مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

العوامل المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع من الناحية السلوكية

الدين ودوره في الضبط الاجتماعي

د. سعد الامارة

عمليات تكوين الذات

الروابط الاجتماعية

التنشئة الأسرية والاجتماعية

سلوك الفرد واكتساب المعايير 

الهوامش

الدين وتكوين الاتجاهات

الدوافع الاجتماعية

الدين ودوره في الضبط الاجتماعي

مقدمة

إن للعلوم الإنسانية دوراً كبيراً في فهم السلوك الإنساني ودراسته وكيفية توجيهه وإرشاده في مراحل الحياة المختلفة، وكان لاهتمام علم النفس العام وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الدور الفعال في تحقيق النجاحات لفهم هذا السلوك، وتفسيره وإدراك العوامل المؤثرة فيه، وإمكانية التنبؤ بسلوك الفرد في المواقف الاجتماعية المختلفة، بغية التحكم في هذا السلوك وتوجيهه، من هنا برزت أهمية الدراسات النفسية الاجتماعية ودراسة العوامل المؤثرة في حياة الفرد كعضو في المجتمع تتحدد خصوصية وجوده من خلال ما يقدمه من خير أو سوء للآخرين، ودوره الاجتماعي الذي رسمته شخصيته في سنوات تكوينه الأولى…

إن الدراسات الاجتماعية ساهمت بمجهودات كبيرة في تعميق فهم الطبيعة الإنسانية، وعلاقة الفرد (الإنسان) بالأفراد الذين يعيشون معه في المجتمع، وعلاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى وأساليب ضبط السلوك وتعديله عند الفرد بتعامله مع البيئة الاجتماعية وكيفية الموائمة مع المعتقد والقيم الاجتماعية لدى الأفراد في المجتمع وإمكانية الحفاظ عليها دون المساس بها وبالآخرين، ودور القيم الدينية في التنشئة الأسرية والاجتماعية على الفرد، وتهذيب سلوكه باتجاه السواء الاجتماعي ليتفاعل مع الآخرين من خلال ما اكتسبه من سلوك قيمي يمثل الدين مؤكداً على قبول الآخر كفرد في الجماعة البشرية، يتفاعل معه اجتماعياً ووجدانياً.

سلوك الفرد واكتساب المعايير الاجتماعية

تشكل المعايير الاجتماعية المكتسبة من الأسرة أو التنشئة الاجتماعية فعلاً قوياً على السلوك الفردي للإنسان، سواء كان هذا السلوك جسدياً - حركياً أو سلوكاً غير منظور كالتفكير والإدراك أو ما يصدر من الإنسان في مواقف الحياة المختلفة في البيئة الاجتماعية، فالسلوك الفردي تحدده معايير الأسرة المكتسبة التي ينقلها إلى المجتمع الأوسع بعد سن الخامسة أو السادسة من العمر، وهي أول مواجهة له خارج نطاق الأسرة، وهو بذلك يطبق ما تعمله في أسرته على الميدان الأوسع وهو المجتمع، يصاحب تلك العمليات الاجتماعية المتعلمة من الأسرة، اكتساب القيم وتمثلها في الشخصية، وتقليد الآخرين، والتوحد بالكبار لا شعورياً، وعادات البيئة السائدة، وعملية توجيه الأطفال تجاه القيم، والأهداف، والدوافع الملائمة للثقافة في المجتمع، كل هذه العمليات تسمى بالتطبيع الاجتماعي، فكل مجتمع من المجتمعات عندما يغرس سلوكيات معينة في أفراد مجتمعه يتوقع أن يكون الغرس موجهاً نحو تربية محددة المعالم، والتوقعات تتحقق بفعل ضوابط التربية وقدرة التنشئة الأسرية والاجتماعية على ضبط تلك النتائج.. ففي مجتمعاتنا الإسلامية تحرص الأسرة المسلمة على إشاعة روح التعاون، المسالمة، المسايرة، الطاعة، الطيبة في أبنائها، وهي تقاليد توارثها الآباء من الأجداد استناداً على منهج الدين الإسلامي.

وهذه السلوكيات أساليب تربوية في تنشئة الطفل لدى معظم الأسر المسلمة، وتتحول مع تقدم العمر لدى الإنسان إضافة إلى عمليات التطبيع الاجتماعي إلى قيم تؤدي بتفاعلها إلى نمط في الشخصية يشكل المعتقد الديني، والذي يكون بدوره جزءاً كبيراً من مكونات الشخصية الفردية للإنسان، وبمجموعها تشكل قيم ذلك المجتمع، وهو نظام متكامل يتعارف عليه الناس ويكون قبوله أمراً مرغوباً لدى الجميع، والخروج عليه، خرق للأعراف الاجتماعية، يحاسب عليها المجتمع، أو على الأقل يتعرض للنقد من الآخرين.

ومن العوامل المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع ونتائجها السلوكية يمكن أن نجملها بما يلي:

1 - التنشئة الاجتماعية والأسرية.

2 - الروابط الاجتماعية.

3 - عمليات تكوين الذات.

من المتفق عليه أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتأثر ويؤثر اجتماعياً، يتأثر بأهله، وبمجتمعه، وبتاريخه، وبكل ما يحيط به ليؤثر بعد ذلك في بناء شخصية أبناءه، ومن ثم في حياتهم فيرسم لهم الأطر التي يتحركون ضمنها لذا فإن معظم الأسر في مجتمعاتنا تؤدي وظائفها الاجتماعية التقليدية مع أبنائها من خلال إكسابهم أنماط تعامل غير مكتوبة، ويمكن ملاحظتها على الواقع اليومي المعاش بوسائل تعلم غير مقصودة أو متعمدة وسميت (التعلم بالملاحظة) أو التقليد imitation. وببساطة يتعلم الأطفال (الإناث والذكور) دروساً كثيرة من ملاحظة الآخرين، فتقليد البنت لأمها في سلوكها يكسبها عادات اجتماعية مقبولة لدى الآخرين، وكذلك الأولاد من الذكور حينما يقومون بتقليد آبائهم بأخذ أدوار الرجولة وتحديد مسؤولياتهم وهم صغار، ويتحملون أعباءها دون الأخذ بنظر الاعتبار فارق السن لديهم، إذا ما كان معظم أفراد الأسرة من الإناث… ففي مثل هذه الحالات تنشأ الأدوار المحددة للسلوك المستقبلي لكل منهما.

وتؤكد الأسر في المجتمعات الإسلامية على اكتساب الأطفال من الذكور والإناث قيماً خاصة بهم لا يحيدون عنها، ويعد الخروج عليها من المحرمات، لذا يتوقع أفراد الأسرة عواقب سلوكهم إذا ما اخطأوا ومارسوا تلك المحرمات، وإلى تكرار الأفعال التي تحظى بدعم أو تعزيز إيجابي، مثل الصدق مقابل الكذب، واحترام الكبير والعطف على الصغير وما إلى ذلك من قيم تغرس في نفوس الصغار واقتران هذه الأفعال برضا الله أو غضبه إذا ما مارسها وتوقع العقاب في الآخرة…

وفي مجتمعاتنا الإسلامية يتعلم الأفراد الكثير من القيم المنقولة عن الآباء، ويظل هاجس الحفاظ عليها ملازماً لهم، كطقوس الاحتفالات الدينية وشعائرها مثل المولد النبوي الشريف أو ذكرى انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى أو من المناسبات المؤلمة التي تركت آثاراً نفسية بنتائجها عبر القرون ولم تمح من ذاكرة الأجيال، كواقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين (ع) وأفراد أسرته في كربلاء وما جرى بعد ذلك لعائلة النبي (ص) من مأساة، واتفاق كل المذاهب في الإسلام بخطأ الفعل وجسامة الحدث وبقاء أثره عبر التاريخ، ولم يمحُ تقادم القرون هذا الفعل لدى مذهب معين من مذاهب المسلمين، فالعادات التي تكتب تتحول إلى قيم بمرور الزمن.

تلك العمليات التي يكتسب بها الفرد عادات وقيماً خلال مراحل نموه تسمى بالتنشئة الاجتماعية وتعرف على أنها تفاعل اجتماعي في شكل قواعد للتربية والتعليم يتلقاها الفرد في مراحل عمره المختلفة من خلال علاقاته بالأسرة، المدرسة، الجيرة، الزملاء وهي بهذا المعنى تحدد أنماطاً لسلوك الإنسان، وتأثير مهم في تحديد بعض جوانب علاقاته الاجتماعية وفي تكوين وبناء شخصيته.

إن أساليب التنشئة في الأسرة تعتمد أساساً على مدى تفهم الوالدين لمتطلبات التربية وزرع عوامل القوة والاعتماد على الذات لدى الأبناء وهي تعني تنمية جميع جوانب الشخصية بما فيها الثقة بالنفس وحرية الرأي والتفكير وتأكيد الذات على العكس تماماً من قمع تساؤلات الأطفال وكبحها في مراحل التنشئة الأولى مما تؤدي مستقبلاً إلى كراهية واضحة لكل رموز المجتمع وزرع العدوانية تجاه الآخرين تتحول بعد ذلك إلى حالات نفسية غير مقبولة اجتماعياً ربما يصاحبها اضطراب في الشخصية.

وفي هذا الصدد يؤكد الرسول الكريم على أهمية التنشئة الاجتماعية الصحيحة والتربية المعتدلة في خلق أجيال أسوياء من الأبناء، والتعامل بالعدل بينهم وخاصة عدم التفريق بين الذكر والأنثى، وأن يتعامل الوالدان مع الطفل بما يناسب كل مرحلة عمرية، فحتى سن السابعة يجب ملاحظة الطفل باعتباره مازال ضعيفاً يحتاج لكل رعاية وعطف واهتمام، ومن السابعة وحتى الرابعة عشر يتم توجيه الابن ومحاسبته على أخطائه باعتباره فترة تتحدد فيها معالم الشخصية، وتتشكل فيها الطباع وتكتسب الأخلاق ومعالم السلوك، خاصة وأنها تقترب من فترة المراهقة بمخاطرها المختلفة وهكذا من سن الرابعة عشر وحتى الواحد والعشرين باعتباره صديقاً يُقربه الوالدان لهما ويشعرانه بالاحترام والثقة في آرائه وتصرفاته وسلوكه ويكونان له بمثابة الأصدقاء.

الروابط الاجتماعية

إن الناس بحاجة إلى بعضهم، فالبشر يقدم كل منهم للآخر أعظم مسرات الحياة وأفراحها وكذلك أتراحها، وقد يكون هو أحد أسباب ملاحظة كل منا للآخر ومحاولة فهمه ويرى علماء النفس والاجتماع ان كل إنسان من نواحي معينة:

أ - يشبه كل الأشخاص الآخرين.

ب - يشبه بعض الأشخاص الآخرين.

ج - لا يشبه أي شخص آخر.

من خلال ما تقدم يمكننا القول بأن الفرد في التجمعات البشرية المختلفة قد يقترب إلى شخص ما أو إلى جماعة ما تتفق في توجهاتها مع ما يحمله من مكونات في شخصيته ومعتقده، يتلاقى معهم في ظروف الحياة العادية كأماكن السكن التي تكون الحي أو القرية، أو دور العبادة أو المناسبات ذات الطابع الديني أو القومي أو الاجتماعي، هذا الانجذاب تحكمه الحاجة الاجتماعية لدى الفرد، ويكمن خلفها الدافع الأساس الذي يحدد مستوى الاقتراب أو الابتعاد عن الأفراد الآخرين… وقد أثبتت الدراسات النفسية - الاجتماعية، ان الأفراد ينحازون إلى أفراد يتشابهون معهم بالسلوك أو الآراء أو العادات، كما هو الحال لدى الجاليات الإسلامية في بعض بلدان العالم، مثل أوروبا وأمريكا حيث ينجذب المسلم في تلك البلدان إلى ما يشبهه من أفراد وافدين من مختلف أنحاء العالم إلى هذا البلد، لكن الرابط الأقوى هو التشابه الديني، والذي يعد من أقوى الروابط بين الشعوب والتجمعات البشرية، حتى وان تحقق هذا الانجذاب بفعل الرابط الديني، إلا أن البشر أيضاً انتقائيون في اختيارهم، فهم لا ينتمون إلى كل فرد أو أي فرد، لكن هناك بعض الصفات التي تكون أكثر قدرة على الجذب وتحقيق الترابط بين الأفراد.

ولكن يبدو أن الناس يضعون معياراً(1) خاصاً لكل فرد منهم بنحو الإعجاب أو التقارب من الآخرين، فقد يكون الإعجاب ناتجاً عن شدة الجمال أو قوة تأثير الطلاقة اللفظية أو قوة تأثير الشخصية، فأفراد المجموعة التي تتأثر بالقيم الدينية مثلاً يتعرفون بسهولة إلى كلمات مثل (فضيلة، شيخنا، سيدنا) بينما توجد صعوبات في تعرفهم إلى كلمات من نوعيات أخرى ولذا فإن السائر في البيئات والمجتمعات والأسر لها صفات تختلف عن المجتمعات والأسر الأخرى، ويحركها دافع خاص بتلك البيئات نحو التقارب والإنجذاب، وهذه بدورها تشكل الروابط الاجتماعية بين الناس، وتقل أو تكاد تنعدم في المجتمعات الصناعية الكبيرة وخاصة الغربية منها، ويرجع أحد أسبابها لانشغال أفراد تلك المجتمعات بمشكلاتهم الخاصة وعدم توافر الوقت الكافي لإقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين، أو تعميق الروابط الاجتماعية، ويدل على ذلك حادث الفتاة (كيتي جينوفيس) التي تقيم بمدينة كوين بنيويورك حيث هوجمت وطعنت طعنات قاتلة على مرأى من ثمانية وثلاثين من جيرانها الذين لم يفعلوا شيئاً مطلقاً لمساعدتها، وقد أثار هذا الحادث وحوادث أخرى في المجتمعات الغربية أسئلة كثيرة ومهمة من ضمنها هذا السؤال:

تحت أي ظروف يساعد الناس بعضهم بعضاً؟

لا أعرف كثيراً من استطاع أن يضفي الكمال على الكون، قيل لي أنه الله، فإن لم يكن هو فمن يكون؟

هذا ما قاله اندريه جيد الكاتب الفرنسي المعروف، ففي كلامه اندهاش من عظمة خالق الإنسان ومركب فيه النقص.

إن عمليات تكوين الأنظمة النفسية الداخلية (مستقبلات ومرسلات) وما يحدث خلالهما، عملية معقدة جداً في الجهاز النفسي الإنساني، فعملها لا يمكن تشبيهه بأية آلية عمل ميكانيكية أو جهاز وضعي من صنع البشر، فهي عمليات غير منظورة تؤدي تكاملاً سلوكياً غير محدد النتائج إزاء المواقف المختلفة، فتارة تتأثر بالانفعالات وتارة أخرى تكبحها الدوافع الهائجة وحيناً آخر تكون مستكينة هادئة، ولكن كل ذلك يحكمه العقل، المدبر الأول في الجهاز النفسي المعقد، فقد اعتقد جماعة التحليل النفسي أن الممنوعات والمحرمات والنواهي يتقمصها الأبناء الصغار عن طريق والديهم، من خلال استيعابهم لأوامرهم وقيمهم وعاداتهم، وهي عمليات بعضها شعورية، وهي في تكوينها تشكل الذات أو بعض اجزائها، ويدعو هذا الجزء من بناء الإنسان النفسي إلى الكمال والمثالية والتضحية والدعوة إلى الخير دائماً ويسعى إلى الاعتدال. وتحتل الذات مكانة حيوية فعالة في هذا الجهاز النفسي، تعمل كل ما في وسعها لكي توفق بين متطلبات الحياة الممثلة في الواقع وبين دعوات اللذة والمسرات العارمة، فهي في صراع شديد بين متطلبات الملذات وقوة الردع ومنطق العقل في المحرمات ونواهيه.

تتكون التنظيمات الداخلية وهي تكوينات افتراضية في وجودها لكنها واقعية في أفعالها. خلال مراحل العمر الأولى لحياة الإنسان وتنمو مع نموه الجسمي، فتكامل الجسم يرافقه تكامل النفس، وإذا ما تخلف أحدهما عن الآخر، حدثت الفجوة في التكوين، وتسمى بعدم التوافق بين العمر الزمني والعمر العقلي لدى الإنسان.

الدين ودوره في الضبط الاجتماعي - السلوكي

تعد وظيفة الضبط التي يمارسها الدين على أفراد المجتمع وظيفة مزدوجة، فهي وظيفة لتحديد السلوك الصادر من أفراد المجتمع باتجاه معايير السواء المتعارف عليها في المجتمع، والأخرى إرشاد النسبة القليلة باتجاه التقويم الصحيح للسلوك ضد الانحرافات التي تظهر في كل مجتمع، ولابد من ظهورها لاسيما ان الدراسات النفسية والاجتماعية أيدت وجود نسبة تزيد أو تنقص عن ( 5 %) في كل مجتمع تخالف قيم المجتمع، وتعود هذه النسبة بزيادتها أو نقصانها حسب قوة تماسك المجتمع والمحافظة على روابطه الاجتماعية التي كونتها التربية في الأسرة أو التنشئة في المجتمع، ودور المدرسة أيضاً في إخفاء آثارها التربوية - التعليمية، وخاصة في مجتمعاتنا التي تؤكد إلى حد ما على القيم الدينية.

إذن، فالممارسة الفعلية في المجتمع يحكمها القانون الوضعي للدولة وقيم المجتمع والضبط الديني غير الرسمي، لاسيما ان هناك مؤسسات تقوم بعملية الضبط الاجتماعي مدعومة من مؤسسات رسمية تابعة للدولة. فالممارسة الدينية المبنية على قواعد الدين الإسلامي تستجيب لمقتضيات الواقع الاجتماعي وتمارس الضبط الاجتماعي وتشكل ثقافتها على أفراد المجتمع النسبة الأكبر في تكوين المجتمع وتأسيس ممارسته دون توجيه رسمي… لذا اعتبر الدين وخاصة في مجتمعنا الإسلامي الذي يقوم بأكبر وظيفة غير رسمية بتقليص النزاعات وتهذيب السلوك وتشذيبه وتحويله من سلوك الكائن الحي إلى أنسنة ذلك السلوك، وهي ميزة ينفرد بها الدين وخاصة الدين الإسلامي، ولهذا يبدو وبصورة متزايدة وملحة العودة إلى الدين ببساطته دون اتجاهاته المتعصبة، واختيار الموضوع السهل لضوابطه في الممارسة الاجتماعية، وهي تؤدي بدورها إلى تقليص أكبر عدد من النزاعات والخلافات بين أفراد المجتمع الواحد.

إن الدين الإسلامي وباتفاق كل الدارسين المحايدين الموضوعيين في مجال الأديان المقارنة والدراسات الانثروبولوجية من العرب والأجانب غير المسلمين، انه دين متكامل المنهج ينظم حياة الناس على وفق تداعيات الخير لدى كل إنسان وتقليل نزعات الشر، وحل الصراعات التي تنشأ داخل النفس الإنسانية، وحسمها لصالح الخير، واطفاء نزعات الشر.

لذا فإن الدين قد نجح في رسم العلاقة بين الفرد كإنسان ينتمي إلى المجتمع الأكبر، وإلى الآخرين الذين يشكلون بمجموعهم المجتمع الكلي، واستطاع أن يقلص النزعات بين الفرد نفسه وبين الفرد والآخرين من خلال استخدام الوسائل التي يمارسها الدين في الارتقاء بسلوك الفرد وتنظيم تكوينه النفسي الداخلي الذي يؤدي به حتماً إلى الراحة النفسية الخالية من اضطرابات العصر وكثرة مثيراته وتعدد مصادره الخارجية منها والداخلية التي تنشأ من الوسوسة ثم الصراع الذي يؤدي إلى فقدان الاتزان الانفعالي.

خلاصة القول، إن أهمية دور الدين الإسلامي تتحدد في ممارسة عمليات الضبط الاجتماعي - النفسي لدى الفرد أو المجتمع، وهي ممارسة ذات دور إنساني يؤدي إلى تقويم سلوك الفرد وبناء أسس قيمية تقوم على الضبط وتعميق الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد.

الدوافع الاجتماعية

يعرف الدافع Matire أو الدافعية Matiration بأنه حالة داخلية تنتج عن حاجة ما، وتعمل هذه الحالة على تنشيط أو استثارة السلوك الموجه عادة نحو تحقيق الحاجة المنشطة وتختلف الدوافع البشرية بحسب توجهها نحو أهدافها وتحقيقها. فدوافع الجوع تبحث عن إشباع في إيجاد الأكل وتحقيق المتطلبات الفسيولوجية المرتبطة بالبقاء على قيد الحياة، وتسمى الدوافع الأساسية. وهناك دوافع الاستثارة الحسية (استكشاف الأمور) ودوافع النمو، والدوافع الجنسية المؤدية إلى التناسل والإنجاب وحفظ الجنس البشري.

أما الدوافع الاجتماعية، فهي عادة تكون موجهة نحو إشباع السلوك الإنساني من خلال تكوين الروابط الاجتماعية وإقامة العلاقات الاجتماعية وتكوين الأدوار الاجتماعية، وتقوم كلها على أساس الاتصال بالآخرين وتحقيق التفاعل معهم. فإحدى هذه الحالات الاجتماعية هي رؤية الفرد نفسه في مرآة المجتمع الواسعة من خلال القبول أو الرفض، الاستحسان أو الاستهجان، الاحترام أو عدم التقدير.

تقود هذه الدوافع السلوك إلى تحقيق الانجازات في حياة الفرد، فهو يحقق لنفسه الوضع الاجتماعي المناسب من خلال ما يصدر عنه من تصرفات أو سلوك، سواءً بالقبول والاستحسان أو النبذ والاستهجان. فيكون الفرد الذي ينجح في تحقيق القبول بين أفراد المجتمع، ويستطيع أن يتفاعل مع الآخرين، ويرجع هذا النجاح إلى عوامل التنشئة الأسرية والاجتماعية فضلاً عن قوة مكونات الشخصية التي يمتلكها والتي تحركها الغرائز الداخلية، فإن كل إنسان فطر على غرائز خاصة، هي حقائق في داخله، تبعث على صفات خاصة وقد سماها القرآن الكريم فطرة فقال: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(2).

أما الأفراد الذين لا يحققون القبول من الآخرين في المجتمع، فإن ذلك ربما ترجع أسبابه إلى وجود خلل في التربية أو التنشئة أو إلى عوامل شخصية ذاتية في التكوين الفردي له. فالفروق الفردية تلعب دوراً كبيراً في الاختلاف بين الأخوة في الأسرة الواحدة. فقوة التحمل في مواجهة الأزمات لدى أحد أفراد الأسرة الذي تربى بنفس البيئة الأسرية ونما في ظل نفس الظروف، وتلقى نفس القيم وقواعد التعلم، إلا أنه اختلف في النتائج من حيث السلوك والتعامل والقدرة على حل مشكلات الحياة المختلفة، واكتساب المعارف ومعالجة الأمور.

الدين وتكوين الاتجاهات لدى الفرد

عندما يخرج الفرد إلى معترك الحياة ويضع القيم الدينية نصب عينيه، فإنه سيرتقي بسلوكه إلى الإنسانية… أما إذا سار نازلاً نحو الرذيلة وتدمير الذات توجه إلى السجون والاصلاحيات والمصحات العقلية. لذا فإن الدين الإسلامي يبني سلوكاً قيمياً قائماً على أسس صحيحة وهو بذلك يبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقية النظيفة، فعندما تكون التنشئة الاجتماعية في الأسرة قائمة على محددات ناجحة في السلوك الحاضر ومتخلقة من خلاله عبر عمليات النمو في مراحله المختلفة، فستكون فترة المراهقة التي تهب عليها الرياح العاتية أقل وطأة في آثارها وتحسم لصالح الشخصية الإنسانية الخيرة أكثر منها نحو الشخصية العدوانية أو الانفعالية. ويمكننا معرفة الأنماط السائدة في السلوك من خلال التنشئة الاجتماعية، وتتوضح تماماً عندما نقيس الاتجاهات لدى الأفراد والتي تبدو واضحة في سلوكهم. لذا عرف (البورت) الاتجاه attitud بأنه حالة من الاستعداد العقلي والعصبي التي تنظم أو تتكون خلال التجربة والخبرة التي تسبب تأثيراً موجهاً أو دينامياً على استجابات الفرد لكل المواقف. أما من حيث تكوينها لدى الفرد فهي تتكون أما عن طريق:

1 - الخبرات المتصلة بتربية الطفل خاصة الست سنوات الأولى وعلاقة الطفل بوالديه.

2 - الاتصال بالأفراد الآخرين أو الجماعات الأخرى الرسمية وغير الرسمية.

3 - الثقافة العامة السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه وما تحتويه من عادات وتقاليد وقيم وأعراف ومعايير.

وتأسيساً على ذلك يمكن القول:

- أن الثقافة تبين للناس رسم الحياة.

- أنها أعم مما تعلمه من بيته أو مدرسته أو محيطه.

فالاتجاه لدى الإنسان سلوك، والسلوك يكمن خلفه دافع، وهو الذي يحرك الإنسان في كل مجالات الحياة، فقد يكون هذا السلوك معبراً عن التقدير والاحترام أو نقيضه، أو قد يكون بحثاً عن توكيد الذات ورفع شأنها أو عكسها، فالاتجاه يؤدي بالفرد لأن يفكر بأسلوب معين ويتصرف بطريقة معينة، ويتعامل مع الآخرين بأساليب مختلفة.

فالناس يعتنقون اتجاهات متعددة في الحياة، كالاتجاهات السياسية أو الاتجاهات الفنية أو الأدبية وبضمنها الأفكار الدينية، فهي تكتسب من خلال الملاحظة والخبرة والثقافة السائدة في المجتمع، رغم أن تعديلاً يحدث لهذه الاتجاهات لدى الناس، وتغييراً في أحيانٍ أخرى مثال ذلك (الشخص الذي يؤمن بالأفكار الماركسية في بداية حياته ثم يتحول بعد ذلك إلى الدين، رافضاً اتجاهاته في فترة سابقة).

ومع أن عملية التغيير هي أبطأ من عملية التكوين في البداية، وتحدث نتيجة الخبرات الجديدة المضافة للفرد والمعلومات التي تزيد معارفه، وتظل الثقافة أعم وأشمل مما تعلمه الفرد خلال حياته، فهي توسع الجوانب المعرفية الممثلة في: الإدراك، التفكير، شدة الانتباه، القدرة على الاستقراء وتعلم أسلوب حل المشكلات، وهي عمليات عقلية.

إن الأفكار الدينية عندما تؤكد على عنصر الثقافة كأحد عوامل تكوين الاتجاهات، إنما تعتبر ذلك صقلاً لكل الخبرات السابقة وتنمية للعلاقات مع الآخرين نحو التكوين الثقافي الديني المميز، فللدين أهمية كبرى في التأثير في الفرد وخاصة الدين الإسلامي الذي يعلمنا أن قمع الشهوات هو شاهد على سلامة النفس، وان الإحساس بالذنب علامة صحة، والتوبة موقف إدراك، ولا يعتبر الدين النفس محض ريبة وفجور، بل يصفها بأنها قابلة للفجور وقابلة للتقوى، وأن الله الهمها فجورها وتقواها، فهي مخيرة في أن ترقى في معراج نوراني نحو الله، أو أن تهبط سفلياً في درك الشهوات، فكل إنسان يتصرف على شاكلته. وقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(3).

إن ذلك يؤكد بأن الاتجاهات لدى الفرد من الممكن أن تتعدل أو تتغير وهذا يسمى في العلاج النفسي باسم (تعديل السلوك) كأحد أنواع العلاجات المعرفية المستخدمة في تغيير الاتجاهات نحو موضوع ما أو قضية حياتية تهم المجتمع أو لدى الفرد نفسه. وهنا ينشأ الصراع أو التنازع بين بقاء القديم على خطأه أو تحمل قبول الجديد بما يحدثه من تغيير في الآراء والاتجاهات، ومسايرته والأذعان له، هذا الصراع داخل العقل، وهو ما عبر عنه الشيرازي بقوله: العقل هو ما يحسه الإنسان في باطنه، حيث يجد التنازع في كثير من الأمر بين نزعة الخير ونزعة الشر.

هذا التنازع يؤدي حتماً إلى تغيير الاتجاه أو تعديله على الأقل وحسمه لصالح أحد الطرفين.. وهو بذلك يؤدي بالنتيجة إلى الراحة النفسية إذا ما تحقق الحسم. وقد أثبتت دراسات علم النفس المرضي والصحة النفسية، أن استمرار التنازع والصراع داخل النفس الإنسانية، يؤدي إلى إنهاك الطاقة النفسية المهيأة للعمل والمحركة لقوة العقل وبالتالي تؤدي إلى التباطؤ في ممارسة الحياة اليومية بشكلها السوي وهو ما سمي (بالانهاك النفسي - الوهن النفسي).

لقد حسم الدين الإسلامي هذه المعضلة المعاصرة في عصر تزايد الضغوط الحياتية وكثرة مثيراته من خلال الصفة الجامعة لطابع المؤمن، وهي السكينة، فهذه الصفة تدل على انسجام عناصر النفس والتوافق بين متناقضاتها وانقيادها في خضوع وسلامة صاحبها.

الهوامش

1- يشير مصطلح المعيار إلى مجموعة من التوقعات التي يحملها أعضاء الجماعة، هذه التوقعات تتعلق بالسلوكيات الواجب على الفرد اتباعها. (علم النفس الاجتماعي، انسكو سكويلر، ترجمة صفوت إبراهيم، السعودية، الرياض 1994: ص 341. 

2- سورة طه: الآية 50. 

3- سورة الإسراء: الآية 84.

المصادر

1 - الأهل وأثرهم في تحديد مستوى طموح الأطفال، جليل شكور، مجلة الثقافة النفسية العدد 6، المجلد 2، نيسان 1991. 

2 - علم النفس الاجتماعي، عبد الفتاح محمد دويدار، دار النهضة العربية، بيروت لبنان، 1994، ص 77. 

3 - نفس المصدر، ص 108. 

4 - علم النفس الاجتماعي: ج 2، محمود السيد أبو النيل، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان 1985، ص 42. 

5 - تشكيل نظام القيم، جليل شكور، مجلة الثقافة النفسية، العدد 8، المجلد 2، ت 1991. 

6 - مدخل علم النفس، ليندا. ل. دافيدوف، ترجمة سيد الطواب وآخرون، دار ماكجروهيل للنشر، القاهرة، مصر، 1983، ص 756. 

7 - القرآن وعلم النفس، عبد العلي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، 1997، ص 129. 

8 - الفقه الاجتماع، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت، لبنان، 1992، ص 76، ص 7 ص 81، ص 79، ص 77. 

9 - الثقافة النفسية، مكتبة العدد، مصطفى محمود، العدد: ص 37، المجلد 10، ك2 يناير 1999، ص 101، ص 100.