مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000


علم الاقتصاد والنقود



محمد آدم

المقايضة توطئة للنقود

النقود في اقتصاد المبادلة

النقود

قلة كمية النقود المتداولة

فائض النقود بالنسبة للحاجات

وظائف النقود وتعريفها

يستطيع كل متأمّل للممارسة الاقتصادية الحديثة، أن يتبين الدور الفعّال للنقود. فجميع العلاقات الاقتصادية بين الأفراد تقوم بالنقود، ولقد نشأت النقود وتطورت مع تطور اقتصاد المبادلة أي اقتصاد السوق، ومن ثم فهي لم توجد دائماً في كل المجتمعات وإنما وجدت مع وجود المبادلة وتطورت عبر تاريخه(1).

فالنقود بدأت كسلعة تقبل في التداول كقيمة استعمال، أي لإشباع حاجة معينة، ثم تطورت لتصبح أداة الأفراد في الحصول على السلع الأخرى التي تشبع حاجاتهم عند التبادل، ثم آلت في اقتصاد المبادلة إلى أن تكون قيمة في ذاتها لما تتمتع به من قبول أفراد المجتمع ل(2).

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه إلى جانب هذا الدور الفعّال للنقود، فإنها قد تؤثر تأثيراً عكسياً على الاقتصاد القومي، وذلك إذا ما أسيء إصدارها من حيث النوع أو الكمية، أو التوجه إلى الأنشطة الاقتصادية بغير الكمية الضرورية.

وتهدف دراستنا لموضوع النقود إلى إبراز دورها في الاقتصاد القومي، وشرح المبادئ الأساسية للنظم النقدية المختلفة، وكذلك دور المؤسسة النقدية والمالية، خاصة أن النقود في الاقتصاد الرأسمالي أصبحت قضية مصرفية، ذلك أن البنوك أصبحت تخلق النقود.

مما تقدم يتعين أن نستهل دراستنا بالمعرفة الأساسية عن النقود والخاصة بنشأتها وتطورها ووظائفها، دورها في النظم الاقتصادية المختلفة، أنواعها والأسس التي يعتمد عليها الأفراد في قبولهم لها مقابل ما يؤدونه من أعمال أو ما يتنازلون عنه من سلع.

هذه المعرفة الأساسية تؤدي بنا إلى الانتقال - بعد أن تأكد لنا أن النقود ليست مجرد وسيط في المبادلات ومقياس للقيمة، بل عنصر هام من عناصر الاقتصاد يؤثر في النشاط الاقتصادي تأثيراً فعالاً - إلى دراسة قيمة النقود والنظرية المختلفة الخاصة بتقدير هذه القيمة.

النقود

هي كل ما يتمتع بقبول عام، أي بقبول من كل أفراد المجتمع لها كوسيط في مبادلة السلع والخدمات، فالنقود أداة اجتماعية لها تاريخها. والنقود ظاهرة اجتماعية، كونها جزءاً لا يتجزأ من النشاط الاقتصادي، الذي هو بطبيعته نشاط اجتماعي، وهي لا تتمتع بصفتها هذه إلا بقبول أفراد المجتمع لها، هذا القبول الذي تحقق من خلال عملية تاريخية طويلة..

وبذلك يكون للنقود تاريخها، إذ ابتدعتها رغبة الجماعات إلى توسيع التبادل فيما بينها، فنشأتها مرتبطة بنشوء اقتصاد المبادلة الذي يفترض تقسيم العمل والفائض الاقتصادي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ويدعم وجودها بازدياد التخصص وتقسيم العمل مع تطور النشاط الاقتصادي(3).

النقود في اقتصاد المبادلة

يشترك جميع أفراد المجتمع في استخدامهم للنقود في حياتهم اليومية، فالعامل يحصل على أجر نقدي يمثل دخله، مالك الأرض يحصل على ريع الأرض هو دخله النقدي، وصاحب رأس المال يحصل على الربح والفائدة والتي تمثلان الدخل النقدي له..

كما يشترك جميع أفراد المجتمع في ضرورة تخليهم عن بعض من الدخل النقدي، فإن كلاً من العامل ومالك الأرض والرأسمالي يقوم كمستهلك بشراء السلع والخدمات في مقابل النقود، فإذا ما زاد دخله عن نفقاته، فإنه يحتفظ بما يزيد من هذا الدخل، وعادة ما يتم ذلك في بنك أو مؤسسة مالية نظير فائدة معينة.

في هذه الاستعمالات اليومية، تعرض النقود بصور عديدة، النقود المعدنية، النقود الورقية، النقود المصرفية، الشيكات، كل هذه الصور تشترك في أن جميع أفراد المجتمع يقبلونها في التعامل.

وكل هذه الاستعمالات والصور المتقدمة للنقود، نجد أن النقود لابد أن تكون مرتبطة بعمل مبادلة، فالنقود كظاهرة اجتماعية، اقتصادية، ترتبط كل الارتباط بإنتاج المبادلة، تظهر معه وتأخذ صوراً مختلفة في مراحل تطوره المختلفة..

والنقود لم توجد على الوجه التي هي عليه الآن في اقتصاد المبادلة، إلا من خلال تطور تاريخي واكب تطور إنتاج المبادلة، فالإنتاج الطبيعي - الاستهلاك الذاتي داخل الوحدة - وهو ليس إنتاج مبادلة.. لم يكن يسمح بنشأة وتطور النقود(4).

لكن في مرحلة تالية مرتبطة بوجود فائض اقتصادي، أي كمية من الناتج الصافي تزيد على ما يعد استهلاكاً ضرورياً للمنتجين المباشرين في ظل الظروف الاجتماعية والفنية السائدة، فظهر الإنتاج بقصد المبادلة، أما في صورة تبادل الهدايا أو إجراء المبادلة العينية أي المقايضة في صورتها الأولى(5).

ومع مرور الوقت يتم إنتاج جزء من المنتجات بقصد مبادلته بهدف المقايضة، ساعد على ذلك ازدياد النشاط الحرفي إلى جانب النشاط الزراعي الذي يسمح بإنتاج فائض زراعي يعيش عليه من يعملون بالنشاط الصناعي، وأدى انتشار ظاهرة المقايضة أن بدأ المنتج لا يعيش على ناتج عمله وإنما على عائد عمله، الذي يوجهه لإنتاج السلع بغرض المبادلة المباشرة (أي المقايضة) في مرحلة أولى، ثم بهدف المبادلة بواسطة النقود في مرحلة تالية، وهنا تلعب النقود دورها في علاقة التبادل هذه(6).

المقايضة توطئة للنقود(7)

المقايضة، تعني مبادلة سلعة بسلعة أو خدمة بخدمة، أو سلعة بخدمة، وذلك دون استخدام للنقود، كمبادلة قمح بماشية مثلاً، أو استئجار خدمات بعض الأفراد في عملية زراعية مقابل حصولهم على قدر من المحصول العيني.

كانت الغاية من الإنتاج في العصور البدائية هي إشباع حاجات المنتجين المباشرين أي إنتاج السلع والخدمات كقيم. وبذلك كان الهدف من الإنتاج هو تحقيق الاكتفاء الذاتي ولكن بظهور تقسيم العمل والتخصص في العملية الإنتاجية بين خدمة وأخرى في مرحلة معينة، بدأ انتشار المبادلات التي تقوم في هذه المرحلة على المقايضة، ودون حاجة إلى وسيط نقدي وفقاً لظروف كل حالة تبادل.

والمقايضة بالمعنى المتقدم تستوجب سوقاً معينة تتقابل فيه رغبات العرض والطلب، في زمن معين وبطريق محدد، وعدم تحقق كل أو بعض تلك العروض، تتضح صعوبات المقايضة والتي تتمثل فيما يلي:

1- صعوبة توافق رغبات المتبادلين:

تحقيق المبادلة على أساس المقايضة يفترض رغبة كل طرف في الحصول على السلعة المقدمة من الطرف الآخر كمية ووصفاً، الأمر الذي يصبح معه كل طرف عارضاً لسلعته وطالباً لسلعة الطرف الآخر.

وتتضح صعوبة تحقيق هذا العرض إذا ازداد عدد الأطراف وعدد السلع بذلك تكون المقايضة قد تطورت، وأصبحت وسيلة صالحة للمبادلات، حيث أدت في مرحلة معينة إلى ظهور شكل آخر من أشكالها، ذلّل صعوبتها، تمثل هذا الشكل في النقود المعدنية.

وظائف النقود وتعريفها

1- وظائف النقود:

تبين لنا من تطور نشأة النقود أنها جاءت للقضاء على صعوبات المقايضة من ناحية، ولتيسير عمليات التبادل التي زاد حجمها زيادة كبيرة من ناحية أخرى، ومن خلال هذا التطور الذي كان يأتي دائماً لكي يلبي حاجات المجتمع يمكن جمع وظائف النقود في قسمين:

* الوظائف الأساسية.

* الوظائف الثانوية أو المشتقة من الوظائف الأساسية(8).

وهناك وظيفتان أساسيتان للنقود:

* هي وسيط للتبادل.

* هي مقياس مشترك للقيمة.

وثلاث وظائف ثانوية أو مشتقة وهي:

* تستخدم كمستودع للقيمة.

* تستخدم كمعيار للمدفوعات الآجلة.

* تستخدم كاحتياط لقروض البنوك.

ولنشرح باختصار كل وظيفة على حدة:

(أ) النقود كوسيط للتبادل:

كانت صعوبات المقايضة سبباً في ظهور هذه الوظيفة، ولذلك تعتبر أقدم وظيفة للنقود هي قياسها كوسيط للتبادل، فهي وسيلة لنقل ملكية السلع والخدمات من طرف إلى طرف وبالتالي فهي (قوة شرائية) تسهّل التبادل بين طرفين دون الحاجة إلى البحث عن طرف ثالث على أساس أن أداة التبادل هذه تحظى بالقبول العام، وتمكن من حصول (تقسيم العمل) حتى تتحقق نتائج التبادل بصورة طبيعية متواصلة.

(ب) النقود كمقياس مشترك للقيمة:

الوظيفة للنقود استخدامها لقياس قيم السلع والخدمات ونسبة قيمة كل سلعة إلى غيرها من السلع. وفي هذه الحالة تصبح النقود معدلاً للاستبدال وخاصة بين السلع الكبيرة الحجم التي يصعب تجزئتها إلى وحدات صغيرة دون أن تفقد قيمتها. ومن هذه الوظيفة اشتقت وظيفة فرعية هي استخدامها كوحدة للتحاسب فالوحدة النقدية لأي دولة هي وحدة تقاس بها قيم السلع والخدمات في المجتمع. فإذا كان يمكن مبادلة آلة معينة بعشرين طن من الحنطة وكان ثمن الحنطة عشرين ديناراً، فإن هذا يعني أن ثمن الآلة 400 دينار، وفي حالة تواجد النقود ليس من الضروري أن يكون كل طرف محتاجاً لسلعة الآخر، وإنما يكفي تقديم النقود للحصول على السلعة وهكذا قضت هذه الوظيفة على صعوبات المقايضة التي كانت تقتضي ضرورة وجود اتفاق مزدوج للحاجات بين الطرفين، كما يسّرت حسابات التكاليف النسبية للمشروعات البدائل في الإنتاج وكل ما يتصل بالإنتاج من حسابات أخرى، وكذلك لتوزيع الأرباح، وتظهر أهمية هذه الوظيفة كلما كانت الوحدة النقدية ثابتة القيمة نسبيا.

(ج) النقود كمستودع للقيمة:

ليس من الضروري لمن يحصل على النقود أن يقوم بإنفاقها في الحال ولكن الذي يحدث عملياً أن الفرد ينفق جزء ويدّخر جزء آخر ليقوم بالشراء في فترات لاحقة، وطالما أن الفرد لا يحتفظ بالنقود لذاتها وإنما بقصد إنفاقها في فترات لاحقة، أو لمقابلة احتياجات طارئة، فإن النقود في هذه الحالة تقوم بوظيفة مخزن للقيمة، خاصة وأنها تتميز بسهولة حفظها، كما أنها تجنّب الفرد تكاليف التخزين والحراسة، فضلاً عن أن حفظ السلع لفترات طويلة قد يعرضها للتلف.

ولكن يشترط لكي تؤدي النقود هذه الوظيفة على الوجه الأكمل، أن تحتفظ بقيمتها النسبية لفترة طويلة، وهذا يعني الثبات النسبي لكل من العرض والطلب حتى يظل مستوى الأثمان ثابتاً. ولكن قيام الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث أدى إلى الارتفاع المطرد لأثمان السلع والخدمات مما ترتب عليه انخفاض قيمة النقود.

وفي مواجهة ذلك لجأ الأفراد إلى الاحتفاظ بالقيمة في صورة أسهم وسندات وبعض السلع المعمرة كالعقارات وغيرها. ومن مزايا الاحتفاظ بالقيمة في هذا الشكل أنه يدرّ عائداً لصاحبه في صورة ربح أو فائدة أو ريع، فضلاً عمّا تحققه من أرباح رأسمالية إذا ما ارتفعت الأسعار ولكنها من ناحية أخرى قد تحقق له خسائر رأسمالية إذا انخفضت الأسعار. ومع ذلك قد يفضل الأفراد الاحتفاظ بالقيمة في صورة نقود لأنها تعتبر أصل كامل السيولة خاصة وأن هناك دوافع تقتضي الاحتفاظ بالقيمة في هذا الشكل منها دافع المعاملات ودافع الاحتياط ودافع المضاربة.

(د) النقود كمعيار للمدفوعات الآجلة:

عندما أصبح الإنتاج للسوق أدى التخصّص وتقسيم العمل إلى كبر حجم الوحدات الإنتاجية ومنعاً لتكدس المنتجات واستمرار الإنتاج اقتضى النظام الاقتصادي تسويق المنتجات على أساس العقود.

فالعقد يتمّ في الوقت الحاضر على أساس أثمان معينة والتسليم يتمّ في وقت لاحق، لذلك كان لابد من معيار يتم على أساسه تحديد الأثمان، وقد استطاعت النقود أن تقوم بهذا الدور.

وفي مقابل قيام الشركات بالإنتاج الآجل قامت البنوك بإقراض الشركات لتمويل المستودعات، وبذلك يسّرت النقود التوسيع في عمليات الائتمان، وكذلك استطاعت الحكومات أن تحقق مشروعاتها على طريق إصدار السندات، فتحصل بمقتضاها على الأموال اللازمة على أن يتمّ سداد القرض في آجال لاحقة. وهنا نجد أن النقود قد استعملت كوسيلة للمدفوعات الآجلة وإذا كنا قد لاحظنا أن النقود تفقد صفتها كمستودع للقيمة في أوقات التضخم العصيبة، فإنها تفقد أهميتها كمعيار للمدفوعات الآجلة كلما تزعزعت ثقة المتعاملين فيها وعندئذٍ يقلّلون من التعاقد للمستقبل، لذلك يشترط لكي تقوم النقود بهذه الوظيفة أن تظل محتفظة بقيمتها لفترة طويلة نسبياً، أي لابد من توافر الثقة بين المدين والدائن، بأن وحدة النقود لن تتغير قيمتها عند وقت السداد عنها في إبرام العقود.

(هـ) النقود الاحتياطية لقروض البنوك:

إن وجود كمية من النقود في البنوك من شأنها تمكين البنوك من إقراض عملائها وتيسير عمليات الائتمان والاقتراض، فإذا كان لدى المتعاملين مع البنوك مبلغ من النقود فإنهم يستطيعون على أساسه (سواء أودع في البنك أم لم يودع) أن ينالوا قرضاً أو يفتح لهم اعتماد.

2- تعريف النقود:

من دراستنا لماهية النقود ووظيفتها يمكن أن نلخص بالتعريف التالي، النقود: هي الشيء الذي يلقى قبولاً عاماً في التداول، وتستخدم وسيطاً للتبادل ومقياساً للقيم ومستودعاً لها، كما تستخدم وسيلة للمدفوعات الآجلة واحتياطي لقروض البنك، أي أنها مجموعة وظائفها التي ذكرناها ولذلك فإن التعريف الموجز للنقود هو (أن النقود: هو كل ما تفعله النقود) فإذا وافقنا على هذا القول فإننا نكون قد أكّدنا بأن أي شيء يقوم بوظيفة النقود يكون بالفعل نقوداً، أي أن العملة المسكوكة الذهبية والفضية والأوراق التي تصدرها الحكومة، والأوراق التي تصدرها البنوك والشيكات، وكمبيالات التبادل وحتى السندات (بحسب اعتبارها نقود) ولو أنها كلها لا تؤدي وظائف النقود بذات المستوى والكفاءة. وأفضل أنواع النقود هو الذي يستطيع أن يؤدي وظائفها على أتم وجه، أي أن يتمتع بصفة القبول العام بحرية تامة، وهنا يمكن القول أن العملة ذات القيمة الموجودة فيها (كالعملة الذهبية والفضية) هي أكثر أنواع النقود قبولاً، وتليها العملات التي تتمتع بثقة الجمهور أكثر من غيرها لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، وهكذا حتى نهاية سلسلة أدوات التبادل التي يمكن أن تدخل ضمن تعريف النقود.

3- مكانة النقود وأهميتها في النظم الاقتصادية المختلفة:

أ – النقود في الاقتصاد الرأسمالي:

لقد كانت الفكرة التي سيطرت على جميع النظريات (المركانتيلية) القديمة من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، هي أن النقود هي الشكل الأمثل للثروة، أو (سيدة الثروات) وهي فكرة ترتكز على الإيمان الجازم بهيمنة الثروة النقدية - أو بعبارة أوسع المعادن الثمينة على سائر أشكال الثروات وأنواعها.

وكانت سياسة الدول في ذلك الحين تتجه نحو زيادة الموجود من النقود في البلاد، صحيح أن هناك نظريات مركانتيلية عدة، لكنها جميعاً كانت تضع نصب أعينها هدفاً أساسياً واحداً، هو زيادة الاحتياطي من النقود المعدنية في البلاد ومن أجل الوصول إلى ذلك اهتمت الحكومات بتشجيع تصدير البضائع والحد من الاستيراد. لكن المبدأ لم يدم طويلاً، حين ظهر خطأه سريعاً إلى أن اختفى ولم يعد يظهر إلا في حملة آراء الاقتصاديين التقليديين والواقع أن النقود - حتى الذهب والفضة - ليست شيئاً بحد ذاتها، إنها ليست سوى واسطة للتبادل من الوجهة الاجتماعية، وهذه الوظيفة واسطة للتبادل، يمكن أن تمارس بصورة تامة ولو كانت النقود من النوع الذي ليست فيه قيمة حقيقية بحد ذاتها كالنقود الورقية أو التي ليس لها سند مادي.

أما إذا لم ننظر إلى الموضوع من وجهته الاجتماعية ونظرنا إليه من وجهته الفردية فإن من البديهي الملاحظة بأن من يحوز على نقود يستطيع أن يحصل مقابلها في السوق على أي سلعة يشاء وفي أي وقت يشاء، وذلك بفضل الوظائف التي تعطي النقود قوة شرائية عالية حيال سائر أنواع السلع والثروات الأخرى، ولكن الخلط بين الدور الفردي الذي تقوم به النقود والدور الاجتماعي هو الذي قاد بعض الاقتصاديين التقليديين ولاسيما المركانتيليين إلى إعطاء النقود مكانة الصدارة على سائر الثروات بحيث أصبحت (سيدة الثروات) ولكن إذا أخذ في الاعتبار أن النقود ليست لها منفعة مباشرة بحد ذاتها، وأن من يحوزها لا يستطيع أن يحصل على ما يريد من السلع إلا إذا وجدت هذه السلع بالفعل في السوق وفي الوقت المطلوب، فإننا نجد أنه يجب أن توجد في السوق سلع يكون عرضها قادراً في كل لحظة على مواجهة الطلب الناجم من استخدام النقود، فإذا لم توجد هذه السلع في السوق، وإذا كانت أداة الإنتاج غير منظمة بحيث تستطيع أن تلبي حاجة الطلب عندما يتزايد الطلب، فإن هذا الطلب سوف يتجاوز العرض وترتفع بالتالي الأسعار إلى الحد الذي يؤدي فيه ارتفاع الأسعار إلى تنحية قسم من المشترين، أولئك الذين يكونون أقلّ استعمالاً للشراء أو الذين يكونون في حوزتهم نقود أقل.

وهكذا فإن الوجهة الفردية فيما يتعلق بالنقود لا ينبغي أن تحجب الوجهة الاجتماعية فعندما يولد عدم توافق في تطور هاتين الوجهتين مع بعضها بصورة منسجمة أي عندما يحوز الأفراد على مبلغ من النقود تمنحهم قوة شرائية تفوق ما هو معروض للبيع فإن هذه القوة الشرائية تضعف ويفقد هؤلاء الأفراد جزءاً من منفعة النقود الموجودة بحوزتهم.

ولتكوين فكرة واضحة عن أن النقود ليست شيئاً من الوجهة الفردية إذا كانت لم تقترن بإنتاج موازي للسلع من الوجهة الاجتماعية فإنه يكفي أن نتصور اقتصاداً تكون فيه الموجودات من النقود مكتنزة عند الأفراد دون مقابلها من سلع وخدمات بقصد البيع، ففي مثل هذه الظروف إذا أراد الأفراد أن يستخدموا نقودهم للحصول على السلع والخدمات وإن العرض الذي يفترض أن يواجه طلبهم يكون مصوناً وتفقد النقود قوتها الشرائية ولا يعود لها مطلقاً أي منفعة من الوجهة الفردية.

نستخلص مما تقدم أنه عندما نسعى إلى تحديد مكانة النقود وأهميتها في الاقتصاد الرأسمالي فإن علينا تجنّب الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه (المركانتيليون) وغيرهم في الماضي وإذا انطلقنا من وظائف النقود التي شرحناها فإننا نلاحظ فائدة دراستنا للظواهر النقدية، ذلك لأن النقود تسهل التبادل من كل نواحيه، كذلك فإن وظيفة النقود المتعلقة بحفظ قيمة النقود لهي وظيفة لا غنى عنها لتمكين الاقتصاد القائم على المبادلة من أن يتطور وينمو.

والواقع أن الاقتصاد الرأسمالي يرتكز على أساس ملكية الأفراد لأدوات الإنتاج، وإن الإنتاج هو إنتاج تلقائي يتم عن طريق قوى السوق وجهاز الأثمان الذي يلعب الدور الحيوي في توزيع القوى الإنتاجية، بعبارة أخرى السوق وحركات الأثمان هي الأساس في التنسيق في الاقتصاد الرأسمالي، وفي هذا الاقتصاد لا تكمن أهمية النقود فقط في كونها وسيطاً للتبادل، بل هي تدخل في معاملات السوق على هيئة الأثمان، فإن كل طلب على سلعة يوجد مقابله عرض للنقود، والعكس بالعكس.

ونحن نعلم أن الأثمان تتشكل في النظام الرأسمالي عندما يحدث توازن بين الكمية المعروضة والكمية المطلوبة. وبما أن كل عرض للنقود يجب أن يقابله طلب على السلعة والعكس بالعكس لذلك فمن الضروري أن تكون كمية النقود قيد التداول كافية بالنسبة للحاجات ولكن ليس أكثر منها. حتى لا يختل المستوى العام للأثمان بسبب تزعزع كمية التداول النقدي. أي لا يجب أن ترتفع الأثمان بسبب فائض في كمية النقود المتداولة، أو تنخفض الأثمان بسبب شحّ في النقود المتبادلة.

ولكي يبقى المستوى العام للأثمان ثابتاً مستقراً فإنه يجب أن يبقى توازن بين كمية النقود المتداولة وكمية السلع المتبادلة، ويجب أن تتوازى كمية النقود مع الحاجات ومع كمية المنتجات المعروضة. وإلا فإن مستوى الأثمان يتعرّض لهزات سيئة وكذلك المستوى العام للأثمان أي القوة الشرائية، ويمكن أيجاز كيفية حصول تلك الهزات بما يلي:

فائض النقود بالنسبة للحاجات

وهي الحالة التي تكون فيها قوة شرائية أكبر من اللزوم ويقبل الحائزون على هذه النقود على استعمالها وينجم عن ذلك أن الطلب يصبح أقوى من العرض فترتفع الأثمان ويحجم المشترون الحائزون على كميات قليلة من النقود أو غير المتعجلين على الشراء، ويعود التوازن بعد ذلك بين الكميات المعروضة والكميات المطلوبة ولكن بمستوى أثمان أعلى من الماضي.

وبذلك نرى أنه كلما كان ارتفاع الأثمان كبيراً كلما أدى ذلك إلى تضعضع اقتصادي وإلى اختلال في التوازن التعاضدي: فالدائنون الذين أقرضوا في الماضي نقوداً ذات قوة شرائية معينة سوف يجدون تلك النقود عند استيفائهم لها قد هبطت قوتها الشرائية، كما أن المدخرون الذين ادخروا نقودهم وهي بقوة شرائية معينة لا يلبثون إلا أن يروا تلك القوة الشرائية قد تدنّت.

وهذا يفسر لماذا يخشى الناس من وقوع تضخم نقدي. والتضخم هو زيادة غير عادية بل مرضية في كمية النقود المتداولة بالنسبة للحاجات، وهذه الزيادة يعقبها كما رأينا ارتفاع في الأثمان. ويلاحظ، أن هناك من ينظرون إلى ظاهرة التضخم نظرة سطحية، فيعتبرون أن كل زيادة في كمية النقود المتداولة يعني تضخماً نقدياً مرضياً، دون أن يتبيّنوا أن مفهوم التضخّم ليس مفهوماً مطلقاً بل هو مفهوم نسبي يجب أن لا يقدر فقط بالنسبة لكمية النقود المتداولة بل أيضاً بالنسبة للحاجات التي توضع كميات النقود لمواجهتها. بعبارة أخرى إذا أردنا أن نعرف إذا كان هناك قدر غير لازم في كمية النقود المتداولة، أو إذا كان هناك مشكلة في هذه الكمية فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار في نفس الوقت كمية النقود المتداولة من جهة وكمية السلع المعروضة في السوق من جهة أخرى.

وهكذا فإن أي زيادة في كمية النقود المتداولة لا تعني حدوث تضخم نقدي إذا كان هناك تزايد معادل في كمية المنتجات والسلع المتداولة. ويؤدي هذا بنا إلى دراسة الهزات التي تحدثها قلة النقود وعدم كفايتها بالنسبة لحاجات الطلب.

قلة كمية النقود المتداولة بالنسبة للحاجات

تعود هذه القلة إلى هزات أكثر عنفاً من الفائض حيث أن الدور الأساسي الذي تلعبه النقود هو دور التبادل والتداول. فإن لم تكن في التداول كمية من النقود كافية لمواجهة تداول السلع والمنتجات فإن التبادل يتعرقل ويصاب الجهاز الإنتاجي بالشلل، ولا يكون هناك سبيل لتصريف المنتجات وتتوقف المشروعات ويتعرض العمال للبطالة، وهذا ما يسمى بـ(الأزمة الاقتصادية).

وفي الأزمات الاقتصادية يتعرض المدّخرون إلى خسائر جزئية أو كاملة، حيث لا يقبل الأفراد الادّخار من أجل الاستثمار بل إنهم ينصرفون إلى اكتناز نقودهم وبذلك تُسحب كميات كبيرة من النقود في التداول فيفقدها الاقتصاد القومي وتشل حركة تيارات المنتجات، ومن جهة أخرى يقل الإنتاج حتى يتعادل مع العرض القليل للنقود.

ولمواجهة هذه الحالة يجب خلق نقود جديدة (أي إصدارها) والقذف بها في التداول، وبذلك تعود المشروعات للعمل متيحة انتعاش الطلب ويعود دافع الربح - الذي هو هدف الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي - كما تعود الثقة لدى الأفراد أصحاب النقود التي طرحت وقت الأزمة بغية تفادي وجود فائض من النقود في التداول عن الحاجة إليها أي بغية تفادي وقوع تضخم نقدي.

يتضح مما تقدم الأهمية المتزايدة للنقود في الاقتصاد الرأسمالي.

ب - النقود في الاقتصاد الاشتراكي(9):

تتحدد طبيعة الإنتاج الاشتراكية بأن علاقات الإنتاج فيها تقوم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وبأن الإنتاج يهدف إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وبأن العملية الاقتصادية عملية مخططة.

وفي هذا النظام الاقتصادي تتداول النقود بين الأفراد، كما تتداول الشيكات والكمبيالات في المعاملات الكبيرة بين المشروعات المملوكة ملكية جماعية، ولكن على خلاف النظام الاقتصادي الرأسمالي لا نجد تأثير النقود على الأسعار في المعاملات. ذلك أن حركة الأسعار لا تتحدّد بالسوق (العرض والطلب) وحجم الإنتاج لا يتأثر بحركة الأسعار وبالتالي بدافع الربح النقدي، فالنظام الاقتصادي تحكمه خطة شاملة تضعها الدولة تهدف بها إشباع الحاجات الاجتماعية، ومن هذا المنطلق فخطة الإنتاج أساس النظام النقدي. وعلى هذا الأساس، تقوم الدولة بتحديد كمية النقد المطلوبة وكيفية توزيعها على القطاعات الإنتاجية المختلفة. وهذا يقودنا إلى أن وظيفة الاقتصاد الاشتراكي تتمثل فيما يلي:

تستخدم النقود كأداة للتداول بين الأفراد، ولكن طبيعة هذه الوظيفة تختلف عنها في الاقتصاد الرأسمالي، فالاقتصاد الاشتراكي تسوده فكرة المنفعة أو قيمة الاستعمال في حين تسود فكرة قيمة المبادلة الاقتصاد الرأسمالي. وبذلك يكون استخدام النقود لا كواسطة لمبادلة سلع من مالك لآخر، وإنما كوسيلة لتوزيع المنتجات التي أعدت للتوزيع لا للبيع في سوق بثمن يتحدد بقيمة المبادلة وبالعلاقة بين العرض والطلب.

تستخدم النقود في الاقتصاد الاشتراكي كأداة للتحاسب، ولكن أداءها لهذه الوظيفة يختلف عنه في الاقتصاد الرأسمالي، فليس الغرض من التحاسب هو تحديد الربح المستهدف، وإنما تستعمل النقود للمعاملات الكبيرة، كبيع يتم بين مشروعات الدولة، ويتخذ هذا البيع هنا صورة الشيكات والكمبيالات، والغرض المنشود هو التأكد من كفاءة المشروع، ولهذا تكون النقود أداة لتحديد كفاءة المشروع، أي أداة لإنتاج أقصى قدر من المنتجات بأقل جهد بشري ممكن.

قد تستخدم النقود في الاقتصاد الاشتراكي أداة ادّخار، ولكنها لا تقوم في هذا الاقتصاد مطلقاً بوظيفة الاستثمار، فلا يمكن للفرد أن يصبح رأسمالياً بشراء وسائل الإنتاج، ولا يمكن للنقود أن تلد نقوداً عن طريق الائتمان، وإنما يمكن للفرد أن يشتري سنداً من سندات الدولة ويحصل عنه فائدة، ولكن أهمية هذا التوظيف في أن الدولة تعطي أجوراً معينة، فمن كانت حاجته كبيرة أنفق كل دخله، ومن كان غير ذلك استطاع أن يعيد الزيادة في دخله إلى الدولة ليزداد بها الإنتاج فالنقود هنا جزء من خطة التوزيع، أما الفائدة فتدفع لحث الأفراد على إعادة الفائض عن حاجتهم إلى الدولة.

وبذلك يمكن القول أن النقود يمكن أن تستخدم أداة ادّخار واستثمار في يد الدولة دون غيرها كما كانت قبل ذلك أيضاً أداة اقتصادية في يد الدولة تمارس بواسطتها رقابتها على الإنتاج وعلى توزيع المنتجات.

إن النقد وغيره يسمى بالعمل المجسّم في علم الاقتصاد وهو يشمل جميع قيم النقد(10).

1- دروس في الاقتصاد النقدي/ محمد دويدار ص4. 

2- التحليل النقدي/ د. عبد الهادي علي النجار ص5. 

3- الاقتصاد النقدي/ المرجع السابق ص21. 

4- التحليل النقدي/ د. عبد الهادي علي النجار. 

5- كانت الصورة الأولى للمقايضة تتم من خلال بعض المنتجات من جانب طرفي عملية المقايضة، ثم يختفي هذا الطرف ليأتي الطرف الثاني ليترك ما يود أن يتخلى عنه بدوره، ويعاود بعد ذلك الطرف الأول الظهور ليختار ما يروق له من متروكات الطرف الثاني، وإلا أنقص مخلفاته هو ليعطي الطرف الثاني فرصة رؤية ما تركه بعض أنقاصه/ مشار إليه دروس في التحليل النقدي ص15. 

6- الاقتصاد النقدي المرجع السابق ص14. 

7- النقود والبنوك/ د. فؤاد موسى/ الفصل الأول. 

8- الاقتصاد السياسي/ د. أمين حافظ ص3. 

9- التحليل النقدي/د. عبد الهادي علي النجار ص37 و38. 

10- الاقتصاد/ سماحة السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).