مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

الشورى

في المنظور العقلي والشرعي(*)

السيد مرتضى الشيرازي

الجانب الثاني: الشرعي

منطلق الحق

توضيح هام ومختصر

الجانب الأول: العقلي

تفاضل القيم

بين الشورى والديمقراطية

حدود الشورى

البحث في الشورى ينطلق من جانبين:

الأول: عقلي فلسفي.

الثاني: شرعي نقلي.

وقبل الغوص في هذين الجانبين لابد من الإشارة السريعة إلى تحديد العلاقة بين العقل والشرع والنسبة بينهما؟

أما العلاقة فقد عبّر عنها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بتعبير دقيق وجميل بقوله: (العقل شرع من داخل والشرع عقل من خارج)(1). فالعقل شرع والشرع عقل لكن أحدهما يرتبط بداخل الإنسان والآخر من الخارج، فلقد جعل الله تعالى للإنسان حجتين حجة باطنة هي العقل وحجة ظاهرة هي الرسل والأنبياء، وبهذا المضمون روايات كثيرة جداً منها ما ورد في وصية الإمام موسى بن جعفر (ع) لهشام بن الحكم في وصفه للعقل حيث قال: (يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (ع) وأما الباطنة فالعقول)(2).

إذن العقل حجة الله على الإنسان، والرسل هم الحجة الثانية لله على الإنسان، وبالعقل يكتشف الإنسان الرسل. فالعقل شرع لكنه في داخل الإنسان والشرع عقل مرشد وفي الروايات عندنا (أول ما خلق الله العقل)(3).

إن العقل هو القيمة الحقيقية، قال الله سبحانه للعقل لما خلقه: (أقبل فأقبل وقال: له أدبر فأدبر وقال له: بك أثيب وبك أعاقب)(4)، فالعقل مقياس للثواب والعقاب.

أما الأنبياء فمن أكبر مسؤولياتهم ليثيروا لهم دفائن العقول)(5) أي ليثيروا للناس ما في باطن عقولهم.

إذن العقل يكتشف الحقيقة، ولكن أحياناً بعض الغبار والكدورات قد تحجبه عنها كما أن السحب قد تحجب أشعة الشمس. ومن هنا كان إرسال الرسل والأنبياء ليزيلوا تلك السحب أو الكدورات عن العقل.

ولتحديد العلاقة بين العقل والشرع بالتحديد نقول:

إن للعقل جهة وللشرع جهة وكل منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه على أن يقرّ كل منهما الآخر ولا يعارضه في شيء والإنسان بحاجة إلى الاثنين حيث إن العقل يستقل بأحكام لا يتدخل الشرع فيها كإثبات الصانع وبعث الرسل وإن تدخل الشرع فهو ارشاد أو تأكيد. وهناك أمور شرعية كالمحرمات والواجبات يختصّ بها الشرع ولا يتدخل بها العقل حتى وإن كانــت مستحسنة فهذه جهة الافتراق، وهناك مسائل عديدة تثبت بترابطهما ترابطاً تاماً إذ يتوقف الحكم الشرعي على العقل، أو معرفة الحكم العقلي بنقل الشارع كالسلسلة المترابطة.

وعلى ذلك فإننا عندما نتحدث عن الشورى من منظور عقلي فإن حديثنا هو في صلب الشريعة وليس بمعزل عنها أو مبايناً لها.

الجانب الأول: العقلي

وللعقل منطلقات عديدة في إثبات أصالة مبدأ الشورى منها:

1 - الكاشفية.

2 - الحق.

3 - دفع الضرر المحتمل.

وهناك منطلقات عقلية أخرى عديدة أعرضنا عنها لغرض الاختصار وسنبحث هنا في الأول والثاني فقط..

1) منطلق الكاشفية: أي أننا ننطلق لإثبات أصالة الشورى من منطلق الحقيقة، وهنا يتوارد السؤال التالي: هل يستطيع الإنسان أن يستكشف الحقيقة كلها بعقله منفرداً عن الآخرين؟

وهل يمكن لشخص حكيم - غير المعصومين (ع) - أن يدّعي بأن عقله يحيط بكل الزوايا والخفايا والجهات وعلى مرّ الأزمنة وفي شتى الأبعاد؟

والحقيقة أن الجواب: لو كان عقل المرء عقلاً محيطاً بكل ما تقدم وشمولياً لأمكن أن نقول بأن عقل الشخص بمفرده كاشف عن الحقيقة كاملة. ولكن الإنسان إذا أنصف ذاته وغيره لاكتشف بأن عقله محدود، واكتشافه للحقائق نسبي فيما عدا القضايا الفطرية التي عبّر عنها القرآن الكريم في الآية الكريمة: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(6).

وعليه بحسب الإنصاف إذا آمنا بأن العقل المفرد محدود هذا يعني الحاجة إلى عقول أخرى ومجموعة هذه العقول تكشف لنا الحقائق.

ومن هنا ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع): (الاستشارة عين الهداية)(7) وهذه الدقة في التعبير تتبين من خلال تتمة كلامه (ع): (وقد خاطر من استغنى برأيه)(8) أي أن الشورى عين الهداية والنجاة أما المخاطر فتأتي من الرأي المنفرد، وهناك قاعدة أصولية تسمى (حذف المتعلق يفيد العموم) إذ لم يقل: خاطر بنفسه، ولم يحدد المخاطرة بالذات هل هي بعائلته أو جيرانه أو مجتمعه؟ ولم يحدد البعد هل هو سياسي أم اقتصادي أم نفسي وسيكولوجي؟ بل العبارة مطلقة وتعني أنه خاطر في مختلف الجهات وكل الأبعاد وبالنسبة لكل من يمتد تأثيره عليه ليشمله الخطر إذا استغنى برأيه.

فالمنطلق العقلي الأول هو منطلق الكاشفية عن الواقع وبتعبير آخر (منطلق الحقيقة) إذ لو آمن الإنسان بأن عقله محدود وبفضل اجتماع العقول المتعددة وتراكم الخبرات ستنكشف له الحقيقة بشكل أجلى وأوضح عندها سيخضع بديهياً لهذا الاعتقاد دون أدنى تردّد وليس على مضض أو لوجود عامل الجبر بل لقناعة داخلية وتامة متأصلة في أعماق النفس الإنسانية.

توضيح هام ومختصر

بعض الفلاسفة يرى بأن الفلسفة هي أشرف العلوم، وموضوعاتها أشرف الموضوعات وغايتها أشرف الغايات، وأدلتها أشرف الأدلّة..

فنتساءل هنا لماذا أدلة الفلاسفة أشرف الأدلة؟

ذلك لأنهم يعتبرونها يقينية بمعنى أنها تصيب الواقع حتماً، وكبار الفلاسفة كما هو المعروف هم قمم العقل البشري فيما يمكن للعقل البشري أن يتوصل إليه.

ولكن مع كل ذلك ومع وجود النظريات الكبرى وتلك الكفاءات الفكرية العالية نلاحظ هناك تناقضاً واضحاً وهائل جداً بين الفلاسفة في شتى الجوانب..

فأيهما المطابق للواقع والصحيح؟ ولكن لا يعقل أن يكون الرأي الأول هو الحقيقة و الرأي المعارض أو المناقض هو الحقيقة أيضاً!!

مثال على ذلك: في بحث الوجود الذهني هناك ستة أقوال للفلاسفة مذكورة في مضانها، فمنهم من ذهب إلى إنكاره، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك.. وقد عبّر عنها الحاج السبزواري في منظومته قائلاً:

فأنكــر الـذهنــي قـــــوم مطلقــــاً          بعض قياماً من حصـول فرقــــــــاً

وقيل بالأشباح الأشيا انطبعـــــت          وقيل بالأنفـس وهـــــي انقلبـــــت

وقيل بالتشبيه والمســـــامحـــــة          تسمية بالكيف عنهم مفصحة(9)

فلو أنصف الفيلسوف ذاته رأى أن دعوته - بأن أدلته أشرف الأدلة لأنها يقينية - غير مطابقة للواقع وغير مصيبة لوجود التناقض بين الأدلة نفسها..

فالحقيقة تسري من خلال هذا التوضيح وتؤيد المنطلق العقلي في كشفه الحقيقة بتجمع الآراء والأخذ برأي الأكثرية في ضمن إطار شوروي لأجل التقرب من الصواب أو مطابقة الواقع..

منطلق الحق

كما أن لي حقاً كذلك للآخرين حق في التعبير عن رأيهم وهذا بديهي ووجداني فإن الأرض وهذه الثروات والطاقات لم تخلق لي فقط كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(10) وفي مواضع أخرى (جَعَلَ لَكُمْ)(11) وغيرها الكثير من الآيات حيث اشتملت على ضمير الجمع (لكم).

ـ فكل ما خلق الله سبحانه على هذه الأرض وما أودع فيها لا يختص بفرد دون آخر ولا بحاكم أو منظمة أو حزب أو تجمع أو غير ذلك، فـ(لكم) تشمل الأجيال على مدى التاريخ. إذن كما أن لي الحق فيها لك الحق فيها، ولكن كيف يمكن أن نتعامل وفق هذه الشمولية في التوزيع؟.

ـ لا مناص من العمل برأي الأكثرية إن أمكن الاتفاق وهو المفضل بلا شك ويبقى أمر لابد من ذكره هنا وهو أن ذلك الاتفاق ليس من الميسور أن يحصل في كل زمن وفي كل حادثة.. وإنما الحق في أن يحصل الفرد على شيء من الرأي ومن الثروات أو الإمكانات في شتى الأبعاد كحد أدنى...

ـ فتبقى مسألة الشورى قائمة وفق هذا المنطلق إلى حد ما.

وهناك منطلقات عقلية أخرى قد أمضاها الشارع المقدس أيضاً - مثل منطلق دفع الضرر المحتمل - لا تحتمل هذه الرسالة الصغيرة بحثها..

الجانب الثاني: الشرعي

وينطلق هذا الجانب من منطلق الآيات الكريمة والروايات الشريفة وهما من مصادر التشريع الإسلامي.

بعض الآيات القرآنية تكشف عن وجود تعددية حقيقية تكوينية في أصل الخلقة قرّرها الباري عز وجل بحكمته. منها: قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) الإسراء: 84.

والشاكلة هي الطبيعة الإنسانية أو هي العادة المتأصّلة في أعماق النفس أو السجية، وهي مجموعة ما يصوغ نفسية الإنسان.

فعمل الإنسان في الواقع هو انعكاس عن طريقة تفكيره وعن بنيته الفكرية والنفسية، وهكذا نظراته وما يستمع إليه أو حركته أو حديثه.. فكلها انعكاس عن الشاكلة. فتعكس الآية الشريفة الأولى حقيقة وجود تعددية تكوينية خلقية هندسها الله سبحانه وتعالى في كل الكون والإنسان ضمن هذا الكون وقد منحه الاختيار بقوله سبحانه: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الإنسان: 3.

فكل شخص يعمل على شاكلته تكويناً هذا أمر لا شك فيه ولا ريب ولكن السؤال هنا: كيف يجب أن يكون التعامل بين هذه القوى المتعددة؟

وبتعبير آخر: كيف يتعامل الناس فيما بينهم، إذ كل واحد يعمل على شاكلته وبحسب تركيبته النفسية والفكرية؟

وللإجابة يأتي دور الآية الكريمة الثانية في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ) الحجرات: 13.

والقبيلة هي التي تنتهي إلى أب واحد، ولكن الشعب هو الذي تجمعه - حسب كلام المفسرين - اللغة أو يجمعه اللون أو الأرض وما أشبه..

فالخطاب لكل الناس - في الآية آدم وحواء، أو الأب والأم - وليس مخصصاً بالمؤمنين أو بالمسلمين وإنما قال تعالى (يا أيها الناس) أي كل الناس مؤمنين وغير مؤمنين، مسلمين وغير مسلمين.. وينبغي أيضاً أن تصب هذه التعددية في أمر إيجابي وليس بسلبي وهو التعارف. لذا جاء في الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: 13.

فالآية الثانية تكمّل الأولى وتبيّنها بأن تكون الشاكلات إيجابية وتصب في التعارف.

أما الآية القرآنية الثالثة من قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) المائدة: 2، فهي تكمل الأوليتين إذ لا ينبغي أن يتوقف الأمر عند حد التعارف، بل يجب أن يتطور إلى صيغة تعاونية والتعاون يصب في مصب إيجابي وهو البر والتقوى والخدمة لجميع الناس (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) الممتحنة: 8، فلم ينهَ الله تعالى عن البر والإحسان إلى غير الحربي بل طالب بالعدل معه: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة: 8.

فصار عندنا خلق وتكوين كل بحسب شاكلته ثم هذا الخلق وجد لغاية وهي التعارف ثم جاء دور التعارف والعدل والإحسان...

ومن ثم يأتي دور الآية القرآنية الرابعة بحسب التسلسل العلمي من قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى: 38، وهي من أجلّ مصاديق التعاون في ضمن إطار شوروي أو شوري، وقد وضعت الآية إطاراً عاماً في شكل التعاون القائم بين الشعوب والقبائل المتعارفة والتي تحمل الشاكلة المختلفة تكويناً.

وبذلك تتوضح الآيات الأربع والمقصود منها بأفصح عبارة وأجمل بيان وإن الآيات الكريمة يفسّر بعضها البعض بحسب الترتيب التالي:

1 - (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ).

2 - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

3 - (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

4 - (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

حدود الشورى

هل أن الله سبحانه يقيد ويحدّد الشورى بالشؤون العامة فقط، أي في شؤون الحكم والمعاهدات الدولية والسلم والحرب وفي السياسة الاقتصادية العامة للبلد، أم لا؟

إن الشورى ينبغي أن تشمل شتى الموضوعات وفي مختلف مستويات الحياة حتى في العائلة أو الأسرة ففي الآية تصريح (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) بقرة 233.

في هذه القضية العائلية ينبغي أن يتشاور الرجل مع زوجته في قضية الفطام. فالشورى لا تختص بموضوعات معينة بل هي عامة من أدنى لبنة في تركيبة هذا المجتمع الكبير إلى البحر الاجتماعي الواسع.

والمتتبع للروايات يجد بوضوح اهتمام الشورى من أدنى حد إلى أعلاه. ففي الحياة العائلية ورد في الحديث الشريف: (المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهله بشهوته)(12).

المؤمن الذي يراعي أهله ولا يستبدّ برأيه حتى في شأن الطعام يتشاور مع زوجته وأطفاله وما هي رغباتهم؟ فيأكل معهم ولا يفرض رأيه عليهم، أما المنافق فهو يحكّم رأيه ويستبد إلى درجة أنه يفرض الطعام الذي يرغب به فيأكل أهله بحسب رغبته لا برغبتهم.

وفي بعض الروايات تأكيد هائل وشديد على الشورى في شتى المجالات وقد ذكرها السيد الوالد(13)(دام ظله) في كتابه (الشورى في الإسلام) إذ جمع مجموعة كبيرة منها.

ففي رواية عــــن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (قيل لرســـول الله (ص): ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتـــباعهم)(14). فالأمر لا يتوقف عند الاستشارة وإنما استشير واعمل وفق تلك الشورى أي اتباعها.

وفي رواية عن أمير المؤمنين (ع) قال: (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(15).

وهذا المقدار من الروايات يلقي بعض الضوء على هذا الجانب الحيوي والهام، ومن أراد فليطلع ويبحث فهي كثيرة ومتوفرة في أغلب مصادرنا حتى لا نطيل في المقام.

بين الشورى والديمقراطية

ما هو الفارق بين الشورى في الإسلام وبين الديمقراطية؟

هل الشورى تساوي الديمقراطية تماماً أو تختلف عنها؟

الشورى في الإسلام: أن تلتزم برأي الأكثرية، أما الديمقراطية فتكتسب شرعيتها من أكثرية الناس كما في انتخاب الهيئة الحاكمة..

وبين الشورى والديمقراطية فرقان:

الأول: أن المسلم ينطلق في شوريته من منطلق أن هذا الحق قد أعطاه الله سبحانه وتعالى له، أي للأكثرية، فالمصدر الأول للشرعية هو الله سبحانه، أما في الديمقراطية فإن مصدر الحق هو الشعب.

النتيجة واحدة: الشعب هو مصدر إعطائك هذه السلطة أو هذه القوة، لكن هل هو المصدر الأول أو المصدر الوسيط؟

في الإسلام المصدر الأول هو الله سبحانه وتعالى الذي أعطى للشعب وللناس هذه الصلاحية فهم مصدر وسيط في هذه النقطة.

الثاني: الشورى هي قيمة من القيم فيما إذا لم نفرّق بين مصطلح القيمة وبين مصطلح المبدأ لأن البعض يفرّق بينهما كما لا يخفى، لكن نحن نستخدم هنا كلمة القيمة دون تفريق أي بالمعنى الأعم الذي يشمل المبدأ..

الشورى قيمة من القيم في الإسلام والحرية قيمة ثانية فهل للشورى والأكثرية أن تلغي الحرية؟

بمعنى هل يحق لأكثرية الناس أن يعطوا صلاحيات استبدادية مطلقة للحاكم كما حدث مع هتلر؟

وعلى سبيل الفرض لو أعطى الناس هذه الصلاحية، هل للشورى أن تلغي قيمة ثانية من القيم؟

الحرية قيمة من القيم والقرآن الكريم يصرح بها (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (16) ويقول كذلك (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)(17).

إذن الشورى قيمة من القيم، والحرية أيضا قيمة ثانية، فهل للشورى أو الأكثرية أن تلغي القيمة الثانية (الحرية)؟

والقيمة الثالثة مثلاً العدل قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ)(18) فهذه قيمة، هل للشورى أن تلغيها؟

بماذا تحكم عقولنا؟ هل ترضى بنسف القيمة الأولى للثانية أو الثالثة؟ أم ينبغي أن تكون في خدمتها وتحافظ عليها لا أن تكون ناسفة لها؟ كما أن هناك قيماً أخرى عديدة، مثل: المحرمات في الشريعة الإسلامية تعد من القيم، فالخمر حرام مثلاً ولكن هل تستطيع الأكثرية أن تلغي حرمة الخمر؟ هذا هو مورد الفارق الثاني بين الشورى والديمقراطية في إطاره النظري.

وفي الإطار العملي إن أحكام الله سبحانه لا يحق للبشر تغييرها، فالآية الكريمة تقول: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)(19).

الأكثرية ليس لها الحق في ذلك نظرياً إذ فيه تجاوز للخط الأحمر الذي رسمه الله وهو مصدر التشريع ومصدر إعطاء الأكثرية شرعيتها، لكن لو فعلت ذلك، فهل بإمكان الحكومة الإسلامية - لو كانت هناك حكومة إسلامية - أن توقف تجاوز الأكثرية للخط الاحمر؟ في قضية الحجاب في قضية الخمر وفي عشرات من القضايا الأخرى، هل تجبر؟ هذه مجموعة من القيم، الأكثرية المسلمة يجب أن تعمل في الإطار الشرعي، وباعتبارها مسلمة فمن الطبيعي أن تسير في إطارها الإسلامي لكن لو فرض أن هذه الأكثرية تجاوزت الخط الأحمر. فعندها يجب أن نبحث القضية في بعدها النظري وهي: هل الأكثرية هي القيمة المطلقة أم أنها إحدى القيم؟

من منظور إسلامي هي إحدى القيم. وفي الحضارة المعاصرة أيضاً هي إحدى القيم إذ إنها لا تعتبر القيمة المطلقة الوحيدة، هناك كثير من القيود موضوعة على الأكثرية، في أبعاد مختلفة وضعت على التصرفات وعلى التعامل مع أكثرية الناس برضى منها أو دون رضاها - عبر الإكراه الأجوائي مثلاً -.

إذن الفارق الثاني في منظورنا الشرعي هو أن الأكثرية قيمة من القيم وإلى جوارها قيم أخرى ينبغي أن تحافظ الأكثرية عليها ولو حدث في يوم من الأيام نوع من الصدام بين هذه القيم فهناك مجموعة معادلات تحكم وقد أشرت إلى واحدة منها وهي (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) وفي آية أخرى (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)(20).

تفاضل القيم

وأشير إلى معادلة أخرى وهي انه ينبغي أن تلاحظ القيم أيضاً فإن بينها مفاضلة إذ ليست كل القيم في مستوى واحد فقد تكون قيمة قوتها وقيمتها أكثر من القيمة الثانية. هذا ينبغي أن يلاحظ، قيمة الحرية، قيمة الشورى، قيمة العدل، قيمة الإحسان، قيمة مجموعة أخرى من الواجبات والمحرمات، هذه القيم لها مستويات تندرج في الشرعية تحت عنوان باب التزاحم وبإشارة مختصرة جداً وبالتعبير المبسط نقول أنه:

قد يمتلك كل واحد من الطرفين المتقابلين قيمة ذاتية (لكل منهما ملاك) وهنا يحدث تعارض بين الأهم والمهم. وهذا أمر عقلي، كل إنسان في حياته يعايش هذه المعاناة، قد يحدث تعارض بين الأهم والمهم. باب التزاحم يعني: أن لكل طرف قيمة ذاتية، إلا أن هذا التصرف قد يكون أرجح من ذلك الآخر.

نحن لا نقول القيم كلها متساوية، والأمثلة التاريخية على ذلك ليست بالقليلة، ونفس سيرة الرسول الأعظم (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع) في الحكومة تكشف عن نموذج فريد. الإمام علي بن أبي طالب (ع) عندما استلم زمام الحكم وكانت امبراطوريته تشمل أكثر من خمسين دولة بجغرافية اليوم، ثلثي الكرة الأرضية كانا تحت سلطته - يعني أقوى من أمريكا هذا اليوم - أمريكا لها منافس، أوربا الموحدة مثلاً، أو في البعد الاقتصادي اليابان أو الصين مستقبلياً وربما حالياً إلى حد ما أيضاً.

لكن تلك الإمبراطورية لم يكن لها منافس هذا أولاً، وثانياً في ذلك الوقت لم تكن هناك منظمات حقوق الإنسان حتى يتخوف الحاكم من هجوم كاسح لمنظمات حقوق الإنسان عليه. لم تكن توجد دولة أخرى تخيف وتنافس ويلجأ إليها المعارضون لو ضغط عليهم، في هذا الجو وبتلك المقدرة والقوة أصدر الإمام مجموعة من القرارات في خلال فترة زمنية معينة، أحد هذه القرارات كان منع صلاة التراويح التي لم تكن في زمن النبي (ص) ولم تكن في زمن أبي بكر وإنما عمر بن الخطاب هو الذي ابتدعها وقال: (نِعْمَ البدعة هذه).

وبعد أن أصدر أمير المؤمنين (ع) قراره هذا بمنع صلاة التراويح.. وبينما كان جالساً في المسجد وإذا به يسمع ضوضاء خارج المسجد، فسأل ما الخبر فقيل له: إن هنالك جمعاً خارجون في يتظاهرون ضد الإمام علي بن أبي طالب (ع). يحتجّون ويعترضون على منعك صلاة التراويح ما الموقف الآن؟

حاكم مطلق، ثلثا الكرة الأرضية تحت سلطته، في أوج قوته ولا توجد منظمات حقوق الإنسان أو أبواق إعلامية أو أي شيء من هذا القبيل هل يعتقل؟ هل يضرب؟ هل يفرق المظاهرة بالقوة؟ الإمام أجاب بكل بساطة: حسناً فليفعلوا ما يحلو لهم.

إذا كان الواجب أن أنهاهم عن المنكر - إلى هذا الحد - من الواجب على الإنسان أن ينهى عن المنكر لكن ما وراء ذلك؟ هل يعجبهم؟ فليفعلوا ما يريدون.

إذاً هذه القيمة من القيم، محرم من المحرمات من جهة ومن جهة ثانية أصالة الحرية الموجودة في الإسلام وقانون الأهم والمهم وملاحظة سائر تبعات القضية، إن الإمام (ع) فسح لهم المجال. إنه كواجب شرعي يجب إبلاغهم بأن ذلك ممنوع ومحرم ، لكن لو رفضوا الامثال فلا سجن ولا تعذيب لا تفريق للمظاهرة لا ملاحقة لا قطع للعطاء من بيت المال، بل العكس اتركهم على حريتهم.

النماذج على ذلك ليست بقليلة في حياة الرسول الأعظم (ص) وفي حياة أمير المؤمنين (ع).

نموذج آخر: الأشعث بن قيس هذا الرجل الذي ساهم في التخطيط لاغتيال الإمام علي (ع) وبنته جعدة هي التي سمّت الإمام الحسن (ع) وإبنته محمد هو الذي شارك في قتل الإمام الحسين (ع) فأية عائلة هذه؟

الأشعث بن قيس - بنى في داره مأذنة، والإمام علي (ع) كان شخصياً يرتقي مأذنة مسجد الكوفة ويؤذن، وهذا مستحب - لأن الأذان هو رمز ارتباط الخلق بالخالق، فالأفضل أن يكون القمة في الكمالات البشرية والروحانية هو ذلك الذي يحمل هذه الرسالة - نحن نتصور أن المؤذن ذو مرتبة دانية، ولكن الأمر بالعكس، فالأمير شخصياً كان يؤذن والأشعث بن قيس بنى في بيته مأذنة وكان يرتقي هذه المأذنة بمجرد أن يعتلي الأمير المأذنة ويبدأ بالهجوم اللاذع والسباب البذيء لأمير المؤمنين، فكيف كان تعامل أمير المؤمنين وهو الحاكم لبلاد المسلمين؟ حيث كان الأشعث يقول في إحدى عباراته: أيها الرجل إنك لكاذب فاجر، وفي مواطن أخرى كان يقول له: إنك لكاذب كافر وهذه تعد أسوأ مسبة في عرف المسلمين خاصة بالنسبة لحاكم المسلمين الأعلى.

والمأذنة في ذلك الوقت بمنزلة الإعلام المسموع في هذا اليوم. وهي تعني الأداة التي توصل صوتك إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فكيف تعامل معه أمير المؤمنين (ع)؟ هنا نجد شيئين قيمة الحرية وقيمة ثانية، لا للتعدي.. إذ لا يحق لك أن تجرح شعور الآخرين، مع قطع النظر عن كونه حاكماً بل عن كونه أمير المؤمنين، أنت حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. بالنتيجة فكما أن لهذا حق، فذلك له الحق أيضاً، وأنا لا يحق لي أن أهاجم كل واحد أو أسب كل واحد، هذه قيمة من القيم لكن كيف تعامل الأمير مع هذا الأمر؟

رجح جانب الحرية على هذا الجانب، الأصحاب يضغطون عليه إذ أنهم لا يتحملون ذلك إنه حاكمهم المحبوب أميرهم وإمامهم، وذلك عبّر عنه الرسول (ص): (يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(21)، وغيرها من العبارات المختلفة. قيل له هذا يسب جهاراً وفي وضح النهار ولأيام طويلة، فضغطوا على الأمير لكي يعتقله فرفض الأمير، ضغطوا لكي يمنعه رفض، ضغطوا لكي يهدم مأذنته رفض الإمام وقال: أو ليس قد بناها في داره؟

إذن الحرية قيمة من القيم، الأكثرية قيمة من القيم، العدل والإحسان قيمة من القيم، المحرمات والواجبات كلها قيم مختلفة، هذه القيم ينبغي أن تلاحظ بشكل مجموعي ثم نفرز المحصلة النهائية.

قد تكون القضية في بعض المواطن لصالح الأكثرية أو لصالح الحرية كالأمثلة التي ذكرتها لكم عندما يحدث التعارض حسب قانون الأهم والمهم. وقد يكون أحياناً الأمر لصالح ذلك الجانب الآخر مثل قيمة العدل كنموذج.

البحوث حول الشورى وحول الأكثرية بحوث عديدة وفي جوانب متعددة لكن نكتفي بهذا المقدار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لكي نكون في سيرتنا العملية ممن تجلى فيه هذا المبدأ إن شاء الله.

* - صيغت بتصرف من محاضرة القاها سماحته في مركز كربلاء للدراسات والبحوث في لندن قبل شهرين من صدور هذا العدد وتضمنت بعدها أسئلة وأجوبة تأتيكم في عدد قادم إن شاء الله تعالى. 

1- مجمع البحرين، الشيخ الطريحي، ج3، ص223، مادة: ع ق ل. 

2- البحار: ج1 ص137، كتاب العقل والجهل ح300 مؤسسة الوفاء، بيروت. 

3- البحار: ج1 ص97، كتاب العقل والجهل ح8 مؤسسة الوفاء، بيروت. 

4- روي أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم عليّ منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي. البحار: ج1 ص97، ح9. 

5- ورد عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة الخطبة الأولى: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة..). 

6- الروم: 30. 

7- نهج البلاغة: كلمة رقم 211. 

8- المصدر السابق. 

9- راجع شرح المنظومة للحاج هادي السبزواري/ بحث الوجود الذهني. 

10- البقرة: 29. 

11- قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) البقرة، 22. 

12- البحار، ج62، ص291، رواية 72، ب89. 

13- المرجع الديني الأعلى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) (المحرر). 

14- البحار: ج72 ص100 باب48 ح16، مؤسسة الوفاء. 

15- البحار: ج72 ص104 باب48 ح38، مؤسسة الوفاء. 

16- البقرة: 256. 

17- الغاشية: 21 و22. 

18- النحل: 90. 

19- الغاشية: 21 و22. 

20- ق: 45. 

21- بحار الأنوار، ج21، ص142، رواية5، ب27.