مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

ضوابط النقد البناء

مصطفى السادة

 

ثقافة النقد ونقد الثقافة

مقدمات لابد منها

نحن والآخر (النقد والانتقاد)

الموضوعية والانصاف

النقد والمعرفة

ضوابط النقد البناء

النقد وتحرك الفكر الآخر

النقد الإيجابي

 

يعتقد المؤرخون والباحثون في حياة المجتمعات والأمم وبعد دراسات وبحوث عديدة أن سقوط الحضارات والثقافات ليس من الضروري أن يكون بسبب الغزو الاستعماري الخارجي - كما قد يعتقد البعض بنظرية المؤامرة الخارجية - وهذا لا يقلل من أهمية وخطورة هذا العامل في السيطرة على الشعوب والمجتمعات عن طريق زرع ثقافة الهيمنة والاستلاب الثقافي والحضاري.

فقد يكون السقوط بسبب الأمراض التي قد يصاب بها المجتمع - أي مجتمع - وبالتالي تدفع هذه الأمراض المجتمع نحو السقوط في الهاوية.

وهذا ما تؤكده الدراسات التاريخية كما يذكر الباحث والمؤرخ البريطاني توينبي Tounbee بعد دراسة مستفيضة للحضارات وأسباب نشوئها وسقوطها إذ يؤكد:

إن الأمم لا تعتل بل تنتحر أي أن النخب المسيطرة تدخل في حالة نزاع دائم تعجز عن ابتكار حلول تحظى بالإجماع لمشكلاتها الحياتية المتراكمة والمتأزمة، وان حالة النزاع الدائم مع العقم عن إيجاد الحلول يدفع الناس العاديين إلى تقبل الحكم الأجنبي في المرحلة الأولى ثم الانحلال في آخر الأمر(1).

وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان كما في قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...)(2).

حيث تقرر الآية الشريفة أن التنازع طريق إلى الفشل في التعايش مع الجماعة الواحدة، وضمن سياج أو سور كلي، أو ضمن ما يصطلح عليه في علم النفس المعاصر العقد الاجتماعي الذي نحتاج إليه جميعاً ويقوم على عدة أسس مهمة تلزم الإنسان بمراعاتها أثناء عملية التعايش مع اقرار المجتمع وكما يقرر القرآن عملية التعايش في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (3) فالتعايش حاجة بشرية شريطة أن يرتبط بالعقد الاجتماعي الذي يعني الخروج من نفق العزلة والفردية التي تكاد تطفو على السطح الاجتماعي كمشكلة حقيقية.

التقوقع على الذات والبقاء داخل عنق الزجاجة من المشكلات الخطيرة التي تعاني منها بعض الجماعات - باسم النخبوية أو حماية الذات أو العمق الفكري - في عالمنا الإسلامي ويستطيع الباحث رصد هذه الحالة في عدة مشخصات:

- عدم الإيمان بالآخر كمنافس يحقق ذاته وموقفه في الواقع الاجتماعي.

- عدم التعاطي مع تراث الآخر ثقافياً وفكرياً، مع قدرته على إثبات الذات.

- عدم الانسجام مع مواقف الآخر مع ما تحمله من إيجابية وقدرة على خلق تموجات حقيقية كرصيد اجتماعي.

- القطيعة مع الآخر وهذه نتيجة طبيعية للمقدمات السابقة مما يؤدي إلى إيجاد حالة من العزلة السلبية التي يقف الدين منها موقفاً سلبياً سواء على صعيد القرآن حيث قرر أن من أهداف الإيجاد بهذه الطريقة التعارف والتعايش الاجتماعي (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) وآيات أخرى كثيرة نتيجتها الحث على الحياة الاجتماعية ضمن الأطر والدوائر المعروفة، والمتتبع لآيات القرآن يجد كماً هائلاً من الآيات هي بمثابة الخطابات الجماعية يطلقها القرآن بصيغة الجمع للمسلمين وهي في حقيقتها تكاليف جماعية.

وأيضاً رصدت السنّة المطهرة روايات عديدة عن الرسول وأهل بيته (ع).

فقد ورد عن الرسول (ص) (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(4).

وعنه (ع) أيضاً (يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض)(5).

وعنه (ع) أيضاً (أيها الناس عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة)(6).

ومن هنا تأتي أهمية التعايش والتفاعل مع الآخرين والتواصل معه أيضاً تراثاً وفكراً وثقافة، وأهم من ذلك كله التواصل عن طريق التلاقي والاستماع إليه رأياً وموقفاً وهذه المسألة - الاستماع - بمقدار ما هي على درجة كبيرة من الأهمية فعدم التفاعل معها على درجة كبيرة من الخطورة من حيث اختلال توازن السيرة المستقبلية لما تحمله في طياتها من أمراض خطيرة لها تأثيرها السلبي على المستوى الفكري والثقافي.

نحن والآخر (النقد والانتقاد)

هذا المصطلح - الانتقاد - له وقع كبير لدى بعض الأسماع الحساسة التي قد يسهل عليها تناول الآخر بالانتقاد وتسليط الأضواء على الجوانب السلبية الغامضة في فكره ولكنه غير مستعد أو قادر على إعطاء هذا الحق - حق الانتقاد - للآخر ليمارس عليه نفس هذا الدور.

ويمكن رؤية أو تشخيص الكثير - منا - ممن يحبون ممارسة هذا الحق ضد الآخر وبعنف أيضاً. قد يصل إلى هذا الاسقاط - ويمتلكون القدرة العالية والأدبيات الفكرية والمصطلحات الأدبية المتموجة التي ينطلقون منها كما في علم اللسانيات وكما هو حال فكر واضع علم السفسطة الفيلسوف المعروف بروتاجوراس اليوناني القائم على القدرة الأدبية التي تجعل السامع يخضع للقول ويحكم وفق ما هو مطلوب(7) وإبراز الفكر الآخر بأنه فكر طوباوي ظلامي غير قادر على الصمود، ولا يستطيع التأثير أو فكر لقيط تجميعي. ثمة أمر آخر وهو أن يعد هذا الناقد نفسه مساهماً في تدعيم الثقافة الموضوعية والجدية التي ترفع وعي الأمة ولكنه يرى في الجانب الآخر أن مناقشة هذه الأفكار النقدية ضده هي نوع من تمزيق وحدة الصف، ولا ترمز إلى المثاقفة العاقلة، بل هي نوع من اللامسؤولية يمارس ضد هذا الفكر أو ذاك بغية اقصاءه من الساحة الاجتماعية.

وهذه الأزدواجية في الممارسة ضرب من التناقض والأنانية المفرطة التي قد تلازم البعض منا وتجعله متمسكاً بمصالح الشخصية والذاتية مهما كانت الظروف والنتائج والوسائل التي قد يتذرع بها لتحقيق الجماعة التي قد لا تعرف حدوداً وقيوداً ومن أجل ذلك كله يتخذ من نقد الآخر وسيلة لتحقيق ذلك كله ولتحقيق شره لا يعرف له حدود.

ومن هنا يتأتى القول إن العملية النقدية لها وجهان قد يطل كل منهما على الآخر، وقد تحصل بسببها القطيعة التامة بين هذا الفكر وذاك.

وحتى يكون النقد مفيداً ومنصهراً في بوتقة المصلحة العامة لابد من ضوابط عديدة يقاس من خلالها النقد البناء من غيره. ولكن هناك أموراً عدة لابد من ذكرها قبل الخوض في تعداد الضوابط.

مقدمات لابد منها

1 - كلنا يحب عمله ومشروعه ونهجه ويطمح إلى مستقبل مشرّق يضمن قيم السعادة ولكن البعض يحب أن يبني بطريقته الخاصة وعبر فهمه الخاص وعلى الجميع أن يتبعوه بلا نقد أو رؤية أو تقويم لمنهج أو طريقة، وهذا يلزم منه ان تكون النتيجة المرجوة من خلال هذا المنهج مزيداً من المعاناة والآلام والتصدعات ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا النوع من الرؤية الضبابية للفكر منشؤها الحب المفرط للذات أو الجهة والجماعة الأمر الذي يدفع نحو مزيد من التشدد والتعصب للرأي وعدم التقاطع مع الآخر، وبدوره يكون معبراً إلى الاستبداد بالرأي منشأ كل المعاناة التي تعاني منها ساحتنا الإصلاحية.

وقد نتفق جميعاً على أن الوضع الذي بلغته ساحتنا وجماعاتنا أو بعض مجتمعاتنا الإسلامية وما نعانيه من مشاكل خطيرة ونواجهها جميعاً تعود إلى سبب واحد. وهو عدم قدرة البعض منا على التعايش مع الآخر سواء في الدوائر الضيقة أم الواسعة، بل قد يكون ضمن الدوائر الأضيق - بروح إيجابية فقد سبب هذا الأمر مجموعة من التداعيات تستدعي الالتفات إلى أننا بصدد مواجهة أزمة خطيرة تعيشها أغلب الجماعات الإسلامية ويمكن إرجاعها في معظم حالاتها إلى عجزنا الفكري والسلوكي على المستوى الفردي - بسبب عدم فهمنا للنصوص الإسلامية بصورة دقيقة - لعدم قدرتنا على تحقيق إمكانية العيش في الذات مع الآخر ومثاقفته وممازجته فكرياً.

ومن الواقعية القول إنه لا يجب القفز على كل هذه المشكلات وابقاءها تراكمات في سلة المهملات العقلية، لأن عدم النظر إلى الخلف في الكثير من الأحيان هو قفز على واقع أخر معلوم والعبور لواقع أخر مجهول قد يحمل نتائج سلبية مدمرة، فمن دون مراجعة الماضي ودراسة الأسباب والمسببات التي عملت على وصول الوضع إلى ما نحن فيه اليوم يعد عملاً غير منطقي في عالم لا يسير إلا وفق ضوابط وقوانين(8).

وهذه الأمور جميعاً تشير إلى ضرورة توفر عنصر النقد والنقد الذاتي أولاً وصيرورته برنامجاً للمحاسبة الذاتية ثم محاسبة الآخر كما هو لسان الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) (حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه فإن رأى حسنة، استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة)(9).

2 - ومما ينبغي الاتفاق عليه أنه لا يستطيع أحدنا - سوى المعصوم - أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملاً لوحده، ومن أخطر الأمور على المستوى الفكري - كحد أدنى - أن يدعي أحدنا العصمة لفكره أو سلوكه أو يلبس بعضنا مواقفه ثوب القداسة ويعتبرها حرماً مقدساً وحصناً منيعاً، لا يجوز - بل لا يمكن - اقتحامه أو التعدي عليه، ولكنه يمتنع عن منح هذه العصمة أو القداسة لغيره، بل قد يحارب الآخر لأنه يحمل فكراً من قبيل فكره الذي يعتقد به. ويعتبر الآخر خطأً مهما كانت قوة أو عمق الموقف والاستدلال وبذلك تنشأ القطيعة ويترسخ مبدأ الانعزال في الأنفاق النفسية مع أن الواقعية تقتضي عدم ذلك، ومن التطرف الإدعاء أن رأيي صواب يحتمل الخطأ - ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، هذا فضلاً عن إدعاء عدم إمكان مجاوزة الصواب للرأي والعكس في رأي الغير.

وعند مراجعة النصوص الدينية تجد أنها تقف موقفاً سلبياً وبعيداً عن هذا الادعاء كما في قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(10).

حيث تقرر الآية أن رأيي ورأي غيري يحتمل الصواب والخطأ معاً، وهذا بخلاف القاعدة المشهورة خطأً التي يتعامل بها الجميع في تقديس آرائهم ومواقفهم ويمكن استفادة هذا المبدأ من السيرة النبوية في احترام الآخر مهما كانت قناعاته الفكرية والآيديولوجية، وفي عدم تحقير أو محاولة إسقاط الفكر المختلف لمجرد الاختلاف. لأن هذا يعني اشهار سلاح التسقيط والتهاتر الإعلامي والفكري وهذا يرفضه القرآن حتى مع غير المسلم - فضلاً عن المسلم - ففي قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ... )(11).

3 - نحن نواجه تحديات كبيرة وخطيرة على مختلف الصعد وأكبرها التحدي في المسألة الثقافية حيث يبذل الغرب جهداً مضاعفاً في تعميق ثقافته وجعلها واقعاً أو عملة سهلة التداول ومستقبلنا مرهون بمدى قدرتنا على مواجهة هذا التحدي وفرض ثقافتنا كبديل قوي وناجح عوضاً عن الثقافات الغازية لأمتنا والهادفة إلى سلب الهوية والشخصية الإسلامية.

وبهذا نكون عنصراً فاعلاً في هذا العصر كما كان أسلافنا وثقافتنا وكما أراد لنا الإسلام أيضاً ذلك، وهذا كله لا يكون إلا بعد البحث عن نقاط وعناصر قوتنا والانطلاق نحو تعميم هذه العناصر على المسألة الإسلامية المعاصرة وفي جميع أبعادها ومن الضروري أيضاً تتبع الفيروسات القاتلة التي تقف مانعاً دون تفعيل هذه الثقافة، وبهذا تكون ثقافتنا حيوية وقادرة على الارتباط بالواقع الإسلامي بعيداً عن ثقافة التغريب والتذويب في الثقافات الأخرى التي يدعو إليها بعض المثقفين المنسلخين من شخصيتهم الإسلامية، وليس من الضروري بعد ذلك كله أن نعيش في جزر الانطواء والانغلاق الثقافي دون أن نتفاعل مع العصر وثقافته شريطة أن نمتلك القدرة على التفاعل الإيجابي، واتخاذ القرار المناسب المستقل في المسألة الثقافية وخصوصاً تلك المرتبطة بالواقع الاجتماعي ومشاكله.

4 - ثمة أسئلة عديدة لابد أن نفرغ من الإجابة عليها أولاً لنستطيع بذلك الدخول الإيجابي إلى الألفية الثالثة وبكل ثقة وفاعلية وان نكون عنصراً فاعلاً تقبله القاعدة الشعبية وتمتلك القدرة على مواكبة العصر في حركته المعرفية والمعلوماتية الهائلة، ولأجل القدرة على تحصين مجتمعاتنا وأمتنا من خطر الثورة المعلوماتية والعولمة في بعدها السلبي ومن هذه الأسئلة المطروحة.

- هل يمتلك خطابنا - وبالتالي ثقافتنا - نظرة جادة للمستقبل؟

- هل نمتلك كمثقفين إسلاميين رؤية حقيقية لما تعيشه مجتمعاتنا من مشاكل في البعد الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، وبالتالي هل يمتلك خطابنا المعاصر عناصر القوة المؤهلة للتأثير في الآخر؟

- هل يستطيع خطابنا الثقافي إيجاد العوامل المشتركة والأرضية الصالحة للتلاقي على المائدة الواحدة التي يتغذى عليها الجميع ضمن الدائرة الإسلامية؟

- وهل يستطيع القائمون على الشأن الثقافي والتوعوي من المفكرين والباحثين المسلمين تناول المفاهيم الإسلامية بصورة صحيحة تماماً وتعكس الفهم الصحيح والدقيق للإسلام؟

هذه وغيرها من استحقاقات محاسبة المرحلة، والولوج إلى المرحلة الراهنة ومن هنا ينبغي أن يعكف أهل الفكر والقلم والتوجيه الإسلامي واستشراف المستقبل من خلالها خصوصاً في المسألة الثقافية، في عالم أصبح البعد الثقافي أهم أبعاد المرحلة وأهم اختيارات عصر العولمة والمعاصرة فمتى يمسك بزمام الثقافة ليستطيع الفعل في هذا العالم. ولذا ينبغي التركيز على خلق ثقافة جديدة تمتاز بالاستثنائية والشجاعة وهي ثقافة المراجعة ونقد الذات قبل نقد الآخر.

ثقافة النقد ونقد الثقافة

مراجعة الحسابات ونقد الذات خير ما يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه المرحلة.

أولاً: لأنه دعوة قرآنية قبل أي شيء، حيث أوقع القرآن على الأمة مسؤولية كبيرة لأجل تحقيق الذات والوصول بها إلى الكمال المطلوب، وتتعمق المسؤولية بالنسبة للجيل الواعي من مثقفي الأمة وكتّابها الفاعلين في الوسط الاجتماعي، من أجل إخراج المجتمع من دوامة المشاكل، وإنفاق العزلة الفكرية المقتصرة على البعد أو الاتجاه الواحد ولتحقيق ذلك نحتاج إلى شجاعة من نوع خاص في ممارسة النقد البناء لفهمنا للمفاهيم الإسلامية المرتبطة بالعمل الاجتماعي ومدى أقترابها وملاصقتها للفهم الواقعي خصوصاً في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها عالمنا الإسلامي - الغزو الثقافي المعولم وعلاقات التطبيع المختلف مع العدو الصهيوني - وهذا يلفت أنظارنا إلى ضرورة تفكير جميع القوى والفاعليات المنتشرة على الساحة الإسلامية العريضة لأجل القيام بعملية شحذ الهمم واستنفار الجهود والقيام بعملية مسح شاملة للأفكار وبعض المسلمات والمواقف من الآخر ونظرتنا للواقع من حيث الطوباوية والواقعية وفهمنا للموروث الثقافي والنصوص الدينية المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية ومع الفرقاء والمنافسين. وهي دعوة قرآنية إلى مراجعة الذات ومناقشة الاستحقاقات كما يقرر القرآن والروايات. ففي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(12).

وقوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ... )(13).

وكذلك الروايات فقد ورد عن الرسول الكريم (ص) (اكيس الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت)(14) وورد عن الإمام علي (ع) (حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء الفروض عليها)(15) وأيضاً عنه (ع) (قيدوا أنفسكم بالمحاسبة وأملكوها بالمخالفة)(16) وغيرها من الروايات، بل ورد التشدد في محاسبة النفس في كل يوم فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) (حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه فإذا رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة).

وهذه النصوص كلها واردة في سياق مراجعة الذات على المستوى الفردي والجمعي وليست المحاسبة والمراجعة مقصورة على القضية الفردية في نواح العبادة فقط، بل قد تكون المسألة الفكرية والثقافية ومراجعة المواقف من أوضح المصاديق لقضية النقد التي وعت إليها الشريعة لأهميتها على الصعيد الاجتماعي - خصوصاً إذا تنبهنا إلى حقيقة مهمة وهي أن الدين الإسلام في خطاباته اجتماعي أكثر مما هو فردي ونستطيع تلمس ذلك من خلال استقرائنا لجزئيات كثيرة هي في حقيقتها خطاب جماعي للجماعة بما هم مجتمعين - سواء كان النقد للذات أو نقداً للآخر كما يشير إلى ذلك كلام الإمام علي (ع) (ليكن آثر الناس عليك من أهدى إليك عيبك وأعانك على نفسك) لأن أفضل الناس رأيا من لا يستغني عن رأي مشير كما هو حال بعض النصوص التي تشير إلى هذا المعنى.

لأن ثقافة النقد أصبحت حقيقة شائعة وباتت شعاراً من الشعارات المعاصرة التي تقاس بها الشعوب والجماعات من حيث مدى التزامها بالعملية النقدية وقبول الآخر، ويستطيع الدارس أن يرصد عدة بحوث ودراسات تحمل عنوان هذه المفردة حتى على الصعيد الإسلامي - سواء في الفكر أو الثقافة أو السلوك الحركي وحتى على صعيد الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم أو تأصيلها خصوصاً المتحركة في الوسط الاجتماعي.

ومما يجدر الإشارة إليه انه قد يجد الدارس بعضاً من الفهم الضبابي المشوش حتى لمفهوم النقد وحدوده وخطوطه الحمراء، فقد نجد بعض النقد تطاول إلى المفاهيم الإسلامية الثابتة - وان كنا لا نعتقد بصحته - تمشياً مع الحالة العامة السارية في الغرب أو بغية الوصول إلى أغراض وأهداف غامضة عند البعض ممن يتسمون بالمنهج النقدي التفريطي(17).

3 - أثر النقد في دفع المسيرة التوعوية وغرس مفاهيم وعناصر الرشد الفكري في الأمة، فالوعي هدف تنشده الثقافة الإسلامية، وقد رصد القرآن مجموعة من الآيات تحدثت بنوع من التركيز على مسألة الوعي الإسلامي ودوره في العملية الحضارية للمشروع الإسلامي، بل تكاد تكون من المطالب والمفاهيم الثابتة للقرآن ففي قوله تعالى (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ)(18).

نجد الحث على ضرورة تحصيل الوعي، وان الفرد المتصف بهذه الصفة هو من يستطيع ان يصل إلى الحقيقة ويغوص في أعماق الأمثال ولا يكتفي بالقشور.

ونجد القرآن يجعل أحد أهداف نزوله بلسان عربي لأجل تحصيل الوعي كما في قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(19).

وفي مواضع عديدة يذم القرآن أولئك الراغبين في العيش بعيداً عن مثل هذا المفهوم القرآني ويقبلون بحالة الجهل والتخلف التي صنعها المستعمرون وعكفوا على غرس الثقافة الجاهزة التي يصدرونها عبر الإمبراطوريات الإعلامية وعبر الوسائل المختلفة التي غزت عالمنا الإسلامي وبثت ثقافة التخلف والانكفاء إلى الوراء، فنجد القرآن يقول (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(20) ونجد القرآن يدفع المسلم لتحصيل مفهوم الوعي وتحقيقه في ذاته (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا... )(21).

ولذا فمن الواجب على كل مسلم ان ينشر الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والشرائعي والتربوي والاستقلالي في كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعات والصحف والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها(22).

والمجتمع الواعي يكون محصناً من الاختراق الثقافي والاستلاب الحضاري ومن كل عمليات المسخ الموجه للشخصية المسلمة، مضافاً إلى ذلك أن المجتمع الواعي قادر على التفاعل مع العصر ومن هذا القبيل تأتي أهمية الحث على التفكر في الإسلام كما ورد في المرويات، فقد ورد عن الإمام علي (ع) (الفكر جلاء العقول) و (من طالت فكرته حسنت بصيرته)(23) وهذا فهم عميق للمفاهيم الإسلامية وأثرها على صعيد الفرد والجماعة من حيث الممانعة ثم التأسيس لمفاهيم صحيحة فاعلة في عملية البناء الحضاري عن طريق المشروع الإسلامي الكبير.

ضوابط النقد البناء

لاشك أن ممارسة النقد بعد كل ما ذكر من مقدمات مسألة تحريضية مهمة خصوصاً فيما يرتبط بالمسألة الثقافية وما يمس الواقع الاجتماعي غير أن الأهم من ذلك ان تكون هذه الممارسة بطريقة تساهم في تصحيح المسار الحركي للمجتمع وهذا يحتاج إلى مزيد من الاتقان في العملية النقدية، وهذا خلافاً لما قد يقوم به البعض حين يمارس النقد على الآخر، فإن ذلك إما:

- لمجرد الممارسة النظرية لهذه العملية المهمة والخطيرة في آن، فيكون من قبيل النقد للنقد فقط فهو الوسيلة والغاية، كمن يمارس الاختلاف مع الآخر لمجرد الاختلاف.

- أو يكون الغرض إفشاء سلبيات ونقائص الآخر لأنه يختلف في الرؤية والموقف ويخلق رأياً أو تموجاً آخر.

وهذا ما تعاني منه ساحتنا الإسلامية - في بعض نقدها للآخر - حيث غرض الاسقاط والتشهير، بينما ينبغي أن يكون الهدف هو إصلاح الخلل والبناء، ولا ينبغي خروج النقد عن ذلك لما له من أهمية، ولأنه من أبرز مصاديق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر التي هي من أهم التكاليف الشرعية الموجبة على المكلف - وان كانت وجوباً كفائياً - كما يقول القرآن الكريم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)(24).

ومن هنا يأتي حكم الفقهاء بوجوب الأمر بالمعروف: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان عقلاً ونقلاً على الكفاية(25).

وكما يقول الإمام الشيرازي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية(26) وبذلك استحقت الأمة الأفضلية ونالت قصب السبق والشهود على الأمم الأخرى كما يقول القرآن (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ) (27). (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ... )(28).

وينبغي أن تكون ممارستنا جميعاً بغرض تعميق الخصوصية الإسلامية في الواقع الاجتماعي وهذا يتطلب وجود ضوابط ومعايير للنقد البناء.

النقد والمعرفة

نحن كثيراً ما نطرق قضية بخصوصها بالنقد ونسهب في ذلك، وقد يصل الحديث أحياناً إلى الهجوم العنيف - وغير الموضوعي أيضاً - على فكر معين أو شخصية معينة أو جهة بخصوصها ونستل كل أسلحتنا الكلامية والثقافية والإعلامية ونبذل الجهود والأوقات ونشن عمليات الهجوم على مختلف التوجهات في سبيل تحقيق الأغراض.

والحال ان هذه العملية برمتها ليست في موقعها ومسارها الحقيقي وسنحتاج إلى وقت وجهد مضاعفين لرفع الالتباس وتصحيح الفهم والمقصود، وهذا يرجع إلى جهلنا بالموضوع وعدم قدرتنا على القراءة المتأنية للفكر أو الموقف، مع أنه ينبغي أن يكون في سلم أولوياتنا عند الدخول في هذه المسألة ان تكون لدينا حصيلة كاملة عن الموضوع المراد وضعه تحت المجهر أو الفكرة التي يراد تشريحها بمشرح النقد وهذا ما يمكن فهمه من النصوص الشرعية كما ورد في كلام أهل البيت (ع) (في كل حركة أنت محتاج فيها إلى معرفة) وهذا يتطلب جهداً كبيراً يستلزم:

- التمتع بلياقة القدرة على فهم الآخر.

- والقدرة على تقليب الأمور والأفكار خصوصاً.

- والقدرة على خلق الاحتمالات التي يمكن أن يقصدها هذا الرأي أو ذاك الموقف.

- والقدرة على توجيه كلام الآخر توجيهاً حسناً كما ورد عن الإمام علي (ع) (احمل فعل أخيك على أحسنه) أو (احمل أخاك على سبعين محملاً) وغيرها من الكلمات الواردة في سبيل الكشف عن ضرورة التمتع بهذا الكيف النفساني عند الممارسة النقدية خصوصاً ضد الآخر.

الموضوعية والانصاف

وحتى نستفيد من عملية المراجعة ونقطف ثمارها لابد من التمتع بروح الموضوعية والانصاف أثناء ممارسة هذا الدور - سواء على الذات أو الآخر -

الموضوعية من حيث دراسة القضية أو الفكرة والموقف من مختلف الجوانب مع مراعاة الظروف المكانية والزمانية المحيطة، وهذا يحتاج إلى شخصية تتصف.

- بالتجرد عن المسلمات والمواقف المسبقة التي قد تؤثر في القيام بدور الناقد، وهذه مشكلة نعاني منها كثيراً بحيث تكون مسبقاتنا الفكرية دليلنا إلى الحكم على أية جهة أو فكرة تصدر من اتجاه معين.

- القدرة على إنصاف الآخر عند الحاجة، وهذا حق ينبغي ضمانه للجميع دون النظر إلى الجهة التي تحمل هذه القناعة أو ذاك الموقف من الأحداث.

- تحمل المسؤولية المترتبة على أخذ النتائج، فقد لا تكون النتائج ضد الجهة التي يمارس عليها النقد، وإنما ضد الفكر الناقد ولا يجوز ان نحمل فكرة قلوبنا معكم وسيوفنا عليكم، وهذا فصل بين النظرية والتطبيق ونوع من الإزدواجية والكيل بمكيالين في التعامل مع الواقع.

والموضوعية والانصاف طريقة القرآن في حواراته ونقده للآخر، فقد تحدث القرآن عن الكثير من الآراء والأفكار غير المتماشية مع نظرة القرآن، والبون الشاسع بين نظرة السماء وبين نظريات الأرض لكن الموضوعية القرآنية اقتضت استعراض الأفكار وذكر الأسباب المؤدية إلى ذلك.

فقد ذكر القرآن قصة إبليس كاملة في عدة مواضع، وعن رفضه الخضوع للأمر الإلهي كما في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(29).

وكذلك مع الكفار الواقفين في وجه دعوات الأنبياء (ع) كما في قوله تعالى (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ... )(30).

وقوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(31) وغيرها من الآيات التي تكلمت بموضوعية عن قناعة الكفار تجاه الدين.

النقد الإيجابي

جوهر النقد ينبغي أن ينصب على توظيف هذه المسألة في خدمة المشروع الثقافي الإسلامي وهذا يعني أن العلاقة بين النقد من جهة وبين المسألة الثقافية من جهة أخرى هي علاقة تكاملية طولية وليست عرضية.

وقد مارس القرآن والأنبياء (ع) وظيفة الناقد الحقيقي المخلص لأجل تصحيح ممارسات البشر غير المتوافقة مع الواقع القرآني بصورة صحيحة سواء كانت هي ممارسات الكفار والمشركين أو ممارسات البعض من المسلمين ففي قوله تعالى على لسان نبيّه إبراهيم (ع) (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(32) حيث ينتقد إبراهيم (ع) قومه على عبادتهم الأصنام من دون الله تعالى ولكن بطريقة إيجابية تهدف إلى تصحيح مسار عبادتهم وكذلك في قوله تعالى يخاطب المسلمين في بعض ممارساتهم الخاطئة مع النبي (ص) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بـــِالْقَوْلِ كَجَهْــــرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكـــمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ... )(33).

أو في علاقاتهم مع بعضهم البعض (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ... )(34).

وعند القيام بعملية استقصاء لجميع صور النقد في القرآن لن تستطيع إحصاء الموقف السلبي في عملية النقد للإنسان، وحتى في سيرة الأنبياء (ع) نستطيع القول - ونجزم على ذلك - انهم مارسوا ذلك في أحسن صوره وأكملها، بل نجد القرآن يدفع المسلمين للتخلي عن كل ما من شأنه ان يلصق بالدين وهو ليس من الدين، فقد نهى القرآن عن سب الكفار أثناء الحوار (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ... )(35).

أولاً: لأن هذا العمل يؤدي إلى عمل مضاد يتخالف معه في الاتجاه وقد يكون في المقدار أيضاً.

وثانياً: ولن يحقق الغرض من الحوار.

وثالثاً :وهو حالة غير حضارية في التعاطي مع الآخر.

ومن هنا نجد أيضاً توجيهات أهل البيت (ع) تصب في خانة التركيز على الجوهر الحقيقي للنقد، والابتعاد عن كل عملية تشوب الحوار بالسلب.

فمنعوا السب والتراشق لمعرفتهم بالآثار الجانبية الخطيرة لانتشار هذه الطريقة من التحاور.

النقد وتحرك الفكر الآخر

عند قراءتنا للتاريخ الإسلامي - المتمثل في سيرة النبي الكريم (ص) وأهل البيت (ع) وصحابته الطاهرين - وكيف استطاع استيعاب الجميع على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم نجد أمامنا حقيقة مهمة وهي أن الإسلام كان يعطي مجالاً يتحرك فيه الرأي الآخر ويعرض قناعاته وأفكاره.

فقد استطاع الإسلام ان يستوعب الأديان الأخرى - اليهودية والمسيحية - بعد ذلك سواء اتفقت معه أو اختلفت.

وفي قراءة سريعة للقرآن نجد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فقد فسح الرسول (ص) المجال لأصحاب الديانات الأخرى بعرض أفكارهم دون اسقاطهم أو رشقهم بالتهم.

وفي سيرة علمائنا ما يوحي بذلك أيضاً.

ففي عبارات الشيخ الأنصاري أثناء ممارسته النقد للرأي المختلف معه علمياً نجد مراعاة شديدة للأدب العلمي الرصين، ولو نظرنا في عباراته ومحاوراته الأصولية والفقهية لوجدنا أن محاوراته تحمل بين ثناياها الأدب الرفيع في عرضه - أي الطرف الآخر - وتوجيهه.

وكذلك في عبارات السيد البروجردي عندما يريد أن يناقش أحد العلماء يقول أنا لا أدري مقصود الشيخ الأنصاري والشيخ الطوسي هكذا أو لعله أنا غير ملتفت ففي البداية يعظّم المقابل ويعطيه حجمه ثم يبدأ بالرد بشكل مؤدب فترى رأي السيد البروجردي هو الصحيح ولكن دون أن يقلل في نظرنا علمائنا السابقين(36).

1- مجلة النبأ: العدد 43 ص 12. 

2- سورة الأنفال: الآية 46. 

3- سورة الحجرات: الآية 13. 

4- ميزان الحكمة: ج 3 ص 1966. 

5- ميزان الحكمة: ج 1 ص 406. 

6- ميزان الحكمة: ج 1 ص 406. 

7- الفيلسوف بروتاجوراس اليوناني هو صاحب القول الشهير: الإنسان معيار كل الأشياء معيار ما هو موجود فيكون موجوداً، ومعيار ما ليس بموجود فلا يكون موجوداً. وبذلك يلخص الفكر السوفسطائي القائم على أن الحسن هو المعيار الحقيقي للمعرفة. تاريخ الفلسفة اليونانية وولترستيت. 

8- مجلة النبأ مصدر سابق بتصرف. 

9- ميزان الحكمة: ج 1 ص 619. 

10- سورة سبأ: الآية 24. 

11- سورة الأنعام: الآية 108. 

12- سورة الحشر: الآية 18. 

13- سورة البقرة: الآية 284. 

14- ميزان الحكمة: ج 1 ص 618. 

15- نفس المصدر. 

16- نفس المصدر. 

17- نفس المصدر. 

18- سورة العنكبوت: الآية 43. 

19- سورة الزخرف: الآية 3. 

20- سورة الأنفال: الآية 23. 

21- سورة الحج: الآية 46. 

22- السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص 16 الإمام الشيرازي. 

23- ميزان الحكمة: ج 3 ص 2464. 

24- سورة التوبة: الآية 71. 

25- كتاب اللمعة الدمشقية: ج 2 ص 411. 

26- المسائل الإسلامية للإمام الشيرازي: ص 448. 

27- سورة آل عمران: الآية 110. 

28- سورة البقرة: الآية 143. 

29- سورة ص: الآية 73 ـ 76. 

30- سورة هود: الآية 27. 

31- سورة الزخرف: الآية 31. 

32- سورة الشعراء: الآية 71 ـ 74. 

33- سورة الحجرات: الآية 2. 

34- سورة الحجرات: الآية 12. 

35- سورة الأنعام: الآية 108. 

36- مجلة النبأ: العدد 44 ص 115.