مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

       

العـــولــــــمة

         

وتجلياتها النفسية ومؤشرات التعامل معها عربيا وإسلاميا

د. سعد العبيدي

العولمة ومفهوم الصراع دوليا

1. بدأ الإنسان حياته الأولى وفي داخله تناقضات أي أنواع من الصراع يتمحور بعضها على شكل ميول متقاطعة بين الخير والشر، ورغبات متناقضة بين الأخذ والعطاء، ومشاعر متعارضة بين اللذة والألم، وغيرها أنواع من الصراع بين نقيضين أو أكثر تسمى في علم النفس صراع (إقدام / إحجام).

ويتمحور بعضها على شكل خيارات متسقة الاتجاه إيجابيا كما يحصل أحيانا في وجوب الإختيار بين أحد أمرين الأول الاستمرار في بناء البنى التحتية للدولة، والثاني بناء قوة عسكرية للدفاع عن الدولة ضد أخطار محتملة ويسمى صراع (إقدام / إقدام).

ويتمحور بعضها الآخر على شكل تجنبات سلبية الأثر كما يحصل عند حتمية الإختيار بين موقفين كل منهما ذو اثر سلبي مثل قبول الحرب وتحمل أعباءها، أو المجازفة بالانهيار الاقتصادي وتحمل نتائجه ويسمى صراع إحجام / إحجام)(1).

... الخ من أنواع الصراع التي أسهمت في تشكيل السلوك الإنساني، أو بالمعنى الأدق أثرت كثيرا على تشكيل السلوك الانساني لمستوى أعدّ فيه رواد المدرسة التحليلية في علم النفس أنه أي السلوك: محصلة الصراع بين إتجاهين أو أكثر(2) وأسهمت كذلك في إثارة غالبية أنواع الاضطرابات العقلية والنفسية للإنسان، وللحد الذي أكد فيه مريدو معظم المدارس النفسية: أن نشأة تلك الاضطرابات يعود إلى فشل الانسان في حل صراعاته(3) وهي بوجه العموم صراعات بدأت كما ذكرنا آنفا مع بداية الوجود، وأستمرت حتى وقتنا الراهن بانماط ووسائل تعبير متغيرة بتغير الأزمنة والقوى المحيطة أو المشاركة وأدوات الضبط الموجودة رغم الثبات النسبي لجذورها وأسسها النفسية:

فكان العراك بين القبائل مثلا مظهرا من مظاهرها أي نمطا من أنماط التعبير عنها في حقبة زمنية قديمة، وكانت الحروب المحدودة بين الأقوام مظهرا من مظاهرها في حقبة أخرى كذلك، وأصبحت الحروب الشاملة بين الدول بعد تطور الآلة وتقدم الاختراعات مظهرا من مظاهرها أيضا، وبات التهديد باستخدام القوة، والحرب النفسية مظهرا من مظاهرها كذلك بعد إكتشاف أسلحة التدمير الشامل، وهكذا حتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين التي شهدت تطورات في الاتصال وتبادل المعلومات والمواصلات والتسويق والتصنيع بمستويات تشير إلى حتمية بروز مظاهر جديدة إلى ساحة الصراع تنسجم والمرحلة التاريخية للتفوق والتقدم التقني في مجالها(4).

2. والصراع على وفق هذا التصور مظهر سلوكي للأفراد والجماعات بالغ التعقيد متعدد الدوافع، يؤكد البعض جذوره البايولوجية الموغلة في القدم ويربط البعض الآخر وجوده بالطبيعة البشرية التي تتسم في بعض جوانبها بغريزة العدوان(*).

وتلك تفسيرات أو وجهات نظر العاملين في الحقل النفسي وهي لا تختلف كثيرا عن تفسيرات ووجهات نظر علماء الاجتماع الذين ينظرون إلى الموضوع بواقعه الاجتماعي، وعلى أساسه يشيرون إلى:

إن الافراد يعيشون عادة في عالم يتسم بقلة الموارد أو عدم تساوي توزيعها، الأمر الذي يدفعهم الى مواجهة بعضهم البعض (الصراع من وجهة نظر نفسية) كأعضاء في جماعة منظمة قد تكون في شكل قبيلة، أو مدينة أو دولة، أو مجموعة دول، متحالفة يطلق عليها جماعات (نزاع أي صراع) وقد تتغير أشكالها أو مواقعها مع بقاء طبيعة ذلك الصراع بينها دونما تغيير.

3. وتأسيسا على وجهتي النظر النفسية والاجتماعية نستنتج:

آ. إن الانسان وبعد أن حسم صراعه مع بيئته المحيطة ـ أي بعد أن سيطر في تعامله مع ما يحيط به من حيوانات وآفات وظواهر طبيعية ـ اتخذ الصراع مع أبناء جنسه مركز الصدارة ليستمر على مدى الزمن صفة مميزة لسلوكه في هذا المجال.

ب. وهو بالتالي ـ أي الصراع ـ واقع داخل الانسان نفسه، وبينه من جهة وبين أخيه الإنسان من جهة أخرى، كما أنه واقع أيضا بين الأشقاء والحلفاء والأصدقاء، مثلما هو بين الأعداء

والغرباء، باستثناء فارق وحيد لا يتعلق بوجوده، أو باستمرار بقائه، بل وبما له صلة بوسائل وطرق التعبير عنه (مظاهره) التي تكون عادة محكومة بالظروف المحيطة ووسائل الضبط المتيسرة.

4. إن مفهوم الصراع في علم النفس، ومفهومه المقارب في علم الاجتماع الذي يرجع على حد سواء إلى صلب السلوك البشري ويعد أسلوباً من أساليبه على مستوى الأفراد والشعوب والأمم كما جاء في العرض أعلاه، مما إنعكس على وجهات نظر علماء السياسة والسياسيين في التعامل مع موضوعه عندما أكدوا:

إن الانسانية وعلى مر العصور بحاجة للتعامل مع مظاهر الصراع بالطريقة التي تفضي إلى توجيهه وجهة فيها نوع من الاستقرار على مستوى الجماعات، والتوازن على مستوى الشعوب والدول(**)، وهو توازن تسعى جميع الأطراف على المستوى المحلي والإقليمي والدولي بشكل دائم لبلوغه تحقيقا لعامل التكافؤ أحيانا، أو التفوق عند سنوح الفرصة أحيانا أخرى، لأن الواقع يؤكد أن لكل الأطراف صغيرها وكبيرها على مستوى العالم حصة في الصراع الدائر من حولنا، وحصته تتحدد بما لديه من هامش للحركة (قدرة في التأثير)، وهامش الحركة لأي طرف في الصراع الدائر بلا توقف يتحدد حتما بهوامش حركة الأطراف الأخرى من جهة وبقدرته على استخدام امكانياته في توسيع هامش حركته من جهة أخرى، وكأننا في نهر سريع الجريان، أو بحر عالي الموج يقدم فيه تضحية أقل ويحقق تقدما أسرع من يستطيع أن يجعل حركته متسقة مع موجة قوية تدفع إلى الساحل (الهدف المطلوب) وقد يجد البعض أن قاربه قد انقلب عندما يخطيء التوقيت، أو الاتجاه، أو عندما يخطئهما معا، حتى أضحت إدارات الصراع بكافة المستويات المذكورة تستند في أهم أركانها على استثمار الظروف استراتيجيا، إستثمارا يحتل فيه التعامل على المستوى الكوني إقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا، ونفسيا (العولمة) حيزا كبيرا في مجال الحركة والتأثير.

العولمة

5. لقد أضحى مصطلح العولمة MONDIALISATION في السنوات العشر الأخيرة أكثر المصطلحات تداولا على الساحة العالمية ويقصد به على مستوى العلن:

زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال انتقال عمليات السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات بينها دون قيود تذكر(6).

ويرى اقتصاديون في مفهومها (نمطاً من أنماط الانتاج الرأسمالي مستندين في تصورهم هذا على حقيقة أن منطق التطور الرأسمالي يقضي إلى التوسع المستمر خارج الحدود أي تجاوز حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي، مؤكدين أن التوسع الرأسمالي وحالما يبلغ ذراه يطيح بالحدود القومية وإن كانت داخل المعسكر الرأسمالي ذاته، وهو نمط من التوسع يطلق عليه اليوم (العولمة) من بين خصائصه إخضاع العالم لضوابط وقوانين مشتركة تضع فيه حدا لكل أنواع السيادة)(8).

6. وبضوء الفهم المذكور تعد العولمة ومهما تكن تجلياتها ظاهرة ارتبطت بنشوء الرأسمالية الصناعية العالمية(9)، وهي على وجه العموم مرحلة تاريخية وحضارية في سيرة الإنسان على كرتنا الأرضية وما هو ثابت بصددها ومؤكد بالنسبة لها هو:

آ. إن هناك أمرا جديدا قد حصل بالفعل في وقتنا الراهن، ولم يتبق لدينا نحن العرب

والمسلمين من هامش للحركة، ومجال للمناورة سوى إدراك غالبية المتغيرات ذات الصلة

به على حقيقتها.

ب. رغم أن الجديد (العولمة بواقعها وتجلياتها) قائم بالفعل إلا أن ما لا نعرفه عنه الآن أكثر

بكثير مما نعرفه.

ج. العولمة حالة تتصف بالسيولة وعدم الثبات وفيها كثير من المتغيرات التي تتطلب جهودا

فكرية مضاعفة لفهمها بشكل صحيح.

د. إن العولمة ولكي تكون أداة من أدوات الهيمنة وحسم الصراع على المستوى الدولي وبصيغ مقبولة من المجتمعات المستهدفة ستكون بطبيعتها مجالاً يأتي بفرص استثمارية ومعرفية

هائلة، أو غير محدودة من جهة، لكنها ومن جهة أخرى ستأتي حتما بمخاطر سياسية

ونفسيه كبيرة، أو غير محدودة(10).

7. والعولمة في مسلسل الطرح تاريخيا، وتبعا لتعاريفها السائدة، وأهدافها المعلنة وغير المعلنة مفهوم أول من تبنى فكرته بعد عالم السسيولوجيا الكندي مارشال ماك من جامعة تورنتو هو زبيغنيو بريجينسكي مستشار الرئيس الأمريكي كارتر (1977 ـ 1980) الذي أكد في أكثر من مناسبة على ضرورة أن تقدم أمريكا التي تمتلك 65 % من المادة الإعلامية على مستوى العالم (نموذجا كونيا للحداثة) يحمل القيم الأمريكية التي يذيعونها دوما في الحرية وحقوق الإنسان(11).

وكانت خطوة الأمريكان الأولى في هذا الجانب اقتصادية، تهدف إلى تكوين قواعد وأسس لاقتصاد كوني واحد، وهي خطوات ارتبطت بتجليات أخرى في المجالات السياسية والثقافية والإعلامية، وسعي حثيث لإيجاد نوع من القبول لواقعها ـ أي الاقتناع بصواب فكرتها ـ في المجتمعات المستهدفة، والقبول بفكرة العولمة والاقتناع بعوائدها الايحابية بمستويات تفوق الآثار السلبية الجانبية بالنسبة للمجتمعات المعنية مسألة من وجهة النظر النفسية تتطلب نوعا من التجانس ولو بالحدود الدنيا في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والشؤون الاجتماعية والمعتقدية وبعكسه ـ أي اللاتجانس ـ سيكوّن أو يوجد لتطبيقاتها رابحين بشكل كبير وخاسرين بشكل كبير أيضا، عندها سيبقى الصراع بمظاهره التقليدية (استخدام القوة المباشرة، أو التهديد باستخدامها) في المجتمعات البشرية قائما وإن تغيرت أدواته. لذا سعى المعنيون بالعولمة ومنذ بدايات التبشير بها إلى طرح فكرة التجانس لتكون مصاحبة لمفهوم شموليتها وفي عدة اتجاهات هي:

آ. توجهات لتجانس سياسي (إقامة الديمقراطية) على مستوى دول العالم كافة.

ب. مساع لتجانس اجتماعي (حرية التنقل) للجميع وبين كافة الدول، مع تأمين أفضل لحقوق الإنسان لجميع بني البشر.

ج. اتجاهات لتجانس ثقافي (المعلومة لمن يريدها من بني البشر في كافة الأوقات ولجميع

المجتمعات).

وهذه تجانسات لو دققنا في بعض جوانبها أو محصنا في بعض معالمها نجد أن مسألة تطبيقها على المستوى العملي سيكون صعبا أو حتى مستحيلا في بعض الأحيان كما هو الحال في موضوع التنقل أو حرية التنقل للأفراد (قوة العمل) التي نادت بها العولمة ضمنا في حين وقفت بمواجهتها المجتمعات الغربية وبينها أمريكا صاحبة فكرة العولمة وشركاتها العملاقة المستفيدة من تنفيذ تجليات العولمة، على العكس من إصرارها أو حتى استخدامها مختلف الضغوط لتأمين حرية تنقل السلع والخدمات والرساميل والمعلومات، هذا بالإضافة إلى أن المعلومة لمن يحتاجها كما يروج مؤيدو العولمة مسألة بحاجة إلى التوقف عندها، لأن الموجود من المعلومات في المتناول العام هو في واقع الأمر المسموح به من معلومات موجودة قد حددها أصحاب العولمة على وفق مصالحهم والباقي ـ أي غير المسموح ـ مشفر من قبلهم بطريقة يصعب على الآخرين الوصول إليها، وهذه بطبيعتها أساليب ستضع الأجيال في ما يسمى مشاعية المعرفة المنتقات التي تسقط خاصية الرغبة في المعرفة الشاملة إحدى أبلغ المرتكزات الخاصة بالمنظومة التربوية وتطور وتوازن السلوك الفردي ونمو الشعوب، وبذا تعد أولى معالم التحدي الحقيقي للمجتمعات النامية وبينها العربية والاسلامية، والمسألة لا تتوقف عند هذه الحدود إذ أن الديمقراطية التي تروج أطراف العولمة إلى كونها أحد تجليات العولمة السياسية يؤكد المختصون في إطارها أن الخضوع لحكم أسواق المال في ظل العولمة ستشكل ضربة قوية للديمقراطية(12)، وهذا يعني: أن التجانسات المذكورة سترتكز حتما في بعض جوانبها على فن الإقناع (نفسيا) أي أن َتقبل المجتمعات، والدول توجهات العولمة خطوة أولى قبل رفضها على أساس توقع الخطر الذي ينجم عنها، والاقناع فن خبرته الدول الكبرى وبينها أمريكا يمكن أن تحققه بكل الوسائل والأدوات المتاحة بينها: استخدام المجال الثقافي والاعلامي ذي الصلة بالجوانب النفسية التي أعطيت أسبقية تزامنت مع بعض مجالاتها (الاقتصادية) وتداخلت مع أخرى، أو تقدمت عليها (السياسية والاجتماعية) بقصد التهيئة لتقبلها جميعا، وبضوئها تم تكييف الثقافة وهي المنتج الاجتماعي سلعة مثل السلع المادية تتداول في سوق يسودها الأقوى ثقافيا وبوسائل إيصال للمستهلكين ميسورة (القنوات الفضائية والإلكترونيات والحواسيب والانترنيت وغيرها)، بقصد نقل الأفكار والمبادئ ونشر المعلومات لمستوى الشيوع بين جميع الناس، ومن ثم صياغة ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها لزيادة معدلات التشابه، أو التجانس بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات في محصلة تبرز في إطارها وعلى مستوى النفس الإنسانية إمكانية تشكيل وعي وإدراك ومفاهيم وقناعات عالمية الطابع(13). وبينها استخدام القوة (الردع النفسي) عند الضرورة، بهدف فرض قناعات بديلة لعموم المجتمعات البشرية التي باتت قريبة من بعضها البعض بحكم وسائل الاتصال عالية الجودة كما حصل للعراق عام 1991 إبان حرب الخليج الثانية، وكذلك ليوغسلافيا عام 1999 في صراعها حول إقليم كوسوفو.(***)

وعليه يمكن التنويه إلى أن العولمة الثقافية ستفتح العالم بعضه على بعض لتجعل الحياة البشرية بكل أشكالها المادية والنفسية تنزع بالتدريج إلى أن تتعولم وبمستويات تنسجم والتوجهات الجديدة للأجيال القادمة التي تدلل على أنها ستقبلها طواعية وبمزيد من اللهفة في كثير من المجتمعات ليس بسبب الانترنيت والقنوات الفضائية والمعرفة الموسوعية والمعلوماتية فحسب، بل وللمتعة الآنية التي توفرها التقاليد الجديدة، والنفعية الذاتية التي تؤمنها الأساليب الحديثة، والاستهلاكية العالية التي تدفع إليها الوسائل البديلة، خاصة في المجتمعات العربية والاسلامية التي يشكوا فيها الشباب وغيرهم من الأعمار الأخرى أوقات الفراغ، وغياب معطيات الترفيه والمتعة الدارجة عند أقرانهم في المجتمعات الغربية، أو القريبة منها، تلك المعطيات التي باتوا يطلعون عليها ويتابعون قواعدها في وسائل إيصال المعلومات متعددة المصادر.

8. وإذا ما حصل ذلك دون تحسب فإن ما يخشى منه في وطننا العربي والاسلامي ليس الغرق في المتع، والجري وراء المنافع فحسب بل انحسار التوجه إلى بقايا الخصوصيات والقيم وحتى الروحانيات الضابطة للسلوك الاجتماعي التي يعول عليها في التعامل مع الآثار الجانبية للعولمة، لكنها رؤية لا ينبغي التسرع في الحكم عليها كما اعتدنا نحن العرب في كثير من المواقف، ولا ينبغي وضعها في إطار الرفض المطلق، أو القبول المطلق، بل ينبغي أن تكون مداركنا مستعدة للتقبل أي منفتحة لكل الاحتمالات والتصورات وكل التجارب والخيارات في زمن يوصف خطأ أو صواب أنه زمن العولمة(14) كما يتطلب النظر إليها، أي العولمة، نظرة كلية غير منقوصة لأن:

آ. اختزالها في الفرص دون المخاطر مسألة مخطوءة، ولا تتسق والمنطق في التعامل مع الجديد الذي يجلب معه بعض الآثار السلبية الجانبية، مثلما حصل عند التوسع باستخدام الآلة مع بدء الثورة الصناعية وما تسببته من مشاكل للبطالة، وكما يجري في بعض البلدان العربية التي تسعى للإسراع في أرساء قواعد البنى التحتية في مجتمعها النامي الذي يتطلب استجلاب عمالة غير عربية بأعداد كبيرة، وما تسببه هذه العمالة من نشر لبعض أمراضها الاجتماعية في المجتمع العربي المعني.

ب. كما أن إختزالها في المخاطر دون الفرص مسألة ليست خطأ فحسب بل وفيها من سوء الفهم وعدم التقدير الكثير، الذي يتسبب في عدم الاستفادة من المتاح في مجال النمو والتطور، ومن ثم التأخر عن الركب وما يسببه من آثار سلبية وإن كانت على المديات البعيدة، كما هو الحال في العراق الحالي على سبيل المثال، عندما إتجهت حكومته في الثمانينات إلى عدم السماح بتعميم خدمات التلكس إلا في حدود ضيقة جدا، وعاودت الكرة مع خدمات الفاكس في التسعينات، وكذلك الأنترنيت في وقتنا الراهن، مما تسبب في عرقلة، التعامل التجاري وتأخراً في الاكتساب العلمي وتدنياً في الخدمة السياحية التي تعتمد في بعض جوانبها على تلك الخدمات التي احتكرتها الدولة لأجهزتها الخاصة، أو أقرنت السماح بها بإجراءات أمنية مشددة حالت دون إقتنائها تحسبا لعقاب قاس لم يعد للعراقيين طاقة لتحمله.

هذا من جانب ومن جانب آخر فان وسائل وأدوات العولمة لم تترك المجال واسعا للاختيار بين الرفض والقبول كما كان سائدا في زمن الأيديولوجيات، أو عصر ما قبل العولمة، لأن الآراء والتوجهات وأساليب الحياة يمكن إيصالها إلى الجميع في كل الظروف والأوقات ودون ما أية تحديدات، وبمعنى آخر بالإمكان إبقاؤها ماثلة في وعي المستهدفين بصورة شبه مستمرة، إذ أن مؤشرات التطور التقني في مجالات الإعلام المرئي والمسموع مثلا ستؤدي في القريب إلى توسيع دوائر البث التلفزيوني التقليدي التي تسمح بإطلاع ملايين العرب والمسلمين الذي عاشوا سني الحصار الفكري من الاطلاع على قنوات للبث متعددة الاتجاهات، كما أن التطور التقني في ذات المجال سيغير حتما من وسائل البث الفضائي، وستختفي الصحون التي تركب أعلى المنازل لتكثيف موجات البث وسحب القنوات الفضائية المتعددة، لتحل محلها معدات بسيطة ضمن الأجهزة التلفزيونية التي لا تستطيع تلك النظم العربية والإسلامية التي منعت نصب الصحون وسيلة للإطلاع على الإعلام الدولي من التحكم بها، وستتغير معالم الانترنيت وطرق التحكم والسيطرة عليه من قبل الدولة ليدخل جميع البيوت في المدينة والريف من خارج سيطرة الدولة التي منعت أو قننت دخوله لشرائح خاصة ومؤسسات خاصة تنسجم وآراءها وتوجهاتها في الضبط السياسي والاجتماعي.

9. من هنا تصبح مناقشة أساليب التعامل مع العولمة مسألة ينبغي أن تبتعد عن اتجاهات الرفض والقبول لذات الظاهرة والعبور من فوقها إلى واقع يتمثل بالوقاية من التأثيرات المحتملة لتجلياتها من جانب والسرعة في معالجة الآثار الحاصلة بسببها من جانب آخر. وفي إطارها الثقافي النفسي يمكن اقتراح الآتي:

آ. زيادة هامش التحصين النفسي لأفراد المجتمع بشكل عام وللأعمار الصغيرة على وجه الخصوص وذلك بإعادة تنشيط فاعلية القيم والتقاليد الاسلامية الضابطة للسلوك وتقوية الروابط العائلية، مع تخصيص جهد أكبر لتنفيذها على كافة الأصعدة.

ب. التوسع في جوانب التعليم وإنشاء النوادي الرياضية والاجتماعية للشباب، وبناء المسارح الفنية، ونصب المعسكرات الكشفية للفتية، وعقد الدورات والسباقات الرياضية، والتوسع في إقامة المعارض الفنية والعلمية، وبما يصب في اتجاه التعامل الصحيح مع الوقت المتاح، والمساهمة في عملية التسامي وتصريف طاقات الشباب الغريزية وتحويلها إلى إنتاج ثقافي، رياضي، إجتماعي، قيمي مقبول منهم ومفيد لهم وللمجتمع معا.

ج. تسهيل وتحسين سبل الدراسة بالمعاهد والجامعات لعموم الشباب أولا، ولباقي الأعمار القريبة منهم ثانيا، على فرض أن الانسان الأكثر ثقافة والأكثر تحصيلا يكون أكثر قدرة على الفهم وأكثر ميلا للتعامل العقلاني مع المتاح من المعرفة، مع تيسير سبل الحصول على المعلومات من داخلها، أي من مكتباتها ومعارضها ومختبراتها ومراكز بحوثها، على فرض أن الجو الجامعي والتقاليد الأكاديمية تحتم على المستفيدين في دائرتها إلى التوجه للإنتقاء ذاتيا، على ضوء القيم والمعايير الجامعية بالنسبة للطلاب والأساتذة والمدرسين على حد سواء.

د. التعامل بردع أكثر، وسرعة اشد مع الآفات التي يمكن أن تهدد وضع الشباب النفسي ومستقبلهم الإنساني في المجتمعات العربية والاسلامية، مثل الإدمان على المخدرات، إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن الإدمان ضعف للنفس ووهن للبدن يساعد لا إراديا على تقبل المبتلى به أية إيحاءات تأتي من الخارج، ويؤدي به إلى التعلق بأوهام المتعة واللذة الغريزية الموجودة في الخارج، وبالتالي رسم صور غير واقعية (مضرة) عن مجتمعه العربي والمسلم من ناحية وعن المجتمع الخارجي من ناحية ثانية.

هـ. تحسين مستويات العيش بشكل عام للعوائل والأفراد في عموم المجتمعات العربية والإسلامية، وبحدود تقلل جهد الإمكان الإحساس بالفوارق الشاسعة بينها وبين المجتمعات الغربية، ذلك النوع من الإحساس الذي يدفع البعض من العرب والمسلمين إلى إبقاء النظر شاخصا نحو تلك المجتمعات بعدّها الأماكن التي توفر الرضا والسعادة المفقودة حسب تصوراتهم.

و. إعادة دراسة المناهج المدرسية بكافة مستوياتها ومحاولة تكييفها باتجاه الجوانب النقدية التحليلية بدلا من جوانبها في الحفظ والاستذكار، لأن تعليم المرء النقد والتحليل يعوّدهُ على التأويل والاستنتاج الأقرب للواقع ويجنبه القبول التلقائي للمعلومات الموجهة والنتائج الجاهزة.

ز. إقامة تكتلات إقتصادية إسلامية وعربية قادرة على التعامل مع التكتلات الاقتصادية العالمية القائمة في الوقت الراهن أو تلك التي ستنشأ في المستقبل.

ح. التوجه عربيا وإسلاميا لإيجاد أسس لتعاون إقتصادي مشترك أو صيغ ملائمة تساعد العرب والمسلمين للدخول في التكتلات والنظم الاقتصادية الدولية بأقل ما يمكن من الخسائر.

ط. أن تخصص الأجهزة الحكومية العربية والاسلامية ووسائل إعلامها وتعليمها مساحة أوسع لتعليم حب الوطن، والدفاع عنه لكل الأعمار ولجميع الشرائح والطبقات في عموم مجتمعاتها، وبحيادية ونزاهة تتجاوز معالم التعنصر والتمذهب التي أشاعت أمراضا عند البعض في العقود الأخيرة على وجه الخصوص.

الخاتمة

10. العولمة ظاهرة تاريخية جاءت نتيجة للتطور الحاصل في التقنية والاقتصاد ووسائل نقل المعلومات في المجتمع الأمريكي، وتم الترويج لها أو السعي لتطبيقها بجهد أمريكي تأسس على الرغبة في بناء إقتصاد عالمي يكون حجر الأساس لتجليات العولمة الأخرى على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية، وباتت أمريكا بطاقاتها الواسعة هي من صاغ معاييرها، وغدا مصطلح العولمة بسببها مرادفا للأمركة الذي تنفرد فيه بالهيمنة أو السيطرة على العالم كقطب وحيد وبات معبرا عن توجه الأمريكان لنشر إنموذجهم الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي والأخلاقي على العالم قاطبة.

11. والعولمة إتجاه يشير إلى وصف خصائص مرحلة من مراحل تطور العلاقات الدولية التي تفصح عن رغبة للأمريكان أصحاب العولمة في أن يصبح العالم نظاما واحدا فيه الهيمنة والبقاء للأقوى، وهذا تصور أثار العديد من معالم النقد والاحتجاج كما ورد على لسان المفكر الفرنسي جورج لابيكا عندما أكد على ان هدف العولمة سحق هوية مواطني العالم باسره وخلق نسخ مكررة واستهلاكية تغذي الراسمالية العالمية وتهمش كل من لا يخضع لنظام العولمة الامريكية(15)، وهو نقد لم يتوقف عند العرب أو الأوربيين بل شمل البعض من الأمريكان داخل المجتمع الأمريكي وكما جاء على لسان فريدمان عندما أكد في محضر تناوله للعولمة (نحن امام معارك سياسية وحضارية فضيعة، وإن العولمة هي الأمركة، وإن الولايات المتحدة الأمريكية على ضوئها قوة مجنونة، وإن أولئك الذين يخشونها على حق)(16).

10. وأخيرا ومن خلال الاستعراض المذكور لمفهوم العولمة وتطورات نشأتها وتعميمها على المستوى العالمي نتلمس الآتي:

آ. حجم التعقيد الحاصل في جميع جوانب وتجليات هذه الظاهرة.

ب. إن إنكار واستنكار حدوثها موقف غير معقول، يستوي معه موقف الاندفاع والهرولة للحاق بالركب دون فهم حقيقة ما يجري وما يمكن أن يؤدي إليه الجري في نهاية المطاف.

ج. إن العرب والمسلمين أمام مواجهة لمجتمعات هي الأقوى إقتصاديا، والأقدر تقنيا، والأكثر تحضرا، وفي مواجهتهم هذه لم يتبق لديهم من الأسلحة غير وحدة الاستعداد، والرغبة في الصمود، والسعي لتعزيز القيم والمفاهيم العربية الاسلامية الأصيلة في نفوس المسلمين كأساس لتحصينهم ذاتيا اتجاه الآثار الجانبية للعولمة بتجلياتها المختلفة.

*- يرى المنظرون في مجال العدوان أنه ـ أي العدوان ـ غريزة موجودة عند الإنسان الفرد تؤثر على طبيعة سلوكه في التعامل مع الآخرين، تزداد شدة تأثيرها في السلوك الجمعي عندما تنتقل من إطاره إلى مستوى الجماعة فالدولة نتيجة لإزدياد الامكانيات وإنفراط الثقة بالنفس، الأمر الذي أدى إلى وجود الصراع واستمرار بقاءه كأحد مسارب العدوان(5).

**- إن الصراع في إطاره العام يدفع الدول باتجاه المحاولة لفرض الهيمنة (أحد وسائل فض الصراع)، وهو إتجاه يحث بطبيعته الطرف أو الأطراف المقابلة للقيام بعمل ما يحول دون تحقيق تلك الهيمنة في اتجاه أو أكثر من الاتجاهات الآتية:

آ. دبلوماسيا على شكل تكتلات وتحالفات.

ب. عسكريا باتجاه بناء القوة والتهديد باستخدامها أو حتى استخدامها بالفعل.

ج. اقتصاديا بصيغة الاتفاقيات وفرض القيود والحصار.

د. نفسيا بالتركيز على تغيير القناعات.

وهي اتجاهات تهدف جميعها لإحداث نوع من التوازن الرادع، أو إيجاد نوع من التكافؤ العام في القوة (استثمار المزايا التي يتمتع بها كل طرف) لأن التوازن بطبيعته لن يكون كاملا، أو مطلقا، أو بمعنى أدق إنه غاية لا تدرك عمليا.(7)

***- اجتاحت حكومة بغداد الكويت عام 1990 في وقت كانت مؤشرات الإنهيار لهيكل الاتحاد السوفيتي بادية بشكل واضح، وكانت معالم الحرب الباردة كأحد مظاهر التعبير عن الصراع بين العملاقين قد إنتهت. وفي مسرحية الاجتياح أشارت عديد من المصادر إلى أن الامريكان المعنيين بالعولمة قد أوهمو صدام أن مسألة صراعه مع الكويت شأن عربي، فسره (صدام) أنه ضوء أخضر لعمل كانت نتيجة القيام به إثارة غير معهودة للأمريكان أفضت إلى حشد لقواتهم وثلاثين دولة فاق تعداد منتسبيها النصف مليون جندي، وفاقت تقنيتها ما موجود عند العراق مئات المرات، وفي حشدها ومن ثم حربها لم تكتف أمريكا التي تقود الحرب سياسيا وعسكريا بإخراج القوات العراقية من الكويت، بل فرضت عليه شروطا قاسية، وأحكمت على شعبه طوقا من الحصار، كانت إحدى نتائجه رسالة للعرب والمسلمين في أن لا يتجاوز الواحد منهم حدوده المقننة في التعامل إقليميا ودوليا، ورسالة تنبيه إلى بعض الدول بإستحالة أن تعتمد الدولة ـ الأمة بمفهومها التقليدي على ذاتها كليا لتأمين مقتضياتها الدفاعية الأمر الذي يلزمها أن تتجه إلى التحالف مع أطراف أخرى وإن كانت مجبرة، ورسالة تحذير لباقي دول العالم في أن لا يحذو حذو صدام، وأن يسايروا القوة الفاعلة لأمريكا وقدرتها غير المحدودة للتأثير على الأحداث وقيادة العالم طرف وحيد على الساحة (عولمة).

كذلك كان الأمر بالنسبة إلى يوغسلافيا عام 1999، عندما خالف ميلوسيفتش المنطق بإلغائه مكاسب في الادارة الذاتية لسكان إقليم كوسوفو ذي الغالبية المسلمة، ومساهمته في إثارة بؤرة توتر في البلقان مطلوب إثارتها في زمن مناسب لإعادة رسم الخرائط في المنطقة، فكان الحشد الأطلسي بقيادة أمريكا تَفَوّقَ على اليوغسلاف بنسب كبيرة، وكانت نتائج الحسم السريع له رسائل غير مباشرة لسكان المنطقة المسلمين في أن يقبلوا التعايش مع الآخرين في الدول القائمة، ولحكامها المعنيين في أن يسلموا بدور الأطلسي والأمريكان (التجليات العسكرية للعولمة) في منطقتهم، ولبقية شعوب العالم في أن النظم الدكتاتورية كما هو الحال في يوغسلافيا ميلوفيزتش قد أنتهت لتحل الديمقراطية خطوة للعولمة السياسية التي تقودها أمريكا ولو بإجراءات عسكرية.

المصادر

1. حنا، عزيز، والعبيدي، ناظم (1990) علم نفس الشخصية، بغداد: جامعة بغداد.

2. فرويد (1972) خمس حالات من التحليل النفسي، ترجمة صلاح مخيمر، وعبده ميخائيل رزق، القاهرة: الانجلو المصرية.

3. عزب، حسام (1981) العلاج السلوكي الحديث ـ تعديل السلوك، القاهرة: الانجلو المصرية.

4. مخيمر، صلاح (1977) تناول جديد في تصنيف الأعصبة والعلاجات النفسية، القاهرة: الأنجلو المصرية.

5. مليكة، لويس كامل (1970) سيكولوجية الجماعات والقيادة، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.

6. العظم، صادق جلال (1996) ما هي العولمة، ورقة بحث مقدمة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس.

7. العياري، الشاذلي (الوطن العربي وظاهرة العولمة: الوهم والحقيقة) المنتدى، عمان، السنة 12 العدد 145 ت1 1977.

8. محمد آدم، العولمة وأثرها على اقتصاديات الدول الاسلامية. النبأ العدد (42) السنة (5) ذي القعدة (1420هـ) شباط (2000م).

9. جيمس، روزناو (1997) ديناميكية العولمة: نحو صياغة عملية، قراءة ستراتيجية، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.

10. العظم، صادق جلال (1996) مصدر سابق.

11. يسين، السيد (1995) الكونية والأصولية وما بعد الحداثة، القاهرة.

12. الناجي، لمين، الديمقراطية في إعصار العولمة، النبأ العدد (51) السنة (6) شعبان (1431هـ) تشرين الثاني (2000 م).

13. جوارد ولندزمن (1988) الشخصية السليمة، ترجمة حمد الكربولي، وموفق الحمداني، بغداد، جامعة بغداد كلية الآداب.

14. الناجي، لمين، مصدر سابق.

15. جريدة الثورة السورية، العدد: 11318 الصادر في 2/11/2000

16. محمد آدم، مصدر سابق.