذي يرحب به، وأما إذا كان فرض الإسلام بالقوة على المسيحي أو المسيحية على المسلم بالقوة فهذا أمر مرفوض ويعد هزيمة للعقيدة والإنسانية.

وأخيراً نود الإشارة أن دعوات المسلمين والمسيحيين متواصلة إلى إقامة التقارب بين الحضارات والحوار البناء بينها والعمل طبقاً للقواسم المشتركة في دحض العدو المشترك ألا وهو الإلحاد واللاأخلاقية، كما أن أنظار الجميع فيه متجهة نحو المرجعية المسيحية والإسلامية لتحقيقه. وبهذا نختم رسالتنا الأخوية إلى سعادتكم راجين منكم ملاحظتها بسعة الصدر والشفافية المعهودة في الديانتين المسيحية والإسلامية.

محمد الخفاجي/ الرأي الآخر/ العدد54