2000  تشرين الاول

1421  رجب  

  العدد

مجلة  

الإمامة.. سنة كونية

محمد محسن العيد

 مثال

معنى السنة في قيام الإمامة في الكون

مقدمة

ملخص القول

لابد من الإمام

مقدمة

الإمام: لغة هو القدوة، وفي الناس هو المثل والأسوة للاتباع.

والإمام: حقيقة صادقة منقولة عن واقع الوجود، هو الخلق الأحسن لذاته أو لصنفه من كل المخلوقات في الكون.. فهو معنى الحسن في كل خلق سواء في ذات ذلك الخلق لذاته أو في صنف ذلك الخلق لصنفه.. وقد يكون ذلك المعنى متمثلاً بوحي مكتوب، فهو كتاب منزل، أو مضمون رباني مخبوء في تكوين الخلقة، مثل الحامض النووي في معنى الحياة، أو مثل العقل كمضمون لمعاني الإنسان.. أو يتمثل في مصاديق من أي صنف من أصناف الخلق، مثل الملكة في مملكات النمل بجميع أنواعه، وملكة النحل في مستعمرات المناحل.. أو في مثل الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام في صنف البشر.

وقد يقصد بالإمام، الكتاب المنزل، أو النبي وأوصيائه الشهود الذين يتلونه منه.

قال تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة...) هود17.

وتتم الإمامة والولاية أو القيادة والتوجيه للإمام على ذات خلقه وعلى صنفه من خلال سنة كونية تحكم كل مفردات الوجود بازاء سنة تكوينية في خلق كل كائن تدفعه للسعي باتجاه الإمام.

ولذا فإن وقوع اختيار الإمامة في موقعه الصحيح الصادق لمعاني الإمام وفقاً للسنة الكونية والسنة التكوينية بين الإمام والمأموم يؤدي إلى دوام الحسن في الدنيا والآخرة، فهم خالدون في جنان الله تعالى.

وعكس ذلك وقوع اختيار الإمامة في غير موقعها الصادق من سنة الإمامة الكونية والتكوينية حيث يؤدي إلى انقطاع الحسن فالخسران في الدنيا والآخرة: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) القصص41. والأئمة الذين يدعون إلى النار هم أئمة الكفر الذين كفروا بالحق ورسله وكتبه، وبكل معاني الإمامة الحق.. وقد امرنا الله بأن نقاتل أولئك الأئمة المضلين:

(فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون) التوبة12.

معنى السنة في قيام الإمامة في الكون

الإمامة: سنة كونية بها برز معنى الحسن في كل خلق من كل صنف من أصناف المخلوقات، بل وفي ذات كل مخلوق إمام من ذاته لذاته.. فلا تجد هيئة خلقية، ابتداءً من الذرة إلى المجموعات الكونية في الفضاء، وكذا لا تجد أية مجموعة حية في الأرض، إلا ولها نموذج حسن من ذات خلقها، يبرز معنى الحسن في تلك الهيئة، أو حسن تلك المجموعة.. وبالنسبة للبشر فقد جاء هذا المعنى واضحاً في تسمية الله تعالى لإبراهيم إماما للناس بعد أن ابتلاه وبعد أن أتم عليه السلام بأداء الحسن ما ابتلاه الله تعالى به.

(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124.

إن كلمات الله تعالى هي الوحي بما يعنيه من رفع القصور عن عقل النبي مما يجعله بتمام الكمال. فلا يأتي منه السوء، فالإنسان إنما يسوء ويفسد بسبب عجزه وقصوره أو لربما لحاجته وافتقاره، أو بهما جميعاً... وكذا فإنما هو يحسن عند كماله وغناه بالزهد الذي يأتي العلم من وحي الله تعالى.

فالإمام: هو العادل الذي لا يظلم نفسه بالمعصية ولا يظلم غيره بالبغي اصالة ودواماً، والإمام هو أحسن البشر، والإمامة في البشر هي معنى الحسن في خلق الناس.. فإذا كان لا معنى حسن لخلق الإنسان مجنوناً أو بلا عقل كذلك لا يكون معنى لخلق الناس بلا إمام.

وكذلك فإن الإمامة هي علة الرحمة في خلق الإنسان.. قال تعالى:

(إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة30.

والخليفة عنوان للحق.. قال تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق...) ص26.

الخليفة يتضمن معنى الإمامة.. وكل نبي إمام فهو أسوة حسنة.. وما يرسله الله تعالى إلا رحمة للعالمين.. بما هو الإمام النموذج الأحسن في خلق الآدميين الذي جعله الله تعالى حجة على الناس في كل زمان ومكان بنصوص كثيرة من كلام الله تعالى:

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) الاسراء، 15.

(وإنْ من أمة إلا خلا فيها نذير) فاطر، 24.

فلا يعذب الله تعالى أمة دون أن يرسل لها إماماً، ولا يحشر الله تعالى أمة إلا بامامها يقدمها إما إلى النار أو إلى الجنة:

(يوم ندعو كل اناس بإمامهم...) الاسراء71.

وقال تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) هود17.

والذي على بينة من ربه هو الرسول محمد(ص)، والذي يتلوه حاضراً من نفس الرسول وأهل بيته هو الإمام علي(ع)، فهم ضمن السنة الكونية للإمام وامتداد لها بالحق ابتداءاً من آدم الخليفة الأول مروراً بموسى، مأمورون بوحي الله تعالى كتاباً ورحمة بتوجيهاته ولطفه.

وفي الجانب الآخر من الإمامة فهذا فرعون يقدم قومه يوم القيامة إلى النار.. قال تعالى:

(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) هود 98.

وبما أن الكائنات كلها أمم امثالنا قال تعالى:

(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم امثالكم) الانعام38.

لذا فإن سنة الإمامة تبدو بارزة في كل خلق وفي كل صنف، فلا تجد خلقاً إلا وله إمام في ذاته لذاته ومن صنفه لقيادة صنفه، فهو القدوة الحسنة والنموذج الأفضل في كل خلق، في:

1- المادة المجردة: النواة وتحتوي على البروتونات. وبعدد هذه البروتونات تتصنف العناصر وتتمايز في بنائها لعالمنا المادي.. فكل عنصر إنما يبرز ويمتاز بكل صفاته عند توحد نوى ذراته.. فبدون النوى وبيانها، لا عنصر يعرف مطلقاً بل ولا كون مادي يبرز كما نراه اليوم على الإطلاق.

2- وفي وحدة بناء المادة الحية هو الحامض النووي (DNA)، الذي يتضمن شفرة الحياة.. فهذا المركب العملاق حر أمام الحياة، ولا معنى للحياة مطلقاً بدون الـ(DNA) الإمام.

ففي نهاية شهر حزيران سنة (2000)، قامت ضجة إعلامية كبرى، اثر اكتشاف علماء البيولوجيا الجزيئية لـ(90%) من خريطة التركيب الكيميائي لجزئ الـ(DNA) حيث تكمن معاني الحياة كلها، وأن لا معنى للحياة بدون وجود الـ(DNA).. أما في الإنسان فإن لذاته من ذاته إماماً يوجهها ويقودها عن طريق توجيه الحواس والتحكم بالجوارح وهو العقل وأن لا معنى لخلق الإنسان بدون وجود العقل فيه.

فلا تجد خلقاً إلا وله إمام من ذاته.. وكذلك لا تجد صنفاً إلا وله إمام من صنفه، يتضمن كل المعاني الحسنة لخلق ذلك الصنف.

في النمل وفي النحل الملكة، وفي الطير الفحل القوي القائد الذي نراه على رأس الزاوية التي يهاجر الطير بشكلها.. وفي الأسماك الرائد الذي نلاحظه في قمة المثلث الذي تهاجر الأسماك بشكله.. وفي مجاميع الضباء نجد الوعل الذي يتكفل لرعاية القطيع وقيادته، وحتى لو نامت الضباء فانه لا ينام ساهراً لحراستها وهي جميعاً في طاعته ورهن اشارته.. وكذا في مجاميع الوحوش والسباع على مختلف أصنافها يؤمها فحل قوي من كل صنف يقودها ويوجهها وربما يوزع الأعمال بينها في بعض الأصناف.

ولكل صنف من أصناف المخلوقات الأخرى إمام.. وفي البشر نجد للعائلة لابد من رب وللاسرة عميد وللعشيرة أو القبيلة شيخ وللشعب زعيم وللجيش قائد وللامة إمام. بل وفي كل ذات خلق لذاته إمام.

فالشجرة من النبات لها إمام من ذاتها هو منطقة اتصال الساق بالجذر (البادرة).. ولقد استخدمت هذه المنطقة في تكثير الأنواع الحسنة من النخيل بزرع قطع في المختبر من تلك (البادرة) لتنتج النوع المطلوب قبل نقله إلى الحقل.. وقد ابتدعت هذه الطريقة وطبقت بنجاح في النخيل في الولايات المتحدة الأمريكية بتقطيع (الجمار) إلى قطع صغيرة وزرعها ثم غرسها.

أما الإمام في ذات الحيوان فانه الدماغ، كما لا معنى لخلق الشجرة من النبات دون منطقة الساق بالجذر (البادرة في عملية الانبات).

أما الإمام في ذات النفس الإنسانية فهو العقل، حيث تتوجه جوارحه وجوانحه بالعقل وبه يتم التوازن والسيطرة. ولا يمكن أن نتصور معنى لخلق الإنسانية في الآدمي بدون العقل.

فالإمام، هو غاية الحسن في كل خلق، سنة كونية في كل مفردات الوجود وأصنافه، والإمامة سنة تكوينية في اصل كل خلقة جعلها الله تعالى اثراً لوحدانيته وحسنه (فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون، 14. فسنة الإمامة الكونية تحكم كل أجزاء الكون، وتنفذ في مفرداته ومجاميعه.. ومقابل هذا التحكم وهذا النفوذ لسنة الإمامة، نجد أن السعي لها (للامامة) بارز في الأفضل من كل خلق. ومن هنا يبرز في النفس الإنسانية نمط التفاضل وعلم القياس، ونتيجة حتمية للسنة التكوينية للإمام في الناس.

فكل نفس إنسانية تسعى للاستقرار عن طريق المطابقة بين سنتها التكوينية في إرادة السيادة وحبها للامامة فطرة فيها وبين سنة الكون في الإمامة، باعتبارها الغاية في بلوغ الحسن غايته في كل خلق... ويبرز ذلك في نمط التفاضل والمفاضلة نهجاً في تعلم الإنسان.

وبهذا فلابد للنفس من المعايرة بثوابت القياس. أي بسبب السنة التكوينية للامامة، وضع الإنسان لعلمه ومعرفته المناهج المنطقية الاستقرائية والاستنتاجية، وحتى مناهج لتوجيه تجاربه والاستفادة منها أو من اخطائها، ذلك لأن المفاضلة أساسا تحصل من وجود الحسن والاحسن أو من وجود السيئ والأسوء، ولا يمكن الانتقال من تقدير حالة إلى الحالة الأخرى اعتباطاً دون معيار ثابت للحسن أو القبح، وإلا فلا تمييز ولا مفاضلة، الإمامة هي ميزة الحسن التي يبلغها كل خلق في ذاته وكل صنف من صنفه في الخلق.

فمثلاً غاية حسن خلق الإنسان في عقله.. فلا معنى لحسن خلقه بلا عقل فالعقل إمام ذات كل نفس إنسانية.

وكذا فإن غاية حسن خلق صنف الناس في النبي أو الإمام المعصوم المختار أحسنهم وأكملهم عقلاً من قبل الله تعالى والمرفود بوحيه جل وعلا... وإلا فلا معنى للحسن في خلق الناس بلا أنبياء ورسل وأئمة معصومين.. أي لا معنى لخلق الإنسان دون كونه خليفة الله تعالى في الأرض بمعناه الحسن بما يتضمن ذلك من مهام رسالة الإنسان على هذا الكوكب.

وكذا فإن السعي للامامة بارز في الأفضل من كل خلق، ومن هنا يبرز في كل نفس نمط التفاضل التعلمي الذي جعله الله تعالى عند كل إنسان فطرة.. فالتفاضل أسلوب في المعرفة يعتمد على المقاييس والمعايير.. وبمقدار إدراك النفس للفاضل في صنف خلقه يكون محسناً، وتستقر النفس عند هذا الإدراك بالتفاضل وبالمطابقة بين سنة العقل التكوينية وسنة الإمامة الكونية.

وهذا الجعل واضح في قول الله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء73.

وأمر الله تعالى الذي أمر به الأئمة، هو محض حسن، فهو مضمون الحسن بما في الحسن من مسرة وجاذبية للنفوس الساعية للمطابقة. وهي الهداية التكوينية في الإمام لمجرد وجوده.

وفي قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بامرنا لما صبروا) السجدة 24.

في هذه الآية إشارة واضحة للهداية التكوينية لوجود الإمام بالصبر والثبات على المضمون الحسن المسر المبهج الجذاب الذي تسعى إليه النفوس بالتفاضل للمطابقة والاستقرار عنده ثم الاعتقاد.

والصبر، عنوان تجاوز البلاء، والذي هو حتم لتجلي الحسن في كل معاني السنن الحسنة، فالذي يجتاز البلاء حتماً بالصبر لابد أن يرقى في معاني انسانيته.

فالإمام المجعول من قبل المحسن بذاته جزء من سنة تكوينية في هداية النفوس، كونه معياراً ثابتاً لمعنى الحسن الإنساني من اجل التفاضل في نمط النفس التعلمي. فوراء كل نمط تعلمي في فطرة الإنسان سنة تكوينية يسعى من خلالها كل إنسان لبلوغ الأفضل ولبلوغ الأحسن.. وبمقدار المطابقة للنفس في فعلها لكمال الإمام يحصل الاستقرار... ولذا فالنفس تبقى ساعية لتمام المطابقة من اجل تمام الاطمئنان.

إن كل ما خلق الله تعالى حسن: (الذي أحسن كل شيء خلقه...) السجدة7. ولكن معنى الحسن هذا ينحصر في جزء من ذلك الخلق.. ومعنى الحسن هذا في كل ذات من خلق الله تعالى هو الإمام.

فيمكن أن ينقص من المخلوق أي جزء دون أن يؤثر على معنى الحسن في خلقه إلا الإمامة فإن نقصها أو فقدانها يفقد الخلق معناه. ذلك لأننا لا نستطيع أن نتصور الخلق بلا معناه!

مثلاً: يمكن أن ينقص خلق الإنسان العين أو الأذن أو الأنف أو الرجل أو اليد، بل كل الأجزاء الأخرى إلا العقل، فإن فقده يعني فقدانه لصفة خلقه الحسن كانسان.

وإذا كان الحسن هدفاً لذاته في هذا الكون فلا نجد للكون معنى بلا حسن، أي لا معنى لخلق الكون بلا وجود للإمام.

مثال

العقل إمام في ذات كل إنسان لأنه معنى الحسن في خلق الانسان، ولذا فمهما كان الإنسان حسناً في شكله ومظهره، فلا معنى حسن لوجوده إذا كان بلا عقل، كأن يكون مجنوناً أو فاقداً للوعي أو متخلفاً عقلياً - والعياذ بالله -.

وكذلك مثلاً: الدماغ في ذات الحيوان، فإنه معنى الحسن في خلق الحيوان الداب، ولذا فلا معنى لخلق الحيوان بلا دماغ.

ومثله؛ منطقة اتصال الجذر بالساق في كل شجرة من النبات، هي إمام ذات النبات، لأنها معنى الحسن في خلق الشجرة، ولذا فلا معنى لوجود الشجر من النبات بدون وجود هذه المنطقة.

والنواة في الخلية الحية أو في نبات أو في حيوان، هي إمام كل كائن حي مجهري، نباتياً كان أو حيوانياً، بل حتى في ذات الخلية الحية.. ولذا فلا معنى لوجود الحياة بلا وجود النواة بل بلا وجود الـ(DNA) الذي يضم شفرة الحياة.

فالامامة علة لمعنى كل خلق... وبدونها لا معنى لكل خلق.. ولو سألنا لماذا تكون الإمامة معنى الحسن في كل خلق؟!

أو لماذا تكون الإمامة علة وجود كل خلق؟!

فالجواب، إنها مشيئة الله تعالى في خلقه، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.. وهي سنة الله تعالى الحسنة ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولا تبديلاً.. فقد كان منه سبحانه وتعالى الحسن هدفاً لذاته في الكون.. وكانت منه الإمامة غاية في بلوغ الحسن في كل خلق ولا شيء غير هذا.

وإن قول الإمامية بكون الأئمة المعصومين(ع) من عترة النبي(ص) علة الوجود، إنما هو حقيقة علمية منقولة عن الواقع ينبئ بها الكون في كل أجزائه.

إن الإمامة، سنة كونية حسنة تحكم كل المخلوقات في ذاتها وفي كل أصنافها كلياتها وجزئياتها.. وهي تبدو واضحة جداً في خلق الإنسان في مجتمعاته وافراده، فهي سنة تكوينية في خلقه، ولكن اختيار الإمام قد يقع مطابقاً لمعاني الحسن الرباني، فيكون الإمام حقاً.. وقد يقع خارج معاني الحسن في خلق الناس فيكون الإمام باطلاً.

ولذا نجد في القرآن الكريم قوله تعالى في هذين الاختيارين جعلاً.

أ. (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء73.

ب. (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) القصص41.

فالذي تحكمه السنة الحسنة جعلاً للحسن هو الحسن... والذي يخالف السنة الحسنة جعلاً للقبح هو القبيح فالنار.

ذلك لأن النفوس تسعى وبدافع سنة الإمامة التكوينية فيها تسعى وبنمط التفاضل لاختيار الإمام.. والتفاضل يستلزم المعايير لتجنب الخطل والخطأ في اختيار الإمام الحق.

فأناس يجعلونه في الغنى معياراً للاختيار.. وآخرون يرونه في النسب والعرق والدم.. وآخرون يرونه في القوة والسياسة.. ونحن نراه في معناه الحق والحسن في اختيار المحسن جل وعلا وبمعايير سننه الحسنة التي تحكم كل الكون وتتحكم فيه متداخلة.. وهذا معيار لا ريب فيه.

فالإمام في موقعه من الناس كموقع العقل من كل نفس.. والإنسان إنما يتميز بصفة الإنسانية من خلال وجود عقل فاعل بيّن في توازنه وحكمته.. وكذا فالإمام يبرز بحسن الطاعة لله تعالى بتجنب الخطأ والخطل في القول والفعل في جانب، وحسن العبادة لله تعالى في الجانب الآخر.. ويكون الإمام كياناً للرحمة وتجسيداً للعدل في الواقع، ويصيب الحق دون تجريب، ويمتلك العزيمة في الصبر على البلاء العظيم.. وكل عمل أو قول يصدر عنه إنما تحت رقابة الاستعداد للموت في نفسه ومن أجل اللقاء الحتمي مع خالقه سبحانه وتعالى.. فهو يجسد المعاني الحسنة للوحدانية لله تعالى وهو يدعو بكل ذلك إلى الأحسن والأفضل لكل الناس بعلم من الله تعالى في وحيه ومعرفة تأويله وبما يتجسد من ذلك من فائدة.

فالإمام هو الإنسان الوحيد على وجه الأرض الذي يستطيع أن يصف نفسه بكل معاني الحسن الرباني ويدعو الناس إليه بهذا، دون أن يستقبحه أحد، كما لو أن احداً غيره مدح نفسه.

فالإمام في مدح نفسه يكون في موقع واثق من ربه الذي لا يخذله أبدا.. في حين لا يستطيع أن يفعل هذا أحد غيره دون أن يستقبحه الناس أو أن يخذله الله تعالى.

(نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزان العلم ومنتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الاخيار وساسة العباد واركان البلاد وأبواب الإيمان وامناء الرحمن وسلالة النبيين وصفوة المرسلين وعترة خيرة رب العالمين... أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام التقى وذوي النهى وأولي الحجى وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الأعلى والدعوة الحسنى وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى... نحن محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله وحملة كتاب الله وأوصياء نبي الله وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الدعاة إلى الله والأدلاء على مرضات الله والمستقرين في أمر الله والتامين في محبة الله والمخلصين في توحيد الله والمظهرين لامر الله ونهيه وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.. الأئمة الدعاة والقادة الهداة والسادة الولاة الذادة الحماة وأهل الذكر وأولي الأمر وبقية الله وخيرته وحزبه وعيبة علمه وحجته وصراطه ونوره وبرهانه... إلى غير ذلك من الوصف المظهر للفضل، ذلك لأنهم عليهم السلام يعلمون أن النفوس مجبولة على التفاضل كنمط للتعلم فيها لادراك النموذج الأحسن في كل خلق.

وإذا كان الآدمي وبكل المعايير هو افضل المخلوقات في هذا الكون وأحسنها، فغاية المعرفة بالتفاضل بازاء إظهار الفضل، هو أن تبلغ النفس الإنسانية أصول معرفة أحسن الآدميين، وهو الإمام الحق، حيث عند ذلك يحصل التطابق الذي تسعى إليه النفوس بين السنة التكوينية للنفس والسنة الكونية للامامة، لتستقر النفس في معرفة الإمام وتنعقد عليه.. وغاية هذا الاستقرار هو أما أن تكون النفس هي بذاتها الإمام فهي مطمئنة أو أنها تملك المعرفة المعيارية التي اوقفتها على حقيقة الإمام فاستقرت عندها.

فالإمامة سنة الله تعالى الكاملة في خلقة، وهي سنة حسن الحسن، فالامامة علة في ذاتها، فلا تجد خلقاً إلا وفي صنفه نموذج أحسن من ذلك الصنف خلقه. وإن لم يوجد فيه الإمام فإن ذلك الصنف يسعى لايجاده وفق مواصفات خاصة بكل أصناف الخلق وضمن قوانين وجوده. فالامامة أصل في كل قوانين الكون، ابتداءاً من النواة في الذرة إلى الشمس في المجموعة الشمسية إلى المجرة في المجاميع الكونية إلى قوة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره في الكون كله.. فكل من النواة والشمس والمجرة وعرش الله تعالى إمام في قيامه.

بل هذه السنة الحسنة (الإمامة) تمضي في كل كيان من الوجود، فلابد من إمام لكل ذات من ذاتها، ففي كيان الآدمي مثلاً إمام يوجه حواسه ويقود جوارحه: هو العقل والآدمي هو أحسن المخلوقات والعقل هو أحسن ما فيه.. والإمام في الناس هو موجه العقول. فالإمام هو الأحسن في حسن الحسن.

لابد من الإمام

ولو تساءلنا لماذا لابد من إمام في كل خلق؟

فإننا نجد أن الإمامة بديهية كونية وسنة حسنة في كل خلق امضاها الله تعالى في مخلوقاته. فهي مشيئة الله تعالى فهي غاية في ذاتها.

والإمام في الناس هو الأحسن في حسن الحسن، إذ تكتمل الصفات الإنسانية التي يعتبر وجود الروح في كيانه مصدراً لها.. والروح من أمر الله تعالى، وأمر الله تعالى محض الحسن.. والحسن الرباني يعني كل الصفات التي يكتمل بها الخلق فيكون مسراً جذاباً مبهجاً.. ومن تلك الصفات المكملة للحسن في الإنسان هي العلم.. ففي الإمام يبلغ العلم غايته.. واليه يتوجه الجميع للتعلم منه في سلوكه في أقواله وتوجيهاته وفي الإجابة الصادقة على أي تساؤل.. إلا أن الذي حدث هو أننا اعتبرنا الاعلمية دليلاً على الإمامة مع شروط أخرى.. والحقيقة هي أن الاعلمية تكون حيث الإمامة، لأن الإمامة سنة جوهرية والعلم عرض لها.

كما أن البلاء الذي يتعرض له الإمام ويجتازه يؤهله للحصول على ما يكون به إماما كامل الحسن المتجلي، فالبلاء هو الذي يجلي الحسن.

والمؤمن ليس مثله كمثل غير المؤمن، لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ذلك بسبب شفافيته وفطنته.. فكيف بالمؤمن الطاهر، والذي هو موضع إرادة الله تعالى الذي أذهب عنه الرجس وطهره تطهيراً!

والخبير الماهر إذا اختار شيئاً فإنه يحسن الاختيار، فكيف بالذين اختارهم العليم الخبير سبحانه وتعالى!

والذي يكون معلمه بارعاً يكون أفضل من الذي معلمه أقل براعة، فكيف بالذين كان معلمهم الله ورسوله!

والذي يعيش في بيت كريم يتأثر به فيكون كريماً إن لم يكن له من اصله رادعاً عن اللؤم، قطعاً يكون افضل من الذي يعيش في بيت لئيم.. فكيف بالذي يعيش في بيت النبوة ومنزل الوحي ومهبط التنزيل!...

إن الأئمة المعصومين(ع) من العترة الهادية، هم كل معاني الحسن في الكيان الإنساني بهم تعرف الإمامة، وبمعاني الإمامة نعرفهم، فهم علل الوجود واليهم ينتهي العلم وعنهم يصدر.

افلا ترى أن لا أحد من البشر يستطيع أن يفعل فعلهم، ولا أحد يستطيع أن يقول مقالتهم مع أنهم من البشر.

قال الإمام علي(ع): (سلوني قبل أن تفقدوني...) ترى هل يستطيع أحد أن يقولها غيره!!

قال تعالى: (وكل شيء احصيناه في إمام مبين) يس12.

عن ابن عباس عن الإمام علي(ع) قال: أنا ذلك الإمام المبين.

وقد مر معنا في تفصيل معاني الإمامة إمام الحياة الذي هو مركب الـ(DNA) في الخلايا الحية، حيث يضم من خلال تصميمه التركيبي الرباني. (خريطة) كل معاني وتوجيهات وتوقيتات وصفات الحياة... فهو شفرة الحياة كلها.. هذا مثال مادي واضح للإمام المبين الذي يحصي كل شيء عن معاني الحياة فقط.. وفي الإنسان فإن كل كيانه يحصيه عقله وفي أكمل العقول الذي هو الإمام علي(ع) والذي هو بنص الكتاب والسنة كنفس النبي(ص) الإنسان الكامل، فإنه الإمام المبين(ع) الذي أحصى الله فيه كلّ شيء.

ملخص القول

إذا كانت الإمامة هي معنى الحسن في كل خلق.. كالعقل في كل نفس إنسانية هو امامها يوجه حواسها وجوارحها بالاتجاهات الحسنة والفاضلة.. ولذا فلا معنى حسنٌ لخلق الإنسان بلا عقل. وكذا الإمام في الناس، هو ارجح العقول وأحسنها بمعايير الحسن الرباني... ولذا فلا معنى حسن لخلق الناس إذا كانوا بلا إمام، أو كانوا كلهم مجانين أو جهلة، وعلى ضوء هذه الحقيقة لو اشركنا الناس جميعاً في عملية مفاضلة طبقاً لمعايير معاني الإمامة كسنة كونية، فهل غير علي وبنيه(ع) يصدق أن يكونوا معناً للحسن في خلق الناس؟

وإذا كانت الإمامة في تمام معناها تصدق عندما تبلغ الطاعة لله تعالى تمامها.. فالأئمة (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الأنبياء107.. أيضاً. نتساءل: هل في الناس من هو أكمل طاعة لله تعالى من علي وبنيه(ع)؟!

وإذا كانت الإمامة في تمام معناها الحسن في النفس إلا مع تمام معاني الرحمة: (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء 107.. فهل تجسدت الرحمة بكل معانيها في بشر مثلما تجسدت في علي وبنيه(ع)؟! وهل في غير علي وبنيه نزلت سورة (هل أتى)؟!

وإذا كانت الإمامة في تمام معناها الحسن في النفس إلا مع تمام معاني الحق والعدل (لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124.. فلا إمامة مع الظلم والباطل.. فهل تجسد الحق والعدل في بشر مثلما تجسد في علي وبنيه(ع)؟ وهل قيل في أحد مثلما قال المصطفى(ص) (علي مع الحق والحق مع علي)؟!

وكذا لا تبلغ الإمامة تمام معناها الحسن في النفس الإنسانية إلا مع تمام الصبر (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) السجدة32.

فهل نجد للصبر عمالقة كعلي وبنيه(ع)؟! إن حياتهم محض صبر عليهم السلام. ولن تجد أحداً غيرهم يقول عند المصيبة (اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، الهي إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي...)؟!

وهكذا تمام باقي المعاني مع تمام معاني الحسن الرباني في خلق الناس متداخلة.. وقد نزل البيان القرآني في هذا التمام مقروناً بإمامة الإمام علي(ع).. وكان ذلك في إعلان النبي(ص) بغدير خم الإمامة لعلي(ع) من بعده. فهو إعلان كمال الدين وتمام النعمة:

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي...) المائدة3.