2000  تشرين الثاني

1421  شعبان 

51  العدد

مجلة  

وعقلانية المنهج

منطقية الوحدة

ناصر حسين الاسدي

أروع صيغة منطقية للاتحاد

اجتماع شمل الفقهاء والأمة

ثبات المناهج والخطط

كيف تتفجر الطاقات المختزنة؟

الشوريات مدارس النضج الفكري

شورى الفقهاء قدوة لشوريات الأمة

كيف يتحقق النضج؟

واقعنا ومتاهات الأخطاء

الأمة الواعية مع الشورى

الاجتماع حالة نوعية متحصنة عن الأخطاء

أعقل الناس..؟

احترام العقل

لشورى الفقهاء المراجع سلسلة ضرورات حضارية ملحة نذكر بعضها فيما يلي.. كما أن لكل شورى على أي صعيد معطيات وثماراً هامة نلحقها بهذه الضرورات لتناسب البحث

اجتماع شمل الفقهاء.. والأمة

لا شك أن الاتجاه الديني المرجعي هو الاتجاه الواسع المتجذر في واقع الأمة، ورموز هذا الاتجاه من علماء ومراجع هم الرموز الاجتماعية التي منحتها الأمة ثقتها، والتفت حولها، فلو أن هذا الاتجاه انصب في قناة منظمة، وأسس لنفسه جبهة وحدوية رصينة ومحكمة فإن قوى الأعداء تعجز عن مواجهتها وكسر شوكتها.. كما أن أبرز عوامل الضعف والعجز والتخلف، هو تبعثر طاقات واختلاف هذا الاتجاه العقائدي ولا شيء يقوي أجهزة ودوائر الاستعمار وأعداء الإسلام أكثر من هذا الواقع المبعثر، وانفراط محاور القوى عن بعضها.. الذي أدى إلى إثارة معارك جانبية طويلة أو خلافات هامشية عريضة. واستجلبت الطاقات إليها، بدل أن توجه تلك الطاقات في تيار موحد عظيم، نحو إصلاحات جذرية، وتغيير لواقع التخلف الشامل المتجذر الذي نعاني منه..

فإذن: يعتبر الإتحاد المرجعي من أهم الطموحات التي تهفو إليها كل الجماهير المؤمنة التي تشكل قاعدة المرجعية الدينية.. ولكن.. كيف يمكن تحقيق هذا الاتحاد المرجعي ؟

الواقع: إن الإتحاد الكامل الشامل أمر غير منطقي وغير عملي لأن ذلك لا يمكن حيث أن الاجتهادات والرؤى والمنظومة الفكرية لكل فرد مختلفة عن غيره.. هذا أمر لا نقاش فيه ولا كلام.. والمقصود من الاتحاد المرجعي هو: التنسيق النسبي بالقدر الممكن واجتماع الفقهاء فيما بينهم لغرض الوصول إلى الحد الأدنى من الإتفاق طبقاً للقاعدة العقلائية والشرعية: (قاعدة الميسور) حيث جاء في الحديث: (لا يترك الميسور بالمعسور) فإذا تعسر قيام وحدة متكاملة وشاملة 100% فليس معنى ذلك عدم إمكان تحقيقها بنسبة 70% مثلاً..

أروع صيغة منطقية للاتحاد

لا شك أن (شورى الفقهاء) صيغة منطقية عقلائية لتوحيد الاتجاهات المتباينة أو المتباعدة للفقهاء وأن الشورى المتكافئة وسيلة للتوحيد بين الإتجاهات المنصهرة فيها أيضاً..

إننا لو لاحظنا تاريخ خمسة آلاف عام إلى اليوم، لواجهتنا عدة أسئلة منها:

1 - هل باستطاعة (محور قوة واحدة) الهيمنة الكاملة ونسف باقي المحاور الأخرى وإعفاء أثرها بالكامل؟.

الجواب : كلا...

2 - مع تعدد الآراء والاتجاهات هل يمكن الجمع التام بينها والتوفيق الكامل بين متضاداتها وتطبيقها عملياً؟.

الجواب : كلا أيضاً..

3 - عندما توجد عدة قوى اجتماعية ، ما هي النسبة التي تكون بين هذه القوى والقدرات؟.

الجواب : إن النسبة التي أثبتها التاريخ هي التباين والتصارع، نعم، يمكن للبعض أن ينسج (التوافق الخيالي) بين القوى دون تشريكها في الحكم والإدارة كالكاتب الذي لم ير من الحرية إلا اسمها في بلد ما فيضطر إلى السفسطة فيتحدث عن الحرية الموهومة في العراق مثلاً.. لكن التجربة والتاريخ، أثبتا : أنه لا يمكن جمع محاور القوى إلا عن طريق تشريكها في الإدارة والمسؤولية (حكومية أو غير حكومية)(1). وهذا شيء طبيعي للمجتمع البشري ككل.. ومع عدم تشريك مختلف محاور القوى في الإدارة، فإن المصير الحتمي هو الضعف واللجوء إلى الاستبداد.. والسقوط أخيراً..

والقاعدة جارية بالنسبة إلى المراجع ومقلديهم، فإن كل مرجع يملك النفوذ على مقلديه، وليس للآخر نفوذ على مقلدي هذا فيما تختلف آراؤهم فيه، كما ليس له شرعاً فرض آرائه عليهم بالقوة وإن كان هو الأقوى...

فهل لهذا المشكل الكبير من علاج؟ يعني : ماذا نفعل لكي نجمع كل القوى والقدرات الموجودة على الساحة مع اختلاف آرائها حول النظام حكومياً كان النظام أو مرجعياً)؟ وهل هناك طريق أفضل من جمع المراجع وتشريكهم الواقعي في إدارة النظام عن طريق (شورى الفقهاء)؟؟

الواقع.. أنه بدون شورى الفقهاء لا يمكن بحال جمع طاقات الأمة وتوحيدها، يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب: (الشورى طريق إلى وحدة الأمة الإسلامية، ووحدة المشاعر الجماعية، من خلال عرض المشكلات العامة، وتبادل الرأي والحوار) (2).

ويقول الدكتور محمد البهي مؤكداً على أن الشورى ابعد عن الإنقسام، وأحفظ لوحدة الصف: (والشورى على أية حال اجتهاد في الرأي، تحتمل الصواب والخطأ، ولكنها أقرب إلى الأمان، وأبعد عن الإنقسام والهزات بين صفوف المؤمنين في أمتهم) (3).

ويؤكد في مكان آخر من كتابه على الوحدة النسبية التي تحققها الشورى في الأمة، ويطرح المسألة طرح المسلمات المفروغ منها، فيقول: (ووجوب الشورى في الأمر بين المؤمنين بعضهم بعضاً، لا لضمان (الوحدة) بين صفوف الأمة فحسب، ولا للإطمئنان على مصلحة كل طرف داخل مع طرف آخر في معاملة، أو للمصلحة العامة لجميع الأفراد فقط، وإنما قبل ذلك لتنبيه كل فرد على مسؤوليته الفردية، وعلى ما يترتب على هذه المسؤولية من التزامات نحو الفرد نفسه، ونحو الآخرين معه في المجتمع) (4).

ولعل الكثير من الروايات المستفيضة التي تؤكد على أن الشورى (استظهار) تشير إلى أنها جامعة لشمل القوى المختلفة والمتباينة، ذلك لأن (الاستظهار) استفعال من (الظهر) أو (الظهور) فالشورى: تحمي ظهر المستشير وتقويه، أو (تُظهر) له ما يقويه من رأي وطاقة وغيرها... وكلاهما يشير إلى اتفاق الكلمة واتحاد الصف نسبياً بين المستشير والمستشار..

وروايات الاستظهار وردت بصيغ مختلفة مثل مارود. عنه(ص) : (لا وحدة (عزلة) أوحش من العجب (بالنفس والرأي) ولا مظاهرة أوثق من المشاورة) (5). و (لا ظهير كالمشاورة) (6). و (كفى بالمشاورة ظهيراً) (7). و (نعم المظاهرة المشاورة) (8). و (نعم الاستظهار المشاورة) (9)، و (المشاورة استظهار) (10)، و (لا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه) (11) وغيرها...

وكل هذه الصيغ يفهم منها حقيقة واحدة: المشاورة قوة لظهر المستشير، وهذه كناية عن مساندة المستشار له وتنسيقه رأياً، أو رأياً وموقفاً وعملاً معه.. وفي (شورى الفقهاء) وكل شورى.. يكون الأعضاء مستشارين ومستشيرين.. فكل منهم ظهير وقوة لصاحبه.

كيف تتفجر الطاقات المختزنة؟

الطاقات البشرية مواد خام مختزنة تكتشفها المسؤوليات.. إنها لا يمكنها الوصول إلى مرحلة العطاء، إلا إذا وضعت في مستوى المسؤوليات.

إن للإنسان كثيراً من الطاقات، لكنها سوف تبقى مختزنة في الباطن إذا لم تهيأ لها الأعمال والمسؤوليات الضخمة التي تحفزها على التفكير ثم على استخراج وإيناع الطاقات الكبيرة الكامنة فيه، وهذا ما جُرِّب عملياً.. مثلاً: الفرق بين الحوزات العلمية والجامعات الحديثة - ويتحسس هذا الفرق جيداً من جربهما معاً - هو أن الجامعي دائماً في حالة أخذ، وليس له عطاء، وهذا ما يجعله خاملاً منطوياً على نفسه.

بينما الحوزوي فور ما يقطع مرحلة أولية، يبدأ بالتدريس، والتدريس هو الذي يصقل فكر المدرس، حتى قيل : (الأستاذ لا يصنع التلاميذ بل التلاميذ يصنعون الأستاذ) وهذا حق بنسبة معينة.

هذا على مستوى الفرد، وأما على مستوى المجتمع فهو أيضاً كذلك، حيث أن أفراد المجتمع إذا دخلوا حلبة الصراع الفكري للبناء والتقدم ورقي البلاد، تبلورت الأفكار وأثمرت، وسخت بالعطاء، وعلى أثر تلاقح أفكارها ورشدها تتقدم البلاد في كل المجالات.

وحينما أرادت أمريكا أن تبني كيانها وتؤسس دولتها أطلقت نداءها المعروف في العالم: (ايها المتعبون في العالم هلموا إلى أرضكم وبلادكم، وبادروا إلى المشاركة في إدارتها). وبالفعل اشترك الجميع في الإدارة، حتى أصبحت أمريكا تهيمن اليوم على أكثر بلاد العالم.. فمثلاً: في ولاية (كاليفورنيا) التي هي واحدة من إحدى وخمسين ولاية أمريكية توجد (200) محطة إذاعة، و (150) صحيفة تصدر في (150) صفحة إلى (500) صفحة أحياناً.. ويباع فيها محطات الإذاعة والتلفاز كما يباع أي شيء في بلادنا.. إن هكذا دولة تشارك في إدارتها كل المحاور والقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. تصبح بالطبع أقوى دول الأرض على الإطلاق.

(... منذ (200) عام كانت نسبة الأميين في أمريكا أكثر مما هي في مصر الآن، ومع ذلك نالت أمريكا الحرية الكاملة والديمقراطية الكاملة في تلك الأيام، وبهذه الحرية والديمقراطية أوصلت نسبة التعليم إلى 99% فالحرية والديمقراطية هي التي تولد التعليم وليس العكس بدليل أن هتلر لما تولى حكم ألمانيا كانت نسبة المتعلمين فيها مائة في المائة ومع ذلك جاءت الديكتاورية التي حولت الشعب المتعلم إلى رقيق وعبيد) (12).

وهذا بالطبع لا يبرر الثغرات الحضارية الضخمة في الكيان الأمريكي بوجه عام.

وفي الجانب الاقتصادي، تعتبر البلاد المعتمدة على (إشراك مختلف القدرات في الإدارة) قوية رغم وجود ضعف ما فيها..

أما من الناحية السياسية.. يكفي أن نعرف أن العرب - والمسلمين بوجه عام رغم ما كان لهم من قيادات دعت إلى إلقاء اليهود في البحر ملأت العالم العربي رعداً وبرقاً وضجيجاً.. لم يستطيعوا جميعاً من زحزحة إسرائيل من مكانها ولا بمقدار شبر واحد، بل العكس صحيح، إذ أخذت إسرائيل تقوي مواضعها وتوسع احتلالها وتجذر نفوذها بزرع المستوطنات في مختلف أنحاء فلسطين المغتصبة، وتطور سلاحها، واقتصادها، وسياستها، وهذا لم يكن إلا نتيجة عدم اكتشاف الطاقات الهائلة المكتنزة في ضمير وفكر وروح أمتنا، عن طريق اشراكها في الإدارة (عبر ممثليها الشرعيين).

وبالطبع ونتيجة لتفجير الطاقات فإن اهتمامات المرجعيات وأركانها تتغير باتجاه الاهتمامات الإيجابية البناءة فمثلاً:

بعد رحيل كل مرجع كبير، تتوجه طاقات كثيفة من الرجال والأموال والاعلام لطرح مرجع آخر.. وتتوجه طاقات كبيرة أخرى لطرح مرجع ثان، وهكذا... لطرح مرجع ثالث ، وتعمل هذه الطاقات بهمة عالية، ومثابرة متصلة لتحقيق هذا الهدف.. طرح مرجع معين.. والسؤال هنا: هل أن طرح ذا أو ذاك هو الهدف الذي يستحق صرف جهود عملاقة لتحقيقه؟ مع أن هناك عناصر مندسة ليس لها إلا تحقيق المصالح الخاصة من وراء طرح هذا أو ذاك ولم تكن القضية خالصة للحق؟؟

أما في ظل الشورى فيرتفع مستوى الطليعة العلمائية من أهل الحل والعقد وأمثالهم ومن مستوى الأمة، لطرح المشاريع وتبني المناهج الكفيلة بتقديم الأمة، وتحقيق أهدافها الحقيقية، وذلك تحت مظلة (شورى الفقهاء) التي تنتمي إليها كل المرجعيات التي سعت في سبيل تقدمها الطاقات والخطوط المختلفة.. وهكذا تتغير (اهتمامات) الأمة، وتهرع إلى تحقيق الأهداف التي ترسمها الشورى، فلا تنحصر الاهتمامات والتوجهات إلى طرح هذا أو ذاك من المراجع ولا تصرف الملايين من الأموال، والمئات من الكفاءات والرجال لاستقامة أموره، واستواء (المرشح للمرجعية) على سدّتها وتغيير هذه (الإهتمامات) إنجاز عظيم للشورى.. الذي لا يمكن إنجازه بغير الشورى مطلقاً.. ومع قيام الشورى، لا تبقى (حلبة صراع) لتنصيب هذا أو ذاك بل تتوجه الطاقات إلى اتجاه معاكس.. وتتوجه الحراب نحو صدر العدو.. وبعبارة أخرى: لا يبقى معنى وموضوعية للصراع المرجعي، لأن كل المراجع (أعضاء متساوون) في مجلس موحد، والكل ينالون نصيبهم من الاحترام والإدارة والدعم، فتتوجه الطاقات إلى البناء وتحقيق الهدف، عوض انهدارها في الأمور الجانبية..

ثبات المناهج والخطط

ومن الضرورات الملحة واللازمة لقيام شورى الفقهاء والمراجع هي ضرورة (استقرار المنهجية) التي هي شرط تقدم أي مشروع للعمل..

وفي (شورى الفقهاء) ثبات نسبي واستقرار منهجية الخطط الجماعية التي ترسم للعمل والظاهر أن هذه النقطة تتطلب تسليط الأضواء عليها وذكر بعض الأمثلة البيانية لها. فمثلاً: على الصعيد الاجتماعي هناك وحدتان: الوحدة الشخصية.. والوحدة الجماعية أي الوحدة المنبثقة من المجموع فالوحدة الشخصية تلك الوحدة التي تكون مرهونة بوجود الفرد تبتدئ بابتدائه وتنتهي بانتهائه، أي تحيى وتموت بحياة وموت الفرد.. أما الوحدة الجماعية، فهي أكثر ثباتاً ودواماً من الوحدة الشخصية فحياة المجتمعات ليست كحياة الأفراد.. إذ أنها تمتاز ببقاء أطول.. ولا تنتهي بموت أفراد معدودين منه.

مثال ذلك: الترعة الصغيرة لو سحب منها الماء الكثير تنتهي وينفد ماؤها بينما ماء البحر لا يظهر عليه النقص حتى لو سحبت منه ملايين الأطنان.. ففي (الوحدة الجماعية) ثبات نسبي.. تفقده (الوحدة الشخصية) حيث طابعها هو عدم الثبات..

وكذا يقال في (المرجع الواحد) و (شورى المراجع).. فالمرجع (الواحد) إذا ارتحل عن الدنيا، تغير كل الخط الذي كان يمتد في حياته، أو يموت خطه أيضاً، بينما المؤسسات الجماعية ليست كذلك، فالحزب مثلاً إذا مات رئيسه يبقى مستمراً يديره بقية مفكرو ذلك الحزب:

ومثل هذا ما جرب في بعض الأنظمة المعاصرة، المتواجدة في البلاد الإسلامية فمثلاً:

كانت قيادة مصر، والخط الحاكم فيها، تعتمد على إنسان واحد وهو (جمال عبد الناصر) إذ كان هو الأول والأخير في اتخاذ القرارات وتنفيذها، وكان هذا الخط باقياً ما دام (عبد الناصر) على دفة الحكم لكن فور انعزاله وموته تغير أسلوب الحكم، ودفن الخط الحاكم رأساً، ودار من فلك الشرق إلى أفق الغرب، وذلك حينما جاء (السادات) إلى الحكم، وكان هذا الأخير كسابقه، هو الوحيد الذي له حق اتخاذ القرارات وإمضائها.

ثم جاء بعده خط جديد وأسلوب آخر، مختلف تماماً عن سابقيه، ليدير دفة الحكم في مصر، وهكذا بينما القيادة في لبنان غير محتكرة على شخص واحد، ولا على فرد معين، بل موزعة بين الجميع (وإن لم تكن بصورة عادلة) لذلك نرى أن ملايين الرصاصات قد أطلقت في لبنان، ولم يحدث في خط الشعب اللبناني العام تغيير ولا تبديل).

والجدير بالذكر: أنه عقد في (مجلس الأمم المتحدة) اجتماع طارئ بعد اغتيال السادات، قال الممثل المصري في خطاب له: إن هناك دولة يتغير كل نظامها بإطلاق رصاصة واحدة، وينتهي النظام بموت إنسان واحد وهو (السادات).

فقال ممثل لبنان مجيباً له في خطابه: (وهناك دولة تصمد أمام ملايين الرصاصات ولا يتغير نظامها الحاكم وهي: (لبنان) رغم الحروب والصراعات الموجودة فيها..

وهذه هي إحدى الفوارق بين (الوحدة الشخصية) المتمثلة في زعامة السادات، الذي كان يتخذ كل القرارات بنفسه، حتى أنه اتخذ قرار زيارة إسرائيل وحده، بعد حرب طالت ثلاثين عاماً، مما أدهش مجلس الأمة المصري.. وبين زعامة الهيئة الحاكمة في لبنان التي تتخذ قراراتها وفق الأكثرية بغض النظر عن طريقة نظام الحكم هناك..

ولا ضمان لدوام أية دولة دون توزيع القوى واعتماد الشورى، ولذا نرى: أن البلاد الديكتاتورية تسقط الواحدة تلو الأخرى.. وبالطبع لا ينفع أن يكون في البلاد مجلس استشاري يطلق عليه (مجلس الأمة أو الشورى أو البرلمان) إذا لم يكن وراء المجلس أحزاب حرة، ولو لم توزع القدرة بين الأحزاب الحرة لا تسلم الحقوق الإنسانية للأمة.. بل تصادر أبسط حقوقها وحرياتها.. أما مصير الدولة فيكون السقوط على أثر انقلاب عسكري غالباً.. كما هو المعتاد في كل بلد يحكمه حزب أو جهة واحدة.. أما البلاد الديمقراطية ذات الأحزاب الحرة، فلا يقع فيها انقلاب عسكري ما دامت الحرية السياسية هي الحاكمة.. والأحزاب المعارضة لها حق التعبير عن رأيها.. والنظام الصهيوني الغاصب نموذج حي لما نقول.. ومر من عمره المشؤوم اكثر من خمسين عاماً.. ولم يحدث انقلاب عسكري واحد في داخله..

والمرجع الواحد له أسلوبه ونظريته وخططه الاستراتيجية في العمل ويبذل زهرة عهده المرجعي في نطاق تلك الخطط والنظريات في العمل والخدمة والقيادة... وتطبيق الممكن من أحكام الإسلام..

وليس بالضرورة أن يؤمن المرجع المستقبلي بذلك.. بل في كثير من الأحيان تختلف أساليب العمل عند المراجع.. وأحياناً بل غالباً تختلف النظريات الاجتماعية والرؤى عندهم.. وغياب القائد يغير السياسة القيادية غالباً.. وما قيل في المرجعية يصدق على الأنظمة السياسية أيضاً..

فمثلاً في الإتحاد السوفياتي الذي غربت شمسه: (والأمثال تضرب ولا تقاس) تتغير سياسة لينين بعد موته، وكذا سياسة ستالين وخروشوف، وهكذا في الصين بعد ماوتسي تونغ، ومصر والعراق بعد موت أي قائد فيهما.. وهذا أمر لا يخفى على المطلع على التسلسل السياسي لهذه البلاد، وبالطبع هذا لا يعني عدم تغير السياسات في البلاد ذات الأحزاب المتعددة، بل المقصود أن الثبات السياسي لها أكثر استقراراً من غيرها..

والمسألة طبيعية.. لأن الاجتهادات والنظريات الإدارية والسياسية تختلف دائماً كالاجتهادات الفقهية والأصولية.. وكذا الأساليب والتكتيكات للاجتهادات المتباينة.

أما في ظل (القيادة الجماعية) فتتحجم مثل هذه التحولات السياسية الانقلابية.. وتسير وفق نسق ثابت غالباً قائم على مبدأ الأكثرية و (الرأي الجماعي).

وكلما ارتفع مرجع إلى الشورى، تبلورت شخصيته وأفكاره وبقيت الأساليب الادارية ثابتة، ولا يستطيع المتقدم الجديد قلب موازين الادارة السابقة، وتخطئتها، ورسم خطة جديدة أساسها مضادة الخطة السابقة، بل لا يحق للمرجع الجديد في الشورى الانحراف عن الخطة المعمول بها في الشورى، والتحليق خارج السرب.. إلا إذ أسند خطته بأدلة ووثائق متينة، وبراهين ساطعة.. وتمكن من اقناع الأكثرية..

وهكذا تدار شؤون المرجعية على نسق موحّد، وبرنامج منظّم وثابت دون حدوث أية تبدلات ادارية.. وتغيرات في المواقف، ناشئة من تبدل مرجع أو ارتقاء مرجع إلى الشورى، فتتحصن الشورى عن المؤثرات العاطفية، والانفجارات الوقتية، وفي هذا الجوّ الوادع تخطط لإدارة شؤون الأمة وتناقش المشاريع المطروحة، بموضوعية وواقعية وهدوء..

شورى الفقهاء قدوة لشوريات الأمة

والرسول(ص) أسوة المسلمين إلى يوم القيامة ومعلمهم العظيم و (لكم في رسول الله أسوة حسنة) إنما يستشير أصحابه ليسنَّ سنّة صالحة حسنة.. فتقتدي به أمته.. وتحذو حذو خطاه.. وتتخذ من (الشورى) ركيزة أساسية اجتماعية وأخلاقية لادارة شؤونها وتنظيم مختلف برامج حياتها وما أروع هذه السنة الصالحة التي شرعها الوحي.. ونفذها الرسول الأعظم(ص) ولقد روى ابن عباس قال: (لما أنزلت (شاورهم في الأمر) قال رسول الله (ص): أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً) (13).

وكان(ص) قد اصطفى نخبة واعية من صحابته الأبرار كمستشارين له في الأمور العامة.. وكذا الخاصة أحياناً (كطلاق بعض زوجاته) وكذا أمير المؤمنين علي(ع).. وهكذا كان بعض أو كثير من أمراء المسلمين أيضاً حيث كانوا يجمعون حولهم ثلة من الفقهاء الأخيار ويستشيرونهم في مختلف الأمور، صغيرة أو كبيرة.. وبعد المداولة فيها كانوا يتخذون القرار وفق رأي الأكثرية..

والذي يتصفح أوراق التاريخ يتضح له ذلك بصورة جلية..

ومراجع الأمة الإسلامية أولى من يتأسى بالرسول(ص) ويتلقى منه دروس الشورى.. وبذلك تكون هي أيضاً (أسوة) للمسلمين اليوم.

فلو بادر القادة إلى الاقتداء بالرسول (ص) والتنفيذ الجاد للشورى.. فإنهم بذلك سيعلمون مختلف طبقات وشرائح الأمة عملياً نظام الشورى..

وليست (شورى الفقهاء المراجع) إلا نموذجاً سامياً يستحق الاستضاءة به والسير على منواله.. وبتحققه.. تتحقق طبيعياً (شورى الحركات) و (شورى الخطباء) والوكلاء والأدباء والأساتذة والمفكرين ورجال الاقتصاد والتجار والجامعات وغيرها.. وفي التاريخ شواهد صدق على ذلك.. فمتى ما تحققت (شورى الفقهاء) تشكلت الشوريات الأخرى أيضاً(14).

وبذلك يتحقق شوط كبير وتحدث انتفاضة ادارية ونوعية في مسيرة الأمة الإسلامية وطلائعها وتمهّد لمقدمات إنقلاب حضاري في علاقات المسلمين بعضهم ببعض.. وفي تحركهم وكفاحهم في سبيل التحرر والخلاص.. والتقدم المطرد إلى الأمام.

الشوريات مدارس النضج الفكري

لا شك أن القرارات والخطط المرجعية ذات حساسية وأهمية كبيرة، ذلك لأنها ترتبط بمصير جماهير واسعة من اتباعها.. لذا فإن قراراتها وفتاواها العامة خطيرة للغاية.. من هنا لزمت دراسة تلك القرارات والخطط دراسة مستوعبة عميقة..

ولكي تدرس تلك القرارات والخطط بعمق يلزم اشباعها بحثاً في جلسات الشورى المتكافئة مع رموز ومراجع الأمة.. ومجالس الشورى هي (مطبخ) النضج الفكري، ومدرسة التربية العقلية..

وكيف ذلك؟؟

الجواب: تسبق (الشورى) عادة مناقشات حول صحة وخطأ أي الرأيين المتناقضين ويحتد النقاش.. ويتوالى الكر والفر.. وتتكرر الاجتماعات لأيام وشهور أحياناً.. ثم بعد ذلك.. يستنتج مخاض المناقشات والمداولات..

وليس هناك في الأفكار شيء يسمى (اليقين المطلق) وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية..

ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا.. مع الاحتفاظ بحرمة الآراء المعارضة.. (وهناك اختلاف كبير بين افتراضنا صحة رأي ما لأنه لا يوجد دليل على خطأه أو فساده مع تعرضه للمناقشة والانتقاد، وبين افتراضنا صحته بقصد صيانته من التفنيد أو الدحض، وإن إطلاق الحرية التامة للغير في معارضة آرائنا ومناقضتها هو الشرط الجوهري الذي يجيز لنا افتراضنا صحة هذه الآراء حتى يمكننا العمل بها، وما لم تتوافر هذه الشروط لا يمكن لأي إنسان أن يكون على ثقة بصحة رأيه وصواب اعتقاده.

ولو أننا درسنا تاريخ الآراء والنظريات، وتأملنا غالبية الرجال البارزين في جميع الأجيال الماضية لوجدنا أن معظمهم اعتنق كثيراً من الآراء التي شاع الآن خطؤها، كما كانوا يوافقون على أمور عدة لا يمكن لأحد أن يستسيغها الآن) (15).

واقعنا ومتاهات الأخطاء

وأما السؤال القائل: لماذا نجد بوجه عام أن كفة الآراء الصحيحة والسلوك السليم بين الناس هما دائماً الكفة الراجحة ؟.

والجواب: إن الواقع هو رجحان الكفة المعاكسة.. إذ أن البشرية اليوم.. والمسلمين على وجه الخصوص في حالة يرثى لها.. ومسلسل المآسي اليومية على صعيد التسلح العالمي الذي بلغت ميزانيته في عام (87م) حوالي (2000.000.000) ملياري دولار مع أن خمس هذا المبلغ كان كافياً لإسكان كل من لا سكن له على وجه الكرة الأرضية.. إضافة إلى (125.000.000) نسمة في العالم مهددون عام (2000) بالموت جوعاً حسب تقرير اليونسكو !!.

وذكرت إذاعة لندن - مساء 21 - جمادى الثاني / 1408 هـ، في تقرير سياسي: أن أكثر من مئتين وثمانين مليار دولار (280.000.000.000) اشترت بها الدول الشرق أوسطية من السلاح الأمريكي فقط دون غيره من صفقات الأسلحة الضخمة!!.

أما الحالة المأساوية للمسلمين فهي أشد من ذلك.. إذ أن الأمة أصبحت أشبه بمتسكع مجهول الهوية.. مرهق الجسم.. جاهل لا يعرف تدبير أمره.. وقد أحاطت به الأعداء من كل حدب وصوب.. وهو يتجرع الغصص والآلام.. ويقتات الحرمان.. وسماء بلاده ملبدة بغيوم الحروب والانقلابات والتوترات والسجون المتخمة بالمتهمين الأبرياء.. ومقابرها مشيدة بجثث الضحايا.. وأبسط دليل على رجحان كفة الخطأ هو هذا التخلف عن ركب الحضارة وهذا الضياع والفقر والأمية والمرض وهجرة الأدمغة وعشرات الأزمات التي تعاني منها بلاد العالم الثالث.

فإذن: الخطأ والانحراف هو الأصل وكفته هي الراجحة لا العكس..

ومن الطبيعي أن (الشورى) تساعد في النضج الفكري للمستشار على وجه الخصوص فيما لو كان المستشير مستغنياً عنه وأرفع مستوى منه، بل هي في الواقع من الوسائل التربوية الراقية والذكية في نقل الأفكار إلى الآخرين، ورفع مستواهم الفكري، لأنها تبعث في ضمير المستشار اندفاعاً عالياً لإبداء أكمل الآراء وأمتنها.. وهذا ما يسبب تشغيل خلايا المخ والضغط الشديد والمتكرر عليها، وإنتاج أروع بضاعة فكرية.. وهذا هو الذي ينضج عقليتهم...

(... والشورى تربية للفرد على أداء وظيفته الإجتماعية عن طريق تهيئة الفرصة له لأن يبرز في المجتمع، فيربّي ملكاته، وينمي قدراته، حتى يكون أهلاً للمشورة، وهذا بدوره داعية قوية تدعوه إلى الإستزادة من العلم والمعرفة.

ويمكن أيضاً إرجاع أهمية الشورى وضرورتها إلى أن الأفراد مختلفون في الطباع والعقول) (16).

والشورى لا تنضج فكر الأفراد فحسب، بل أصبحت من وسائل ترفيع المستوى الفكري للشعوب أيضاً

(... وهي تذكير للأمة بأنها صاحبة السلطان.. ومن الصعب على الأمة التي اعتادت ونشأت على المشاركة في شؤون الحكم، وتحمل التبعات أن تتنازل عن حقوقها... بل تكون هذه الأمة متوجهة للخير في جميع أمورها، وتنعكس هذه النتيجة على أوضاعها تقدماً ورقياً... ) (17).

كيف يتحقق النضج؟

إن مما لا شك فيه: عدم تمكن المرء من الإحاطة بدقائق قضية ما، فإن معرفته بها تكون ناقصة، وقد تكون أدلته قوية، ويعجز الغير عن دحضها، ولكن إذا عجز بدوره عن دحض أدلة خصمه، فبأي وجه يستطيع المفاضلة بين رأية ورأي خصمه؟؟

ولا يكفي أن يقف المرء على أدلة خصمه، كما يسوقها له أساتذته أو أصدقاؤه أو تلامذته أو مصادره الخبرية الخاصة وبما يتفق مع آرائهم فيها، لأن هذه الطريقة لا تنصف أقوال الخصم، كما لا تقرّبها إلى الذهن لكي يتفهمها، بل ينبغي أن تسمع أقوال الخصم ممن يؤمن بصحتها ولا يتوانى عن تأييدها والدفاع عنها... إذ أن اطلاع الإنسان على أدلة خصمه وهي في صورة واضحة غير مشوّهة، وتامة غير مبتورة، بحيث يشعر بقوتها ورجاحتها وبصعوبة موقف المعارض لها، يساعد الإنسان المحايد ويوصله إلى وجه الصواب الكفيل بدفع الأدلة المعارضة، وتذليل صعابها..

إلا أنه يندر للأسف بين الطبقة المثقفة المؤمنة من يكلّف نفسه تلك المؤونة ويبحث عن دفاعات خصمه الفكرية... وبدون ذلك هل يمكن أن يأتلف شمل النظرية المبتعدة عن أدلة خصمها؟ ومن يقول أنها حقيقة وصواب ما لم يفسح المجال للردود عليها.. وما لم تثبت في حلبة الصراع الفكري؟

والحقيقة.. يجدر بالمرء إذا وجد من ينازعه في صحة آرائه أو الآراء السائدة، أو الرأي العام إذا أجاز له القانون أن يقابله بالشكر، ويقبل عليه بآذان صاغية وأن يغتبط بوجود من يعارضه في آرائه إذا كان يهتم بأن تكون تلك الآراء مبنية على دعائم متينة. لأنها إما أن تكون خطأ.. فلا بد آنئذ أن يكون هناك رأي آخر هو الصواب وإما أن تكون صواباً، وضرورة معارضة هذا الصواب بما يناقضه من الخطأ حتى يتمكن الذهن من الإحاطة بالحق إحاطة تامة.. ولو أحاط بالحق فإن نتاجه يبقى وإن كانت الأجواء والقانون والرأي العام يخالفه.. كبعض آراء (روسو) التي كانت تحتوي على شيء من الحقائق التي أهملتها الآراء الشائعة آنئذ... وبعد مرور زمان طويل ظهرت على مسرح الأفكار من جديد..

الاجتماع حالة نوعية متحصنة عن الأخطاء

والواقع: إن الجماعة (المتشاورة) المكونة من جملة أفراد تختلف عن الفرد المعرض للزلات.. إذ أن في الجماعة يخرج الأمر عن مجرد (كم) ويصل أمرها إلى (حالة كيفية) جديدة. بحيث نجد أن كل ما يجوز على كل فرد متفرد من أفرادها لا يجوز على الجماعة مجتمعة وإن لم تكن معصومة.. والفرد يجوز عليه السهو والخطأ والنسيان إضافة إلى الردة والكذب والكفر والضلال.. وذلك بعيد واحتمالاته تقل لأقصى حد على أطراف الشورى خصوصاً لو كانوا طليعة الأمة وعلماءها العادلين ذلك لأن الإجتماع يضيف جديداً إلى الأمر.. ويؤتي الثمر ناضجاً.. وهذا هو الفارق بين رأي الجماعة المجتمعة.. وبين رأي آحادها إذا كانت متفرقة غير مجتمعة.. كما أن الإجتماع يوفر (القدوة) و(التجربة) غير المباشرة.. وذلك عبر الإحتكاك بالآخرين الذي يتسبب في الإنسجام معهم والإقتباس من تجاربهم.. وهما (القدوة والتجربة) من عوامل تعديل الرأي وإنضاجه.. كما يتولد هذا التعديل والإنضاج عند الإستنارة بالتجربة الذاتيه للفرد.. (ذلك أنه إذا صح في فعل القادر الواحد أن يكون صواباً إذا تقدمه فعل آخر.. ولو لم يتقدم لكان خطأ.. فما الذي يمنع من كون فعله صواباً إذا تقدم مثله من غيره.. ومتى لم يتقدم ذلك لم يجب أن يكون صواباً.. وهذه طريقة أهل الحرمة والرأي من ذوي العقول. لأنهم إنما يجتمعون في النوازل والحوادث على المشاورة لكي يحترزوا عن الخطأ.. الذي لولا اجتماعهم لكان إلى أن يقع أجوز) (18).

(وإنه لا يمتنع أن يكون المعلوم من حال العشرة بأعيانهم أن كل واحد منهم لا يختار مع صاحبه إلا الصواب. وإن كان قد يختار الخطأ إن انفرد كما لا يمتنع فيهم أن يصيبوا في الرأي إذا اشتركوا فيه، وإن جاز أن يخطئ كل واحد منهم فيما يستبد به) (19).

و(الإجتماع) حالة كيفية (متحصنة) عن الزلل. وبعيدة عن المزالق.. وإن كان كل فرد.. معرضاً لذلك إذ أن (الإجتماع) يخلق واقعاً رصيناً.. وإن كان أعضاؤه ضعافاً كآحاد الجيش التي تنتج حالة النصر الحاصلة من مجموع آحاد العسكر..

قال الجرجاني في معرض دفاعه عن (الرأي الجماعي): (فإن قيل: خبر كل واحد لا يفيد إلا الظن.. وضم الظن إلى الظن لا يوجد اليقين.. وأيضاً جواز كذب واحد يوجب جواز كذب المجموع. لأنه نفس الآحاد.. قلنا: ربما يكون مع الإجتماع ما لا يكون من الإنفراد.. كقوة الحبل المؤتلف من الشعيرات) (20).. فالمجتمع صفة جديدة، والله (سبحانه وتعالى) جعل في هذه الصفة الجديدة، واقع القدرة، وكذلك في كثير من التجمعات،

 

فإن تجمع القطرات يكوّن الشلال الذي له قدرة خارقة نابعة عن قدرة القطرات وبتجمع البيوت تكون المدينة، وبتجمع ذرات الحديد يكون الفأس القادر على هدم الجدران..

الأمة الواعية مع الشورى

والأمة الواعية تضع ثقتها في الجماعة أكثر مما تضعها في الفرد كما أن الجماعة أقدر على كسب الثقة من الفرد.. والسلطة العليا للأمة تكون في الجماعة خير من كونها في فرد لبعد الجماعة بدرجات عن الخطأ والإنحراف.. وهذا ما لا نشاهده دائماً في الفرد..

احترام العقل

كما أن الشورى أثر طبيعي لاحترام الإسلام للعقل، وأنها مقتضى تكريم الله للإنسان ولا أدل من قول الله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) في بيان أهمية الشورى وهي مظهر من مظاهر المساواة، وحرية الرأي والنقد، والإعتراف بشخصية الفرد وهي أيضاً طريق إلى وحدة الأمة الإسلامية ووحدة المشاعر الجماعية من خلال عرض المشكلات العامة وتبادل الرأي والحوار..

أعقل الناس..؟

لقد ورد في أكثر من حديث: (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله) (21) ذلك لأن العقول كالمصابيح إذا اجتمعت ازداد النور ووضح السبيل ولأن لكل عقل نوعاً من التفكير.. وبُعداً خاصاً، والقضايا المعنوية (إدارية، سياسية، وغيرها) كالأجسام الخارجية لها أبعاد معينة، فكل من ينظر إليها، يراها من منظاره الخاص، ويقيمها وفق مسبقاته الفكرية، فالذي ينظر إلى جسم مربع من جهة واحدة يرى لونها مثلاً: أبيض، والذي ينظر إلى الثانية يراه أسود، وكذا الثالث والرابع أو الذي ينظر إلى الكرة الأرضية من جهة معينة، فإنه يرى قطراً معيناً..

أما الجماعة فإنها كجماعة ترى الجسم أو القضية من كل جوانبها وتحيط بها فالحرب مثلاً يحللها السياسي وفق اختصاصه، والعسكري وفق خططه، والعالم الديني وفق قواعده الإستدلالية، فيحكم بحرمتها أو وجوبها.. (إن آلية المناقشات واللجان والمجادلات تتيح لكل خصم أن يدلي بحججه، وتضمن في الوقت نفسه معرفة المشكلة من جميع الجوانب معرفة كاملة، تُفهم كل فرد تنوع وتعقد المشكلات القائمة) (22).

والجماعة دائماً أبعد عن الوقوع في الخطأ من الفرد، فإحاطة الجماعة بقضية معينة وإن كانت إحاطة ناقصة، إلا أنها أوسع وأدق من الإحاطة الفردية، والنقص فيها أقل، لذلك كان أعقل الناس من جمع عقول الناس وأضافها إلى عقله..

وطاقات المراجع ضخمة واسعة (العقلية، والفكرية، والإقتصادية، والإعلامية، وغيرها) فما هو الموقف السليم منها: إهمالها؟ أو استثمار بعضها؟ أو تجنيدها كلها في سبيل الهدف؟.

بالطبع تجنيد تلك الطاقات الضخمة جميعاً في سبيل الهدف هو الموقف الصحيح والمطلوب..

واستثمار كل تلك الطاقات.. وتوجيهها إلى هدف سام موحد لا يتم إلا بعد احترام هؤلاء المراجع، وتوقير آرائهم ومواقفهم، وذلك مشروط بإشراكهم في الإدارة، وإعطائهم الحجم المناسب لهم كمراجع وقادة ونواب الإمام المعصوم(ع) فأعقل المراجع من جمع عقول المراجع الآخرين إلى عقله، وتلك الطاقات إلى طاقته.. وطريقها الشرعي والإنساني الأخلاقي الرائع هو: الشورى والتنسيق بين المراجع، ومجتمعاتنا الإسلامية تسجل صوتها إلى جانب (شورى الفقهاء) لأنها تعرف بفطرتها وثقافتها الإسلامية أن (الشورى) أسلوب رائع لإدارة الأمور لذلك فإنها بالطبع تحب المستشير وتمج المستبد.

ومع تداعم وتلاقح طاقات المراجع تكون المنجزات أكبر.. وأعظم.. وكما يقول علماء الاقتصاد: إن ربح كل مائة دينار لو كان فرضاً خمسين ديناراً، فإن (500) دينار لو استثمرت مجتمعة سيكون الربح مضاعفاً عن (50) ديناراً لكل مئة.. نعم.. هكذا إنجاز يتحقق مع جمع الطاقات والعقول.

الهوامش

1- كتاب (دراسة التاريخ) لأرنولد توينبي من أروع ما كتب في هذا الحقل، ويثبت: أن جميع الحضارات إنما سقطت لتباين محاور القوى في ظلها.

2- مجلة (الوعي الإسلامي) العدد 69/ص 47/ الكويت.

3- الدين والدولة /388/د. محمد البهي.

4- المصدر /391/ د. محمد البهي.

5- توحيد الصدوق/376.

6- نهج البلاغة /3/164.

7- غرر الحكم / 7099.

8- غرر الحكم / 9984.

9- المصدر / 10023.

10- المصدر / 231.

11- الكافي /1/29.

12- صحيفة (الأخبار) المصرية/3-1-1980. ونقلاً عن (الشورى وأثرها في الديمقراطية).

13- الدر المنثور /السيوطي/2/90.

14- للتأكد من ذلك يراجع (نهضت روحانيون ايران) للأستاذ علي دواني.. فإن فيه نماذج كثيرة لذلك..

15- حول الحرية / 39. جون. ستيوارت. مل.

16- زكي نجيب محمود /جريدة الأهرام/22/11/1974م.

17- الشورى في الإسلام /30/ الأستاذ محمود بابللي المحامي.

18- (المغني في أبواب التوحيد والعدل) ج17 ص159 لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (المتوفى سنة 415هـ).

19- المصدر /ج15/ ص258.

20- شرح العقائد النفسية /127-128.

21- كلمة الرسول الأعظم(ص) / للشهيد الشيرازي.

22- مدخل إلى علم السياسة /225.