2000  تشرين الثاني

1421  شعبان 

51  العدد

مجلة  

محاضرة اخلاقية

 

 

التوازن في حفظ الارتقاء الشخصي 

والانحطـاط النفسـي

من المحاضرات الأخلاقية لسماحة الفقيه المحقق آية الله السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله

الغوص في فقرات الدعاء

وجهان لعملة واحدة

تساؤل دارج

الأثر الجانبي في العلاج

حفظ التوازن

تحقيق مضان الدعاء

قال الإمام السجاد(ع):

(اللهم صلّ على محمد وآله ولا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها)(1).

هذه الكلمات وردت في دعاء الإمام السجاد(ع) حول مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال ولما يتضمنه الدعاء من معانٍ عديدة في تربية النفس، والعشرة الاجتماعية، وتهذيب الاخلاق، والقرب من المولى سبحانه نقلنا هنا فقرة قصيرة ابتدأها الإمام السجاد(ع) بالصلاة على محمد وآله لأن الصلوات أحد أسباب استجابة الدعاء وتحقيق المطاليب التي يتضمنها.

تساؤل دارج

كما هو معلوم أن الإمام يتمتع بمقام العصمة وهذا المقام واحد من المقامات العلية التي يبغيها الإنسان الكامل بل هي أعلى درجات الكمال فيبدر هذا التساؤل الدارج: إن من يتمتع بهكذا صفة وكمال فلأي شيء يدعو الله سبحانه بهذه الكلمات أو لماذا يطلب المغفرة لذنوب وخطايا عديدة لا تجتمع مع العصمة؟

نقول في معرض الجواب أن عصمة الأنبياء والأئمة(ع) تعني المنع من ارتكاب أي معصية والوقاية من كل رجس لوجود استعداد كاف لذلك عندهم(ع) وما يقتضيه الأمر في كون كل نبي أو إمام مثلاً أعلى للناس وقدوة صالحة لجميع الأمم وكما دلت على ذلك النصوص الكثيرة من القرآن الحكيم والسنة المطهرة وبحثنا ليس في اثبات العصمة وإنما في دعاء المعصوم(ع) لذا نختصر الإجابة بالقول في أن كل مقام وكمال للقدوة قابل للصعود والزيادة بحسب الاستعداد وهذا الصعود في الكمالات لا ينتهي عند مقام العصمة بحسب النظر الإلهي الواسع أما بحسب نظرنا فانه ينتهي عند العصمة لذا يبدر التساؤل الدارج فمقام العصمة قابل للزيادة وليس بمنتهي، فأدعية المعصومين(ع) وطلب الحاجة والمغفرة ليست تعليماً لنا فقط وإنما هي في نفس الوقت دعاء لهم في طلب المزيد من الكمال وكما ورد في الآية الكريمة (وقل ربّي زدني علما) (2) ولا يمنع هذا المقام من طلب الزيادة أما بالنسبة لنا فالذي يهمنا من الدعاء هو أن نستفيد بفضل ما ورّثه لنا ائمتنا(ع).

وجهان لعملة واحدة

كما قلنا أن الإمام السجاد(ع) افتتح دعاءه بالصلاة على النبي وعلى آله ثم طلب من الله سبحانه في هذه الفقرة القصيرة مطلبين هما في الحقيقة واحد وغالباً ما يكونان متلازمين وإن كانا بحسب الاصطلاح العلمي بينهما عموم من وجه لأن النسبة بين المعاني باعتبار اجتماعها في المصداق وعدمه أو النسبة بين المفاهيم هي أربعة:

نسبة التساوي: وتكون بين المفهومين اللذين يشتركان في تمام أفرادهما كالانسان والضاحك فان كل إنسان ضاحك وكل ضاحك إنسان.

نسبة العموم والخصوص مطلقاً: وتكون بين المفهومين اللذين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره ويقال للأول: (الأعم مطلقاً) وللثاني (الأخص مطلقاً) كالحيوان والانسان، والمعدن والفضة، فكل ما صدق عليه الإنسان صدق عليه الحيوان ولا عكس فانه يصدق الحيوان بدون الإنسان وكذا الفضة والمعدن.

نسبة العموم والخصوص من وجه: وتكون بين المفهومين اللذين يجتمعان في بعض مصاديقهما، ويفترق كل منهما عن الآخر في مصاديق تخصه كالطير والاسود، فانهما يجتمعان في الغراب لأنه طير وأسود، ويفترق الطير عن الأسود في الحمام مثلاً والأسود عن الطير في الصوف الأسود مثلاً ويقال لكل منهما اعم من وجه وأخص من وجه.

نسبة التباين: وتكون بين المفهومين اللذين لا يجتمع احدهما مع الآخر في فرد من الأفراد أبداً مثل الحجر والحيوان.(3)

وسيتضح من خلال البحث أن ما جاء في فقرة الدعاء من مطاليب أنها مطاليب بينها تلازم معنوي وكأنهما وجهان لعملة واحدة ولا ينفصلان.

الغوص في فقرات الدعاء

الإمام السجاد(ع) هكذا يسأل الله سبحانه في الفقرة الأولى:

(لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها)

الارتفاع في الناس كيف يمكن تصوّره؟

الإنسان مرة يكون له مقام خاص عند الناس وذلك بفضل احسانه ببذله الأموال ووجوده وسخائه ومرة بحسن خلقه التام أو بعلمه الذي يظهره بين الناس... فترتفع درجته.

وارتفاع الدرجة لدى المحسن أو الخلوق أو العالم مع ما أودع الله سبحانه في نفس الإنسان من شهوات يجعله لا ارادياً (عفوياً) يفقد توازنه فعادة الناس إنها تحترم الآخرين بمستوى عقلهم وعاطفتهم وبما عندهم من انطباع عن من يحترمونه فهذا الاحترام والتقدير وكل عمل يدل على ارتفاع الشخص يولد في نفس الإنسان حالة من الغرور أو نسيان الماضي وعند ذلك حتى إذا تذكّر تراه يسرع في الاغماض عما كان ولا يستوقف نفسه عندها ولذا فان حالة الارتفاع عنده تكون غير مناسبة فيأتي دعاء الإمام السجاد(ع) ليقول:

الهي كل درجة أصعدها عند الناس أو ارتفاع في قدر الشخصية في المجتمع فبنفس تلك النسبة أنزلني في داخلي أي إلا حططتني عند نفسي مثلها وليس عند الناس، والغاية من ذلك أن تكون هناك حالة من التوازن يسيطر على مجرياتها بفضل الله سبحانه وبالتالي لا يكون أمره بيد الآخرين فإذا ما ركّز الإنسان على ارتفاع نفسه ولم يسيطر على المجريات يتحكم الآخرون به في حين يلزم عليه أن يكون متحكماً هو بمقادير اموره صادقاً في أفعاله أي متوازناً وهذا ما يحتاج إلى الدعاء والله سبحانه يصون الإنسان من الزلات.

العز الظاهر والباطن

وأما المطلب الثاني من قول الإمام السجاد(ع):

(ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها).

العزة عزتان والمتتبع للروايات يجد هذا الاختلاف والتنويع في معنى العزة بحيث تختلط عليه المفاهيم أحياناً لكن التحقيق في الأمر يستدعي أن نسبر معاني العزة ومنها:

1) العزة الظاهرية: وزمامها بيد الإنسان وتعني أن الإنسان يتمتع بشخصية ظاهرية واقدام وتبجيل لدى الناس.

2) العزة الباطنية: وهي من كرامة النفس فمن كانت نفسه كريمة غير واطئة أو مهينة فهو يتمتع بعزة باطنية.

ويتضح الفرق بينهما من خلال هذا التساؤل:

سألني أحد الأخيار أن المنقول عن الإمام الرضا(ع) عن الإمام الحسين(ع) من كلام له(ع) (وأذلّ عزيزنا).

مع أن الإمام الحسين(ع) يقول في عرصات كربلاء (هيهات منا الذلة).

فهل هناك تناقض في أقوال الإمام الحسين(ع)؟

وأضفت على كلامه وتساؤله بأن في زيارة الإمام الحسين(ع) توجد فقرة تقول: (لا ذليل والله معزك ولا مغلوب والله ناصرك) فكيف يجتمع هذا الكلام مع قوله(ع) (وأذلّ عزيزنا)؟

الجواب يظهر في الفرق بين العزة الظاهرية والباطنية كيف؟

الإمام الحسين(ع) قابل اكبر طاغية على وجه الأرض شرساً وبليداً في نفس الوقت وهو يزيد بن معاوية الذي هيأ جيشاً كبيراً وجراراً لقتل الإمام الحسين(ع) لكن الإمام(ع) لم يخف ولم يعط بيده إعطاء الذليل لذا فانّ في قوله (أذلّ عزيزنا) أنها في الظاهر ذلة أما في الواقع فإنها ليست بذلة لأن الواقع هو قوله(ع) (هيهات منا الذلة) ولأن الإمام الحسين(ع) كانت نفسه كريمة. والواقع يتبين من خلال شهادته والتضحية بكل عزيز عنده من أهل بيته وأصحابه(ع) لأجل أن لا يصافح يزيد أو يضع يده في يد أحد عمال يزيد ففي مصافحتهما تكون الذلة الباطنية والواقعية وأما ما اصابه من التشريد والمظالم وانتهاك الحرمات والقتل فهو في الظاهر ذلة وأما في الواقع فانه العزة.

ففرق بين أن تعيش الظاهر وتعيش الواقع والذي يهمّ في الأمر ما هو عليه واقعنا لا ظاهرنا فإذا ما أردنا العزة أردناها واقعيةً لا ظاهرية.

وهنا نعود إلى فقرة الدعاء من قوله(ع) (ولا تحدث لي عزاً).

كل إنسان يفتح مجالاً لنفسه في المجتمع سواء اكان واسعاً أم ضيقاً تتولد منه عزة ظاهرية بسبب عقله أو فهمه أو امواله أو عشيرته.. وتلك الأمور حق طبيعي لكل إنسان واع واجتماعي فلذا كان السؤال: الهي هذه العزة الظاهرية لا اريدها أن تكون سبباً لأن افقد الواقعية في الحياة. الهي بمجرد أن تكون في نفسي هذه العزة الظاهرية تولّ أنت أمر نفسي وداخلي لتحدث فيه ذلة باطنية حتى لا تنهدم تلك العزة الواقعية أي اني أطلب الحماية والرصانة الكاملة منك يا رب العالمين في أن تصون واقعي من الزلل وتجعلني متوازناً في أفعالي ونياتي وفي ذلك قوة اجتماعية ثابتة على مبدأ واضح دون لبس أو زيف في التعامل وهذه المفاهيم قمة التعايش الأخلاقي في المجتمع لذا سمي هذا الدعاء بمكارم الأخلاق التي عبّر عنها رسول الله(ص) بأنها الغاية القصوى والكمال المرتقب من بعثته حينما قال(ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

تحقيق مضان الدعاء

الملاحظة الدقيقة لهذه الفقرة من الدعاء التي تضمنت جملتين ذوات مطلبين لهما معنى واحد متلازم كما أشرنا إلى ذلك وتوضّح من خلال البحث أن هناك عدة مصاديق في الدعاء منها:

1) الرفعة بين الناس.

2) الانحطاط في النفس.

3) العز في الظاهر.

4) الذل في الباطن أو النفس.

الإمام السجاد(ع) ينسب هذه الخطوات الأربع إلى الله سبحانه بقوله: الهي أنت الذي تعز وأنت الذي ترفع وأنت الذي تحطّ وأنت الذي تذل فهو من عملك يا الهي وليس من عمل الناس فالرفعة بين الناس هي من الله لأن اسبابها هي بيده سبحانه ومن أسباب الرفعة الذكاء والذكاء من قبل المولى عز وجل قال سبحانه (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (4) فأي سبب للارتفاع سواء أكان هو الذكاء أو المال أو العشيرة أو العلم وما شابه تتدخل به العناية الإلهية والألطاف السماوية لذا فان الرفعة في المجتمع هي من المولى عز وجل.

وإذا ما وفّق الإنسان لأنّ يتحكم بداخله ويأخذ بزمام اموره فهذا من أعظم النعم الإلهية على الإنسان وكما أشار إلى ذلك في الآية الشريفة (وما بكم من نعمة فمن الله) (5).

فالواسطة خلقها الله سبحانه وبهذه الواسطة يا الهي ارفعني بين الناس واحططني في نفسي.

حفظ التوازن

فالعز الظاهر والارتفاع بين الناس والذل الباطني والانحطاط كان من الباري عز وجل وذلك لأجل حفظ التوازن الطبيعي عند الإنسان الذي يعيش في هذا التكوين ولشدة انحصاره بالتكوينيات التي هي عادة متوازنة ولو أخلّ الله سبحانه في توازنها لسقطت ولهلكت ولإيصال المعنى بشكل أدق نحن نرى اليوم أن الطائرة التي تحمل الكثير من الناس وتسير إلى مسافات بعيدة وبشكل سريع، تحتوي على معدات دقيقة وعديدة اجتمعت مع بعضها على نحو (الأمر الارتباطي) بحسب تعبير الفقهاء حتى صارت هذه الكتلة من المعدات تحلّق في السماء وتصل بسلامة غالباً وأحياناً إذا ما اختل منها جزء واحد سقطت هذه الكتلة وهلك من فيها لأن التوازن قد اختل أو انعدم.

هذا التوازن عرفه القدماء كما عرفه المعاصرون لأن الوسائط كما قلنا هي بيد الله سبحانه فترى الإنسان القديم عندما يريد أن يحمل أغراضه على الدواب فانه يجعل حالة من التوازن على الجمل أو البغل أو الدابة حتى لا يسقط الراكب أو المتاع فيوازن بين طرفي الدابة بوضع وزن بمقدار الوزن الذي يحمله الطرف الآخر.. إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة ومنها بناء العمارات والبنايات الضخمة حتى سميت بناطحات السحاب اليوم أو حتى الصغيرة منها فإنها تقف بفضل عامل التوازن ووقوفها أو سقوطها مبتني على التوازن في وجوده وعدمه.

أما البدن فقد خلق للتلف والفناء بعكس الروح أو النفس فإنها خلقت للبقاء وكل الكمالات تعود إليها فمن المؤكد أنها أدق من البدن وتحتاج إلى التوازن الدقيق في حفظها ورقيها في مدارج الكمال.

الأثر الجانبي في العلاج

نحن نعلم أن الطبيب إذا أوصى بعلاج للمريض فان ذلك الدواء فيه منفعة لزوال الإصابة بالمرض ولكن في نفس الوقت هذا الدواء له أعراض جانبية تؤثر على البدن من جهة أخرى فينصح الأطباء بتناول عقار آخر لرفع تلك التأثيرات الجانبية لأجل حفظ توازن البدن.

لذا فان الإمام السجاد(ع) يدرك أبعاد تلك التأثيرات الجانبية على البدن من جراء الارتفاع والعزة بين الناس كالطبيب الذي يشخص المرض ويعطي الدواء المناسب كما يضع في حسبانه تلك التأثيرات الجانبية. أما نحن فلا ندرك ما يدركه الطبيب أو الإمام(ع) لذا فهو يقول الهي إن رفعتني درجة واحدة احططني بدلها درجة واحدة في نفسي أو إذا حدث لي عز ظاهر فبقدرتك أحدث لي ذلة باطنية لأنه هو الخبير بجميع الأمور، والكمالات التي يريدها شديدة الدقة بحيث يصعب علينا تصورها لذا ترانا نقول إنها لأجل تعليمنا أسلوب الدعاء وطريقة الحياة ونشكل من جهة أخرى في مقام العصمة بحيث لا يصل ادراكنا إلى ما يصل إليه ادراك المعصوم(ع) فعلمه اللا منتهي بالاسرار والخفايا يؤدي إلى نطقه بكلمات خفية علينا لا ندركها إلا بعد أن نجربها أو نسقط في متاهاتها إلا إذا التزمنا الدقة الكبيرة في التمعن بتراث أهل البيت(ع) لنصل إلى الكمال اللائق من خلال النظر الثاقب وعندها نحافظ على بقاء الروح وصلاح المجتمع من كل انحطاط خلقي أو ظاهري بحيث يبقى التوازن راسخاً في انفسنا فيبقى المجتمع والإنسان محافظاً على درجات كماله اللائق طلباً في الاستزادة.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

1- الصحيفة السجادية الكاملة، ص110، دعاء رقم 55، مؤسسة الإمام المهدي عع.

2- طه، 114.

3- راجع في ذلك المنطق للشيخ المظفر، ج1، ص66.

4- الروم، 30.

5- النحل، 53.