العولمــة الأحــاديـة القطبيــــــة

وهيمنـــة الإحتـــواء

محمــــد ريــاض

تجاوز الأستقطاب

خفة الوجود الغير محتملة

مابعد الحرب الباردة

معوقات التطور الرأسمالية المعصرة

علاقات العالم الأحادية القطب

وراء الحديث عن (النظام العالمي الجديد) ومشروع عالم (أحادي القطب)(1) تحتل الولايات المتحدة الامريكية مركزه كقوة عسكرية، وادعاء كون يإمكانية (تمدين الرأسمالية).

إن ذلك الحديث والادعاء لا واقعية له وان مجتمع العالم يتعين بالأحرى من خلال الاستقطاب بين (الشمال) أي الغرب يستقطب إليه بعض أجزاء الشرق، و(الجنوب) الذي تفاقم في سياق الجهود التحديثية والتصنيعية التي تمت في حقبة النظام العالمي (القديم) الثنائي القطب، فاستحالت كوننة نموذج الإنتاج والاستهلاك الغربي، لاسباب بيئية على الأقل وإذا كان من الصعب أن تتكون (مجتمعات مدنية) في العالم باسره، فانه ليس صعباً بالمقابل أن تتكون في المستقبل (دول سلاحية)، بينت حرب الخليج طريقة التعاطي معها إن النظام العالمي الجديد هو إذن نظام عسكري بالفعل (ونظام مدني) بالقوة، ولابد من نموذج بديل له يمكن البشرية من تفاديه على المستوى العالمي، جوهره تقليص كبير لاستهلاك الطاقة والمواد الأولية يتيح مجالات للنمو أمام (الجنوب).. لقد تم خوض (حرب الخليج الثانية) ، التي ما كادت تبدأ حتى أعلن رئيس أمريكا المحارب يوم 31/1/1991 في رسالة إلى الأمة مفعمة بالحبور، قيام (النظام الجديد للديمقراطية) والسوق (والمدنية) تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ستعمم وستكوّن الميل إلى (الطريق الأمريكي في الحياة) فهل تكشف الحرب نفسها مرة أخرى بوصفها أصل جميع الأشياء؟ إن نهاية الحرب الباردة التي احتفي بها رسمياً، هي التي فتحت المجال أمام حرب جديدة في الخليج، استمر فصلها العسكري الأول قرابة أربعة اسابيع، وحين انتهى كان قد خلف وراءه بلداً مدمراً ومجتمعاً مهشماً وطبيعة حاقت بها الكارثة في منطقة الخليج بأسرها ـ في البلدان التي أسهمت بنصيب كبير في تدمير العراق والكويت(2).

ما بعـــــد الـحـــــرب البــــاردة

ما بعد النظام (ثنائي القطب) للحرب الباردة، ليست حرب الخليج هي العامل الرئيسي، فقد لعب تناثر المعسكر الاشتراكي والقوة العظمى السوفياتية وانهيارها دون ضجيج تقريباً (ودون أن يطلق الغرب طلقة واحدة أيضا) دوراً كبيراً في جعلها ممكنة. انتهى صراع الشرق والغرب، الذي استمر طيلة العقود المنصرمة، بين تموز وكانون الأول من عام 1989، عندما سقطت في بولونيا والمجر وجمهورية المانيا الديمقراطية وتشيكو سلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا أنظمة (اشتراكية الأمر القائم) (3) وبدأت الجيوش السوفياتية انسحابها من دول أوربا الشرقية، أعلن عن قيام حكومات برجوازية تقوم على أنظمة (مدنية) تأخذ بنظام السوق وبالديموقراطية الغربية، بهذه الصورة تبدلت تبدلاً مفاجئاً قلّ نظيره في التاريخ جميع انساق النظام الدولي على وجه التقريب، نتيجة لانهيار الكتلة السوفياتية واختفاء أحد القطبين السياسيين في النظام الثنائي القطب الذي سيطر إلى تلك اللحظة، ومع ظهور البديل الاشتراكي بمظهر نظام غير ملائم للعصر، صار من الممكن أن تنتشر الدينامية الرأسمالية في العالم بأسره، دون أن تأبه للقوة السياسية والعسكرية المقابلة أو تقيم كبير وزن لبدائلها الأيديولوجية.. وما زال صهير انفجارات بركان أوربا الشرقية يطمر النظام الثنائي القطب القديم، الذي تكون خلال وبعد الحرب العالمية الثانية: في يالطا، وبرايتون وودز وباندوغ، وإذا ما تأملنا الأمور عن كثب، بدت لنا بعض قسمات المشهد العالمي الغائم، التي تسمح لنا بإلقاء بعض الأضواء على القوام النهائي للنظام الذي ما زال في طور النشوء، بل إنني أرجح أن يكون قد وقع اختيار واع على مقولة (النظام العالمي الجديد) التي يراد لها أن تربط مع تقاليد قديمة: فالنظام يجب أن يقوم، وعلى أحد ما أن يأخذ الأمور بيديه وان يبادر، فما دام النظام لا ينشأ من تلقاء نفسه في الأبعاد الزمنية لتاريخ الحرب الباردة، فلماذا لا تصاحبه مقوماته الظافرة: السوق كمبدأ نظام للمجال السياسي في الدول القومية، التي ستكون في المستقبل أيضا النظام الدولي؟... في هذه الحالة لن يعدو النظام الجديد أن يكون عودة بالدرجة الأولى إلى التقاليد الأوروبية للثورة الفرنسية، وللأنوار و(المدنية) التي خضعت للتحدي الشيوعي طوال سبعين عاما، التربة ما قبل (التاريخية)، ذلك أن خيط التطور الذي انقطع عام 1917، سيلتقط الآن ليحاك منه نظام جديد، فتتشكل تيارات صاخبة تختفي فيها ركائز المجتمعات القديمة في أوربا الشرقية، ويظهر عوضا عنها ركام وحطام رواسب، ما قبل الاشتراكية (النزعة القومية، النزعة العرقية، النزعة التسلطية كما تظهر تيارات الدولارات الجافة، التي طحنت البدائل الاجتماعية للرأسمالية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وحولتها إلى هشيم (الديموقراطيات الجديدة) الزاحفة على بطنها أمام صندوق النقد الدولي ونادي باريس) والسيول الفوارة أحيانا، العكرة أحياناً أخرى، والمتشكلة من حوارات المثقفين في أمريكا وأوروبا الغربية حول (المجتمع المدني)، والمياه القذرة لتأليه السوق في النزعة الليبرالية الجديدة، وأخيراً برك النزعة المحافظة الجديدة في الثمانينيات، التي لم تجف حتى اليوم ـ في حقبة ما بعد تاتشر وريغان.

إن النظام العالمي الجديد هو أمر راهن، سواء أعلنه بوش كبشرى لأمريكا أم لم يعلنه، ومن المفيد أن نتابع قسماته المحتجبة وراء الخطب السياسية.

علاقـــــات العالـــم الأحــاديـــة القطـــب

قدم شارل كراوتهامر في مقالة عنوانها (اللحظة الأحادية القطب) تبريراً للهيمنة العسكرية والحرب ضد مناطق كثيرة في العالم وأبرزها الحرب ضد العراق وربط في الوقت نفسه هذه الحرب بالدور الجديد للولايات المتحدة بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من المسرح العالمي.

يناقض هذا التأكيد النتيجة التي توصلت إليها تحليلات وليم بفاف (1991)(4) التي ترى انه يكون لمفهوم (القوة العظمى) معنى بقدر ما تجد هذه نفسها في صراع مع (قوة عظمى) أخرى.

وتقول أيضاً انه كان على أمريكا أن تقبل التحدي التاريخي، وتصبح قوة عظمى وحيدة وان الكلام حول (النزعة الثلاثية القطب) الجديدة، ذات المراكز الثلاثة في أمريكا الشمالية (المكسيك)، و( أوربا الجماعة المشتركة) وشرق آسيا (مع نقطة ارتكاز هي اليابان) ، قد يكون له نصيب من الواقعية خلال عقود قادمة، أما في المدى المنظور، فتنفرد أمريكا وحدها بمدى امبريالي كوني، نتيجة لقدرتها على دمج قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية في مركب جديد فريد من نوعه، أما تكوين تحالفات أو الحصول على تكليفات من الأمم المتحدة كتلك التي حصلت عليها أمريكا إبان حرب الخليج فلا يغيران من الأحادية القطبية للنظام العالمي الجديد، ويمسّان بالدور الأمريكي (القيادي) وإن كان هناك سببان للاستغاثة بالأمم المتحدة وبالدول الحليفة الأخرى هي:

1) توزيع تكاليف العمليات العسكرية على أطراف متعددة.

2) زيادة مشروعية أي إجراء أمريكي أحادي القطب حيال الانعزاليين داخل أمريكا والرأي العام العالمي الرافض خارجها.

في هذه الترسيمة في النظام العالمي الأحادي القطب، يمكن للحلفاء ولمنظمة الأمم المتحدة أن يلعبوا دوراً مساعداً وحسب بالنسبة للسياسة الأمريكية. لذلك يضع هذا الدور نفسه حداً لفكرة جماعة الشعوب المتساوية الحقوق في إطار الأمم المتحدة، ويتنكر لمتطلبات دقرطة هذه الهيئة، وهذا المعنى جدير بأن يثير لدينا ابتسامة مشفقة أو سخرية مريرة وحسب ذلك أن الأمم المتحدة بالذات أقصيت كجامعة للشعوب عن صيرورات القرارات الدرامية، لا عجب أن الشعور بالإحباط حيث يعمل مجلس الأمن الدولي، المسيطر عليه أمريكيا عوضا عن الأمم المتحدة. وإن كان من المحتمل جدا أن لا يستطيع الاستمرار لأمد طويل بالطريقة التي عمل بها إبان أزمة الخليج، بسبب المصالح المتضاربة لأعضائه وهذا ما دلت عليه مسيرة الأحداث لاحقاً.

وما دام جوهر النظام الدولي الجديد يكمن في ضمان استقراره من خلال القوة العسكرية فإن الأمل في (تمدين السلوك الصراعي) لا يمكن تحقيقه بأي حال من الأحوال في ظل نظام أحادي القطب.

ليس النظام العالمي الجديد (العولمة) هو نظام السوق والديمقراطية والطريق الامريكي في الحياة... على اعتبار نهاية التاريخ - كما طرحه فوكوياما - وليس هو صراع الثقافات والاقتصاد والمدنية - كما أفاده هنتغتيون بأن العالم الجديد هو صراع الحضارات موجهاً إلى تجاوز الاستقطاب في العالم الآخر - بل إن (مشروع) السيطرة السياسية والعسكرية الأمريكية الأحادي القطب موجه بالدرجة الأولى إلى ضمان إمداد الغرب الصناعي المتقدم بالمواد الأولية والنفط، الأمر الذي يتطلب بدوره استقطاباً عالمياً اكثر تفاقماً وحدة. أما المشروع الكوني للمجتمع المدني - كما يفكر المدافعون الغربيون عنه - فيقوم من جانبه على تجاهل نتائج البنية الاستقطابية العالمية، ويعجز عن إدراك أن (تمدين الرأسمالية) في القسم المتمتع بالامتيازات من العالم ليس ممكناً بسبب آثاره التي ستنعكس على بقية العالم، والتي سيتلازم فيها النظام المدني مع الفوضى وأما ما سيحدث عندئذٍ في النظام الكوني، فإنه سيتكرّر في أشكال عديدة ضمن المجتمعات القومية والإقليمية بسبب وجود أغنياء في البلدان الفقيرة وفقراء في البلدان الغنية.

معوقــات التطور في الرأسماليـة المعاصـــرة

إذن يتمحور النقاش بشأن النظام العالمي الجديد (العولمة) حول كشف أسباب الاستقطاب في العالم، المتناقضة مع مشروع (الأحادية القطبية) من جهة، والتي تعيق تحقق مشروع كوني (للمجتمع المدني) من جهة أخرى، وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية انطلق منظرون وساسة قوميون مثلما انطلقت مؤسسات دولية من ضرورة أن تحصل البلدان الأقل تطوراً على حق الدخول إلى نادي البلدان الصناعية الغنية من خلال التصنيع وتحديث المؤسسات آنذاك، كانت الرسالة الموجهة إلى البلدان النامية، تقول: (افعلوا ما فعلناه نحن) قنّنوا الاقتصاد وقننوا النظام الاجتماعي، لتحظوا بـ(القبول) في مجتمع الرفاه، بيد أن إحدى السمات الأساسية للتصنيع، أي الحداثة في بلدان الشمال الغنية، هي الاستهلاك العالي للطاقة في (الاقتصادات المعتمدة على النفط) من هنا فإن نظرة متأملة إلى تعقيدات تبعية النموذج الفوردي للطاقة تمكننا من معرفة بعض (وليس كل!) سمات النظام الدولي، إذ تستهلك اميركا الشمالية وأوربا الغربية التي يقطنها 11.6% من سكان العالم. 42,5% من الطاقة وتولد لهذا السبب 43.4% من غاز ثاني أكسيد الكربون للإنتاجية العالمية لنموذج تراكم الإنتاج والاستهلاك الكثيف.. ثمنها إذن: النهب المكثف (للجزر السنتروبية) (5) وتخزين الطاقة المحولة إلى غازات في المجال الجوي ونفايات في باطن الأرض ومخلفات سائلة في البحار. إن الزيادة في الطاقة المبددة، التي هي الاسم الآخر لانخفاض الطاقة المتاحة، هي زيادة هائلة في النمو الصناعي الغربي شأنها شأن زيادة الإنتاجية، التي تبعث الإعجاب لدى العالم النامي وتدفعه إلى تقليد بلدان الشمال كما إن التمركز السنتروبي في البلدان الصناعية ونفايات الطاقة المبددة في مناطق أخرى من العالم قد أديا إلى قيام تناسق أرقى ـ بمعنى الترموديناميك أي (بين المادة والطاقة)، في (الشمال) سبب قدراً أكبر من الفوضى منه في (الجنوب) وقد اثبت بونكر وبرسيك من خلال دراسة استخراج المواد الأولية في منطقة الأمازون أن تقليص التناسق ـ عجز الترموديناميك ـ (بين المادة والطاقة) يظهر آثاراً ضارة ذات مفعول اجتماعي تفكيكي.

إن الأخذ بالطاقة الكامنة في المستحاثات يحفز زيادة إنتاجية العمل التي يمكن بمعونتها بلوغ نسب النمو (الفوردية) المرتفعة المحدثة بدورها للرفاه. والحق، إن الدينامية المتفوقة للتقدم التقني(6) تفسر النجاح الصناعي للاقتصاد الامريكي منذ نهاية القرن الماضي بأكثر مما يفسره وجود موارد استراتيجية (في شكل مستحاثي قبل كل شيء) منخفضة التكاليف، سندت دون أي شك دينامية نموذج التصنيع.

أسهم فائض المواد إسهاماً دائماً في تطورات صناعية أميركية أصلية كثيرة. واتصف نظام الشريط الجاري، كما اتسمت طرائق الإنتاج الكثيف، التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً مع الأشكال الحديثة لتنظيم المشاريع، بشدة تدفق المحروقات والمواد الخام، بالمقارنة مع العمل والإنتاج كما تميزت السلع الإنتاجية والاستهلاكية الأمريكية في الغالب باعتمادها على بيئة غنية بالموارد.

إن صيرورة رفع الإنتاجية هي في الوقت نفسه صيرورة تسريع استغلال الموارد.

وقد قدمت اكتشافات كثيرة في استخراج الموارد واختراق الاقاليم، فوضعت تقنية التبريد حجر الأساس لتركيز صناعة اللحوم في شيكاغو، وسهل الهاتف الاتصال بين المناطق البعيدة، ورفعت الكيمياء المستخدمة في الزراعة المحاصيل، التي احتاجت من جانبها إلى توسيع السوق الضرورية لاستهلاكها. إلى ذلك خلفت التقنيات الحديثة لانتاج الفولاذ عرضاً للمنتج الأساسي الضروري لبناء الآلات وانتاج السيارات، الفرعين اللذين أسسا نهضة أمريكا الصناعية في نهاية القرن الماضي والثلث الأول من هذا القرن، والحال أن ارتفاع إنتاجية العناصر الإجمالية بنسبة 1.57% وسطياً في العام طوال الفترة ما بين 1913 و1950 (ارتفعت هذه النسبة في بريطانيا بمقدار 0.87% وفي المانيا 74% واليابان 92% وذلك يرجع إلى التجديدات التقنية، والى تنظيم المشاريع والادارة، وتأهيل قوة العمل، واكتشاف واستغلال الجزر السنتروبية للموارد العالية التركيز: (إن ذرات الوقت هي عناصر الربح) بهذه الجملة يستشهد ماركس بينما يقول الاميركيون (الوقت مال) لا عجب إذن أن تكون طريقة الإنتاج الفوردية قد نشأت وازدهرت في الولايات المتحدة، حيث توفرت (حدود مفتوحة) بين محيطين ضمنت موارد اغنى بكثير من مثيلتها في البلدان الصناعية الأوربية التقليدية، وأتاحت تقدماً غير محدود في الإنتاج، سواء من حيث الطاقة أو المواد الأولية، وفتحت في الوقت نفسه مجالات للمستوطنين البيض ليحولوا، دون مراعاة لقيود الطبيعة أو في مواجهة مقاومة سكان البلاد الاصليين من الهنود الحمر، منطق النموذج الفوردي إلى طريقة في الحياة، يبرز جاذبيتها تأثيرها العالمي الواسع. وهو ما تفيد منه منذ العشرينات صناعة السينما: التجديد التكنولوجي والممارسة الايديولوجية للفوردية، التي تعيد بناء الطريق الامريكي في الحياة بكل ما فيه من مكونات وتفاصيل وتدعو له على مستوى كوني. بل إن وفرة ورخص الموارد الطبيعية قد أديا إلى جعل ادوات الإنتاج وسلع الاستهلاك الأمريكية مخصصة في الغالب لبيئة تتمتع بفائض من الموارد التي تستعملها ليس فقط خلال الإنتاج بل كذلك خلال صيرورة الاستهلاك.

بيد أن قابلية الجزر السنتروبية للنفاد أخذت تظهر في الولايات المتحدة بعد عقود قليلة من التصنيع المتسارع على أرضية الإنتاج والاستهلاك الكثيف، وذلك لسببين.

 أولاً: محدودية المجال الجغرافي رغم اتساعه القاري ومحدودية مخزونات الموارد أيضا.

 ثانياً: إن زيادة انتاجية العمل، أي مواصلة الرسالة الفوردية، تتطلب استيلاءً خطراً على موارد الجزر السنتروبية، هكذا يميل النهب، وفق خصائص النموذج الفوردي، إلى التسارع ويلغم نجاح النموذج الفوردي وأسس مصادره.

ومثلما اندمج المجال الاميركي اقتصادياً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كذلك بدأت بعد الحرب العالمية الثانية أساساً مسيرة كوننة اقتصاد المواد الأولية، التي عنت نشر نموذج الإنتاج والاستهلاك الأميركي في قارات أخرى، بعد أن اخذ الشكل المتناقص لفوردية مركزية وطرفية. وبقدر ما تحاول بلدان العالم النامي تقليد النموذج الفوردي في التصنيع، بقدر ما تجد نفسها تابعة لمدخلات المواد ذات المنشأ المستحاثي، ذلك أن نمط الإنتاجية لا يمكن أن ينجح إلا باللجوء إلى موارد مستحاثية للطاقة تجد نفسها مضطرة لاستيرادها، إذا كانت لا تمتلكها في اراضيها الخاصة، لكن هذا يضفي أهمية استثنائية على تطور الاسعار بالنسبة لها أيضا، وخاصة منها اسعار الطاقة، كما اثبتت صدمة النفط عام 1973 وحرب الخليج(7) وهكذا ينصب الاهتمام على اكتشاف واستغلال جزر سنتروبية في كل مكان من العالم، وعلى الحصول على المواد المأخوذة منها باسعار مقبولة. هذا الشرط سيكون مكفولاً لعدة سنوات قادمة، قبل كل شيء بسبب (النجاح) في حرب الخليج، الذي أحبط محاولات البلدان المصدرة للنفط لزيادة نفوذها على أسعاره. ليس الغنى في المواد الأولية شرطاً ملائماً بالضرورة للتطور الاقتصادي ضمن النظام العالمي الخاضع للبلدان الصناعية، إذا ما استخدمت هذه المواد بالدرجة الأول كمدخلات (للاقتصادات القائمة على النفط) لبلدان الشمال المصنعة، وأمكن الحصول عليه من خلال مبادلتها بمنتجات صناعية لا تفتأ تتناقض بلا انقطاع(8).

خفـــــة الوجـــود غـيـــر المحتملـــة

قد يستمر استغلال الجزر السنتروبية، المدعوم بنظام الاسعار، من قبل الاقتصادات الفوردية (وما بعد الفوردية) لفترة أخرى من الزمن إذا ما اقلعت هذه الاقتصادات ، بصفتها نتاجا لتحولات المواد الخام والطاقة المخططة والمنفذة بذكاء، عن نفث سمومها في الجو والماء والارض. ذلك أن استخراج موارد معينة أدى إلى تهديد قابليات المنظومات الاقتصادية.ـ البيئية على اعادة تجديد نفسها محلياً واقليمها وكونيا.

بيد أن هناك من يكرر على مسامعنا اطروحة تقول: انه يمكن في العصر ما بعد الفوردي، ونتيجة للذكاء التقني الأرفع، خفّض استهلاك الطاقة والمواد الخام. واعتقد أن هذا الهدف ليس سهل التحقيق بهذه البساطة، لان (اضفاء طابع فردي) على الإنسان هو لحظة اساسية في تحديث المجتمعات الفوردية وما بعد الفوردية، نتيجة زيادة انفاق الطاقة والموارد الأولية المخصصة لتلبية الحاجات الفردية زيادة متواصلة.

تتطلب طريقة الحياة المفردنة طاقة كثيفة ومجالاً كبيراً وتنتج فضلات ونفايات كثيرة، وهكذا تلقي البلدان الصناعية فضلاتها السائلة في البحار، بينما تتجه نفاياتها الصلبة إلى بلدان تملي عليها اعتبارات اقتصادية قصيرة الأجل تقديم قسم من اراضيها لدفن نفايات البلدان الصناعية التي تعارض شعوبها دفنها في اراضيها الخاصة لوجود 20 إلى 30 ألف طن من المواد الشديدة الخطورة فيها، بحسب احصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أما أسباب تصدير الفضلات والنفايات فهي جلية. اعتبارات تتعلق بحسابات التكلفة لدى المصدرين وأزمة القطع لدى البلدان المستوردة، وحسابات الارباح لدى الشركات.

تجاوز الاستقطاب من خلال (تمدين الرأسمالية)

تمنح طريقة التعامل مع الجزر السنتروبية في كوكبنا الأرضي موقعاً امتيازياً للبلدان الصناعية، وتلحق الظلم والاجحاف بالبلدان المنتجة للمواد الخام وبالاقتصادات الاستخراجية. كتب دوبيير في عام 1989 يقول: (... بينما تتعاظم تعبئة موارد الطاقة ذات المنشأ المستحاثي بقدر لا سابقة له لصالح اقلية من البشر، تعاني اغلبية بني الإنسان من نقص في الطاقة، رغم الاستخراج المتعاظم وغير القابل لإعادة الموارد التي يمكن تجديدها... لقد اعتبر النظام الانتاجي والاستهلاكي الاميركي، نظام (الطريق الاميركي للحياة) لعقود طويلة نموذجاً يجب أن تحتذي به جميع مجتمعات العالم. وقيل دوما أن التوسيع غير المحدود للاستهلاك كفيل وحده بالقضاء على الفقر والتفاوت، لكن الأزمة الراهنة افقدت هذه الاسطورة قوتها، وأبانت بصورة لا لبس فيها أن أنظمة الطاقة التي حملت النمو الاقتصادي الاميركي لا تقبل النشر في العالم كله).

تعبر هذه الواقعة عن نفسها في تباينات التطور المتزايدة التعاظم، التي تؤكدها المؤشرات المختلفة التي يمكن أن نقيسها بها. لكن النموذج التراكمي الفوردي لا يحتاج فقط إلى موارد كثيفة من جهة المدخلات، بل هو كثيف الموارد أيضا من جهة المخرجات.. حيث يتميز بانتاج نسب تبديد مرتفعة، نتائجها السلبية هي النفايات، التي تحاول البلدان الصناعية التخلص منها بتصديرها، علماً بان الصراع العالمي حول حقوق الاصدار المحدودة، التي تستأثر بها البلدان المالكة للوسائل الاقتصادية والقوة العسكرية الملائمة، ما زال دائرا بكل زخمه.

ليس مستغرباً أن يكون فقر البلدان النامية في المواد الخام شرطاً من شروط نجاح تنميتها، فقد حولت كوريا الجنوبية وتايوان فقرهما في المواد الخام إلى فضيلة تنموية، بسبب شروط خاصة جداً يصعب جعلها استراتيجية عامة للتنمية. اتضح هذا عندما حاولت البلدان المالكة للمواد الخام تطبيق الاستراتيجية التي أوصتها بها جميع وكالات التنمية حول التصنيع الادراكي. فقد قبلت بلدان كثيرة بأمل تحقيق نجاحات تصنيعية، قروضاً خارجية مرتفعة الأقساط، اعتقدت أن بوسعها تسديدها من دخول صادراتها من المواد الخام. لقد بدا وكأن القروض الخارجية ليست سوى محفزات للتحديث، سيما بعد أن نشر المصرف الدولي في (الأطروحة حول ذروة المديونية) رأيا يقول أن أي بلد يبدأ تصنيع نفسه بواسطة الديون الخارجية سيحرز عائدات متزايدة من صادراته الصناعية يسدد بها ديونه كلها في أمد معين، قبل تحوله إلى بلد مدين هكذا بدا قبول القروض الخارجية بشروط السوق طريقاً ملائماً للتصنيع.

ومع ذلك فان العالم النامي غرق في أزمة المديونية حين اضيفت إلى أسعار المواد الخام المنخفضة فوائد الديون المرتفعة. فتقلصت عائدات المواد وتعاظمت المتطلبات المالية اللازمة لخدمة الديون وما عاد بمستطاع البلدان المدينة تغطية خدمة ديونها بالاعتماد على زيادات عائداتها من الصادرات، واجبرت اقتصادات وطنية كثيرة على نقل قسم متزايد من مواردها إلى الخارج، عن طريق تقييد الاستهلاك والاستثمار بالنسبة للفرد الواحد. وبالنسبة للعالم النامي، اخفق (النظام القديم) بوعوده التنموية قبل وقت طويل من تصاعد الحديث عن (النظام الدولي الجديد) عقب انهيار معسكر اشتراكية الأمر القائم..

لقد انقضى حكم التصنيع اللحاقي، دون أن يتحقق ولو (تصنيع مجزأ)، بل إن بلداناً كثيرة تعرضت لعملية (لا تصنيع أغرقتها في الديون) من جانبه، لم يعد المصرف الدولي يتحدث عن الحالة العادية لدورة المديونية، بل عن إمكانية أن تحد بلدان مدينة كثيرة نفسها على (درب انحداري متواصل) ولا مراء في أن العالم قد غدا مع نهاية النظام الدولي القديم وبداية النظام (الجديد) اكثر استقطاباً من أي وقت سابق، فوعود تنمية (الجنوب) قد احبطت وساءت ظروف حياة مليارات الناس. في حين اخفق البديل الاشتراكي للرأسمالية في ( الشرق) اخفاقاً ذريعاً، وانفرد (الغرب) بآفاق تنموية وتطورية بقيت حكراً عليه، لهذا السبب يقال بضرورة استغلال النموذج (الغربي)، الديموقراطي ـ البرجوازي، مع ادخال اصلاحات وتحسينات مستمرة عليه تضفي طابعاً تمدنياً على الرأسمالية، مع أن المسألة الأساسية هي ما إذا كان هذا النموذج يقبل التعميم اصلاً...

توضح هذه الأفكار أن التصنيع هو (سلعة موقعية) أقصد أن استخدام القيمة الاستعمالية لهذه السلعة يكفل تلبية حاجات من يستطيعون امتلاكها دون غيرهم إذا ما ارادت أو تمكنت جميع البلدان والمجتمعات واستطاع سائر البشر تقليد مستوى الإنتاجية والتموين بالمواد الخام والاولية، القائم في أوربا الغربية واليابان والولايات المتحدة، لانهار ليس فقط نظام الأرض البيئي بل كذلك مستوى معيشة البلدان الغنية. التحديث لا يمكن أن يكون إذن إلا (مجاليا، مناطقيا) ليس بوسعنا عندما نتحدث عن التصنيع والتحديث والتنمية والتطور تجاهل الاعباء التي يرتبها ذلك على المجال الحي وغير الحي للكوكب الارضي.

من المحال أن يتكون في ظل الأزمة البيئية والتطور المحتجز المجتمع المدني الذي يعتبر (كراوتهامر) غيابه سبباً لتحول الدولة التي يستقل جهازها بنفسه إلى (دولة سلاحية). عندما تحقق مشاريع التنمية ويفشل التحديث ويمتنع إنشاء مجتمع مدني، فان استقلال طبقة الدولة في مواجهة المجتمع وتحولها إلى دولة سلاحية لا يجوز أن يفاجئنا. أما إمكانية ظهور دول سلاحية في المستقبل فهي ترتبط ليس فقط بالظروف القومية أو الوطنية، بل كذلك بالبنية المتناقضة لنظام التراكم الكوني(الفوردي) الذي يرتطم منذ حين بحدود امكاناته التطورية والتنموية الخاصة. بالنظر إلى الأخطار التي تهدد جهود (تمدين الرأسمالية) في البلدان الصناعية، فان(الدول السلاحية) لم تكن خطرة على السلام والاستقرار في الجنوب وحده، وقد سبق لروزا لوكسمبرج أن أشارت قبل ثمانين عاما إلى الروابط القائمة بين النزعات التوسعية والإمبريالية والقومية والعرقية. لا يعتقدن أحد إذن أن البلدان الصناعية تستطيع كفالة (النظام) في عالم فقد زمام نفسه، وانه يمكن لأحد أن ينجو من انعكاسات اللانظام على المجتمع المدني القومي أو الوطني الخاص.


الهــوامــــــش  :

1- الاستقطاب مبادئ تكوينية متناقضة، إيلمار التغانز.

2- تقرير صندوق النقد الدولي لفترة التسعينات، ص25

3- بما انه كان من المستحيل وجود برجوازية متطورة في مجتمعات اشتراكية الأمر القائم السابقة، فإن حكوماتها تعد (برجوازية) بمعنى تحميلي وحسب. صحيح أن لها مقاصد وتوجهات برجوازية، إلا أن مجتمعاتها تجرجر وراءها أو زار بقايا ما قبل اشتراكية بقيت دون معالجة في العقود المنصرمة، ويمكنها أن تدخل من الآن فصاعداً في تآلف مع عناصر اشتراكية أمر قائم، الأمر الذي سيعوق تشكل المجتمع المدني. (غارودي).

4- وليم بفاف، اختفاء الاتحاد السوفياتي/ تحليلات.

5- يصف مصطلح »الجزر السنتروبية« منظومات انساق رفيعة مثل قطع من قشرة الأرض تنفذ فيها المواد المختلفة منفصلة عن بعضها انفصالاً منظماً ولا تختلط ببعضها بصورة عشوائية المادة + الطاقة.

6- تجاوزت الولايات المتحدة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بريطانيا في عدد التجديدات والاختراعات والاكتشافات المهمة. في الفترة ما بين 1581 و1875 حدثت 17.8% من الاختراعات الهامة في بريطانيا و20.9% في فرنسا و23.9% في المانيا و25.2% في أمريكا. أما في الفترة ما بين 1915 و1929 فقد شهدت بريطانيا 13% من هذه الاختراعات والمانيا 13% وفرنسا 4.1% في حين ارتفع نصيب أمريكا إلى 58.6% منها.

7- حسب صندوق النقد الدولي اثر ارتفاع أسعار النفط على البلدان النامية في اعوام 1990 و1991 و1992 فوجد أن البلدان المستوردة عانت من خسارة في تنميتها »الناتج الاجمالي الفعلي« تبلغ -0.6% عام 1990 و-0.4% عام 1991، كما كان اثر ارتفاع أسعار النفط على حدود التبادل سلبياً بدوره.

8- كراوتهامر، محلل وكاتب امريكي.